دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
كيف نقرأ إبراهيم اسحاق! // غسان علي عثمان
|
في سيرة الكاتب (القضّام).. كيف نقرأ إبراهيم اسحاق! غسان علي عثمان [email protected] هل هذا مقال في النقد الأدبي؟ لا أدري، وقد يكون مقالاً في فلسفة القراءة، هذا إن كان يوجد في عالم المعرفة شيء لا يملك فلسفته الخاصة، وهذا أيضاً سؤال مشروع، ما نكتبه ليس شغوفاً بالتدبير نحو عراقته في جنس كتابي محدد، وهذه من آفات التحليل التي نعيش، فطالما كتبت فأنت ملزماً بأن تكتب داخل نسق محدد، وهذا ما يسمى بالمدرسية، وهذه الطريقة مريحة للناقد والقارئ، فهو يستعيض عن ملكته في المعرفة بحس مستلف لصالح نص لم يقرأه بعد، وأصدر بيانه الختامي تعثراً مجانب له، وفي حالة اسحق فإننا أمام نصوص ذات طابع مستوفي شروط الخروج عن مزاجية الناقد السوداني مشرقي الهوى، ذلك أنه قد تركب الذهن الثقافي في مشهدنا هنا على أولوليات ابداعية صح انتسابها للقبيلة النقدية المتعصبة لمعنى واحد في صالح الرواية والشعر والتاريخ، نظّرت هذه المعرفة ضد معاني اسحق بل وما ادخرت تترفع عن النص بمعية أوهام وسذاجات مُحللها أريب مفخخ الوجدان، سقيمه، وجدير القول في اسحق ممثلاً للأزارقة الخوارج في دولة الأدب السودانية، فسلطان النقد لدينا أحدب الظهر عالي الصوت، مؤدب فيما لا يؤرقه، ثرثار فيما يخص نصف كلمة، ومشهد واحد من حوار لا يخصه، وإن اتفقوا على نسبته إليهم. وشاهدهم المثير لمن هم اسحق (الرجاء النباح خارج الحلبة)..! عنده لا محالة انت مختطف وملقى في وادي بلا صدى، رهينة عوالم مشحونة بالمُغيب والمحذوف، عوالم سعاتها حراسها من المجذومين والمتربصين بالدخلاء قتلاً فيهم بلا إلا ولا ذمة، مشكلتهم تتلخص في كراهية الممكن، وتقديس الواجب حد نحر الكلمة وامتصاص الحرف تشقيقاً له ليعبر عن فضاءات تخص اسحق وحده، عمل على مسح تراب الاستشراق عنها وتقديمها لمن يخشى أكثر، ليقول لنا: ها هنا كانت خيام قبيلتي.. إنها كتابة تقترب من الزخرفة ضنينة بمدلولها محتفظة بدماء جافة لمجاز قار في صلب؛ صلب المعنى، الرجل مكتشف بلا مزاعم، جواس وقد يكون جاسوس للماضي مفتشاً عنه بين آخر حبة رمل احتضنت مضارب قبيلة اقتلعت عنوة آخر ذكرياتها هاهنا مبيتاً في حضن الغرباء الاستيطانيين، ستستمتع تجاه نصه متعة للعين ولذة للروح بقدر ما تملك من دهشة يغذيها فساد الضمير؛ الضمير السوداني جلدة وهيئة، كأنه يملك ذاكرة ممنهجة على طرد القادم، انه تقدير للمكان في أجلى صوره، وكم أمر سنعده غريباً لو اعتقدنا لوهلة بأن اللغة في الرواية أو الشعر وظيفتها تقتصر على التواصلية، من قال ذلك! وإن قيل فهو ضرب من اللامعرفة بقواعد السلطة والضمير، اللغة في أي نص هي لب روحه، هي جوهريته ووظيفتها الاستيلاد الحلزوني طور فوق طور، لتسمح للنص بالخلود، وللمعنى بالالتحام مع مجالات قادمة فيها الجمالي والوجودي والمؤذي، وإلا قل لي كيف نفهم (ماركيز وأمادو والليندي...ألخ) إن كنا نجهل لغتهم الأصيلة التي فهموا بها ظاهرتهم الاجتماعية وصدروها، أننا نعايشهم ونعاشر أفكارهم دون قربان يذكر أو بطريقة غير قانونية، فقط ندخل إلى كهفهم من التخيل عبر بوابات لغتنا، فاللغة مسئولة عن صناعة الأفكار وليس العكس، أتأتي وتقول اكتب بلغة افهمها أنا؟ يا راجل..! بين حالتين تجسد عنف اللغة في واقعنا، الأولى قاموسنا من فتات بن منظور المنحول، وتآليف العربنة عبر السوق، والخدعة محل التوهم، ومصداق هذه الحالة عاميتنا التي تولت أمر تدشين افصاحها عبر التمسك أكثر فاكثر بخمر الأجداد وتقاليعهم السلطانية في توقير التاجر مُزينة حضوره غريب حكيم، دوره أن يسمح لهم بالتعامي عن حاجات الناس، يفعلون ذلك وفعلوه رغم الفقر وعمارة الكسل التي خلفوها، لغة فرت من سجن لتسكن وتساكن حقيقة الطبيعة الاجتماعية لنا هنا وفي دارفور والنيل الأبيض والأزرق، جسدنا الذي تمزق فوق الأيديولوجيا، والثانية اقتناع الرجل بأنه يمثل (فضائح الباطنية) الثقافية، فداخل مجتمعنا الثقافي حُراس رابضين فوق القلعة يذيعون للناس بيانات المدرسة المشرقية في الجدال المبطن، مدرسة فاعلها مأزوم، واسحق فعلها لأجل الحماية من التمشرق المداخل لنا دون اذن، ما يحكيه اسحق ينحبس في حلق مشارقتنا من الكتبة والقانونيين في الأدب، فيصرخون: لم نفهم، لم نفهم، عنكم ..، فأنا لست معلماً للغة العربية المنحولة، وليس من مسئوليتي افساح مكان للحقيقة بنية أقلامكم المشتغلة نقداً كحياكة العنكبوت ابداع في التخطيط لأجل ايقاع الفريسة في شرك الجمال، والاستمتاع بلحمها ودمائها ولبنها وأجنحتها صريعة عند المُسبق والمعقود.. فكان أن منحوه صك خلود بميتات متعددة، هم كالكهنة يطلبون من المؤمنين تعليق أجراس فوق صدر الآلهة وتقديم أمنية، والانصراف لحال سبيلهم، فالأجراس تبقى على حالها ولا الأماني ممكنة، فقط انتحال لحالات اليقين عند من فقده، والرجال الحراس حالهم من التطفف وانعدام الذمة شهيد، ففضل منازلتهم عبر فضحهم وكشف زيف مشرقيتهم، بأن وضع في نهاية كل ما يكتب ما يسميه حواشي، واسميه أنا شواهد قبور غيبتنا عن ذاتنا. وجدير بأن لكل كاتب اسطورته الخاصة، والتي يٌخلق منها شخوصه ويخترع حواراته بين كائنات بالمطلق خلفتها أوعيته الذاتية من ملاحظات وتدبر واستنطاقات وأزمات، وأفكار متوحشة اخرى هي مشاع نتفلسف به لصالح ما نسميه نصاً أدبياً بين دفتي كتاب، فالكتاب كالفئران تندس بين جنبات حوائطنا تسترق السمع وتدون، ترمقنا بعيون دقيقة حذرة، شديدة الشره لكائنات في رأيها بنت بيوتاً عالية وبوابات صادة عجزت عن تحديد اقامتها، والكاتب ملء السمع من يمارس هواياته الليلية يسجل معائبنا ويسرد لذاته حكايات اليوم والأمس وغداً، فيعتدل في جحره كامناً في خلو للحركة فتلك القلعة المصممة على قهر الغزاة من الجبابرة تموت كل ليلة ويخر ساكنيها صرعى لفراغ في يومهم لم يحسنوا توظيفه، فقط الكتاب من يملكون حق النقض والاستعانة بالمعقول والمؤسطر، ينسجون حكايتهم بنفاق قانوني، ويطلقون على ألسنة من يراقبونهم دوماً ما يشاؤون من عبارات وقذارات، يعيدون تركيب الجسد بحرفية بوذية تصنع الروح ثم تختار من يسكنها، ويلبسونهم تصنيفاتهم الخاصة، فذاك مشغول بالتلصص على حضائن غيره، وأخرى مسكونة بالخنوع شديدة اللذة، فالكاتب شاذ اجتماعي طالما أنه يعرف قيمة الوقت وتجليات اللااستهلاك، ذلك أن لكل كاتب أسئلته واجاباته المضمنة فيها، فدورهم (الكُتاب) أن يلعبوا دور الشبلي أمام مصلوبه، وفيه انهم مراقبون مجانيون يعتقدون في أدوار خفية تلزمهم الصمت المؤقت، والدعابة الساذجة، والاشارة المجانية، وفوق ذلك يمتنعون عن المعركة ليقولون:(ألم أنهك عن العالمين!).. يا (كتابنا الفئران) أعيدوا قراءة من هم اسحق..
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: كيف نقرأ إبراهيم اسحاق! // غسان علي عثمان (Re: munswor almophtah)
|
الأخ غسان السلام ورحمة الله عليك وأنت تتوغل فى محراب الأستاذ إبراهيم إسحاق فى وداعة ودعه والودع والخرز يجمل ذلك المحراب ومصنوعات الزعف وتشكيل القرع والشعر والجلد يمور بها المكان ويلهيك فيه الهالوك ويمتعك النبق والحمبك والدوم والدليب ويرويك الروب واللبن الحليب والماء من جوف الأرض لجوف السعن والقربة والسقو وتمشى على أكاليم من صوف الضان الحمرى ووبر الجمال العطويه وأخرى من الميدوب والمحاميد والزغاوه ولا محالة إنك ذائق فيه عصيد الميرم بتقلية لم يذقها لسانك قط ثم يأتيك شاى أخضر وعلى طرائق الطوارق يصب لك من علٍ فتتصاعد رغوته كما اللبن من ضرع البقرة فى الكبروس وهنالك تسمع من الأحاجى والقصص ما لم يخطر على بالك حيث ترجع بذاكرتك لمرحلة الطفوله وقص الجدات عن فاطنه أم حجل وود النمير والجلابه - قصص عن السير وعن النشوق والشوقاره وقصص عن الركوب والسفر بالدواب والخيال الصناع للمستحيل يكون حاضرا وقصص عن اللوارى والسفر بها وعن ما يمتن من ذلك من علائق ثم السفر بالقطر والبصات وعن محطات الطريق وصخب الأسواق وجلبة الباعه - قص تسمع فيه كل ذلك وترى فيه الحركة والحراك لا بل تتسمر عندما تصغى للإنسانيات وللسانيات وعلم الأجناس والتداخل والترابط والثقة المطلقة فى من يعين ضامنا أويختاره أهله عمدة أو شيخ فيا عزيزى الغسان إبراهيم إسحاق نصر للكتابة وفتح لخبايا وسراديب فيها مبين فهو عبقرى جاء لنا بالغرب إلى صحن دار حضورنا وبسخاء بذله باكرا قبل أن تتفجر فيه المخازى المحزنه والمآسى المؤلمه والجراح التى تثخن إهاب أرواحنا قبل أن تثخن من ألمت بهم فإبراهيم إسحاق أديب وعالم إجتماع لا بل فيلسوف إجتماع عارف لأسرار مجتمعه وكاشف لتلك الأسرار فى قصه الذى يمثل أزرار فك البلاء وصده وأتمنى أن ينكب الساسة العسكر ورحالات الأمن على كتابات إبراهيم والإقتداء بها وتقدير أهلها وفهم طرائقهم وقضاء حوائجهم وفك إشتباكاتهم وتشبيكهم ثانية كما كانوا فى المجتمع الذى يمثلون عظم ظهر الثراء فيه.
ولك السلام
منصور
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كيف نقرأ إبراهيم اسحاق! // غسان علي عثمان (Re: munswor almophtah)
|
مع إبراهيم إسحاق من أم درمان إلى كافا
محمد التجاني عمر قش- الرياض [email protected]
(كالعادة ينتابك ذلك الشعور المدغدغ، ساعة يهلٌّ بك اللوري، فتترك البقعة وراءك تسبح في حرّها وسمومها، وغبارها اللدود، وتعرف أنك بسبيل الأهل. الكميلابي ذو الأسنان المشتتة التي لا تجمعها شفتان، يوقع عينيه على مجاري اللواري الداخلة إلى البقعة متشابكة كأنها دروب النمل آتية إلى الحفير الأم). " إبراهيم إسحاق- سبحات النهر الرزين" جلست ابنتي الصغيرة سُكَينة،(بضم السين وفتح الكاف)،وما لبثت أن سألتني: ما بالي أراك منهمكاً في القراءة حتى كأنك لا تكاد تحس أحداً أو تسمعه؟ فقد ظللت جالسة بجوراك أكثر من نصف ساعة لم تلتفت إلي يا أبي! فقلت لها: عذراً يا حبيبتي فقد شغلني هذا الكتاب. ولكن لماذا يشغلك هذا الكتاب دون سواه ؟ فقلت لها هذا كتاب فوق العادة يا بنية. فسألت من أين اشتريته؟ قلت لها لم أشتره بل أهدانيه أستاذي وصديقي الأديب والروائي الكبير إبراهيم إسحاق صاحب أعمال الليل والبلدة، وحدث في القرية، ووبال في كليمندو، ومهرجان المدرسة القديمة، وأخبار البنت مياكايا، وفضيحة آل نورين، وغيرها من القصص القصيرة، والمقالات التي نشرها في كثير من الصحف، والمجلات الأدبية والثقافية. رجل قارئ، و مثقف، واسع الاطلاع، وملم بكل فنون الأدب والرواية، محليها، وعربيها، وعالميها؛ وقد كتب عنه الكثيرون. ولقد قال أحد الكتاب يصف جانباً من إبداع هذا الرجل الفذ (نجد في أعماله معايشة عميقة للمجتمع السوداني،ومقدرة متميزة على رصد المشاهد والمواقف والشخوص.وللأمكنة عطرها النفاذ يفوح من التفاصيل الدقيقة التي يصورها ببراعة ودقة ومحبة ورواء فلا تملك إلا وأن تتفاعل معه). سمعت عن إبراهيم إسحاق أول مرة، عندما وصلت إلينا روايته "أعمال الليل والبلدة"، وأنا يومها طالب في مدرسة خورطقت الثانوية، في منتصف سبعينات القرن الماضي؛ فبعد أن تعرفنا على الأديب الراحل الطيب صالح، عبر أستاذنا عثمان محمد الحسن، مدرّس اللغة والأدب الإنجليزي، الذي كثيراً ما كان يمتعنا بالحديث عن ابن الرومي، وأبي العلاء المعري، ويحدثنا عن عرس الزين، وموسم الهجرة إلى الشمال، وعن جمال محمد أحمد، وعلي المك، وصلاح أحمد إبراهيم، وقرأنا مدينة من تراب والأرض الآثمة وغيرها لمحمد عبد الحي، وعرفنا كل تلك الكوكبة من الأدباء والشعراء، وهو يومئذ يدرسنا كتاب " أبكي يا وطني الحبيب للمؤلف ألان باتون" عن التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا، ويذكر من بين هؤلاء إبراهيم إسحاق كأحد الكتاب السودانيين الذين لا يشق لهم غبار في مجال الرواية والقصة القصيرة. ثم جاءنا من بعد ذلك الشاب الثائر، والناقد والكاتب الكبير الآن، الدكتور محمد المهدي بشرى، الذي حبب إلينا قراءة الرواية الإنجليزية، والعربية، فتلقفنا كثيراً من روايات نجيب محفوظ، و جبران خليل جبران، وفي سبيل التاج لمصطفى لطفي المنف########، والأرض الطيبة لبيرل بك، وروايات شارلز دكنز، و إمليي برونتي، وغيرها من روائع الأدب العالمي، مثل البؤساء لفكتور هيجو؛ وذهب مع الريح لمارغريت ميشيل، وصرنا نتذوق الأدب بكل ضروبه وأشكاله ومدارسه، وكنا نطلع على المجلات التي كانت تصدر في ذلك الوقت، وعلى رأسها "العربي" و ثم عرفنا قدراً كبيراً من كتابات معاوية نور، وتلك الطليعة من المؤلفين السودانيين. أنا شخصيا شدت إنتباهي رواية أعمال الليل و البلدة، وموسم الهجرة إلى الشمال أكثر من غيرهما، لما وجدت فيهما من واقعية، ودقة تصوير، وحلاوة لغة، وتطويع للمفردة، واستعمالها لخدمة أغراض الرواية، وفكرة الكاتب، وقد استطاع كلا الكاتبين المزج بين العامية والفصحى بدرجة جعلت من كتاباتهما مثار إعجاب لفئات متنوعة من القراء. هذا علاوة على تناولهما قضية التحول الاجتماعي والصراع بين القديم والجديد بقدر عال من الرمزية، والقدرة على السرد، والحبكة الروائية المحببة، لنفس القارئ الحصيف. وعندما التحقنا بجامعة الخرطوم، وفتح أمامنا باب الثقافة والاطلاع على مصراعيه، صرنا نتابع ما تنتجه مطابع جامعة الخرطوم، وغيرها من دور النشر في البلاد، بالإضافة إلى ما كان يصل إلينا من كتب تنشر في أرض الكنانة، في مكتبة بولاق، ومصر للكتاب، والحاج الحلبي، ودار الفكر العربي، ودار الإهرام، وبالطبع من بيروت ما كانت تنتجه المطابع اللبنانية في دار العلم للملايين، وبيروت للنشر، والفكر العربي، وغيرها من دور النشر مثل مؤسسة الرسالة. في تلك الآونة ما كان يصدر ملف أدبي في المجلات المتخصصة، أو ملحق في الصفحات الثقافية، في صحيفتي الصحافة والأيام، إلا وكان لإبراهيم أسحاق حضور فيه، فنقرأ له وعنه بكل نهم وشغف. يقول كتابنا عن هذه الفترة ("في الحقبة ما بين 1976 و1982 توالى نشر قصصي ومحاوراتي في ملحق (الأيام) الثقافي بإشراف المبدع السردي عيسى الحلو، ودافعت عن رؤيتي للصناعة السَّردية في مجلة الثقافة السُّودانية كما عرضت آرائي الثقافية في هذه المجلَّة المذكورة وفي مجلة (الخرطوم) وفي مجلة (الدَّوحة) القطرية ومجلة (سوداناو) الإنجليزية الصادرة في وزارة الإعلام السودانية. وقد تكللت كل هذه المساندة لي بإيجاد دور لي في مهرجانات الثقافة على عهد مايو حتى مُنحت (نوطاً) تشجيعياً في عام 1979م). ( أوّلَ ما بدأوا مشاغلتي بتلك المساخر الصغيرة أوضحت لهم بهدوء أنّني جئتُ من كافا؛ لا لشيء ٍ غير أن أتقن صنعة القانون الذي يتحدثون عنه) إبراهيم إسحاق- تخريجات على متن الظاهريةز لقد خرج إبراهيم إسحاق، من ودعة –مسقط رأسه في شمال دارفور-لا يلوي على شيء إلا المعرفة والثقافة، مع التزام صارم بمنهج فكري واضح المعالم، لا يحيد عنه تحت كل الظروف، ولذلك استطاع أن يحوز قدراً كبيراً من المعارف، ويختط لنفسه مساراً متفرداً في الرواية والأسلوب لا نكاد نجده عند أيٍ من معاصريه من كتاب الرواية والقصة في السودان. ولذلك كله، صارت كتابات إبراهيم إسحاق تجد الاهتمام و المتابعة، قراءة ونقداً من قبل كل المهتمين بالأدب والرواية على وجه الخصوص، ولا أبالغ إن قلت: إن كاتبنا الكبير قد أصبح من أهم أركان الحركة الروائية وأحد رموزها على مستوى الوطن فما من محلل أدبي أو ناقد إلا وقف على تجربة إبراهيم إسحاق لعدة أسباب: أهمها مقدرته الكبيرة على السرد،واستخدام أدوات الكتابة وفنونها وهو يصور مجتمع القرية في دارفور، الذي لم يسبق لأحد أن تناوله في أسلوب قصصي، حشد له الكاتب كل مقدرته، ومعرفته، وأسلوبه الراقي، وموهبته المتميزة، مستفيداً من لهجته العامية والدارجة في الحوار بين شخوص الرواية، ليعبّر خلالهم عن فكرته، ورؤيته للأحوال، والتحول الذي تحمله عناصر قادمة من البندر في الغالب، فجاءت قصصه في قالب متفرد، يعكس هموم إنسان دارفور،وقضاياه من كل الجوانب الاجتماعية، والثقافية،وربما الأخلاقية، والاقتصادية، حتى لكأنك ترى الأشخاص وهم يقومون بأدوراهم في الرواية رأي العين، فتسمع كلامهم، وتحس بدواخلهم، من خلال المقدرة الإبداعية لإبراهيم إسحاق الذي لم يترك شاردة أو واردة إلا سجلها بكل تفاصيلها، مضفياً على ذلك رونقاً وألقاً بأسلوبه الرائع، الذي يجذب القارئ للمتابعة، فكل مشهد يفضي إلى الآخر دون أن تشعر بالملل أو يضطرب إحساسك بأحداث الرواية وشخوصها وظروفهم. يعود ذلك إلى حقيقة قد لا يعرفها كثير من الناس عن هذا الأديب هي أنه قد أوتي ذاكرة فوتغرافية لا نجدها إلا عند ابن بطوطة الذي كتب عن رحلته بعد مرور ما يقارب ثلاثة عقود من الأسفار والتقلّب في الظروف والمناصب حيث زار معظم بلاد المسلمين، وقابل حكامها وعلماءها،وخالط الناس، وعاش تجارب متنوعة، واختزن كل ذلك في ذاكرته حتى أفرغها في كتابه( رحلات ابن بطوطة) الذي ما زال الناس يقرؤونه ويجدون فيه متعة لا تضاهيها أي متعة، لدقة التصوير والمقدرة على تذكر الأحداث، والأماكن، والأشخاص، وربما الأرقام ورائحة الأطعمة والمشروبات، فيصفها كأنها بين يديه. وكذلك الأمر بالنسبة لإبراهيم إسحاق،الذي عاش طفولته الباكرة في قرى دارفور ووديانها، و سهولها كسائر أبناء القرى في تلك المنطقة الغنية بتنوعها البيئي، والثقافي، واللغوي، والإثني، إن جاز التعبير، وبما أنه صاحب موهبة فقد اختزن تلك التجارب أيضاً، وبعدها شد الرحال إلى العاصمة لتلقي العلم فحدث تحول كبير في بيئته الثقافية، ولكنه لم ينقطع من بيئته الأصلية ولم ينس اللهجة وتلك الممارسات الثقافية والاجتماعية الشعبية التي شكلت وجدانه في سن الطفولة وظلت تأثر على أسلوب كتابته بشكل كبير، أشد ما يكون وضوحاً في فضيحة آل نورين، وحدث في القرية، وبعض قصصه القصيرة التي سجل فيها كل تفاصيل الحياة هناك حتى أسماء الدواب والأطعمة والطيور والهوام والأشجار ناهيك عن الأماكن والأشخاص مما أضفى على أعماله نوعاً من الواقعية يشبه كثيراً ما تميّز به الطيب صالح خاصة في عرس الزين ودومة ود حامد. إن ما يزيد كتابات إبراهيم إسحاق عمقاً، هو إلمامه بتأريخ دارفور، وفلكلورها، وثقافتها التي هي في الأساس امتداد طبيعي لما كان سائداً في منطقة شمال إفريقيا والسودان الغربي من امتزاج للأعراق من عربية وغيرها،و من اللهجات والموروث الثقافي، الذي يتخذ مرجعيته من الإسلام وخاصة التصوف الذي اختلط ببعض العادات الإفريقية نظراً لأن الإسلام في هذه المنطقة قد انتشر بأسلوب وطريقة فيها كثير من التسامح بحيث لم يحدث تصادم بين الدين الوافد وما كان سائداً من عادات حتى رسخت العقيدة و قامت سلطنات إسلامية كبيرة مهدت لانتشار الإسلام عن طريق هجرات عربية كبيرة، عبر شمال إفريقي، وشجعت العلماء على الاستقرار والتدريس، خاصة بعد سقوط الدولة الإسلامية في الأندلس، وظهرت مراكز وخلاوى ومكتبات إسلامية كبيرة أنشئت في كثير من مدن الإقليم، فساهمت في نشر القيم الإسلامية واللغة العربية التي لم تسلم من تأثير اللهجات المحلية ولكنها صارت لغة التخاطب والتعامل الرسمي مما أكسبها مكانة متميزة بين المجتمعات المحلية وسادت إثر ذلك ثقافة عربية إسلامية شكلت فكر ووجدان الناس من حكام و محكومين وتعمّقت تلك الثقافة بتواصل أهل دارفور مع مراكز الثقافة الإسلامية في الحجاز الذي كان يصله محمل السلطان وكسوة الكعبة من دارفور وتحديداً من الفاشر أو "تندلتي" إذ يحلو لإبراهيم إسحاق أن يطلق عليها هذا الاسم التاريخي في كتاباته، ومع الأزهر الشريف الذي بني فيه رواق دارفور ومنه تخرج كبار قادة الفقه والعلوم الإسلامية الذي حملوا لواء التنوير والتحضّر حتى وصلت تلك الثقافة العربية الإسلامية إلى جيل المثقفين من أمثال إبراهيم إسحاق وغيره من المعاصرين في تلك البقاع. ومن المؤكد أن ذلك التواصل قد كان له مردود ثقافي بما يحمله العائدون من تلك البقاع من أفكار وملاحظات وربما كتب أو قد يصحبهم علماء في رحلة العودة مثلما فعل محمدبن عمر التونسي، كل هذه العوامل كان لها أثر واضح في ثقافة هذا الكاتب، ولذلك كثيراً ما نراه يشير إليها إشارات واضحة تأتي أحياناً على لسان شخصياته أو سلوكهم،وفي أسماء الكتب التي كانوا يدرسونها مثل مختصر خليل ورسالة ابن أبي زيد القيرواني في الفقه المالكي، فمثلاً يقول الراوي في سبحات النهر الرزين (حفظت فرائض الشعائر عند أبي زيد القيرواني، وعندما كلمني عبد المولى البصير بحثت له عن موطأ الإمام مالك في المدينة)؛ علاوة على ممارسات صوفية واضحة المعالم يعكسها أشخاص روايات إبراهيم إسحاق.هذا التمازج الإثني و التواصل الثقافي بين العناصر العربية والإفريقية هو ما يعالجه إبراهيم في قصته أخبار البنت ماياكايا، بكل براعة، مستفيداً من الموروث القصصي الشعبي الذي بنى عليه أحداث الرواية. ونجد ذات المفهوم الذي تطرحه هذه الرواية عند فرانسيس دينج في راويته " طائر الشؤم" التي تناقش أيضاً مسألة التزاوج بين العرب وغيرهم من القبائل في السودان، أو بمعنى آخر أن الروايتين تعالجان قضية الهوية السودانية ذات الأصول المتعددة من منظور روائي مشوق جداً. توثقت صلتي الشخصية بكاتبنا الكبير، إبراهيم إسحاق، بعد أن جمعتنا ظروف الغربة في حي النسيم في شرق مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية. ذلك الحي الذي ضم لفيفاً من السودانيين في ثمانينات القرن الماضي فتكونت بينهم أواصر قوية؛ فقد كان من الذين وضعوا عصا الترحال في ذلك الحي، وعُرف بين الناس بثقافته الثرة ولذلك كان منزله العامر بالعلم، والكتب، والثقافة، ملتقى لكثير من المهتمين بالحراك الثقافي والأدب؛لأنهم كانوا يجدون عند صاحب تلك الدار ما يشفي غليلهم ويمتعهم بحلو الكلام والأدب الرفيع، وما كنت لأحرم نفسي من مجالسة ذلك العالم والأديب ذائع الصيت، فصرت من المداومين على مجلسه بقدر ما تسمح لنا وله ظروف العمل. ذات مرة طلب مني إبراهيم أن أرافقه لمعرض الكتاب الدولي بأرض المعارض في شمال الرياض فذهبنا واشترى عدداً من أمهات الكتب والمجلدات وعندما رجعنا إلى داره قلت له: أساعدك في حمل هذه الكتب إلى الداخل، فقال لي: شكراً، وبارك الله فيك، فإنني لا أستطيع الدخول بكل هذا الكم الهائل منها! قلت لِمَ؟ قال خوفاً من الرقيب! قلت: أي رقيب تعني؟ قال: إنهم يعتقدون أنني أضيع أموالهم وأنفقها في شراء هذه الكتب التي تراها، وعرفت من يقصد فضحكت وضحك ووضعنا الكتب في سيارته حتى يدخلها مجزأة. لقد كان صالون إبراهيم إسحاق عبارة عن خزانة كبيرة للكتب فلا تكاد تجد موطأ قدم إلا وفيه كتاب أو مجلة أو قصاصة من ورق، وكل ذلك موضوع بنظام لا تخطئه العين أبداً وما من صفحة إلا وتجد لإبراهيم تعليقاً أو شرحاً عليها بقلم الرصاص؛ كما إنّ الزائر لصالون إبراهيم إسحاق لا يمكن أن ينسى العصيدة الدارفورية بملاح " التقلية" التي كانت تتفنن فيها السيدة الفاضلة الأستاذة أم محمد التي لا زلنا نتذكر كاساتها وهي تعبق برائحة المستكة. خلال تلك الفترة واصل إبراهيم إسحاق الكتابة وأخرج للناس واحداً من أهم كتبه في غير مجال الرواية، كتاباً يعد إضافة حقيقية للمكتبة السودانية، هو ذلك المرجع التاريخي " هجرات الهلاليين من جزيرة العرب إلى شمال إفريقيا وبلاد السودان"، وهو سفر جامع يسد ثغرة كبيرة في تاريخ الهجرة العربية إلى السودان وكردفان ودارفور خاصة إذا قرئ مقروناً بكتاب محمد بن عمر التونسي " تَشْحِيْذ الأذهان بسِيْرَة "بلاد العَرَب والسُّودَان" الذي يعد أهم مصدر للتعريف بأحوال إقليم "دارفور" من كافة النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك. و"بلاد العرب والسودان" في هذا الكتاب تعني بلاد السودان التي تسكنها القبائل العربية وغيرها،ويخص منها بالذكر إقليم دارفور الذي عُرِفَ باسم أقدم شعب سكنه وهو شعب "الفور" الذي أضحى اسمه علماً عليه وقامت في هذه البلاد سلطنة إسلامية كانت تمثل حلقة في سلسلة الممالك الإسلامية الواقعة بين الصحراء الكبرى ومصر في الشمال وبين الغابات الاستوائية في الجنوب وتمتد من البحر الأحمر شرقاً إلى المحيط الأطلنطي غرباً وتشمل ممالك سنار وكردفان ودارفور ووداي وباجرمي وبرنو أو الكانم ومملكة مالي. ويضاف إلى هذين المرجعين كتاب السير ماكمايكل الموسوم " قبائل شمال كردفان ووسطها" الذي يؤرخ لقبائل كثيرة انتشرت في إقليمي كردفان ودارفور ويعطي فكرة موسعة عن الأوضاع السياسية في تلك المناطق قبيل سقوط مملكتي دارفور وسنّار. علاوة على هذا فإن مما يميز إنتاج إبراهيم إسحاق الأدبي والثقافي في تلك الفترة ما كان يقوم بها من مراجعات للكتب العربية والترجمة خلال تعاونه مع مجلة (عالم الكتب) التي نشر فيها بعضاً من مقالاته الثقافية الراقية. كذلك لم يتوقف إبراهيم عن كتابة القصة والرواية حيث نشرت له جريدة الخرطوم إبان فترة اغترابه مجموعة من القصص القصيرة ضمنها في مجموعاته التي صدرت مؤخراً.كما شهدت بلاد المهجر نشاطاً ثقافياً واسعاً شارك فيه هذا الكاتب بعدد من المحاضرات واللقاءات من أشهرها المحاضرة التي قدمها عن الرواية السودانية بين الحاضر والمستقبل ضمن فعاليات دورة الثقافة والتنمية التي تقيمها الهيئة الطوعية لدعم التعليم العالي بالسودان في مقر السفارة السودانية بالرياض عصر الخميس من كل أسبوع ويؤمها عدد كبير من المثقفين وأساتذة الجامعات باالرياض. تحدث إبراهيم في تلك الندوة حديث العالم ببواطن الأمور الملم بكل التفاصيل ولكن لتجرده لم يتحدث عن تجربته الشخصية إلا في سياق رده على مداخلات الحضور_ فأي تواضع هذا!وعندما افتتحت مجموعة من المهتمين بشأن الوطن موقع " نبض السودان" الإسفيري لمناقشة القضايا السودانية صار إسحاق أحد أبرز كتّابه فطرح رؤية واضحة حول مشكلة دارفور من حيث جذورها وسبل معالجتها ولعلي لا أبالغ إن قلت إن وثيقة الدوحة لسلام دارفور قد استلهمت ما كان ينادي به ويتحدث عنه إبراهيم إسحاق من تحليل لأصل الفتنة وكيفية الخروج منها حتى جاءت مطابقة تماماً لما كتبه قي ذلك الموقع. وعندما وقع الاختيار على الخرطوم لتكون عاصمة الثقافة العربية كان من الضروري أن يضم الوفد الذي مثّل الجالية السودانية في فعاليات ذلك المهرجان قامة أدبية سامقة، فكان إبراهيم إسحاق ضمن الوفد فأثرى ليالي الخرطوم وعطّرها بحضوره المتميز دوماً. ودونكم ما قاله الأديب الراحل الطيب صالح عن هذا الأديب العَلَم: (إبراهيم إسحق كاتب كبير حقاً؛ وقد اكتسب سمعته الأدبية بعدد قليل من الروايات الجميلة، مثل روايته «حدث في القرية». وهي روايات قدمت لأول مرة في الأدب السوداني صوراً فنية بديعة للبيئة في غرب السودان وهو عالم يكاد يكون مجهولاً لأهل الوسط والشمال وقد لقيته في الرياض في المملكة العربية السعودية، فوجدته إنساناً دمثاً طيباً مثل كل من لقيت من أهل غرب السودان). وواضح من روايته "وبالُ في كليمندو" أنه لم يكن خاملاً، بل كان يفكر ويكتب طوال فترة صمته الممتد". في هذه الرواية صور الكاتب ما بدأ يطرأ على مجتمع دارفور من صراع مؤسف مرده إلى الأطماع أو كما يقول الطيب صالح أيضاً " كليمندو اسم قرية حقيقية أو خيالية من قرى دارفور في غرب السودان الأقصى حيث اشتعلت في الآونة الاخيرة نيران الأحقاد والمطامع والطموحات و«البلاوي الزُرق!. وكأنما أحس إبراهيم إسحق بالكوارث التي سوف تقع على تلك الرقعة الشاسعة من الأرض التي عاشت على وجه العموم حياة آمنة مطمئنة". بالعودة إلى الكتاب الذي بين أيدينا تلزم الإشارة إلى أنه يحوي مجموعة من القصص القصيرة التي اختار لها الكاتب عناوين مثل (ملوك سوق القصب،والطريق إلى أم سدرة، وتخريجات على متن الظاهريّة وبلية العجيج ولدْ عجيجان النّاجري)؛ وكل هذه العناوين لها دلالات مقصودة يدركها القارئ من خلال سير القصة وقد قدم لها المؤلف بمختارات لكثير من الكتّاب أمثال كيركيجارد، ولاوتزو، وسليمان بن حسين الوسطي، ودانتي اليجيري، وأبو العتاهية؛ وهذه إشارة واضحة على سعة اطلاعه وثقافته.هذا الكتاب من إصدارات هيئة الخرطوم للطباعة والنشر ويحمل الرقم ( 38) ضمن سلسة " كتاب الخرطوم الجديدة" وهو بعنوان (عرضحالات كباشية) نسبة لأسرة كباشي وهي أسرة خيالية أراد الكاتب أن يحملها مسئولية كل الأحداث، والأفكار، التي تدور حولها مجموعة القصص، بينما يتولى هو السرد والحبكة القصصية، متخفياً خلف شخصية الراوي الذي جاء من كافا إلى أم درمان، وظل يتنقل بين هذين الموقعين في إشارة واضحة لما يحمله من موروث غرب السودان إلى المدينة، وما يعود به من فكر وحضارة وتنوير إلى قرية كافا، وهي خيالية أيضاً: - اللّخوان من وين؟ - نحن من كافا. - كافا دي وين؟ - في شرق دارفور. وسيلة السفر في أغلب هذه القصص هي " اللواري" التي لها رمزية واضحة فهي التي تحمل الحياة بكل جوانبها المادية من بضائع وغيرها، وتحمل مكوناً ثقافياً وافداً على قرى دارفور بنقلها لإنسان المدينة أو من له صلة بها وهذا بدوره يأتي بكل ما هو جديد و مستحدث. يقول الراوي في قصة سبحات النهر الرزين(جئتهم ناس الصِّيوان هذه المرة بإحياء علوم الدين؛ لأن عبد الغفار نصحني بامتلاكه لأجلهم. يقول لي: خلي الشباب ديل يقرو الأسرار كمان). وما يلفت النظر في هذه المجموعة أن مسرح أحداثها يتراوح في مساحة جغرافية ممتدة ومتنوعة البيئات تشمل مناطق كثيرة من السودان تمتد من كافا في دارفور إلى أم درمان وشندي وبور تسودان مما يعني أن إبراهيم إسحاق قد خرج من نطاق المحلية في رواياته ليلج إلى القومية مشيراً بذلك إلى حراك اجتماعي كبير يعود الفضل فيه إلى وسائل المواصلات والاتصالات التي قرّبت مكونات المجتمع السوداني ومناطقه من بعضها البعض. ومن المؤكد أن ثمة حالات من التواصل والتمازج والاختلاط قد نتجت من ذلك كله، وإن كانت لا تزال في طور التفاعل إلا أنها حتماً ستؤدي إلى مزيد من إزالة التفاوت، والتنافر إن جاز لنا أن نقول ذلك.هذه القصص تعالج جملة من القضايا تتراوح بين الصراع بين القديم والحديث؛ كما هو شأن معظم روايات إبراهيم إسحاق، ولكنها أيضاً تلمس بعض المستجدات في المجتمع السوداني مثل تعاطي المخدرات، والصراع الفكري في أوساط طلاب الجامعات (الرأسية الأولى وقع الكناني على ركبتيه، والهواري تراجع حتى اتكأ على ساق الهرازة. الرأسية الثانية وقعت أنا على الركبتين، أتشهد في داخلي ولا أجد نفسي، كأنني بيْن بيْن، في دارين.)هذا بالإضافة إلى ما طرأ على مجتمع دارفور من خلل، وتفكك اجتماعي، نتيجة للحرب التي ولّدت صراعات كثيرة في ذلك الجزء من الوطن، وظهرت على السطح مجموعات لا تشبه سلوك إنسان دارفور المسالم والهادئ ذي الخلفية الإسلامية المتصوفة، ومن تلك المجموعات الجنجويد والتورا بورا، ولذلك عندما سأل الراوي جده القادم من دارفور في قصة " بدائع" ( كيف تركت الأهل في الدكه والحلال يا جدي؟ " طيبين عافين" وكيف صحتكم وأحوالكم؟" رد عليه الجد بقوله ( كويسين بلا مصايب التورا بورا والنهب، والعياذ بالله". ومن جملة ما يناقشه الكاتب في هذه القصص مشاكل الخدم في البيوت و ما يترتب على ذلك من أحداث جنائية مثل ما فعلت الخادمة لولو حيث تآمرت مع إحدى قريباتها فسرقت ذهب صاحبة البيت وجارتها وقطعت أصابعهما. ومن المواضيع التي تحدث عنها إبراهيم إسحاق في "مسطرة القليب" قصة أم شوايل تلك البنت الكباشية التي ألقى بها أبوها في البئر، وهذه إشارة واضحة للعنف الأسري وهو من القضايا التي طرأت على قصص إبراهيم إسحاق مؤخراَ، في دلالة واضحة على مواكبته واهتمامه بدوره كواحد من المعنيين بتشكيل وجدان الإنسان السوداني. وقد عكس إبراهيم إسحاق في هذه القصص كل جوانب النشاط البشري في دارفور من تعليم وتجارة وزراعة ورعي بأدق التفاصيل لهذا الحراك لما له من صلة مباشرة من مفاهيم الناس وسلوكهم، وطريقة حياتهم، وتقاليدهم وموروثوهم، وقيمهم التي جعل منها إبراهيم إسحاق مادة لقصصه ورواياته، فذكر فيها كل شيء يتعلق بإنسان كافا حتى أسماء الكباش مثل ( برد وبرود) والشجر مثل أم دلادل وديك مسعود وبالطبع أسماء سائقي اللواري وممارستهم ومحطاتهم التي يقفون فيها،وموارد المياه مشيراً إلى قضية العطش من طرف خفي. هذه القصص يجب ألا تقرأ بمعزل عن روايات إبراهيم إسحاق الأخرى إبتداءً من" حدث في القرية"، و"مهرجان المدرسة القديمة"، و" أعمال الليلة و البلدة" وهي في مجملها تدور حول القديم والجديد في القرية الدارفورية التي رمز إليها الكاتب في هذه السلسلة بكافا التي ربما تكون، مثل ود حامد، تجسيداً للقرى في أنحاء السودان كافة حيث يدور صراع بين موروث القيم القروية العتيقة وما يطرأ على الساحة الاجتماعية من تحول، لأن القرية لم تعد معزولة تماماً عما يدور من تطور في العالم من حولنا، ولذلك نجد ذلك الحراك الذي يمثله " المنصور".عموماً هذه القصص تمثل تحولاً كبيراً في مسيرة إبراهيم إسحاق الروائية من عدة جوانب فهو قد تحول من المحلية الضيقة إلى القومية؛ كما أن لغة الروائي نفسها قد تطورت من الاستخدام المفرط للهجة المحلية إلى أسلوب هو أقرب إلى عامية الوسط وإن كانت هذه القصص لا تخلو من لهجة غرب السودان بشكل عام لأن "المنصور" قد خرج من كافا ووصل حتى أم درمان وشندي وحتى بور تسودان، ولذلك كان من الطبيعي أن يكتسب لهجة مزيجاً من كل لهجات السودان. باختصار شديد هذه القصص جديرة بالقراءة والدراسة فهي تعد قمة النضج الروائ لإبراهيم إسحاق فقد كتبها في فترة زمنية طويلة بين الأعوام من 1973 و حتى 2010 وهي الفترة التي عاش فيها إبراهيم شبابه وكهولته وخاض تجارب حياتية كثيرة تراوحت بين الخروج من القرية إلى العاصمة ومرحلة التعليم العام والعالي حتى نال درجة الماجستير واكتسب شهرة أدبية وعمل في كثير من الوظائف من تعليم وغيره في السودان وخارجه، وشارك في كثير من المحافل والأنشطة الأدبية والثقافية وكتب فيها بعض أهم مؤلفاته والتقى خلالها بكثير من الفاعلين في مجال الأدب والثقافة وصار رقماً كبيراً في مسيرة الرواية السودانية والعربية لتفرده وتميزه السردي والقصصي حيث نقل حياة القرى في السودان الغربي إلى كافة المهتمين بفن الرواية بأسلوبه الخاص والممتع. عاد إبراهيم إسحاق إلى أحضان الوطن، ليحتل موقعه بين أدباء وكتاب السودان، فتبوأ منصب رئاسة إتحاد الكتاب السودانيين؛ وهو الآن عضو في مجلس تطوير وترقية اللغات القومية في السودان وهو أيضاً عضو بارز في أمانة جائزة الأديب الراحل الطيب صالح. إبراهيم إسحاق الآن يشارك بمقالات أدبية نوعية في الصحف والمجلات السودانية، و يشارك في كثير من الحوارات والبرامج التي تبثها القنوات التلفزيونية الفضايئة وله اسهام ملحوظ في الحراك الثقافي في العاصمة المثلثة، وله عدة مشاريع كتب وإصدارت جديدة هي الآن في المطابع ستضاف إلى أعماله في القريب العاجل؛ ذلك فضلاً عن أنّ إبراهيم إسحاق هو حامل لواء الرواية في السودان الآن بلا منازع لرسوخ قدمه في هذا المجال، وعمق تجربته وروعة أسلوبه، وتنوع موضوعاته، وارتباطها بالبيئة السودانية، وإلمامه بقضايا الأدب العربي والعالمي، خاصة إذا علمنا أن إبراهيم هو أحد الباحثين الأفذاذ في مجال التراث، والثقافة، والتاريخ؛كما أنه في الأساس مدرس للغة الإنجليزية التي كانت إحدى أدوات اطلاعه على آداب العالم بجانب اللغة العربية.هل فهمت يا سكنية لماذا أنا مشغول عنك بهذا الكتاب ؟ فأجابت مجاملة: نعم يا أبي!
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كيف نقرأ إبراهيم اسحاق! // غسان علي عثمان (Re: munswor almophtah)
|
اخوى منصور الضمير فى "زولك " يرجع "لكاتب " النصوص اداناة :
{ (مثاقفة) مدونة الكاتب غسان علي عثمان "مقالات سودانية"، تتحرك عملاً على إيجاد تحليل ثقافي أمثل (نسبة لأمثلة سابقة، وليس في الأمر ترتيب/ تصنيف). مقالات مهمومة بطبيعة المعرفة، وسيجد المتصفح كتابات قد يغلب عليها الطابع المفاهيمي. يبقى القول إن هذه المدونة بما تحويه من مقالات ودراسات وحوارات سمتها الأساسية؛ البحث وراء إعادة الاعتبار للعقل والعقلانية...}.
{ هل هذا مقال في النقد الأدبي؟ لا أدري، وقد يكون مقالاً في فلسفة القراءة، هذا إن كان يوجد في عالم المعرفة شيء لا يملك فلسفته الخاصة، وهذا أيضاً سؤال مشروع، ما نكتبه ليس شغوفاً بالتدبير نحو عراقته في جنس كتابي محدد، وهذه من آفات التحليل التي نعيش، فطالما كتبت فأنت ملزماً بأن تكتب داخل نسق محدد، وهذا ما يسمى بالمدرسية، وهذه الطريقة مريحة للناقد والقارئ، فهو يستعيض عن ملكته في المعرفة بحس مستلف لصالح نص لم يقرأه بعد،}.
---
واعتذر عن ال"خطأ التعبيرى" فى " نصى المكتوب ". لاننى من " مدرسة القارئون" . (وبين ناس الشتات مافى ملامة)
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كيف نقرأ إبراهيم اسحاق! // غسان علي عثمان (Re: munswor almophtah)
|
قراءة إبراهيم إسحاق تحتاج إلى إستعداد زهنى عال وموالاة ومرسٍ لا يمل ولا يفتر صاحبه فالعبارة عنده موضوع بذاتها وكل عبارة منه تمثل أقصوصة بديعة لذا تجد نفسك مسافرا فى قص هلامى بديع وفى حبك تصويرى عكاسا للمواقف والطرائف والحوارات والوصف وللمفرة لديه مذاق كمذاق السمن الحمرى أو العسل الجبلى عارف لمادته واقف عليها فإذا تعلق الأمر بالأباله فهو أبالى كامل الدسم وإذا قفذ للبقاره فهو البقارى القح جمع لثقافة الصحارى وثقافة الطينة المطيرة جمع العارفين بكليهما وحوت سعته مدى التفاصيل المتباينه فيها وعندما ينبرئ متحدثا عن الناس فهو المعجم المبين والكشاف الأعظم وكأنه من فطاحيل النسابه عارفا للفواصل بين للعروبة والأفريقيه وراصدا للتداخل والإمتزاجات المحليه والوافده مخرجا أنموذجا للسودانى المعافى جزاه الله عنا كل خير.
| |
|
|
|
|
|
|
|