دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: munswor almophtah)
|
مسودةكتاب: (شُذورٌ مُتفرقةٌحولَ الأدبِ) لمؤلفه:
أسعد الطيب العباسي
الإهـــــــــــــــــداء
إلى روح والدي القاضي الأديب الطيب العباسي الذي رحل عن دنيانا وخلف أحزاناً ودمعاً مبددا،إلى معلمي الأول الذي نشأني على حب الأدب وعلمني كيف أغازل اللغة لأستميلها فأبيتنَّ بين خلاخلها ودمالجها. أسعد الطيب العباسي 3/10/2008
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: munswor almophtah)
|
فهرسة المكتبة الوطنية ـ السودان 811.99624 أسعد الطيب العباسي أ ط.ش شذور متفرقة حول الأدب / أسعد الطيب العباسي ـ الخرطوم :مركز محمد سعيد العباسي الثقافي.2008 . 183 ص : 24 سم. ردمك :978 – 99942-902-4-6 1. الشعر العربي ـ السودان ـ تاريخ ونقد. 2 . الأدب ـ تاريخ ونقد. 3 .الشعراء العرب ـ السودان. أ. العنوان.
حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى رقم الإيداع 602/2008
إضــــــاءة بقلم :الأستاذ/ إبراهيم إسحق إبراهيم بين يدي الشذور عنوان هذا الكتاب دقيق جداً في عرضه لموضوعه.. فالكاتب يستعرض استنباطاته حول متفرقات أدبية صنّفها في أربعة فصول..وهذا النوع من الكتابة خفيف على النفس ويستطيع القارئ الجاد إلتهامه في خمس ساعات..ومع ذلك فهو يخرج بذخيرة قيمة من من المعارف الأدبية المتنوعة..وهذا النهج مؤصل في الكتابات التعريفية التي أسس لها منذ مطالع القرن العشرين عمالقة مثل العقاد وأحمد أمين ومخائيل نعيمة وسواهم .. وتجميع المتفرقات الدراسية على هذا النمط موجود في كل الثقافات العالية واللغات الحية في عصرنا هذا. الفصل الأول لهذا الكتاب ـ وهو أطولها ـ به سبعة عناوين، جاء بعنوان {شذور حول ثلاثة شعراء سودانين}،يحتكره الشعر المدرسي..نصفه الأول يستأثر به شاعران من بيت المؤلف هما جده {محمد سعيد العباسي} ووالده {الطيب محمد سعيد العباسي}، يرحمهما الله.. والقارئ دون الستين من العمر بالتأكيد سيجد في هذه العناوين معلومات كثيرة تغبى عليه.. فمحمد سعيد العباسي لا يقارن في ريفياته إلا بعبد الله البنا الذي تمكن من النظم الفصيح الرصين بعد العباسي بزمن.. وهما كفلقتي الفاصوليا.. العباسي تولّه بالبادية الغربية وغناها بعمق، بينما يهيم عبد الله البنا بالبادية الشرقية ويعلّيها.. وأما الطيب العباسي فقد تشرّب من تعليمه في مصر بعداً عروبياً يجعل غزلياته بعيدة المرامي،فهو ذو هوىً بمصر ولبنان والخليج العربي وبورتسودان على السواء.. ويحتكر الشطر الآخر من هذا الفصل شاعر هجاء المدن السودانية المتفرد في قدراته على النظم الموزون، موسيقى ومفردات وصور، الأكاديمي البارز {محمد الواثق} الذي لا يبعد أيضاً قرابةً عن بيت المؤلف.. وقد آثرت ألا أتطرق إلى تفاصيل معالجات الأستاذ أسعد الطيب العباسي لعناوينه وأتركها تقدم نفسهاإلى قارئه. عنوان الفصل الثاني هو "شذور دراسية حول الأدب" وبه ثلاثة عناوين رأيتهم يبلغوا من الثراء شأواً بعيدا. فأولهما يعالج علاقات الفهم العالمي للرمزية بما يماثله في النقد الأدبي العربي من الإستعارات والتشبيهات والكنايات والايحاءات اللفظية.. واكترث العنوان الثاني لدور التحليل النفسي، قديمه وحديثه، في جلاء عمليات الخلق الإبداعي، ثم في بيان مضامينه.. وأستطيع أن أؤكد ـ على محدودية قدراتي ـ بأن جهداً عالياً قد بذله المؤلف في إستيلاد أفكاره حول هذين الموضوعين وربطهما بما يوجد في أدبيات النقد العالمي من حصائل..أما العنوان الثالث فقد إنطوى على دراسة حول الأدب الشعبي السوداني وقد مثل له المؤلف بالدوبيت مستعرضاً معناه و متناولاً مسمياته،أصله،نشأته،لغته وأنواعه.. ولاغرو أن الدراسة قد جاءت علمية ودقيقة فالمؤلف خبر دروب الأدب الشعبي وعُرِف به وله فيه صولات وجولات. التعريفية سيطرت على الفصل الثالث والمسمى: "شذور حول الأدب العالمي"، وبه أربعة عناوين.. وأنا من الدعاة إلى ضرورة وجود المقالات التعريفية في ثقافتنا.. فقد أزعم بقلب راسخ بأن ثمانين في المئة من قرائنا لا يملكون، قبل شيوع الإنترنت، مداخل مريحة إلى المعارف المخزنة في الموسوعات.. وهنا يسهم أسعد العباسي بفك الضائقة، ولو قليلا، حينما يعرفنا بالمراحل التاريخية لتطور الأدب الفارسي، ثم ينورنا حول الأدب الياباني، ويقتطف لنا من رسائل الكونت ليوتلستوي (1828-1910)، وأخيراً يدعي حيدته العقلية والأخلاقية وهو يسرد علينا كيف آوى إخوتنا المغاربة المبدع "المثلي" جان جينيه (1910-1986). كتاب أسعد العباسي في فصله الرابع إستبحرَ في المقابلة بين قدرات الشعر العربي القديم والشعر الشعبي السوداني والمصري في استنطاق المواقف المأساوية والمحزنة من حياة الإنسان.. في عنوانه الأول يحكي عن لحظات ما قبل الإعدام عند الشاعر المصري هاشم الرفاعي المشنوق في عام 1959، ويضع حذاءه شنق الإنكليز للشعراء الشعبيين السودانيين ككباشي وعمر ود الشلهمة، ويضيف إليهما مقتل النضر بن الحارث بعد معركة بدر الكبرى وشنق جوزيف قرنق في خريف العام 1971 بالخرطوم. وهنالك صورة مأساوية إستقاها الكاتب من أبي فرج الأصفهاني في كتابه الأغاني وطعمها بخيال من عنده.. وتخص هذه الواقعة الحرب التي أهلكت بطنين من العرب البائدة هما طسم وجديس في بواكر الجاهلية العربية على أرض اليمامة في نجد.. الحادثة تبدو أسطورية ولكنها عند علماء الأنثربولوجيا والإجتماع تبدو متكررة.. فالحاكم الكاهن في البعض من هذه المجتمعات الوثنية القديمة تمنحه المشروعية القبلية الحق في إفتراع كل عروسة في دائرة سطوته القبائلية قبل أن يزفوها الى زوجها.. وذلك وضع مأساوي يحتم على الفرسان المستذّلين أن يثوروا على واقعهم المشين. وختام شذور أسعد العباسي تختص بدموع المحبين والعشاق في الشعر القديم خاصة.. وبهذا أخلص إلى ما بدأت به، بأن خمس ساعات من القراءة حتماً ستجعل من يقتني هذا الكتاب أكثر دراية برسالة الشعر في حياتنا، و أفهم نقدياً بما لم يتدبر من دروب الأدب ونقده واستلذاذه. إبراهيم إسحق إبراهيم رئيس إتحاد الكتاب السودانيين أكتوبر 2008
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: munswor almophtah)
|
الفصل الأول
شذور متفرقة حول ثلاثة شعراء سودانيين
(1) {الشاعر محمد سعيد العباسي} الشيخ عثمان زناتي أستاذ العباسي
العباسي شوقي حافظ شوقي العقاد
(أ) المدن السودانية في شعر العباسي
شاعرنا السوداني المعروف محمد سعيد العباسي شاعرٌ تقليدي النزعة كلاسيكي الميول، ويبدو للناظر التزامه الصارم بشكل القصيدة العربية الأصيلة. ولا يُعزى ذلك إلى نظرته إلى الأوائل فحسب إنما كان لشكل حياته التي عاشها بين بوادي بلاده والتي تشبه في بيئتها بيئة الجزيرة العربية أثر عظيم في ذلك، فعندما يتحدث العباسي عن الناقة يتحدث عن تجربة حقيقة عاشها، فقد كانت الأيانق هي وسيلته في التنقل. وقد مازجت تجربته الشخصية الأطلال والوديان والأطيار ووعورة الدرب وكل ما يتصل بحياة البادية، ولعل الاستاذ الناقد عبد القدوس الخاتم تحدث بإفاضة في شأن هذه التجربة . وقد عدّ الأستاذ مصعب الصاوي العباسي شاعراً محدثاً وليس تقليدياً . وعلى كلٍ فإن العباسي في شأن تجربته الشعرية عن المدن السودانية تتعدد أغراضه في القصيدة الواحدة، وكثيراً ما تصاحبها ديباجات عند الإفتراع متفق على قوّتها وجزالتها وروعة نسيبها يقول في قصيدته النهود: باتتْ تُبالغُ في عَذلي وتَفنيدي ** وتقتضيني عُهودَ الخُرَّدِ الغيدِ
وقد نضوتُ الصِبا عني فما أنا في ** إسارِ سُعدى ولا أجفانها السُودِ
سئمتُ من شِرعَةِ الحُبِّ اثنيتن هما ** هَجْرُ الدلالِ وإخلافُ المواعيدِ
لا تعذليني فإنيَّ اليومَ مُنصرِفٌ ** يا هذه لهوى المَهريَّة القودِ
لم يبْقَ غير السُّرى ما تُسَرُ له ** نفسي وغير بناتِ العيدِ من عيدِ
المُدنياتي من رهطي ومن نفري ** والمبعداتي عن أسري وتقييدي
أثرتُها وهي بالخرطومِ فانتبذتْ ** تكادُ تقذفُ جُلموداً بجُلمودِ
تؤمُّ تِلقاءَ من نهوى وكم قطعتْ ** بنا بِطاحاً وكمْ جابتْ لصَيخُودِ
نجِدُّ يرفعنـا آلٌ ويخفضنــــا آلٌ ** وتلفظنـــــا بيدٌ إلى بيـــدِ
وشدَّ ما عانقت بالليلِ من عنقٍ ** يُضني ومن حيفِ أخدودٍ فأخدودِ
معالِمٌ قد أثارتْ في جوانحنا ** شوقَ الغريرِ لمهضومِ الحشا الرُّود ِ استغفر الله لي شوقٌ يجدده ** ذكرُ الصبا والمغاني أيَّ تجديدِ
وتلك فضلةُ كأسٍ ما ذممتُ لها ** طعماً على كِبرٍ بَرْحٍ وتأويدِ
وبعدها يبرز العباسي في معاطف عمرو بن أبي ربيعة فيدهشنا بقوله:
إن زرتُ حياً أطافتْ بي ولائده ** يفْدينني فعلَ مودودٍ بمودودِ( )
وكم برزنَ إلى لُقيايَ في مرحٍ ** وكم ثنينَ إلى نجوايَ من جيدِ
لو إستطعنَ وهُنَّ السافحاتُ دمي ** رشفنَنِي رشْفَّ معسولِ العناقيدِ
يا دار لهوي على النأي اسلمي وعمي ** ويا لذَاذَة أيامي بِهــم عُودي
المدينة عند العباسي إلهامٌ و عشقٌ ومحبةٌ وكنزٌ من الذكريات والهوى ورهطٌ من الأصدقاء والمحبين، فلا يقع نظره فيها إلا على الحُسن والجمال بأنواعه، جمال الوفاء، جمال الطبيعة وجمال الكرم. وقد قال العباسي عن عروس الرمال (الأبيض) في الحاشية الأولى من حواشي قصيدته (عروس الرمال):- "عروس الرمال هي مدينة الابيض لأن أرضها بيضاء رملية وأجمل ما تكون في أيام الخريف بعد نزول الأمطار فتخضر الأرض وتنبت بها الأعشاب ويكون لأشجارها خصوصاً التبلدي جمال وروعة". يقول العباسي في عصمائه عروس الرمال وذكرياته فيها: أرى النوى أكثرتْ وجدي وتذكاري ** وباعـــدتْ بين أوطاني وأوطاري
وألزمتني عن كُرهٍ مصائرها ** هذا الترحلَ من دارٍ إلى دارِ
فارقتُ بالأمس فتياناً كانهمُ ** في الجودِ إما تباروا خيلُ مضمارِ
كأنما أرضعتهم أمهاتُهُم ** غيظَ العدو وبرَّ الضيفِ والجارِ
أفدي الأبيض أفدي النازلين بها ** مثوى الأكارم أشياعي وأنصاري
شادوا بذكري ولولاهمُ لما عَشِقتْ ** هذي المحافلُ آدابي وأشعاري
من كلِ ندبٍ كريم الطبعِ ذي خُلقٍ ** سمحٍ وليس بنمامٍ ولا زاري
أوفي الأخلاء في الجلى يضاقُ بها ** ذرعاً وإن هيجَ فهو الضيغمُ الضاري
شروا من الحمد ما يبقى وغيرهمُ ** باعَ الكرامة عن زهدٍ بدينارِ
لو كنتُ كإبن الحسين اليوم صغتُ لكم ** ما قد أفاءَ على بدرِ بن عمَّارِ
إن الذي قد كساكم من صنائعه ** ثوب الفضيلةِ عرَّاكم عن العارِ
ثم ينزلق العباسي إلى ذكريات حملت من العشق والغزل والوله ما حملت، فألبسها ثوباً شعرياً منمقاً ومموسقاً يطرب له الوجدان وتهتز له الأفئدة، ففيه من صور التشبيه وإفصاح المباشرة الكثير والعجيب وهو يتحدث عن ليلى، تلك السيدة المهذبة والأديبة التي التقاها بالأبيض حيث موطنها، فيقول: هل من رسولٍ الى ليلى فيُبلغها ** عني تحية إعظامٍ وإكبارِ
لم أنسها إذ سعت نحوي تودعني ** أستودعُ الله منها خيرَ مُختارِ
في ليلةٍ لم ينمْ إلا الخليَّ بها ** ألقتْ على الناس والدنيا بأستارِ
سعتْ إليَّ وفي لألاءِ غُرَّتِها ** نورٌ ذممتُ لديه الكوكبَ الساري
فيالها زورةً جادَ الحبيبُ بها ** وساعة تشترى منه بإعمارِ
وردٌ حبتنا به الجناتُ مؤتلقاً ** من صنع ربك لا من صنع آذارِ
وقد ظلمناه ان جئنا نشبهه ** بفارة المسك أو بالمندل الداري
يا قُبلةً ما أحيلاها بهمهمةٍ ** فيها معاني ابن زيدون وبشارِ
فهل لليلايَ أن تولى الجميلَ بها ** ولو كنُغْبةِ عصفورٍ بمنقارِ
مُنىً قضينا ولم نظفر بها ولقد ** كانتْ تُرى وهي منا قيدُ أشبارِ
ونوغل لنلتقي مع العباسي ومدنه مليط وسنار ووادي هور ودارة الحمراء والربدة، وهي قصائدٌ تحدث كل واحدة منها الأخريات عن روعتها وجمالها، وفيها يظل العباسي متشبثاً بغزله ونسيبه ووفائه ، وقد وضعها القدر في مساره وهو يجوب البوادي. فقد كان العباسي مولعاً بحياة البادية ويحمل نفساً تعلّقت منذ نشأته الباكرة بكل ما يتصل بالحياة الفسيحة المبرأة من القيود والأسوار، فأحب التنقل والأسفار، وعشق الفروسية، ومارس الصيد فاقتنى كلاب الصيد الجيدة، ومنها (ام سُوق) التي جاءته هدية من صديقه شيخ العرب السير علي التوم ناظر عموم الكبابيش، فبقيت معه ورعاها ورعى سلالتها على مدى عشرات السنين، ومن أشهر سلالاتها الكلبة (دولات) التي ذاع صيتها في كل منطقة الريف بشمال أم درمان وما جاورها. وقد كان العباسي فارساً يحب الخيل ويتملكه، ولعل مهرته الرشيقة (كيلوباترا) التي كانت تحوز قصب السبق في المضامير أهم وأشهر ما امتلكه من الخيل، أما الأيانق فكان لها في قلبه مكانة لا تعدلها إلا مكانة المودود والمحبوب، فهي رفيقته ونجيته في الفلوات وحاملة أثقاله وعلى ظهورها يسافر ويقطع السهوب والوديان وينزل الوهاد ويعتلي النهاد، وعندما يضنيه الشوق وتؤرقه ذكرى الأحبة في تلك المظان البعيدة ينهض إلى متون هذه المطايا لتحمله إليهم: وتحيةً حملتها ريحَ الصبا ** ممزوجةً برقائقِ التشويقِ
ما البانُ إما بنتمُ بانٌ ولا ** ذاك العقيقُ المشتهى بعقيقِ
أوطانكم وطني وإنَّ فريقكم ** أفديه دونَ العالمين فريقي
ياهل تهب لديَّ من تلقائكم ** ريحُ الرضا ونسائمُ التوفيقِ
فأروح أدَّرع الفلاةَ يقودني ** شوقي الصحيحُ وفعلُ أيدي النوقِ
وأفيق من جهد الصبابة مبرداً ** منكم غليلَ فؤاديَ المحروقِ
وفي ذات يومٍ أسرج العباسي رحله صوب (مليط) تلك المدينة الدارفورية وحاضرة قبيلة (البرتي) التي يشقها واديها العظيم الذي تنساب إليه المياه من مرتفعات مدينة (كُتُم) وتلتقي بمياه الوديان الصغيرة المنحدرة من جبلي (كَلُّوْ) و(كَلُّويَاتْ) المشرفان على بوابة المدينة الشرقية وسد وادي مليط الحجري، وعندما حط رحله فيها راعه منها جمال الطبيعة، وقبل أن ينيخ بدار مأمورها وصديقه (نصر بن شداد) بعد سير شاق وسفر طويل ألجمه حسنها وألهمه سحرها، فبدت مليط في تلك اللحظة تتهيأ لموعدٍ مع التاريخ والخلود، متزينة بكثبانها العفر ونخيلها الباسق ومياهها الجارية ورمالها الناعمة وظلالها الوارفة ويماماتها الهادلة والمغنية ونسائمها الغادية والرائحة. حيَّاكِ مليطُ صوب العارض الغادي ** وجاد واديك ذا الجنات من وادِ
فكم جلوت لنا من منظر عحب ** يشجي الخلَّي ويروي غلة الصادي
أنسيتني برح آلامي وما أخذت ** منا المطايا بإيجافٍ وإيخادِ
كثبانك العُفرُ ما أبهى مناظرها ** أنس لذي وحشة رزق لمرتادِ
فباسق النخل ملء الطرف يلثم من ** ذيل السحاب بلا كدٍ وإجهادِ
كأنه ورمالاً حوله ارتفعت ** أعلام جيش بناها فوق أطوادِ
وأعين الماء تجري من جداولها ** صوارِماً عرضوها غير أغمادِ
والورق تهتف والأظلال وارفة ** والريحُ تدفع ميَّاداً لميادِ
لو إستطعت لأهديت الخلود لها ** لو كان شيء على الدنيا لإخلادِ
وفي جنان مليط أطربت الحمائم العباسي وأشجته وقذفت به الى اتون السعادة والهوى، هوى الأوطان وهوى النيل. فاقتادت اللبَّ مِني قودَ ذي رسن ** ورقاءُ أهدت لنا لحناً بتردادِ
هاتي الحديث رعاك الله مسعفة ** وأسعدي، فكلانا ذو هوىً بادي
فحرّكت لهوى الأوطان أفئدةً ** وأحرقت نضو أحشاءٍ وأكبادِ
هوىً الى النيل يصبيني وساكنه ** أجله اليوم عن حصرٍ وتعدادِ
وحاجةٍ ما يغيني تطلبها ** لولا زماني ولولا ضيق أصفادي
أي حبٍ هذا الذي يسبغه العباسي على الأشياء من حوله؟، وأي جمال هذا الذي تهتف به نفسه من أغوارها؟، وأي استبطان رائع للوفاء ودواعي الصداقة التي يكنها هذا الشاعر في أعماقه؟: أنت المطيرة في ظل وفي شجرٍ ** فقدت أصوات رهبان وعُبادِ
أعيذ حسنك بالرحمن مبدعة ** يا غرة العين من عينٍ وحُسادِ
وضعت رحلي منها بالكرامة ** في دار ابن بجدتها نصر بن شداد
وحتى هذه الورقاء التي دخل عليها في كنفها ففزعت منه خاطبها مخاطبة لا تقع إلا بين أنيس وأنيس: ورقاء إنك قد أسمعتني حسناً ** هيا أسمعي فضل إنشائي وإنشادي
إنا نديمان في شرع النوى فخذي ** يا بنت ذي الطوق لحناً من بني الضادِ
فربما تجمع الآلام إن نزلت ** ضدين في الشكل والأخلاق والعادِ
لاتنكريني فحالي كلها كرمٌ ** ولا يريبك اتهامي وانجادي
إنه يبث شكاته لورقاء في ربوع ملهمته مليط، وبث الشكاة للرفقة الأنيسة وغيرها تخفف من ربقة وسطوة الفراق وعذاب النأي والحاح الأشواق المقيمة، وهي المتنفس عندما تعانق النفوس وتمازجها وطأة الآلام وهي تعافر المنى المستحيلة والأماني البعيدة والعسيرة المنال. إن المعالم والمواضع والأماكن التي اختزلناها في مقالنا إلى كلمة المدن ما هي إلا قصص إلهام وحكايات حب وحديث وفاء وصدق عند العباسي كما أوردنا، وعندما يضع العباسي رجله في ركابها تتقافز لتخطو إلى مناحٍٍٍٍٍ أخرى تتعلق كما أبان قبلنا الدكتور حسن أبشر الطيب في كتابه (العباسي التقليدي المجدد) إلى ما يتصل بآماله وأمانيه وعقيدته الدينية والسياسية أو شكواه من الزمان واقفاً موقف الفخر والاعتزاز هاجياً خصومه. يقول في ذات قصيدته مليط وقد أدركه فيها العيد وانتابته الهواجس وذكريات سنة 1924م، وكيف أخرج الإنجليز الجيش المصري من السودان، وقد كان به ضباط مصريون من الطراز الأول علماً ومعرفة وأخلاقاً وللشاعر صلة بهم ترجع إلى سنة 1898 عندما كان تلميذاً بالمدرسة الحربية. وأنت يا عيدُ ليت الله أبدلني ** منك الغداة بعوادٍ وأعوادِ
مالي وللعيد والدنيا وبهجتها ** وقد مضى أمس أترابي وأندادي
أولئك الغر إخواني ومن ذهبت ** بهم مواسم أفراحي وأعيادي
مضوا فهل علموا أني شقيت ** بمن ألبسته ثوب إعزازٍ وإسعادِ
وتتصل شكوى شاعرنا العباسي وهو بين رُبا مليط حينما حنَّ إلى تلك الأيام التي لم يخشَ فيها بأس القاهر العادي، أيام كان الشمل مجتمعاً وهو يرى اليوم ما تفعله العداوة والأحقاد وما ينتجه التفريق والإبعاد. تحية الله يا أيام ذي سلم ** أيام لم نخش بأس القاهر العادي
أيام كنا وكان الشمل مجتمعاً ** وحيُّنا حيُّ طُلابٍ وقصادِ
فإن جرى ذكر أرباب السماحة ** أو نادى الكرام فإنا بهجة النادي
لنا الكؤوسُ ونحنُ المنتشونَ بها ** منا السقاةُ ومنا الصادح الشادي
واليومَ أبدتْ لنا الدُنيا عجائبها ** بما نقاسيه من حربٍ وأحقادِ
وما رمى الدهر وادينا بداهية ** مثل الأليمين تفريق وإبعادِ
مليط أعادت للعباسي وجدان المقاومة، مقاومة المستعمر الإنجليزي الذي كان يكن له كراهية شديدة وقد جاء في كتاب (العباسي الشاعر التقليدي المجدد) أن من الأسباب التي ربما جعلت العباسي مفتوناً بالبادية ما رآه في البدو وما يكنون له من محبة وثقة، جماعة مؤمنة يمكن أن يستنهضها ويكون قائد لوائها في محاربة المستعمرين. وهذا القول يسانده مساندة كاملة ما ذكره الشيخ الشاعر الورع العالم ضياء الدين العباسي في مقاله: (من حياة والدي) الذي نشر ضمن كتاب (نظرات في شعر العباسي) الذي صدر عن جماعة الأدب المتجدد، إذ يقول "والشيء المعروف أنه كان يهيء الأذهان ضد المستعمر ولكنه كان يبالغ في كتمان ما أضمر والشيء الذي حصل فعلاً ان الانجليز بعثوا بقوة صغيرة بقيادة أحد المفتشين لتترسم خطى العباسي فوجدوه بين قبيلة حمر ودار الكبابيش في جمع كبير فأحضروه الى الخرطوم ثم اعتقلوه اعتقالاً تحفظياً ببلدته". ولعلنا واجدون في قصيدته سنار التي تعد من أهم قصائده إشارة واضحة وجلية ورغبة جامحة في جلاء المستعمر وهو يخاطب المهندس الانجليزي (جبسن) باني خزان سنار كما سنرى من خلال استعراضنا لقصيدة سنار باعتبارأن سنار من المدن التي ألهمت الشاعر، وسنار مهد صوفية الفونج التي لونت المزاج الديني السوداني و تعتبر وصاحب الربابة الرمز الذي رجع إليه شعراء السودان في القرن العشرين على اختلاف أيدولوجيَّاتهم. كعادته يبهرنا العباسي بديباجة غزلية رفيعة المستوى في قصيدته (سنار بين القديم والحديث) ولا يقدح في معناها الغزلي الشفيف الرمزية التي تكفلت الحاشية الأولى بشرحها وردتها الى أنها أبيات تقرر حال القائمين بالأمر بالسودان وبين الشعب، فكثيراً ما أعطوا الشعب العهود والوعود بأنهم سيسيرون به إلى طريق الحكم الذاتي وطريق الحرية، وعلى كلٍ سنورد ما سنختاره من الديباجة وليغني كلٌ على ليلاه. خانَ عهدَ الهوى وأخلفَ وعدا ** ظالمٌ أحرقَ الحشاشةَ َصدا
ماطلٌ لا يرى الوفاء فإمَّا ** جاد يوماً أعطى قليلاً وأكدى
إن سألت النوال ضنَّ وإن ** غبت تجني تيهاً وإن زرت صدا
من معيني؟ هذا الحبيبُ جفاني ** ومعيري ثوب الشباب استردا
أنا وحدي الملوم أنزلت آمالي ** بمولى لم يرعَ مذ كان عهدا
خل هذا الصدود وأدن أحاجيك ** ومهلاً زين الملاح رويدا
قلت عندي روض هو الخلد يؤتي ** أكله طيباً ويعبق رندا
ورحيق خبأته لك مما ** كان قِدماً الى الخواقين يهدى
هاته إنه المنى وأذقني ** إن تفضلت من ثناياك بردا
وانا رق الهوى بي ظمأ بَرْحٌ ** وشوقٌ أبلي اصطباري وأودى
يجيد العباسي فن التخلص من خلال القصيدة الواحدة أيما إجادة، فينتقل من غرض شعري فيها إلى آخر بتسلسل منتظم وانسياب لطيف فحينما يعتلي بالمتلقي من مرتفع إلى قمة أو عندما يهبط به من سهلٍ الى وادٍ لا ينتابه شعور الإرتفاع ولا تتبعه أحاسيس الهبوط فكأنه مُساق وسط دائرة شعرية تعرف جيداً مناطق انعدام الوزن. ففي ديباجة سنار يستمر العباسي في نسيبه ليصل به إلى نهايته واضعاً بعناية واقتدار بذرة التخلص إلى غرض شعري آخر : فتعجل لا تشمتن بي فتياناً ** بذاك الحمى بهاليل لُدَّا
كان بي عنهمُ نزوعٌ ** لم أجد يا بدر الدجى عنه بُدا
ثم بعد حين يعود ليتخذ من أولئك الفتيان البهاليل -يقصد بهم ملوك سنار في الزمان الأول- مرتكزاً يتغيّر به غرض القصيدة من النسيب أو الغزل إلى ذكر التاريخ والعلائق التي أحالته إليها وقفته بأطلال قصرٍ كان لملك سنار (بادي أبو شلوخ) فتذكر فضائلهم على أوائله وأياديهم البيضاء ومنزلة جده الولي الصالح الشيخ أحمد الطيب البشير في قلوبهم وكيف أنهم أقطعوه أراضٍ كثيرة. وتستمر أنشودة الوفاء عند العباسي وسنار ترفده بمزيد من الإلهام، وهو يصف ما علق بنفسه في زيارته لها عندمايقول:
زرتُ سنار والجوانح أسرى ** زفرات هدَّت قوى الصبر هدَّا
إن محا لدهرُ حسنها فلقد ** كانت مُراداً للمعتفين وخُلدا
كم لها في الرقابِ منا ديون ** و عزيزٌ علىَّ ألا تؤدى
وجميلٌ لأهلها عند أهلي ** و يد بالصنائع الغرّ تندى
فافعل الخير ما استطعت تجده ** سبباً جاعلاً من الحُرِ عبدا
رأينا كيف وقف العباسي بأطلال قصر بادي أبوشلوخ بمدينة سنار، وكيف أن هذه الوقفة قد أعادت إلى ذهنه تلك العلائق التاريخية الحميمة التي كانت تجمع بين أجداده وملوك سنار فتحرّكت في نفسه دواعي الوفاء عندما أخذت الذكرى تنتابه وتأخذ من أحاسيسه شيئاً فشيئاً. وها هو يرى سنار الحديثة وفي خاطره تختال أطيافها الغابرة، فبدى له عزها القديم وتراءت له القباب المزدانة والأعلام الخفاقة والخيول الضامرة والصاهلة في ميادينها ورحابها، غير أن اللحظة أحالته إلى أسى عميق فغلبت على نفسه لهفة أخاذة وهي تسلك في حقيقة الزمان الذي أفنى ملوك سنار فأصاب وارثيهم الشقاء والهول وتبدل العز هوناً ونعيم الحياة بطشاً وكداً، ومن بعد ركوب عشواء ضالةٍ لا يرشدها الضياء ولا يقودها النور فأنشأ يقول وكان يُرى في بعض قوله وكأنه حفيد سناري: لهف نفسي فقدت يا قبلة الخير ** كهولاً حموا حماك ومردا
كنت مثوى للأكرمين وميداناً ** رخيّاً لخيلهم ومندى
ورحاباً قد زينت وقباباً ** زان أرجاءها مليك مفدي
عاش ما عاش وهو جد أبي ** لم يعفر لغير مولاه خدا
عجمته الخطوب وهي شداد ** فأثارت منه الخشاش الأشدا
وبنوداً تهفو وخيلاً تنزي ** بالأناسي سادةً وعبدا
أرخصوا في هواك كل عزيز ** فتباروا في الحرب والسلم جندا
فرقتهم يد الزمان أناديد ** وما خلفوا لعمري ندا
قد شقينا من بعدكم فوردنا ** يا كرام الحمى من الهول وردا
واستعضنا من ذلك العز هوناً ** ونعيم الحياة بطشاً وكدا
وركبنا عشواء لا يأمن الركب ** عثاراً ولا يؤمّل رشدا
قدر غالب وهل يملك الناس ** جميعاً لقدرة الله رداً؟
ثم تحين من العباسي إلتفاتة لسنار الحديثة فيتفوق على نفسه وهو يصف خزانها بأبيات يفسدها الشرح والتحليل.. قال فيها: قِفْ تأملْ هذي العجائب وانظرْ ** شامخاً يحسر العيون استجدا
واجل ناظريك فيما اصطفى العلمُ ** لأحبارِه وما قد أمدا
غاص بناؤهم فأخرج بالفن ** وآياته من النيلِ طودا
ُؤادٍ لم يدرعْ هيبة الروعِ ** كأن سُلَّ أو من الصخر قـُدَا
وانسيابُ المياه بيضاً عِراباً ** صيَّرتها عُجاجةُ الحربِ رُبدا
بإنحدارٍٍ كأنه غير منقوص ** أكفُّ الكِرامِ واصلنَ رِفدا
ثم تستمر قافية العباسي الدالية لتقف على المردود العظيم لسد سنار الذي بفضله ارتوت من النيل السهول واخضرت الجزيرة فبدا له السد كإنجاز علمي بشري كبير وضخم دفعه دفعاً ليلج إلى منبع مهم من منابع الرمز ليستلهم التراث الديني والتاريخي والأسطوري فبدأ يشبه السد بسد ياجوج وصانعوه بجن سليمان وانتهى بتقرير أفاد فيه أن ما رآه أحكم صنعاً. مَدَّ للناسِ من رواقيه فأعجب ** لمُنيلٍ أفاد جزراً ومدا
غمر السهل بالجزيرة حتى ** لتراءت في زيِّ حسناء غيدا
زارها النيلُ وهي قفرٌ يبابٌ ** فاكتستْ من نسيجِ يُمناهُ بُردا
كم بها من ندىً ومن بركات ** قد بدت للعفاة لما تبدى
لا أقول: الصناع جن سليمان ** ولا السد سد ياجوج مدا
فلعمري هذا لأحكم صنعاً ** شاده اليومَ أعظمُ الناسِ أيدا
ورغم إعجاب العباسي بالسد إلا أنه ومن خلال ومضة شعرية رائقة فيها ما فيها من أسرار الإبداع التي تجلب الدهشة والإعجاب يحني على النيل عندما بدا له كحبيس يعاني من القيد وككريم معطاء علموه الشح والتقتير وبذلك جعل العباسي للتعارض والتناقض ألقاً وسحراً فالنيل تارة يزور الأرض اليباب ويمنحها ماء الحياة فتكتسي بالخضرة الزاهية وتارة يحبس ماءه فيبدو شحيحاً ونحيلاً وهذه ليست صفة النيل وسمته إنما هي عمل السد ودوره. نحنُ جيرانك الضعاف عنانا ** ما تُعاني يا نيلُ حبساً وقيدا
كنت فينا بالأمس بَراً حفيا ** ما لهم علموك شحاً وقصدا
ثم بدأت مخاطبة العباسي للمهندس الإنجليزي (جبسن) الذي بنى السد وهي مخاطبة أخذت تعلو بعيداً في مدارج الرقي عالج فيها الشاعر معتقدين اصابهما الواقع بحرج التعارض، فالمعروف ان العباسي يعتقد في قيمة العلم والتعليم اعتقاداً راسخاً وما قصيدته (يوم التعليم) ببعيدة عن الأذهان.. فيها يقول: العلمُ يا قوم ينبوع السعادة ** كم هدى وكم فكَّ أغلالاً وأطواقا
فعلموا النشء علماً يستبينُ به ** سبل الحياة وقبل العلمِ أخلاقا
أقسمت لو كان لي مالٌ لكنت به ** للصالحات وفعل الخير سباقا
ولا رضيت لكم بالغيث منهمراً ** مني ولا النيل دفاعاً ودفاقا
إن الشعوب بنور العلم مؤتلقاً ** سارتْ وتحت لواء العلم خفاقا
وكانت دواخل العباسي تنطوي على كراهية عظيمة للمستعمر الإنجليزي، غير أن العلم الذي أحبّه اجتمع في المستعمر الذي لا يحبه ولكنه بالعلم شيّد سد سنار، وهذا ما عنيت عندما قلت حرج التعارض، ودعونا نتأمل كيف استطاع العباسي أن يعالج الأمر وهو يوقِّر ويحترم العلم وفي ذات الوقت يتمنى الرحيل لهؤلاء الإنجليز البغاة، وذلك من خلال مقطع شعري ضمنه قصيدة سنار وهو مخاطبته للمهندس الإنجليزي (جبسن) باني سد سنار، وكأنما أراد العباسي بهذا المقطع أن يصنع معجزة، يقول: جِبْسِنْ إسمعْ أوليتْ قومَك فخراً ** وثناءً يــروي وأوريتَ زَندا
نحنُ من قد علمت وداً وأنت ** المرء يولي الإحسان بدءاً وعودا
جئت في السد بالعجاب فهلا ** شِدت بين البُغاةِ والناسِ ســدا؟!
بعد حين ترجمت هذه الأبيات ونشرت في كل الصحف الإنجليزية آنذاك بلندن، وكان هناك بعض أعضاء من حزب الأمة نقلوا للمستر جبسن وهم يزورونه بضاحية من ضواحي لندن بأن العباسي معجب به وأنه قد ذكره في شعره مادحاً، وقد أراد بالبغاة المصريين. فعلّق العباسي على هذا الأمر مخاطباً رئيس حزب الأمة قائلاً له: أتوسل إليك بكل من تحب ألا جمعتني بأكبر رأس إنجليزية في هذا البلد أي الخرطوم لأفهمه إنما عنيت الإنجليز، أما المصريون فإنهم اخوتنا الأقربون . فصمت رئيس الحزب ولم يجب. ومن بعد تسير قصيدة سنار إلى انتهاء لتحمل في طياتها نصح الشاعر لقادة البلاد والرأي وتمتلئ بالحكم ودعاوى الإئتلاف ونبذ الخلاف وبذل المال للعلوم والإخلاص للوطن. كانت سنار هي إحدى مدينتين في شعر محمد سعيد العباسي تقعا جغرافياً خارج بادية الكبابيش، الثانية هي مدينة القضارف التي قال عنها العباسي وعن بنيها الكرام: وأقسمُ يا قضروفَ سَعْدٍ لما رمى ** بنا لبنيكِ الأكرمين هوى الرِّفدِ
ولكن أحاديثُ المنى وهي عـادة ** حِسان كحُسنِ الخالِ في ناضرالخدِ
حللتُ فحُلَّتْ لي بها كلُّ حبوة ** ومدَّ أمـــامي بردة كل ذي بُرد
وكم زارني شرق البلاد وغربها ** بلا سفر يضني الركاب ولا قصدِ
شوارد ما سايرتها بتنـــوفةٍ ** ولا راعها كفي بسوطٍ ولا قيدِ
من اللائي كم أضحتْ هوى كل مسمعٍ ** وأعذب في الأفواهِ من بارد الشهدِ
عُرف العباسي بحبه الجارف لبادية الكبابيش، ولهذا الحب أسباب تتسق ونفس العباسي التواقة للحرية والانعتاق من القيود والأسوار والباحثة عن البساطة والصدق والمبتعدة عن التكلفة والصنعة اللذين يعتوران حياة المدن الاجتماعية، وقد وقعنا على ما يدل على ذلك من خلال ما أورده الأستاذ حسن نجيلة في كتابه (ذكرياتي في البادية) إذ يقول: "وفي حي (أولاد طريف) حيث يعيش عدد كبير من أحبابه ومريديه، كنا نجلس مع أولئك الأحباب وهم يحيطون به إحاطة السوار بالمعصم وكانت نساؤهم وبناتهم من حولنا، في براءة يتقدمن إلى الشيخ العباسي ويقبلن يده في إكبار واحترام". وقد بحث الباحثون والنقاد عن أسباب حب العباسي العميق لبادية الكبابيش وقدروا عدداً من الأسباب أجملوها في ميله الطبيعي للفروسية وحبه للمغامرة والصيد والأسفار والتنقل يساعده على ذلك فتوته البادية وقوته الظاهرة اللتان تتلاءمان وخشونة الحياة في البادية، هذا وأن البادية قد بدت له كبديل جغرافي مناسب يبعده عن أجواء الخلافات مع بني عمومته في شأن خلافة السجادة السمانية ومن ضمن تلك الأسباب كراهيته للإنجليز الذين جعلوا من المدن ديار هونٍ وقهر لا بد أن تقاوم بالثورة التي قد يعينه عليها البدو الذين أحبوه وأحبهم، خاصة وأنه مؤهل للقيام بذلك لما يمتلكه من مزايا القيادة ولما ناله من العلوم العسكرية. الحقيقة التي لا مراء فيها أن الإنجليز قد خاب ظنهم في العباسي، وعندما رأوا فيه شخصية مهمة ومؤثرة تتسم بالوقار والعلم والثقافة العالية والأدب الرفيع أرادوا أن يستميلوه فعرضوا عليه منصب قاضي مديرية الخرطوم وهو عرض لاقى من العباسي رفضاً تاماً، لأن العباسي كان يستهجن كل من يقبل من السودانيين منصباً يمنحه الإنجليز زلفى هذا الشأن قال العباسي: فما بي ظمأٌ لهذي الكؤوس ** فطوفي بغيري يا ساقيه
على نفرٍٍ ما أرى همهم ** كهمي ولا شأنهم شانيه
طلبتُ الحياة كما أشتهي ** وهم لبسوها على ماهيه
شروا بالهوان وعيش الأذل ** ما استمرأوا من يدِ الطاهيه
فباتوا يجرون ضافي الدِمقسَ ** وبِتُّ أُجَرْجِرُ أسماليه
على أنهم -أي النقاد- رأوا أن استمرار حب البادية في نفس العباسي والذي لازمه طيلة حياته يعود أيضاً لذلك الحب العنيف الذي نبت في قلبه عندما كان يتنقل بين أرجاء بادية الكبابيش. وفي هذا الصدد يقول نجيلة: "بين ربوع الحمراء وأحيائها نبت في قلبه حب قوي عنيف، وما كان لقلبٍ كقلب العلباسي ووجدان كوجدانه المشبوب إلا أن ينفعل بهذا الجمال البدوي الساحر من حوله". ولعلنا واجدون إشارات ملفتة لهذا الحب في قصيدته (دارة الحمرا) إذ يقول في ديباجتها: قُلْ للغمامِ الأربدِ ** َلا تَعْدُ غَورَ السندِ
وحيّ عني دارة الحمرا ** وقُلْ لا تبتعدي
منازلُ يا برقُ أروتْ ** أمس غلة الصدى
يا ويحها كم نظمتْ ** شملَ هوىً مُبددِ
قالوا غداً يوم الفراق ** قلتُ بُعداً لغدِ
يا متهمون هل لكم ** عِلمٌ بحالِ المُنْجِدِ
صبٌّ بكم أمسي يعاني ** صرفَ دهرٍ أنكدِ
عطفاً مليكي إن في ** كفيكَ ثني المِقْوَدِ
ومن أقوى الإشارات الدالة على هذا الهوى ومسرحه (دارة الحمراء) تلك الأبيات التي وردت في قصيدة (ذكرى حبيب) والتي أفصح العباسي أكثر عن هواه وفيها أظهر حنيناً جارفاً لأيامه الزاهية التي أنقضت مع ذاك الحبيب النائي وهي قوله: هواي بنجدٍٍ والمقــــام تهامةٌ ** وهيهات ما تدنو تهامة من نجدِ
هوىً زاده كرُّ الجديدين جِدةً ** سيبقى بقـاء الوحي في الحجر الصلدِ
فيا دارة الحمراء بالله بلـِّغي ** هنـاك حبيباً بين كثبانك الرُّبدِ
بأني لا أنسى وإن شطَّت النوى ** ليـــالي وصالٍ غير مذمومة العهدِ
منىً قد أخذها من الـدهر خِلسةً ** بزهرة ذاك الحيِّ في عيشةٍ رغدِ
فلم يبقَ منها اليوم إلا حديثهـا ** وطيفٌ يُريني الرد في صورة الوعدِ
أحُنُ إليهم والديارُ بعيـدة ** وإن كان لايَدني الحنين ولا يُجدي
فمن لي بمن يملي الأحاديث عنهمُ ** ويا ليت شعري ما الذي أحدثوا بعدي
ويا هنـد لا والله ما خنت عهدكم ** ولكن ضرورات التجول والبعدِ
وكم قلت في هند وفي دعد موريـاً ** وما أنا من هندٍ ولا أنا من دعدِ
ولا تني دارة الحمراء تحط في أشعار العباسي كعصفورة شادية فتذكره بطبيعة بادية الكبابيش الساحرة ( كالحتان) جبلها الشامخ والرائع روعة ما به من مناشط ترعي فيها الإبل وتقتات من حشائشها ونبتها كالقيصوم وكالطباق، وتعيد إليه ذكرى حبيب غاب في ظلمة السنين والفراق الأليم. فيقول في ديباجة قصيدته العصماء (يوم التعليم) : يا برقُ طَالِع رُبا الحمرا وزهرتها ** وأسقِ المنازلَ غيداقاً فغيداقا
وإن مررت على الحتّان حيِّ به ** من المناشطِ قيصوماً وطُباقا
ومن إذا سمعوا من نحونا خبراً ** والليلُ داجٍ أقاموا الليلَ إيراقا
إنَّا مُحَيوكِ يا أيامَ ذي سلمٍ ** وإن جنى القلبُ من ذاكراكِ إعلاقا
واليوم قصَّر بي عما أحاوله ** وعاقني عن لحاقِ الركبِ ما عاقا
وأنكر القلبُ لذات الصبا وسلا ** حتى النديمين: أقداحاً وأحداقا
غير أن العباسي لا يعميه هوىً يثور في الأضلاع عن أن ينفعل بتلك الحضارة القديمة التي تشي بها الآثار الموجودة بوادي هور. ووادي هور كما أشار العباسي يقع غربي السودان وحوله من الآثار ما يدل على أنه كان مثوى حضارة قديمة، فقد وجدت به حجارة منحوتة منها ما هو على صورة الناس وما هو على صورة القدح الكبير، وقد يسع الواحد منها ثلاثة أشخاص. وشرقي هذا الوادي عثر على كتابات وصور للناس والحيوان منقوشة على صخور، كما عثر على أوانٍ خزفية مختلفة الأشكال والأحجام.. كل هذا ألهم العباسي، الشعر والقصيد فكانت قصيدته (وادي هور) التي انتظمت في ثمانية وتسعين بيتاً ابتدرها كعادته بالنسيب وتعددت فيها الأغراض الشعرية من غزل ومدح وحكمة وسياسة وذكريات، بيد أن العباسي خص في القصيدة وادي هور بصفةٍ عزيزة إذ فضله على وادي النيل الذي أحبه ومثل عقيدته السياسية، ولم ينس العباسي صناع الحضارة في هذا الوادي من الأوائل. يقول: سبحان ربي أين وادي ** النيل من وادي هور
وادي الجحاجحة الأُلي ** عمّروه في خالي العُصُرْ
وعواصم القوم الذين ** بذكرهم تحلو السيرْ
من ذللوا صعب الزمان ** وكم أقاموا من صَعرْ
درجُوا فما رد الردى ** بيض الصفائح السمرْ
متكافئـــــين وربـما ** فضلَ العزيزَ المحتقر
فكأن عهد فخارهم ** يا قومُ بدرٌ فاستترْ
أو أنه عِقدٌ فخانَ ** العقدَ سلكٌ فانتثرْ
أما قصيدة وادي الربدة الرائعة فقد رفلت في واحد وسبعين بيتاً أكثر الشاعر فيها من الهجاء الرمزي وذكر مصر، ووادي الربدة موضع لم يجر ذكره في القصيدة سوى في عنوانها، ويبدو أنه كان مسرحاً لق مالَكَ تَجْفُو مُغْرَما صص من الهوى لما إشتملت عليه القصيدة من شعرٍ غزليٍ قصصيٍ رقيقٍ ومدهش ، رأيت أن أختم به هذا المقال عن المدن السودانية في شعر محمد سعيد العباسي. يقول: بالله يا حلوَ اللَّمى ** مالك تجفو مغرما
صددتَ عني ظالماً ** أفديك يا من ظلما
هلا ذكرتَ يا رَشا ** عيشاً تقضَّى بالحِمى
رفقاً بصبٍ راحَ ** يهوى طيْفَكَ المُسَلِما
يَندبُ أيام اللقا ** وحظَّهُ المُــقَسَّــما
إن شامَ من نحوكم ** برقاً أقام مأتما
ويكتم الوجدَ وكم ** يَغْلبُهُ أن يَكْتُما
لله محبوب رأى ** حبة قلبي فرمى
أعيذه من جائرٍ ** حكَّمتُه فاحــتكما
مررتُ بالحيِّ ضُحىً ** أروضُ مُهراً أدْهما
مرتدياً من الشبابِ ** ضافيـــــاً منمنما
فلقيته في أربعٍ ** بيضٍ كأمثالِ الدُمى
شابَهنَ أزهارَ الرَّبيعِ ** وحَكيــــنَ الأنْجُما
أو الجُمانَ نظَمُوا ** فَريــدَه فانتظـما
وقفتُ فاستسقــيته ** وشَدَّ ما بي من ظما
جاءَ بماءٍ قلتُ هل ** حاجَةُ مثلي مِنْكِ ما؟!
أنشدتهُ من فاخرِ ** الشعرِ رصيناً مُحْكَما
فرَقَّ لي مستسلما ** ومالَ نحوي منعّما
طويتُهُ طيَّ الرِّدا ** مَتعتُ من فمٍ فما
تصرَّم الوصل وكيف ** ردُّ ما تصرَّما؟
(ب) مصر في شعر شعر العباسي وقعت مصر في قلب العباسي وفي شعره في مواضع الهوى ومواقع الحب، ونما هذا الحب نمواً مضطرداً ومذهلاً حتى صار إلى عقيدة سياسية ومذهب إجتماعي ويقين لايتزحزح، ولم يكن كل هذا من فراغ أو أحلام ولم يكن هذا الحب عفوياً أو بغير أسباب، فقد سنده الواقع وغذته أواصر قديمة لم تنفصم عراها أو توهن وثائقها منذ أن بذر بذرتها الأولى جده الأكبر الولي الصالح والقطب الكبير الشيخ أحمد الطيب البشير عندما نزل أرض مصر مبشرا بالطريقة السمانية وأسس لها فيها مكانة ومقاما بين ربوعها وفي صعيدها، وعندما اخذ الشيخ نور الدائم الراية الصوفية من والده الشيخ أحمد الطيب حين وفاته أخذ معها حب مصر وأورث هذا الحب إلى ابنه الأستاذ محمد شريف –والد العباسي- وقد جهر به محمد شريف في رائيته الجهيرة وقال: أنا الطَيبيُّ الخُرطوميُّ وضعاً ونشأة ** أنا المدنيُّ المكيُّ جِواراً أنا المصري ومنها علومُ الدينِ والعقلِ والحِجَى ** وما حِكمةٌ إلا وتُعزى إلى مِصْرِ
لذا كان حب مصر هو قدر العباسي المحتوم الذي إرتضاه ورحب به ايما ترحيب وسلك في كيانه وبين شرايينه وأقام في قلبه فأضحى يشدو بهذا الحب في كثير من أشعاره ورغم كثرة الشعراء السودانيين الذين تغنوا بحب مصر الا أننا لم نقع على من هو أصدق حبا لها من العباسي ولا من هو أجزل عطاءا لها من العباسي وفي هذا الشأن يقول الدكتور حسن أبشر الطيب في كتابه (العباسي الشاعر التقليدي المجدد): "قد تغنى شعراء سودانينون كثر بمصر ولكن القليل منهم من أعطاها الحياة مثل ما أعطاها العباسي وقد كان هذا التغني عند بعضهم تصوير لحلم يسمعون عنه وتتوافد اليهم أخباره، يأملون الوصول اليه وتقعدهم أسباب كثيرة عما ينشدون فيمضون في تصوير حنينهم وشوقهم لمعانقة هذا الحلم الذي يتوقون الى لقياه وكانت مصر عند بعضهم مذهبا سياسيا وهو مذهب الإتحاد مع مصر يؤمنون به أشد الإيمان ويتفاعلون معه أشد ما يكون التفاعل ويتغنون به غناءا موحيا وحارا في بعض الأحيان، وينظمون فيه نظما خطابيا في أحيان أخرى. قليل من الشعراء السودانيين من أعطى مصر من الحياة مثل ما فعل العباسي بشعره الذي يفيض حبا وشوقا وإيمانا بمصر. وقد أتت الرجل ظروف عمقت فيه هذا الحب وهذا الإيمان لم تتح للعديد غيره فهو قد زارها ولم يتعد التاسعة عشر من عمره فوجد فيها حرية وانطلاقا لم يعرفه الفتى في بيئته المتصوفة الملتزمة بقواعد صارمة في السلوك. بل قد كان وسيما مما جعله معشوقا لكثير من الفتيات. قال محدثي إنك لم تر العباسي في شبابه فقد كان من أجمل شباب عصره وأنضرهم عودا وعندما كان طالبا بالمدرسة الحربية بالقاهرة كان محط إعجاب فتيات القاهرة به إذ كان فارع القوام واضح الرجولة وسيما نضرا" . لذا لم يكن غريبا أن يهدي العباسي أشعاره عندما ضمها في ديوان الى استاذه المصري "عثمان زناتي" أستاذ اللغة العربية بمدرسة الكلية العربية والذي كان يعد في طليعة الشعراء والأدباء في زمانه ويقر العباسي انه كان ثاني إثنين أنشأه على حب الأدب وقرض الشعر أحدهما هو والده الأستاذ محمد شريف. ويقول العباسي في إهداءه: فيا رحمةَ الله حُلِّي بمِصرَ ** ضريحَ الزناتي عُثمانيه
غذاني بآدابه يافعـاً ** وقد شادَ بي دونَ أترابيه
وياشيبةَ الحمدِ إن القريضَ ** أعجزَ طوقي و أعيانيه أعرني بيانك أُسمعْ به الأ ** صمَّ وأُنْطِق بِه الراغيه
وكان العباسي قبل ذلك يظهر وفاءه لأستاذه الزناتي ويتضح لنا ذلك في قصيدته(تكريم أمير الشعراء):
يَخُونُني الصبرُ إن غالبتُ دونكُم ** حرَّ اشتياقي ودمعاً جدَّ مُنْسَكِبِ
عندي لكم يدُ فضلٍ لستُ أجحدُها ** يدُ الزِنَاتيِّ مولى العلمِ والنسبِ
سريتُ في ضوئه حيناً يُقَوِّمُ من ** عودي ويُفسحُ لي من صدره الرَّحبِ
كما لم يكن غريبا ايضا ان يقدم لديوانه الاستاذ المربي الأديب المصري الكبير محمد فريد ابو حديد بك والذي أورد ضمن ما أورد في مقدمته مكانة العباسي الشعرية والأدبية والأخلاقية المرموقة عند أدباء مصر الكبار ومن ذلك قوله:"إني لأذكر ساعة كنت فيها مع الشاعر الكبير المبدع الاستاذ عباس محمود العقاد فجرى ذكر السيد العباسي وشعره فانطلق الأستاذ العقاد يثني عليه شعره وعقب على ذلك بثناء على فضائله ونبل نفسه". ولم يُخفِ شاعر النيل حافظ إبراهيم دهشته وإعجابه عندما سمع العباسي يلقي بأشعاره في تكريم أمير الشعراء أحمد شوقي والذي أبدى هو الآخر دهشة عظيمة بما سمعه من العباسي وقوافي شعره، وقد كان حرياً بالعباسي وقد حباه الله من موهبة شعرية ضخمة وبما حققه لنفسه من ثقافة أدبية مذهلة وبما له من مكانة مرموقة في بلده أن يكون نجماً في الأواسط الأدبية في الساحة المصرية وبين الأدباء المصريين في فترة ظهر فيها العمالقة منهم، وقد كان الأدب والشعر هو الرابط الأقوى والآصرة المتينة التي كانت تجمع بين العباسي وبينهم وقد عبر عن ذلك في أكثر من مناسبة كما يوضح لنا ديوانه الشعري الذي قام بطباعته في مصر في العام 1948، وفية رأينا قصائده التي وجهها لأحمد شوقي ولحافظ إبراهيم وقصيدته الهامة(رسائل الصفا) التي وجهها للدكتور زكي مبارك ـ الذي كتب مقالات بمجلة الرسالة يناصر فيها العراق تحت إسم (ليلى العراق) ـ فقال له العباسي ضمن ما قال في القصيدة المشار إليها وهو يطلب إليه الكتابة عن السودان كما كتب عن العراق في أسلوب لايخلو من الرمز: فيا ابن المبارك عِشْ سالِماً ** وبُورِكَ في زَندِكَ الواريه
تغنيتَ حيناً بليلى العِراق ** فأحللتها الرتبةَ السَّاميه
فمُدَّ لنا فَضْلَ ذاكَ العِنانِ ** عِنانَ يراعتِك الطَّاغيه
وألمِمْ بتاجوجَ وأحْفِلْ بها ** فتاجوجُ جوهرةُ الباديه
وعَلِّقْ على جِيدِ تاريخِها ** لآلئ أبْحُرَكَ الطامِيه
قد يبدو للمتلقي أن العباسي بما حققه من مجد شعري وبما إرتبط به من علاقات طيبة مع أدباء مصر الكبار أنه عاش زماناً طويلاً بأرض الكنانة، خاصة وأنه قد أنشأ في حبها كثيراَ من القوافي، غير أن الواقع يقول بغير ذلك، فالعباسي أقام بمصر لأول مرة لمدة عامين وهي الفترة التي إمتدت من العام 1899م إلى العام 1901 عندما كان طالبا بالمدرسة الحربية المصرية، ثم عاد إليها في العام 1948م بغرض طبع ديوانه وإستعادة ذكرياته وهو يدنو نحو السبعين من عمره، وهي الزيارة التي ألهمتة عصمائه الرائية التي حملت في طبعات الديوان الاحقة إسم(ذكريات)، على أن العباسي حضر إلى مصر في زيارة خاطفة عند تكريم أمير الشعراء أحمد شوقي، وعاد إلى مصر في منتصف الخمسينيات بدعوة من مجلس قيادة الثورة المصرية لحضور إحدى إحتفالات عيد الثورة السنوي.يقول في بعض من قصيدته ذكريات: أقصرتُ مُذْ عادَ الزمانُ فأقصرا وغفرتُ لما جاءني مستغفرا
ما كنتُ أرضى يا زمانُ لو انني ** لم القَ مِنكْ الضاحكَ المستبشِرا
يامرحباً قد حققَ اللهُ المُنى ** فعليَّ إذْ بُلِّغْتُها أن أشكُرا
ياحبذا وادٍ نزلتُ ، وحبذا ** إبداعُ من زرأ الوجودَ ومن بَرى
مِصرُ، وما مِصْرٌ سوى الشمسِ التي ** بهرتْ بثاقبِ نورِها كُلَّ الورى
ولقد سعيتُ لها فكنتُ كأنما ** أسعى لطيبةَ أو إلى أمِ القُرى
وبقيتُ مأخوذاً وقَيَّدَ ناظِري ** هذا الجمالُ تَلفُتاً وتَحَيُرا
فارقتُها والشَّعرُ في لونِ الدُجى ** واليومَ عُدتُ به صَباحاً مُسْفِرا
سَبعُونَ قَصَرتِ الخُطى فَتَرَكْنَنِي ** أمشي الهُوينى ظَالعِاً مُتَعَثِرا
من بعد أن كنتُ الذي يطأُ الثَرى ** زَهواً ويَستهَوِى الحِسانَ تَبخَْتُرا
فلقيتُ من أهلي جَحاجِحَ أكرموا ** نُزُلي وأولوني الجميلَ مُكَررا
وصَحابةٍ بَكَروا إلي وكلهم ** خَطَبَ العُلا بالمَكْرَمَاتِ مُبَكِرا
يامنْ وجدتُ بحيِّهم ما أشتهي ** هل من شباب لي يُباع فَيُشْتَرى
ولو أنهم مَلكُوا لما بخلوا به ** ولأرجعُوني والزمانَ القَهْقَرَى
لأظلَُّ أرْفُل في نعيمٍٍ فاتني ** زمن الشبابِ وفتُّهُ مُتَحَسِرَا
ووقفتُ فيها يومَ ذاكَ بمعهدٍ ** كمْ من يدٍ عندي لهُ لنْ تكفرا
دارٌ درجتُ على ثراها يافعِاً ** ولبستُ من بُرْدِ الشبابِ الأنضرا
يادارُ اين بَنُوكِ إخواني الأُولى ** رفعوا لواءَك دارِعِينَ وحُسَّرا
زانُوا الكتائبَ فاتِحينَ وبعضهم ** بالسَّيفِ ما قنعوا فزانُوا المِنْبَرا
سُبْحَانَ من لو شاءَ أعطاني كما ** أعطاهمو وأحلَّني هذا الذرى
لأريهم وأري الزمانَ اليومَ ما ** شأني فكلُ الصيدِ في جوفِ الفرا
إني لأذكرهم فيُضنيني الأسى ** ومن الحبيبِ إليَّ أن أتذكرا
لم أنسَ أيامي بهم وقد إنقضتْ ** وكأنها واللهِ أحلامُ الكَرى
كذَب الذي ظنَّ الظُنونَ فَزَفَّها ** للناسِ عن مِصرَ حَديثاً يُفْتَرى
والناسُ فيكِ اثنانِ شخصٌ قد رأى ** حُسْناً فَهَامَ بِهِ وآخرُ لايَرى
يقيني أن هذه القصيدة الفريدة، ما كان لها أن تخرج بهذا السمت الرائع، لولا صدق الأشواق، وحلو الذكريات، التي غذتها، وهي أشواق وذكريات لا يفتأ العباسي يتغنى بها وهو بعيد عن مصر، بل ظل يتغنى بها طوال حياته، ويتضح لنا ذلك بجلاء في رائعة أخرى من روائعه وهي قصيدته (ذكرى أيام الشباب)، وفيها يقول: آهِ لو كانَ لي بساطٌ من الريحِ ** أُوافيه أو قوادمُ نِسْرِ
فأطيرنَّ نحو مصرَ اشتياقاً ** إنها للأديبِ أحسنُ مِصرِ
حيثُ روضُ الهَنَا ومجتمعُ الأهوا ** ودرُّ السُّرورِ للمُسْتَدِرِّ
هل إلى مصرَ رجْعةٌ وبنا شرخُ ** شبابٍ غَضٍّ وزهرةُ عمر
وليالٍ قد أشرقتْ في رُبَاها ** كلها في الأقدارِ ليلاتِ قدْرِ
ومكانٍ كأن كلَّ نسيمٍ ** ناشرٌ في أرْجَائِه طِيبَ نَشْرِ
يُبهر العينَ منه مَرأىً أنيقٌ ** من مُروجٍٍٍٍ قَيدَ النواظرِ خُضْرِ
فهناكَ الرياضُ والماءُ يجري ** بخريرٍ تحت الرياضِ وقدرِ
وهناكَ النسيمُ يعبثُ بالماءِ ** ويزري والوُرقِ للماءِ تغري
وهناك البهيُّ من كلِّ زهرٍ ** وهناك الشجيُّ من كلِّ طيرِ
فإذا ماغَنَّتْ بلابِلهُ قلتُ ** كرامٌ أضناهمو طول هَجْرِ
بقعةٌ شاكلتْ هوى كلِّ نفسٍٍ ** فصبا نحو حسنها كلُّ فكرِِ
كم قَطفنا في ذلك الروضِ زهراً ** ورضعنا فيه أفاويقَ درِّ
ومصابحينا فيه غرة الساقي ** وبدرٌ من كفِه باتَ يسري
إن خرجنا من حالِ سُكرٍٍ لصحوٍ ** فيه عُدنا من حالِ صَحوٍٍ لسُكرِ
قد ظمئنا بنت الكرام فهاتي ** كأسَ خمرٍ يزجى فقاقِعَ خَمرِ
وتَعالي نُعيد خداً لخدِ ** قد برانا الجوى وثغراً لثغرِ
جرَّد الحالُ من يقيني ظنَّاً ** فاستعدتُ الأشياءَ كالمُتقَري
ربِّ هل تلك جنةُ الخلدِ أدخلنا ** إليها أم تلك جنَّةُ سِحرِ
كنتُ في ذلكَ الحِمى ناعمُ البالِ ** خَلِياً من كلِّ قيدٍ وأسرِ
تلك حالي مع الشباب فمن لي ** برسولٍ يُبْلِغْ المَشيبَ خُبري
فيكِ يا مصر لذتي وسروري ** وسميري وقت الشباب ووكري
وكرام صحبت فيك كماءِ المزنِ ** أوروا زندي وشادوا بذكري
بَسمَ الدهرُ مرةً حينَ كانتْ ** لي مقراً يا حسنه من مَقرِ
فانتهبنا عيشاً رقيقُ الحواشي ** ونعمنا في صفوه المستمِرِ
فليَزُرْ سوحَكِ النسيمُ عليلاً ** وليجد في ثراكِ هامع قطرِ
لي حبٌ أضحى فيكم غير مذمومٍ ** وعقدٌ لم يُبْلِه طول دهرِ
إن يُورِّي عنكم أُناسٌ فما من ** مذهبِ الحُبِ والوفا أن أوري
لو يكونُ الخيارُ حُكماً لما اخترتُ ** نُزوحاً عنكمُ ولا قيدَ شِبْرِ
غير أن الأقدارَ تقضي وما للعبدِ ** فيما تقضي بهِ من مَفَرِ
ربِّ قدِّر لمصرَ طالعَ إسعادٍ ** وهيئ لمصرَ إصلاح أمرِ
أنْتَ قدَّرتَ والمواهِب شَتى ** لهلالِ الدُجُنَّةِ المستسِرِ
غَابَ حيناً وعادَ غير ذميمٍ ** واكتسى في تَخْطَارِهِ ثوبَ بَدْرِ
بل وجدنا أن العباسي يسرف في شدوه لمصر ولذكرياته فيها والتي تأبى أن تبارح خياله فقصيدته (آية الفضل) والتي جاءت في ثمانية وأربعين بيتاً خصصها بالكامل لموضوع واحد وهو مصر مشيراً فيها لأياديها البيضاء لوطنه السودان ولآدابها وعلمها وتاريخها ومجدها ورجالها وعلمائها ومنها نقتطف قوله: ليتَ شعري هل للكنانة علمٌ ** بقلوبٍ ذابتْ جوىً واشْتِعَالا
أم تُراها تدري بأنَّا احْتَملنَا ** في هواهَا القيودَ والأغْلالا
ما فقدنا الصبر الجميل وإن كنا ** فقدنا من الزمانِ اعْتدالا
والعباسي عندما يخاطب مصر يخاطبها بأجمل الكنايات وعندما يصفها يصفها بأرق الحديث وألطفه فهي يمامة تشدو بألحان مبتكرة على أفنان نضرة: يا بنت ساجعة الرياضِ ** وزينَ ناضرة الشجَرْ
هاتي الحديثَ وروِّحي ** عني بلحنٍ مبتكرْ
أنا في الهوى من تعلمين ** ولستُ من ذاكَ النفرْ
وقد يخاطب فيها أرجاءها وأهراماتها ونيلها وغيرذلك من مواضعها وأماكنها مع كل لمحة خاطرتمر عليه ومع كل ذكرى تعبر به وتبكيه بدموع حمراء: ولي بمصرَ شجَنٌ ** أجرى الدموعَ عَنْدَمَا
فارقتُ مِصرَ ذاكراً ** أرجـــاءَها والهـرَمَا
والنيلُ والجزيرةَ ** الفيحاءَ والمُقَطَما
ربوعُ خيرٍ طالما ** أسْدَتْ إلي أنعما
مصرٌ وأيامُ الشبابِ ** الغضِّ من لي بهما
وكثراً ما يذكر أقرانه من الشباب المصريين الذين زاملهم بالمدرسة الحربية المصرية ويقول عنهم: وفتــيةٍ سامرتَهُم ** فاقوا الزمانَ هِمَمَا
وعزمــةً صــادقةً ** تنطحُ أبراجَ السما
زين شباب حَملوا ** مع السيوفِ القلما
هذا يمجُّ حِكمةً ** وتلكَ في الهيجا دما
وفي قصيدته( كفاح مصر) يقول عن بني مصر قول العارف، ويصفهم بأصحاب القيم العالية والكرم البين والجمائل المشهودة والشمائل الحلوة : بنُوا الكنانة ما أشهى الحديثَ بهم ** إلى النَفوسِِ وما أغلاهمُ قِيما
زِدني سُؤالاً أزِدْكَ اليومَ معرفة ** بهم فما كانَ ذُو جهلٍٍ كمن عَلِما
ما حِيلتي بِمُجِدٍ في غوايته ** يمشي وقد زادَه ضوءُ النهارِ عَمى
هم الكرامُ فكم فيهم أخو ثقةٍ ** حُلوَ الشمائلِ تندي كفه كَرما
يولي الجميل ويستهويك عارفه ** كالغيثِ يَمَمَهُ العافون حيث هَمَا
والعباسي يفخر بمدحة لمصر فهي في نظره كهف الرجاء للسودان ومرضعته الحانية وأن لأبنائها أيادٍ من الفضل مدوها لجنوب الوادي وهويفخر أيضاً ويعتد إعتداداً شديداً بشعره الذي صاغه فيها ويقول ـ في قصيدته رسائل الصفا ـ لو أن هذا الشعر زار سمع الشاعر الكبير الشريف الرضي ورأى مافيه من جودة لقال: ما أفصح هذا الشعر وما أجمله لو إنداح في أذن واعية . والمعنى الأخير أورده العباسي وهو يضمن بيتاً للشريف الرضي في لفتة شعرية حادة الذكاء: فمصر هي اليوم كهفُ الرجاءِ ** لنا وهي المُرضِعُ الحانِيه
لها ولأبنائها الأكرمينَ ** أيادٍ بنا برةٌ آسيه
بروحي وليستْ تهابُ الردي ** كبائعةٍ دونها شاريه
فإني من غرسِ نعمائها ** غراسٌ هو الثمرُ الدانيه
وما بالقليلِ إنتسابي لها ** وأني حمادها الراويه
فكمْ صُغتُ في ذكرها السائراتْ ** وأودعتها الحكم الغاليه
من اللآئي لو زُرَنَّ سمع الشريفِ ** يقولُ وقد رآء إحسانيه
(ألا ما أفصح هذا الكلام ** لو أن له أذناً واعيه)
وليس من عجب أن تبدو مصر للعباسي ـ وقد أحبها كل هذا الحب ـ كمعشوقة رائعة الجمال بل أبعد من ذلك كثيرا إذا ما تملينا أبياته التالية التي وردت في قصيدته (أسمعينا جنان): أسْفِري بين بَهجةٍ ورشاقَه ** وأرينا يا مصرُ تلك الطلاقه
ودعي الصبَّ يجتلي ذلك الحسن ** الذي طالما أثار اشتياقه
كلنا ذلك المشوقُ وهل في الناسِ ** من لم يكن جمالك شاقه
أنتِ للقلبِ مسترادٌ وللعين ** جمالٌ يُغْري وللشمِ طاقه
فَتَّحَتْ وردها أصائِلُ آذار أنت عندي أخت الحنيفة ما ** وقد قَرَّطَ النَدَّى أوراقه أسماك ديناً وما أجلَّ اعتناقه
وفي ذات القصيدة يقول: ما كقطع الوتين شرٌ، وشرٌ ** أن تقطعوا بمصرَ العلاقة
ولم يكن حب العباسي لمصر وتمسكه بتمتين العلاقة معها لكسب شخصي أو إرضاء لذات متولهة إذ كانت دواعي الوطنية الحقة تدفعه لإستثمار هذا الحب لمصلحة وطنه العامة، وقد وجدناه في أكثر من مناسبة يدعوا مصر لتساعد السودان للإنعتاق من ربقة الإستعمار وأن تأخذ بيده نحو النمو والتطور ومن ذلك ما ورد في قصيدته(ذكرى حافظ): بني مصرَ الكرامَ ولا بَرحتُم ** مثالاً للشعوبِ العاملينا
سَعيتُمْ نحو غايتِكُم كراما ** وذُدْتُم دونَها مُستبسلينا
تَحررتُم ونحنُ بِشرِ حالٍ ** نكابده ونرسفُ مُوثَقِينا
وقد نزلتْ بنا مِحنٌ شِدادٌ ** أذاقتنا من البلوى فُنُونا
أذَلتْ أنفسَ الأحرارِ منا ** فباتُوا بعد عزتهم قَطِينا
خُذوا بيدِ البلادِ فَثقِفُوها ** وكُونُوا في حوادِثها المعينا
أعينُونا فنحنُ بنو أبيكم ** لنا حقٌ ونحنُ الأقربونا
لنا بالدينِ والفُصحى ائتلافٌ ** وثيقٌ ضَمَّ شعبينا قُرُونا
ونيلٌ فَاضََ كوثَرُهُ فأجْرَى ** بواديه الحياةَ لنا مَعينا
ويعبر العباسي بقوة عن مذهبه السياسي، وهو وحدة وادي النيل، إذ يعتبر أن مصر هي إمتداد السودان الطبيعي، وأن السودان هو عمق مصر وظهرها القوي. ويظل يقاوم إدعاءات الإستعمار وأذنابه و دعاة الإنفصال ومروجوه، ويقول: لا تُخْدَعُوا إن في طياتِ ما ابتكروا ** معنىً بغيضاً وتشتيتاً وإرْهَاقا
ليُصبِحَ النيلُ أقطاراً موزعـــةً ** وساكِنُوا النيلِ أشياعاً وأذواقا
وفي ذات القصيدة(يوم التعليم) يبرز مبدأ العباسي السياسي بروزاً واضحاً: إنَّا بنُو النيلِ لانرضى بهِ بدلا ** فما جفانا ولا يوماً بِنا ضاقا
ولا أخصُ به داري ولا سَكني ** بل ساكني النيل تعميماً وإطلاقا
هذي سبيلي وهذا مذهبي بهما ** أعطيت ربي والأوطان ميثاقا
كان لابد للعباسي وهو الوطني الساعي لرفعة وطنه والمعتد بكرامته إلى أبعد الحدود ألا ينساق وراء حبه لمصر وللمصريين إنسياقاً يسلمه إلى تخوم الإستجداء المخزي أو إلى الإستعطاف المذل،لذا كان يخاطب مصر بما يليق بحبه الصادق لها وبما يتسق وواجب الإعتراف بالجميل وتقدمها ودورها الحضاري الرائد،ولكن كل ذلك كان من منبر الندية والإعتزاز وحفظ الكرامة والود معا، خاصة وأنه كان يعلم قدر بلاده ومكانتها ويعلم كذلك قدره ومكانته الشعرية السامقة جيداً،بل لم ينس تفوقه الأكاديمي على رفاقه من المصريين وغيرهم عندما كان أول الناجحين في الإمتحانات بالمدرسة الحربية. عليه فلنتملى على ضوء هذا ما قاله هنا،فهو مع اعترافه بجميل المصريين للسودانيين وعدلهم إلا أن ذلك لم يكن يعني سيادتهم ولا يعني أبداً خنوع وخضوع السودانيين لهم ولكن كانت علاقتهما كحصن نعما به معاً ردحاً من الزمان قبل أن تعصف به يد السياسة : بَثواالمعارف بالسودانِ فازدهرتْ ** به وشادوا منار العدلِ فانْتَظمَا
لاوربِّكَ ماكانُوا لنا أبداً ** بقاسطينَ ولا كُنَا لهُم خَدَمَا
قضى العباسي لرحمة مولاه على حب مصر ووفائه لها وأورث هذا الحب والوفاء لأبنائه من بعده وكم كان صادقاً الشاعر (تادرس يعقوب الفرشوطي) عندما رثاه وقال: وأنتِ يا مصرُ هل تدرينَ لوعتَهُ ** شوقاً إليك وكَمْ عانى وكَمْ تَعِبا
ما زال لفظُكِ أحلى ما يردِدُهُ ** حتى دنا الأجلُ المحتومُ واقتربا
قضى وفي فمهِ عن مصرَ تمتمةٌ ** كما تَشَهَّدَ مَنْ قَدْ أيْقَنَ العُطبا
أقسمتُ لو شدتِ تكريماً له هرماً ** يمتدُ في الجوِ حتى يزحمَ السُحبا
ولو أقمتِ له في كل قارعةٍٍ ** من طُرْقِ واديكِ تخليداً لهُ نُصُبا
لما وَفَيتِ له ما ظَلَّ يُضْمِرُهُ
** من الولاءِ ولا أديتِ ما وَجَبا
قاسطين: ظالمين. تادرس يعقوب الفرشوطي شاعر مجيد وهو من الأقباط الين برعوا في اللغة العربية وكان أستاذاً لها بالمدارس الثانوية السودانية. العُطْب: الهلاك
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: munswor almophtah)
|
(2) الشاعر الطيب محمد سعيد العباسي الشاعر السوداني الكبير الطيب محمد سعيد العباسي 1926ــ2008
(أ) الشاعر الطيب العباسي هديةُ الأدبِ للقانون القاضي الطيب محمد سعيد العباسي شاعرٌ مشبوب العاطفة ، مرهف الاحاسيس ، مترف المشاعر ، وقد نشأ في بيت دينٍ وعلمٍ وادبٍ سمت امجاده حتى تراءت تكادُ تطوف بالسبعِ الشِدادِ ، وقد ورث أحاسيسه ومشاعره من بيئته الضاربة الجذور في الارضية الصوفية الادبية ، فهو فرع لدوحة صوفية امتدت ظلالها الوريفة على أرياف مصر وربوع السودان. والده هو الشاعر الجهير شاعر الصولة والجولة وباعث نهضة الشعر العربي في السودان ، الشيخ محمد سعيد العباسي إبن الاستاذ محمد شريف (أستاذ الإمام محمد أحمد المهدي محرر السودان) بن الشيخ نور الدائم بن سيدي أحمد الطيب مؤسس الطريقة السمانية في مصر والسودان ، وقد نشأ شاعرنا في كنف والده العباسي عميد شعراء العربية في السودان بلا منازع، وقد تنزل إليه الشعر من جده الرابع فهو شاعرٌ بن شاعرٍ بن شاعر بن شاعر بن شاعر ، وسليل أشياخ كرام ذوي مكانة راسخة في دنيا الأوراد المسجوعة والاناشيد المنظومة.ولد شاعرنا الطيب في العام 1926 وتلقى تعليمه الأول بحفظ أجزاء من القرآن الكريم في خلوة عمه الشيخ محي الدين ود ابو قرين بقرية الجيلي موطن جده لأمه البطل القومي الزبيرباشا رحمة منصور العباسي وبعد فترة دراسية أخرى شَدَّ رحاله صوب أرض الكنانة حيث درس المرحلة الثانوية في مدرسه حلوان التي إنتقل منها إلى جامعة القاهرة الأم التي تخرج فيها بكلية الحقوق العام 1953 . كانت لمدينة حلوان ومكتبتها العامرة بأمهات الكتب الأثر العميق في تشكيل الثقافة الأدبية لشاعرنا الطيب العباسي وصقل موهبته الشعرية حيث نهل من معين مكتبتها الثرة الكبيرة الكثير من علوم الأدب والشعر والعروض ، وقد برزت هذه المدينة في اشعاره بروزاً رائعاً يقول في قصيدته حلوان :- أنا مَنْ جَهِلِتُم يا صحا بي داءه ** والجهلُ أحرى في تَقَري دَائيه
حُلوان تعلمُ سِرَّ ما أُخـْـفي ** فإمَّا شئتمو فسلو رُبا حُلوانيه
يممتُ وجهي شطرها وبأضلعي ** سهمٌ به هذا الزمانُ رمانيه
فاستقـبلتني مثلما يستقبِلُ ** الأعرابُ في البيداءِ صوبَ الغاديه
ووجدتها نشوى يزين ربوعها ** حُسنُ الحضارةِ وابتهاجُ الباديه
ويقول عن حلوانه في خاتمة هذه القصيدة:- تـاللهِ يـاحلوانُ لـو أنـي أدواى ** كنتِ أنتِ طبيبتي ودوائيه
شَيَّـدتِ في قلبي مَفاتِنَ غضةً ** ثَمِلتْ بها روحي فغنتْ شاديه
وسكبتِ هذا السحر ملء جوانحي ** فانساب رقراقاً إلى أشعاريه
أنا لا أُردِدُ غـير وحيٍ في دمـي ** مغناكِ منبعه وليس خياليه
وفي القاهرة أخذ شاعرنا يؤم الندوات الأدبيه مصطحباً معه أحياناً صديقه الشاعر العظيم إدريس جماع ويلتقي بكبار الأدباء والشعراء ويحفظ من أقوالهم الكثير وقد بلغ به الإعجاب بالشاعر علي محمود طه المهندس حداً جعله يحفظ كل حرفٍ قاله، واتخذ شاعرنا مكانه بندوة العقاد وصالونه الأدبي حيث توثقت هناك علاقاته بأساطين الأدب والشعر العربي، ويقول شاعرنا أنه أ عجب جداً بابيات من الشعر للعقاد قالها في تلك الايام تقولُ:- إذا شيـــعوني يـــوم تُقضى منيتي ** وقالوا أراحَ الله ذاك المُعذبا
فلا تحمــلوني صامتينَ إلى الثرى ** فإني أخاف اللحدَ أن يتهيبا
وغنوا فإن الموتَ كأسٌ شهيةٌ ** ومايزال يحلو أن يُغنى ويُشرَبا
ولا تتبعُوني بالبُـــكاءِ وإنما أعيدوا ** إلى سمعي القصيدَ لأطربا
وهكذا أضحت القاهرة جبلاً أدبياً آخر تسلقه شاعرنا بإقتدار وهو يدرس فيها الحقوق التي ولج إلى كليتها برغبة الدكتور العلامة السنهوري. إذ كان شاعرنا يرغب في دراسة الآداب، وهكذا صار الشاعر الطيب العباسي هديةُ الأدب للقانون كلاهما فرِحٌ بصاحبة هذا يمتاح وذاك يعطي. وفي هذه المرحلة بلغت شاعريته أوجها إذ تخلقت فيها قصيدته ذائعة الصيت ( ذات الفراء ) التي وُسِمَتْ فيما بعد بـ ( يا فتاتي ) والتي انشأها في العام 1950 قبل تخرجه باعوام ثلاثة، وبدأت من بعد تتمازج في ذهنيته عقلية الأديب بعقلية القانوني وصارتا بحكم الدراسه والاطلاع والخبرة هجيناً لم ينفصل وأخذ ينمو نموًا مضطرداً ومذهلاً وهذا ما يفسر لنا تلك الاحكام التي أصدرها كقاضٍ مرموق ـ ترقى أعلى درجات سلم القضاءـ وحشدها بفنون الأدب والشعر كقضيه القاتله الحسناء ومن رحمها وُلدتْ قصيدته الفريدة (قضية لقيطة) وهي قصيدة صاعها الشاعر معرباً مرافعة لقاتلة حسناء لقيطة حوكمت أمامه. يقول شاعرنا وقاضينا الأديب الطيب العباسي: إن الأدب والقانون وجهان لعملة واحده، فالقانوني الناجح هو الذي يعبر عن آرءه القانونيه باللغه الفصيحه والبليغه وبالأدب القانوني السامي، ولعله كما يقول إن التصاقه في القاهرة مع الرعيل الأول الذي سبقه من القانونيين السودانيين أفاده كثيرًا، كتلك الصلة التي جمعته بالدكاترة أمثال أحمد السيد حمد وعقيل أحمد عقيل وأمين الشبلي كما افاد كثيرا من عمله كمحام ـ قبل التحاقه بالقضاء ـ بمكتب المحامي المعروف الاستاذ الراحل الرشيد نايل، واكتسب خبرةً مبكرةً من عمله كمدير لمكتب معالي وزير العدل آنذاك السيد/علي عبد الرحمن. عرف شاعرنا الطيب العباسي بأدائه الشعري الآسِر المتوغل في السهولة والامتناع بالةٍ عروضيةٍ جبارةٍ ومعرفةٍ بأصول اللغة وقواعدها معرفة تامه مستفيداً في ذلك من موهبته الشعرية الضخمة وملكته الصحيحة وثقافته الأدبية العالية التي سلكت في دروب الأدب العربي بعمق، وادركت مآلات الأدب الغربي إدراكاً مماثلاً ، ولعل أكثر مايميزه كشاعرٍ أنه شاعِرٌ غَزِلٌ من الطراز الأول، وعاشقٌ تراه يتمسك بعشقه وإن تجاوز الثمانين من عمره والتي قال عنها زهير بن أبي سلمى في معلقته : سَئمتُ تكاليفَ الحياةِ ومن يَعِشْ ** ثمانينَ حولاً لا أبالكَ يَسْأمِ
رغم ذلك تحتوش نصوصه المتأخرة بكائية العمر والعشق، وهذا ما يمكن أن نطالعه في ديباجته الجزلة التي إبتدر بها قصيدته الفخيمة (خواطر مغترب في عيد الاستقلال ):- لــدى الغيدِ الحسانِ خبا زنادي ** وفي ساحِ الغرامِ كَبَا جوادي
أطـلَّ الشــــيبُ من راسي اذا بي ** أُحِسُ به سهاماً ًفي فؤادي
وكـل خريــــدةٍ حسناء أضحت ** تناديني أبي لمَّا تُنادي
فأُبــــتُ وقد سَلتْ حُبي سُليمى ** وبِتُ على جفاءٍٍ من سعادِ
على عهـدِ الشبابِ سكبتُ دمعي ** وما عهدُ الشبابِ بِمُستعادِ
بنيتُ الحُّـبَ قصراً من شعورٍ ** فأضحى اليومَ كوماً من رمادِ
وهذا إن سألتَ حصادُ عمـري ** ألا يا ما امرَّكَ من حصادِ
أخذت تستمر معه هذه البكائية مُتخذةً شكلاً واضِحاً ومؤثراً في عصمائه الأخيرة التي أعطاها إسمين هما (بهجة الروح ) و ( اللحن الأخير) نجتزئ منها قوله : أراكِ تمـــشينَ بين الخلقِ في حذرٍ ** وتتقينَ عيونَ الناسِ في خَـفرِ
تحاذريـــنَ لِحاظاً شَدَّ ما ظَمئتْ ** لترتوي منكِ في وردٍ وفي صــدرِ
أنتِ الملاكُ الذي إن غابَ عن نظري ** يا ويلتا من طويلِ الهمِّ والسهرِ
وفي الـغرامِ كمـا في الحبِ معركةٌ ** أبليت فيها بلاء العاشق الخطرِ
وكنــتُ ذا صولةٍ في كل معركةٍ ** سيفي شبابي سلي يُنبيكِ عن خبري
ينبيكِ أنَّ الشبابَ الغضَ يأخــذُ من ** قلب العذارى هواها أخذ مقتدر
ينبيكِ أني متى ما خضتُ ساحتها ** حصنتُ نفسي بآدابِ الهوى العذري
ذاك الشبـابُ مضى والقلبُ يتبعه ** أنى مضى لإيابٍ غير منتظرِ
أما الثمانـونَ لا أهلاً بهـا أبدًا ** أحالني مَرُّها قوساً بلا وترِ
وإن أردت فقـُلْ أصبحت في كِبَري ** كدوحةٍ عَقُمتْ أضحتْ بِلا ثمرِ
والحبُ تَكْـمُنُ في قلبي لواعِجه ** كالنارِ كامنة في باطنِ الحجرِ
تهزني النـار في قلبي وقد وقدتْ ** هزّ البراكينِ للأطوادِ والجُُدرِ
الإسم الثاني لهذه القصيدة ( اللحن الأخير ) يشي برغبة الشاعر في إعتزال الشعر وهو أمرٌ مخيف إذا ما إستدعينا قول هدباء وصدقناه، فقد قالت الأديبة هدباء عن والدها الشاعر الراحل نزار قباني: ( إن أبي مات حينما توقف عن الكتابة.. ) والرغبة في إعتزال الشعر لم يوحِ به عنوان القصيدة فقط بل كان تصريحاً حملته خاتمة القصيدة والتي يقول فيها الشاعر:_ فإنْ قَرُبْتِ فإني لستُ اطمعُ في ** شيئٍ سوى الهمس والبسمات والسمرِ
وإنْ بَعُدْتِ فَحَالي كلها كــرمٌ ** أرعى الهوى بين أضلاعي مدى عمري
ولن أُلَحِــنِ شــعراً بــعد ذي أبداً ** فهذه آخرُ الألحان من شعري
الغزل هو أيقونة الشاعر التي أجاد العزف على اوتارها والنفخ على مزمارها بأنغامٍ ما شداها قَبلُ شادي وله في ذلك من جيد الشعر وأرقه ما له، فعندما قالت له حسناؤه آمال عبر الهاتف : زواجي بعد اسبوع فهل تتكرم بتشريفنا ؟ إعتذر ..فقالت إذن هنئني بابيات من الشعر فقال لها كيف يهنئي حبيب محبوبه بزواجه من غيره ؟!! ورغم ذلك أرسل لها قصيدة يهنؤها فيها بالزواج يقول في مطلعها :- أدارَ عليـــكِ السعدَ ربٌ يديرُهُ ** وجَادَكِ من غيثِ الهناءِ غزيرُهُ
ويُسعدني أني أراكِ سعيدةً ** وحَسْبُ فؤادي طيفٌ من هواكِ يزورُهُ
وكيـــف يزور الطـيف قلبا سكنته ** ألا أنه لغو الحديثِ وزورُهُ
توقفت الشاعرة والاديبة السودانية (طلاسم ) عند هذه الابيات السابقة وعلقت قائلة : إن هذا الكلام يمثل منتهى الخُلق . ونأتي الآن إلي الصورة التي رسمها الشاعر ليوم زفاف آمال وأترك للقارئ أن يتملاها ويتمثلها ريثما أذهب الي ظبيةِ الثغر: كأني بذاك الحــي يومَ زفافــها ** تكادُ تغني دورُهُ وقصوُرهُ
كأني بذاك الوجه قد فاض حسنه ** وعَمَّ البوادي والمدائن نورُهُ
كأن العذارى في ذرى البيتِ أنجُمٌ ** وأنك من دون العذارى منيرُهُ
بعد ما بنى الشاعر قصيدتة المغناة (ظبيه الثغر ) وهو يقضي بمدينه بورتسودان واسرته بعيدة عنه بالخرطوم تملكته الهواجس وأنتابه القلق بسبب الوفاء والحب الذي ظل يكنه لاسرته المكونة آنذاك من زوجته سلمى وابنته اسماء أخذ يعاتب قلبه في قصيدة رائعه بعنوان (عتاب قلب ) يقول في بعض منها :- أَمِـنْ بعد سلــمى يافــؤادي وأسمـاءِ ** تُعاقِرُ حُباً اوتهيمُ بحسناءِ؟
عَشقتَ عذارى البحرِ من بعد أن نأتْ ** عذارى ضفافُ النيلِ من كلِ غيداءِ
فـهذه فتاةُ الثغرِ اصمـاكَ لحظُها ** فبتّ على نارٍ من الوجدِ رعناءِ
أراكَ بـرغمـي قد تنكبتَ واضحاً ** وبعت ببورتسودان دُراً بحصباءِ
ثَكَلْـُتكَ قلبـي فالمنـايـا أحبُ لي ** إذا رمت ما لا أرتضي لأخلائي
سأمضي الى حي الأحباء تاركاً ** ربيعاً بلا زهرٍ ونهراً بلا ماءِ
هنـاك تـرى أن كان حبـك كاذباً ** فليست ظباء الحي كالمعزِ والشاءِ
لم يكن الغزل هو الباب الشعري الوحيد الذي طرقه شاعرنا الطيب العباسي وإن كان هو شاعرٌ قد إتخذ من الغزل عنواناً له ، فقد ضم ديوانه (العباسيات) باباً للاجتماعيات وباباً للمراثي وقصائد للوطن والعروبة ، وهو يؤمن بالقومية العربية التي لا تقدح في إفريقيته وقد قال في مطلع قصيدته (صنعاء) وهو يسعى إليها من الخرطوم :- قَدِمْتُ من وطني أسعى إلى وطني ** كالطيرِ من فننٍ قد حلَّ في فننِ
إن يــَكُ دمُ ترهــاقا سرى بدمي ** فاني إبن سيفَ إبن ذي يَزَنِ
وقال عندما قدم الى الخليج وعمل مستشاراً قانونياً للمجلس الاستشاري الوطني لإمارة أبو ظبي:- وجـئتُ الى الخليجِ وكان زادي ** شعوري أنه إحدى بلادي
وفــارقت الاحــبة عن يقينٍ ** بأنهمو هنا رغم البُعادِ
فمــن أهلي سوى قومٍ أراهم ** يعادونَ العدوَّ كما أعادي ؟
ويعــتنقون دينـا وهو ديني ** وينطق كلهمُ ضاداً كضادي
ويجمعنــي بهـم نسبٌ عريقٌ ** يوحد بيننا من قبلِ عادِ
نزلتُ بأرضِـهم فحللت سهلا ** وكم لهمو علي من الأيادي
ولست بِمُنــكِرٍ لهـمو جميلاً ** كما قد أنكرتْ هندٌ سوادي
ولستُ بمـادِحٍ ..كلا .. فإني ** أعافُ البيعَ في سوقِ الكسادِ
أما مصر فلها شأن من الحب آخر في قلب ووجدان شاعرنا الطيب العباسي وهو حب لم يرثه من والده عاشق مصر المتيم الذي قال عنها:- مِصرٌ وما مصر سوى الشمس التي بهرتْ ** بثاقبِ نورها كل الورى
والـناسُ فيك إثنانِ شخصٌ قد رأى ** حُسْنًا فهامَ به وآخرُ لايَرى
إنما كان حبا تسلل الى قلبه وتمكن ـ فليس من رأى كمن سمع ـ وقد ساقه هذا الحب في وقت مبكر الى مناصرة شقيقه المصري الذي كان يقاوم المستعمر الإنجليزي على ضفاف قناه السويس على خلفية صراع عنيف شب عندما الغت مصر معاهدة 1936م وتوابعها فأنشأ قصيدته المزمجرة (أخي في شمال الوادي) وألقاها بإذاعة ركن السودان من القاهرة يقول في بعضها:- أخي يا ابن مصرَ فتاةِِ الكفاحِ ** وأمِ الحضارةِ بين الأمـمْ
إذا مـا طوتكَ غـيومُ الزمانِ ** طوتني دياجيرٌُها والظُلَمْ
وإن سقــطَ الدمعُ من مقلتيكَ ** بكيت بقلبي دموعاً ودمْ
وتأسى روافـِدُ بحــرِ الغــزال ** إذاما بِدمياطَ خطبٌ ألمْ
وإمــا زأرتَ بشــطِ القــنالِ ** وثَبتُ إليكَ خفيف ألقدمْ
نذود مـعاً عن حيــاضِ الجدود ** ورهْطِ الأبوة منذ القِدمْ
أخــي إن تجنبتَ قصفُ الرعودِ ** وحاذرت بركانها والحممْ
فـما أنت ـ والله ـ يـَعْرُبٍ ** ولست حفيد بُناةِ الهرمْ
كما يضج ديوان الشاعر بالإخوانيات والمرثيات التي تدل على وفائه وإخلاصه وقد خلا رغم غزلياته المثيرة من الأدب الفاضح أو الجنوح نحو الأيروتيكية. وسلاسة شعر هذا الشاعر حصنته من الرمز الغامض والهلامية والخطاب الشعري الإستعلائي رغم أنه شاعِرٌ مطبوع وعالمٌ باللغة العربية اللتي سبر غورها وتمكن من مفاصلها و راوٍ مجيد لطرائف الأدب وملحه مما أهله دائماً أن يكون زهرة المجالس وريحانتها فالأدب والشعر عند الطيب العباسي ليس هواية وموهبة فحسب إنما إتخذ ذلك أسلوباً لحياته وأنغاماً دائمة تنتظم حياته في كافة مجالاتها وكم حزنت عندما بحثت في عروة بذلته فلم أجد وساماً علقته الدولة تكريماً لهذا الأديب الضخم وكثيراً ما كنت أرى مثل هذه الأوسمة تمنح لمن هم دونه قامة وأخفض سقفاً على أنه تكفيه محبة البسطاء من أهله ومحبيه ومعجبيه وتلامذته وأصدقائه وعارفي فضله والذين يقدرون الأدب وعمالقته. وأخيراً أقول لوالدي الشاعر الطيب العباسي ما قاله هو لوالده الشاعر محمد سعيد العباسي بذات إحساسه : أبي إن أخلَّ الناسُ أوفى وإن دعوا ** أجاب وإما أبهموا القولَ أعْرَبَا
فلو لم تكُن أنتَ الذي قد ولدتني ** لما رضِيتْ نفسي بغيرِك لي أبَـا
(ب) مابين الطيب العباسي وليلي بعلبكي
الشاعر الطيب العباسي الأديبة ليلى بعلبكي
(ب) مابين الشاعرالسوداني الطيب العباسي والأديبة اللبنانية ليلى بعلبكي كان شاعرنا السوداني الطيب محمد سعيد العباسي ـ الذي رحل عن دنيانا مغفوراً له بإذن الله بتاريخ 29/ رمضان الموافق 29/9/2008 ـ هوالأديب والشاعر القانوني السوداني الوحيد الذي ناصر الأديبة اللبنانية ليلى بعلبكي عندما قدمت للمحاكمة عن عمل أدبي أنجزته ونشرته في حوالي العام 1964 وهي مجموعتها القصصية التي أسمتها (سفينة حنان إلى القمر) وسفينة حنان إلى القمر هي إحدى القصص التي وردت في المجموعة، وكانت النيابة اللبنانية قد إتهمت كاتبتها ليلى بمخالفة الآداب والأخلاق فتمت مصادرة الكتاب من ناشره ومن المكتبات وألقت الشرطة اللبنانية القبض على ليلى وقدمتها عن طريق النيابة إلى المحاكمة وقد وصفت ليلى إستجواب مفوض الشرطة لها: لم أتمكن من إخفاء استغرابي وهو يسألني: لماذا تكتبين بهذه الطريقة؟ وسألت نفسي هل يحق لأحد أن يسأل فناناً لماذا يكتب هكذا؟ بصوت مرتفع أجبت: لأنني اعتبر نفسي أتمتع بحرية الرأي والفكر والعمل الممنوح لكل شخص في لبنان. سؤال: ألا يتهيج المراهقون بعد قراءة كتابك، ويجب مصادرته؟ جواب: الكتاب يتكلم عن البشر، عن الناس، عن الأشخاص، في هذا البلد. يصور الواقع بطريقة أدبية فنية. وإذا كانت تجب مصادرته فالأصح أن تصادر البشر هنا، لأنهم مادته… سؤال: لماذا استعملتي هذه الكلمة بالذات؟ جواب. لم اجب. بماذا أجيب؟ هل علي أن أفسر لماذا استعملت هذه الكلمة بالذات، لا تلك، لحظة خلقي الفني؟ من هو الوصي على الموهبة هنا عندنا في لبنان؟ من؟ شرطة الأخلاق؟ من هو المحاسب؟ من هو المعاقب؟ ثم افتراء. افتراء أخذ كلمة واحدة ونزع ما قبلها وما بعدها وحصر التهمة بها. وانتهى الاستجواب، والدقائق ثقيلة تزحف في عيني، والصمت يزيد غضبي واستنكاري الأخرس. كان المقصود أن يشعرني بالخجل مما أكتب، والذنب. أحسست فقط أنني وحدي في غابة، وكنت مليئة بالحزن، حزن كبير يغرق العالم. وأزف موعد المحاكمة. وصرحت الآنسة ليلى بعلبكي قبيل المحاكمة بقولها: لن أعتذر في غرفة المحاكمة، أمام هيئة المحكمة، عن الأشياء التي كتبتها والتي أحاكم من أجلها. أنني جد فخورة بما كتبت. إنني أسأل: هل العطاء هو جريمة؟ ذنب؟ خجل؟ أنني أؤكد واشعر أن هذه القضية تطال جميع الأدباء والفنانين وهي تَحِدُ من الخَلق والفن. إن هذا الشيء معيب بأن اقف أمام المحكمة واشرح لماذا كتبت. أنا اكتب بحرية. أنني اكتب للنخبة، المثقفين، لذوي الأفكار السامية، وللناس الناضجين. أنا ارفض أن أكتب لمرضى الأخلاق وللمقعدين وللمتأخرين عقلياً. إنني ذاهبة غداً للمحاكمة بكل فخر واعتزاز. على اعتقاد مني بأن الحق لي والقانون بجانبي. ولإيماني الوثيق بالعدالة. وأتمنى أن تكون هذه القضية تجربة مفيدة تمنع الحد من الحريات والإساءة لها. في هذه الأثناء كانت عدة صحف أجنبية كبيرة قد أخذت تهتم بالموضوع، فنشرت (الاوبزيرفر) مقالاً في صفحتها الأولى، وجعلتها (جان افريك) موضوع صورة الغلاف ومقال رئيسي فيها، وكتبت عنها (فرانس سوار) و (الديلي اكسبرس). ووصلها عرضان من داري نشر في بريطانيا وأمريكا. كما منحها نادي (الفوبور) في بيروت جائزته لتمسكها بحرية التعبير. وبعد عدد من الجلسات إستمعت خلالها المحكمة لقضيتي الإتهام والدفاع المتهمة التي هرع إليها عدد كبير من المحامين الأدباء وعلى رأسهم كان المحامي الأديب الأستاذ محسن سليم و أصدرت قرارها وكان كما يلي: حيث أن المدعى عليها تنكر أن يكون القصد من الكتاب إثارة الغرائز الجنسية؛ وحيث ما من شك أن هناك عبارات ـ وهي التي ضربت عليها النيابة العامة بحبر أحمرـ تبدو في ظاهرها إذا ما عزلت عن سابقاتها واللاحقات بها، مخلة بالأخلاق والآداب العامة. غير أن ما يجب مراعاته في الأدب الأدب بوجه عام ـ وهذا ما تميل إليه المحكمة ـ هو أننا عندما نقف أمام أي كتاب أو أي اثر فني يجب أن ننظر إليه كوحدة تامة لا تتجزأ توصلاً لاستقصاء غاية مؤلفه أو واضعه إستكشافاً لنيته. وعلى ضوء ما تقدم، ترى المحكمة أن المدعى عليها في معظم أقاصيصها لم تكن تبغي إثارة الغرائز الجنسية، لا بل على العكس من ذلك، فأنها (كما في أقصوصتها (القطة) كانت تصور الواقع على حقيقته وبشاعته، لتخلص منه موبقاته وتخلفه عن طريق توجيه الدروس القاسية، يفضل تلقينها لمن يستحقها خشية الانزلاق في دروب موحشة، كما وأنها كانت تصور في أقصوصتها (كنت مهرة) تقاليد وفوارق ما تزال مرعية الجانب في بلد واحد وبين شعب واحد. وفي أقصوصتها (لن ينتهي الغضب) أظهرت أن الفوارق دائماً ما تؤدي إلى أسوأ العواقب، ذلك لأن التجربة على نطاق البشر تظل أكثر إيلاماً وضرورة منها على أي نطاق آخر أقصوصة (التجربة). وعلى ضوء هذه الأسس فإن المحكمة ترى أن المدعى عليها في نطاق كتابها، ولئن تعمدت الواقعية والحقيقة السافرتين فسمت الأشياء بأسمائها وعرضت شخوصها على مسرح مكشوف، فإنما كان ذلك في سبيل بلورة الفكرة والغاية اللتين تهدف إليهما، وهماغير مخالفين للآداب والأخلاق. وحيث أنه يتحصل مما تقدم أن الكتاب موضوع الملاحقة لا يهدف بما حواه من أقاصيص أية إثارة للغرائز الجنسية، إنما كان وليد رغبة ملحة في الانعتاق من بيئة ضيقة ودعوة لمواجهة الحقيقة السافرة والعمل على تحسس هذه الحقيقة بعينين صامدتين للنور، يمكن لهما أن يميزا بين الخير والشر فيختارا الأفضل والأحسن، لا بعينين ضرب عليهما رمد التقاليد نسجاً من غباوة؛ وحيث أنه ليس في ذلك ما يؤلف جرماً يقع تحت طائلة العقاب، الأمر الذي يستتبع وجوب الحكم بوقف التعقيبات الجارية بحق المدعى عليها ليلى بعلبكي وبالتالي بحق المدعى عليه الناشر جورج غريب. لذلك، نحكم بالاتفاق: بوقف التعقيبات الجارية بحق المدعى عليهما ليلى بعلبكي وجورج غريب وبعدم إيجاب الرسوم ورفع قرار المصادرة وإعادة الكتب المضبوطة لأصحابها. وبعد صدور الحكم قالت ليلى: جاء يوم خلاصنا. نعم خلاصنا نحن، الذين هي القضية قضيتهم. يشرفني أن أكون سبب هذا الحادث التاريخي. وأعتبر حكم اليوم وساماً أعتز به وأفتخر، وأعتبر كل ما حدث أروع قصة يمكن أن تحدث لي، بكل ما فيها من حزن وقساوة وفرح.والآن يمكنني أن أستمر وأن أهتدي بشلال الضوء الذي يبهر. وكان في هذه الأثناء قاضينا وشاعرنا الراحل الطيب العباسي يتابع قضية ليلى من مدينة كوستي التي كان آنذاك قاضيها المقيم منذ القبض عليها وإلى صدور الحكم ببراءتها فكان يراسلها ويراسل محاميها الأستاذ محسن سليم مسهماً بآرائه القانونية والأدبية وعندما زفوا إليه نبأ براءتها لم تسعه الفرحة فقد كان الراحل نصيراً للمرأة ويؤمن إيماناً عميقاً بالقومية العربية ومدافعاً صلداً عن حرية الفكر والتعبير والنشر لذا عبر عن كل هذا في قصيدة بعثها لليلى عقب براءتها ونشرتها جريدة الآداب اللبنانية وتقول أبياتها: ما غريبٌ أنا ولَسْتِ غريبه ** فَكِــلانا نما بِارضِ العُروبه
وكِـــلانا يَمُضُّــه ألمُ الشرقِِ ** ويشتاقُ للرُبوعِ السليبه
أنــتِ أُختي ليلى وأهلُكِ أهلي ** وعلى البُعدِ أنتِ مِني قَريبه
وإذا ما شكا من الأَرْزِ فَرْعٌ ** أجدبَ النيلُ والضِفافُ الخصيبه
ساءني ما جرى لليــلى بِلُبْنانَ ** وإن سرني انتصارُ الأديبه
إن تــكُنْ غَضةَ الأنامِل ليلى ** فلــديها مِن اليـراعِ كتيبه
أو يكــُنْ غُصنُها تأوَّدَ ليناً ** فـهي أرسى من الجبالِ الرهيبه
زعمُــوا أنـها تنكَبتِ الحقَ ** وسِيقـَتْ كمــا تُساقُ المُرِيبه
وأتـــاها الشُرطيُّ يسألُ فَظاً ** كان أحرى بهـــا ألا تُجِيبه
قلبـُـها الحُرُ ليس يرهِبُهُ القهرُ ** فما القهـرُ للنفوسِ النجيبه
وعلى سـاحَــةِ القضـاءِ أهَلَّتْ ** بِسِمَـاتٍ إلى النفوسِ حبيبه
زانَهــا الطُهرُ والجمالُ ورَفَّتْ ** حولهــا هيبةُ الجلالِ المَهيبه
قــال قاضيهُمُو وقد سمِعَ الدُرَ ** من القــولِ من شِفاهِ أريبه
إن ليــلى بريئةٌ فدعــوها ** يا حُمــاةَ الآدابِ فــهي أديبه
ودعـــوا غرسهـا لِيُنبِتَ زهراً ** فنــرى حُسنَه ونَنْسمُ طِيبه
ودعــوا الفكرَ كالضياءِ طليقاً ** يسكبُ النورَ في الدياجي الكئيبه
أحـــرامٌ ما خطَه كفُ ليلى ** وهي للفكـرِ والعُلـومِ ربيبه
قولُــها خالِـدُ المعاني وأبقى ** من طِلى بابِلِ وآثارِ طِيبه
فدعــوها واطلِقوا عن يراعٍ ** دافِقِ النبْعِ بالنُـهى والعُذوبه
ألا رحم الله هذا الشاعر المعلم الذي أعطى الأجيال في وقت مبكر دروساً إحتوشها النور وكان الوقت معتما يأتمر وينقاد بجيوش الظلام، والتحية من البُعد للأديبة اللبنانية ليلى بعلبكي التي سبقت عصرها وقادت الأدب النسائي الحديث بعبقريتها الروائية وجرأتها العقلانية وصارت رمزاً لحرية الفكر. وأختم بآخر قصيدة قالها الشاعر الطيب العباسي قبل رحيله{بهجة الروح ـ اللحن الأخير} وبنص قصة الأديبة اللبنانية ليلى بعلبكي { سفينة حنان إلى القمر} وهي إحدى القصص التي وردت في مجموعتها القصص المتهمة:
بهجه الروح ـ اللحن الأخير
يابهجةَ الروحِ يا روحي ويا قدري ** رُدي إليَّ الذي قدْ ضاعَ مِنْ عُمُرِي
رُدي إليَّ شَبابي أَنهُ خَلعتْ ** عَنهُ المُلِمَاتُ ضَافي بُردِهِ النََّضِرِ
بِهَمــسةٍ بابْتِسَــاماتٍ بِهَــمْهَمَةٍ ** أحلي مِنْ النَّصرِ في أعماقِ مُنْتَصِرِ
بِنظرةٍ مِنكِ عَجْلَى أنتِ قادِرَةٌ ** أنْ تَبْعَثي الرَّوحَ في أوصالِ مُحْتَضِرِ
عَيناكِ عَيْنَا مَهَاةٍ فَاقَ فِعْلُهُمَا ** في القلبِ فِعلَ شُبَاةِ الصَارِمِ الذَّكَرِ
وثَغْرُكِ الغَضُّ فِرْدَوْسٌ مُحَرَّمَةٌ ** إلاَّ عَلَي قُبْلَةٍ يَشْتَارُهَا نَظَرِي
أراكِ تَمْشِينَ بين الخَلْقِ في حَذَرِ ** وتَتْقِينَ عُيُونَ النَّاسِ في خَفَرِ
تُحَاذِرِينَ لِحَاظَاً شَدَّ مَا ظَمِئَتْ ** لِتَرْتَوِي مِنْكِ في وِرْدٍ وفي صَدَرِ
أنتِ المَلاكُ الذي إنْ غَابَ عَنْ نَظَرِي ** يَا وَيْلَتَا مِنْ طَويلِ الهَمِّ والسَّهَرِ
وفي الغرامِ كما في الحربِ مَعْرَكَةٌ ** أبليتُ فيها بلاءَ العاشِقِ الخَطَرِ
وكنتُ ذا صَوْلَةٍ في كُلِ مَعْرَكَةٍ ** سَيفي شَبابي سَليْ يُنْبِيكِ عَنْ خَبَرِي
يُنْبِيكِ أَنَّ الشَّبابَ الغَضَّ ياخُذُ مِنْ ** قَلْبِ العَذَارَى هَوَاهَا أَخْذَ مُقْتَدِرِ
يُنْبِيكِ أَنِّي مَتَى مَا خُضتُ سَاحَتَهَا ** حَصَنْتُ نَصْرِي بآدابِ الهَوى العُذْرِي
ذَاكَ الشَّبابُ مَضَى والقَلْبُ يَتْبَعُهُ ** أَنَّى مَضَى لإيَابٍ غَيرِ مُنْتَظَرِ
أَمَّا الثَمَانُونَ لا أهلاً بها أَبداًً ** أَحَالَنِي مَرُّهَا قوساً بِلا وَتَرِ
وإنْ أَرَدْتَ فَقُلْ أصبحتُ في كِبَرِي ** كدوحةٍ عَقُمَتْ أضحتْ بِلا ثَمَرِ
والحُبُّ تَكْمُنُ في قلبي لَواعِجُهُ ** كالنَّارِ كامِنَةً في باطنِ الحَجَرِ
تَهُزُنِي النَّارُ في قلبي وَقَدْ وَقَدَتْ ** هَزَّ البراكينِ للأطوادِ والجُدُرِ
ولا أَبُوحُ بِمَا ألقاهُ مِنْ أَلَمٍ ** واكْتَفِي بِدُمُوعٍ ثَرَّةٍ هُمُرِ
والحُبُّ عِندِي نَقِيٌّ طَاهِرٌ أَلِقٌ ** أنقَي مِنْ النُّورِ نورِ الشمسِ والقَمَرِ
يَا قَلْبُ مالَكَ مَا تَفْتَا تُعَذِّبُنِي ** أَوْلَيتَنِي الهَمَّ والأتراحَ فِي كِبَرِي
وكُنْتُ آمَلُ أنْ أَقْضِي بَقِيَّتَهُ ** مُنَعَمَ البَالِ في يُمْنٍ وفي يُسْرِ
لكِنني صِرْتُ لا يُمنٌ أُلَذُ بِهِ ** كَما أَرَدْتُ وما لليُسْرِ مِنْ أَثَرِ
يَا بهجةَ الرُّوحِ هَلْ يُرْضِيكِ أَنْ تَئدِي ** حُبَّاً هُو الزَادُ في حِلي وفي سَفَرِي
حبَّاً رَعَاهُ فُؤادِي طَاهِرَاً نَضِرَاً ** عَوَّذْتُهُ مِنْ شُرُورِ الجِنِّ والبَشَرِ
فَإنْ قَرُبْتِ فَإني لستُ أَطَمَعُ في ** شيئٍ سِوى الهَمْسِ والبسماتِ والسَّمَرِ
وإنْ بَعُدْتِ فَحَالي كُلُهَا كَرَمٌ ** أَرعَى الهَوى بينَ أَضْلاعِي مَدَي عُمُرِي
ولَنْ أُلَحِّنَ شِعْرَاً بَعْدَ ذِي أَبداً ** فَهَذِهِ آخِرُ الألحانِ مِنْ شِعرِي
قصة الأديبة اللبنانية ليلى بعلبكي المتهمة { سفينة حنان إلى القمر } أن أقبله؛ فلم يتحرك عرفت أنه يتهيأ لأن يقول شيئاً هاماً، من انفصاله عني ووقوفه بعيداً. هكذا يصبح قاسياً عنيداً ينجح في أخذ القرارات وتنفيذها. وأنا على عكسه تماماً: لا أناقش ه يجب وأنا اغمض عيني أستطيع أن أرى كل ما حولي، المقعد الطويل الذي يملأ حائطاً شاسعاً في الغرفة من الزاوية إلى الزاوية. والرفوف على الحيطان الباقية. والطاولة الصغيرة.ووحدنا المستيقظان في المدينة). رأيته يرتفع أمام النافذة ونور الفجر الفضي ينهمرعلى وجهه وكل جسمه العاري. احب جسده عارياً. عدت وأغمضت عيني، فأنا أيضاً أستطيع أن أرى كل ذرة فيه وكل تفصيل دقيق يتخفى: شعره الناعم وجبهته وانفه وشفتيه وذقنه وعروق رقبته وشعر صدره وبطنه وقدميه وأظافره. وناديته أن يرجع ويتمدد قربي: عندي رغبة في أن أتمسك بيده، أو ألمس ثيابه. لهذا فتحت عيني، ورميت الطرحة التي كنت احتضنها، وانتشلت قميصه، وفرشته على صدري، وعلقت نظري في السقف، وسألته إن كان يرى البحر، فأجاب (أرى البحر). سألته ما لونه، قال (ازرق غامق من جهة ومن جهة ابيض رمادي). سألته هل أشجار السرو لا زالت هناك، أجاب (لا زالت بين البيوت الملتصقة ببعضها، وأن على السطوح النباتات مياها راكدة). قلت إنني أحب شجرة البلح الوحيدة التي تبدو من عندنا كأنها مزروعة في البحر، وان أشجار السرو تصور لي المقابر البيضاء. صمت طويلاً وأنا لا زلت أحدق بالسقف، ثم ردد (الديوك تصيح). أسرعت أخبره أنني لا أحب طيور الدجاج لأنها تعجز عن التحليق،وإنني كنت وأنا صغيرة أحملها لسطح المنزل وارميها في الفضاء اجرب تعليمها كيف تطير، وكانت الديوك والدجاجات تتكوم على الأرض بلا حراك. عاد وصمت قليلاً ثم قال إنه (يرى ضوءاً اشتعل في نافذة بناية مقابلة). قلت مع هذا لازلنا وحدنا المستيقظان في المدينة، المتعانقان الوحيدان طوال الليل فيها. قال إنه (شرب كثيراً الليلة). عجلت أقاطعه إنني أكره هذه العبارة - شربت كثيراً - شربت كثيراً - كأنه يندم على الجنون الذي أحبني به واللهفة. شعر إنني بدأت أتنرفز. بدل الحديث، قال (تبدو المدينة ككومة من الأحجار الثمينة البراقة بكل الألوان والأحجام). أجبته أنني أتخيل المدينة الآن علباً من الكرتون الملون إذا نفخت فيها تهبط. وبيتنا وحده بغرفتيه يتعلق على غيمة، يسير في الفضاء. قال إن (الجفاف في فمه ويريد برتقالة). أكملت ومع أنني لم أسكن مدينة غير هذه المدينة كنت أكرهها، ولو لم أحلم بأنني يوماً ما التقي برجل يأخذني بعيداً لمت كمداً من زمان زمان. تظاهر بأنه لم يسمع عبارتي الأخيرة. ردد (أريد برتقالة، نشف حلقي). أهملت طلبه، وأكملت أنني معه لا أكثرت للمكان، تحتفي اليابسة بأشجارها وجبالها وانهرها وحيواناتها وبشرها. لم يعد قادراً على الانتظار. إنفجر يسألني (لماذا ترفضين إنجاب الطفل؟) حزنت وانعصر قلبي وصعدت الدموع إلى أذني فلم أفتح فمي. سألني (منذ متى تزوجنا؟) لم انطق بحرف وأنا أتتبع دورانه. جمد وتابع (منذ سنة وعدة شهور تزوجنا وأنت ترفضين ترفضين، مع انك كنت مهووسة بالأطفال قبل أن نتزوج، كنت مريضة بهم). وزاغ يضرب المقعد بيديه ويردد (أتذكر أيها المقعد توسلاتها؟ وأنت أيتها اللمبة هل سمعت صوت نحيبها؟ وأنت أيتها المخدات كم جعلت منك أجساداً صغيرة تحتضنها وتغفو قربها؟ إنطقي أيتها الجمادات. إنطقي. أعيدي لها صوتها الغابر فيك). بهدوء قلت أن الجمادات لا تحس ولا تتكلم ولا تتحرك. غضب وشرح إن (من أين لك أن تعلمي إنها ميته؟)، أجبت أن الأشياء ليست ميته، أنها فقط تستمد نبضها من الأشخاص. فقاطعني انه (لن يجادل الآن في الأشياء ولن يتركني أتهرب من حل هذا الموضوع ككل مرة). شرحت له ساهية أن الأشياء حولي، هذه الأشياء بالذات: هذا المقعد، هذه السجادة، هذه الجدر، هذه اللمبة، هذه المزهرية والرفوف والسقف، أنها مرآة هائلة تعكس لي العالم الخارجي: البيوت، والبحر، والأشجار، والسماء، والشمس، والنجوم، والسحب. وألمح فيها ماضي معه، ساعات التعاسة والكمد ولحظات اللقاء والحنين واللذة والهناء، ومنها الآن أستمد صور الأيام الآتية. وأنني لن أتخلى عنها. غضب وصرخ (عدنا إلى الأشياء. أريد أن أفهم الآن والآن لماذا ترفضين الطفل). لم أعد أحتمل. صرخت انه هو أيضا كان يرفضه في وقت من الأوقات. صمت برهة ثم قال إنه (رفضه قبل أن نتزوج وكانت حماقة ان نأتي به). بسخرية قلت إنه كان يخافهم، هؤلاء الآخرين المهرجين، في المدينة كان يستجدي رضاهم وبركتهم وموافقتهم ليراني وأراه ويضمني وأضمه ويغرقني بالحب وأغرق فيه. كانوا يحددون لنا أمكنة لقائنا، وعدد خطواتنا إليها، والزمن، ومرتبة ارتفاع صوتنا، وعدد أنفاسنا. وكنت أراقبهم أنا، كانوا يسخرون منا في سرهم، كانوا ينامون بوقاحة مع الأجساد التي يحبونها، ويأكلون ثلاث وجبات طعام في النهار، ويدخنون سجائرهم مع فناجين القهوة وبطحات العرق، ويقهقهون، يعلكون في ابتذالهم حكاياتنا، ويخترعون قواعد لنا للغد ننفذها لهم. أتاني صوته مختنقاً وهو يغمغم (لم أكن أكترث للآخرين. كنت مرتبطاً بامرأة أخرى). آه كيف يمكنني أن أتحمل كل هذا العذاب، كل هذا التمزق، كل هذا العشق له؟ تمتمت انه كان جباناً، كان يعجز عن الاعتراف لها بالحقيقة بأنه لم يحبها ولن يحبها). قال باختناق انه (لم يكن هينا، كان قاسيا عليه أن يحدق بوجه الإنسان ويقول له، بعد تسع سنوات كان ينهض فيها كل يوم، كل يوم، فيجده أمامه، يقول له: الآن انتهى المشهد. ويدير له ظهره ويبتعد). أمرته أن ينظر إلى يده اليمنى، وسألته إن كان دمي لا زال يقطر منها ساخناً على الأرض. غمغم (كنت مجنونة. مجنونة حين نفذت الفكرة. فتحت هذا الباب. دخلت هذه الغرفة. رأيتك أنت ممددة على هذا المقعد. شرايين يدك مذبوحة. تسبح أصابعك في بحيرتي دماء. كنت مجنونة. كان يمكن أن أفقدك). تبسمت بحزن، وأنا أشد قميصه إلى صدري، إلى وجهي، أشمه. وقلت إن دوري في المسرحية كان يقتضي الإنسحاب في النهاية، وكان الغياب الممكن عندي الذي أتقبله وأستطيع احتماله هو الموت السريع، بدل الزحف البطيء القاسي، كضفدعة الماء التي ضلت طريقها في الرمال، في عين الشمس، في تفتيشها عن ضفة النهر، في فيلم (حياة كلاب). ردد حزينا انه (لم يكن يعلم أنني جادة في تعلقي به). سألته ساخرة وهل كان ينتظر أن اقتل نفسي ليتأكد من صدقي؟ وأخبرته إنني كنت ضائعة فيه، كنت عاصفة حب زائغة أتسلل بين أصابع الناس، وألفح وجوههم، وأخترق الشوارع غير منظورة. كنت أحس فقط ثقل الأجسام وارتفاع النباتات ويديه، وطلبت منه أن يقترب ويعطيني يديه لأنني إشتقت لهما. فظل بعيداً جامداً، وأسرع يتهمني (بعد كل هذا الشقاء والانتصار أرفض أن أحبل منه. وأرفض. أرفض. أرفض). ويفهم من رفضي إنني لم أعد أحبه. ماذا؟ صرخت أن لا يمكنه أن يتهمني بذلك أبدا. البارحة فقط كنت ممددة قربه، كان يستسلم لنوم عميق وأنا مفتحة الأجفان، أحفحف وجني بذقنه، وأقبل صدره، وأندس تحت ذراعه، أبحث عبثاً عن النعاس. هنا صارحته أن يزعجني فيه سرعة الذهاب في النوم وتركي وحيدة صاحية بجانبه. أسرع مستنكراً يقول إنه (لم ينتبه يوماً بأنني أظل ساهرة. كان يعتقد إنني أغفو لحظة يغفو هو). أبديت بخبث إنها ليست المرة الأولى التي يتركني فيها وحدي. ثم أكملت سرد حادثة البارحة، انه كان نائماً يتنفس بهدوء، وأنا مستلقية على جنبي التصق به، أدخن سيجارة، وفجأة رأيت في فضاء الغرفة بين الدخان قدماً هاربة من تحت الشرشف. حركتها فلم تتحرك، وسرت برودة في جسدي كله. حركتها فلم تتحرك. فخطر لي أن اصرخ. حركتها فلم تتحرك. فأسرعت أخبئ وجهي في شعره، خفت. خفت. فتحرك هو، وتحركت القدم. وبكيت بصمت. كنت أحسب، كنت أشعر، كنت لا أستطيع التميز بين قدمه وقدمي. ردد بصوت خافت (في هذا العصر لا يموت الناس من الحب). أسرعت اغتنم الفرصة، فقلت وفي هذا العصر لا ينجب الناس أطفالاً: كانوا في القديم يعرفون أين يسقط رأس الطفل، ومن يمكن أن يشبه، وذكر هو أم أنثى، كانوا يغزلون له قمصاناً من الصوف وجوارب، وكانوا يطرزون له ذيول الفساتين والجيوب والقبات بعصافير ملونة وأزهار. كانوا يجمعون له الهدايا صلباناً من الذهب وما شاء الله وكفوفاً مرصعة بحجارة زرقاء وسلاسل حفر عليها اسمه. كانوا يحجزون له الداية ويحددون لها يوم الولادة. وكان يهجم الطفل من الظلام ويرتمي في النور في توقيته الدقيق المنتظم. وكانوا يسجلون باسم الطفل قطعة أرض. وكانوا يستأجرون له بيتاً، ويختارون له الرفاق، ويعرفون إلى أي مدرسة يرسلونه، والمهنة التي يتعلمها، والشخص الذي يمكن أن يحبه ويربط مصيره بمصيره. كان هذا من زمان بعيد بعيد، في عهد والدك ووالدي. أستفهمني (هل تعتقدين العشرين سنة الماضية دهراً؟ ماذا تغير الآن؟ ماذا تغير؟ ألا يمكنني ويمكنك إعداد كل ما يعد للطفل؟) لأخفف عنه شرحت أني قبل ان أتزوج كنت أنا كطفل يستلقي على ظهره أمام نافذة، يراقب النجوم، يمد ذراعه الصغيرة يود قطفها. كنت أتسلى بهذا الحلم، بهذا المستحيل، أتعلق به وأتمناه. سألني (إذاً كنت تخدعينني). ماذا؟ اكتشفت انه حور الحديث إلى هجوم علي لكسب المعركة. فأسرعت أصارحه إن المرأة المحرومة مع رجلها هي وحدها التي تلح في طلب الطفل لتغيب، وتتلذذ في اللقاء به، وتحرر. أسرع يقاطعني (وهل كنت غير مكتفية؟) أجبته إن كنا نخاف، كنا لا نسافر إلى أخر المجاهل الحلوة، كنا نرتعد، كنا نصطدم دوماً بوجوه الآخرين ونسمع أصواتهم. ومن اجله هو ومن اجلي أنا استقلت لاحيا. وانه يخطئ، يخطئ في شكه بجنوني به. تمتم (ضعت. لا أفهمك). هاجمته أن اجل أجل لن يفهمني أيضاً إذا أخبرته إنني لا اجرؤ ان أحبل. إنني لن اقترف هذا الخطأ. زعق: (خطأ؟ خطأ؟) تشبثت بقميصه أكثر، أستمد قوة. وعلى مهل، وبصوت خافت، حكيت له كيف يرعبني مصير طفل نرميه في هذا العالم. كيف أتخيل طفلي أنا، هذا الكائن الذي أطعمه من دمي وأضعه في أحشائي وأقاسمه تنفسي ونبضات قلبي وطعامي اليومي وأعطيه ملامحي والأرض، كيف يحتمل في المستقبل أن يتخلى عني ويذهب في صاروخ إلى القمر يستوطن هناك. وهناك من يدري إن كان يسعد أو يشقى. أتخيل طفلي بأربطته البيضاء، يطفر الدم من وجهه الطري، مشدوداً إلى كرسي داخل كرة زجاجية مثبتة على رأس قضيب طويل من المعدن الكاكي ينتهي بطيات تشبه تنورة فستاني (الشارلستون). ويضغط على زر، وتهب عاصفة غبار، وينطلق سهم في الفضاء. لا يمكنني. لا يمكنني. صمت طويلا طويلا، ونور الفجر يتسلل إلى زوايا الغرفة من وجهه، ووجهه ساه يفتش في السماء عن سهم ووجه الطفل. كان الشرس بين حاجبيه معقوداً.كان الاستغراب والتوتر على فمه. فصمت أنا أيضاً، وأغمضت عيني. وعندما أصبح قربي، واقفاً كبرج هائل في محطة إطلاق صواريخ، خفق قلبي وتمتمت له إنني أعشق جسده عارياً. عندما يرتدي ثيابه، خصوصاً عندما يعقد ربطة عنقه، أحسه شخصاً غريباً إلى البيت في زيارة لسيد البيت. فتح ذراعيه وانحنى. فهجمت إلى حضنه أهذي: أحبك. أحبك. أحبك. أحبك. أحبك. أحبك. وهو يهمس في شعري (أنت لؤلؤتي). ثم نشر راحة يده على شفتي، وشدني إليه بيده الأخرى، وأمرني (هيا لنصعد أنا وأنت إلى القمر)...
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: munswor almophtah)
|
الفصل الثاني
شذور دراسية حول الأدب
(1) الرمز في الإبداع الشعري المعاصر
فدوى طوقان
أمل دنقل عدنان حسين القاسم
(1) الرمز في الإبداع الشعري المعاصر الرمزية بصفتها إتجاهاً فنياً برزت في الإبداع الشعري المعاصر، ترتقي فوق موجودات الظواهر المادية المتناثرة في العالم الواقعي إلى مدارك الآمال والأحلام المنشودة في العالم المثالي، مستنجدة بالرمز بصفتها آصرة تربط بين هذين العالمين، لتنتشل الأحاسيس الغائرة التي تألف التشابه النفسي بين الأشياء، وتوقها المستمر للكشف عن الروابط المستترة خلف الظواهر المادية، وذلك عن طريق مقدرة بينة، ورؤية خاصة يتبناها الشاعر الرامز فيجعل من خلالها الرمز قائماً مقام المرموز إليه بمس إبداعي شفيف لا تتسلل إليه الصور الفجّة، أو الاستعارات الساذجة، أو العبارات الهلامية المستعلية، وهذا ما انتبه إليه (أوستن وارين ورينيه ويليك) صاحبا كتاب نظرية الأدب، عندما قالا:" إن الرمز موضوع يشير إلى موضوع آخر لكن فيه ما يؤهله لأن يتطلب الانتباه -أيضاً- لذاته بصفته شيئاً معروضاً ". وهذا قول ينسجم مع تعريف الرمز الذي وقعنا عليه من خلال ما اتفق عليه الأدباء والفلاسفة بأنه شئ حسي معتبر كإشارة إلى شئ معنوي لا يقع تحت الحواس وهذا الاعتبار قائم على أوجه متشابهة بين الشيئين أحست بها مخيلةالرامز. عليه فإن الشاعر الرامز يطلق طاقته الإيحائية ذات الخواص الجمالية الفعالة في مخيلة المتلقي، ويغذيها بنوازع البحث، ويغريها بالتطلع إلى ما وراء الأكمة؛ إذ لابد أن خلف البناء الرمزي عالماً آخر يختبئ تحت الظلال، وإن كان اكتشافه بتأويل الرمز يقع في أحايين كثيرة -من الصعوبة بمكان-؛ نظراً للتعقيد الذي يسكن التجربة الشعورية، وعناصرها العاطفية التي لا يقيدها منطق أو عقل، ولكن التركيب الشعري باهتزازاته الموسيقية يوحي كثيراً للمتلقي بالمعاني التي تبثها الصور الرمزية، وقد قال الدكتور عدنان حسين قاسم في رؤيته التقديرية لبلاغتنا العربية:" إن جُرس الأصوات والألفاظ والتراكيب الشعرية تلعب دوراً خطيراً في الإيحاء بالمعاني التي تبثها الصور الرمزية والغامضة التي لا تستطيع الصورة بتراكيبها اللغوية المألوفة أن تثيرها". ولما كان الرمز يجاوز الواقع الحسي، ويتخطاه إلى الإشارات الدفينة في رماله، والدلالات الخبيئة وراءه والتي تكتشفها القوة الحدسية، أضحى امتلاك الملكتين الحسية والحدسية لازماً في إبداع الرمز، وقد أشار ( جون مدلتون مري) إلى أن تراكم الانطباعات الحسية والحيوية يمد الشاعر العظيم بأقدر الوسائل التي تمكنه من الإفصاح بدقة عن عمليات الحدس الروحية. ولكننا نرى أن هذه الدقة لا يمكن أن تصور المشاعر والخواطر تصويراً منطقياً؛ حيث أن مردها إلى أشياء حسية رافقتها أحاسيس ضمت إليها خواطر ترتاد عوالماً أكثر عمقاً واتساعاً، والذي عنيناهُ هو ما أدركناه من قول الدكتور «عز الدين إسماعيل» حينما قال إن الصورة الرمزية تجريدية تنتقل من المحسوس إلى عالم العقل والوعي الباطني، ثم هى مثالية نسبية؛ لأنها تتعلق بعواطف وخواطر دقيقة وعميقة تقصر اللغة عن جلائها. أما أنواع الرمز يكفينا ما أورده الدكتور عدنان حسين قاسم، والذي قال: "إن الرموز تختلف باختلاف أشكال بنائها، فمنها رموز تستغرق القصيدة كلها، وتشكل محاورها، وأخرى تُعد جداول صغيرة تتدفق من شعاب جانبية، وتصب في المجرى الكبير لتلتحم به. وبوسعنا أن نقسم الرموز إلى نوعين رئيسيين: أولهما- الرمز الجزئي وهو أسلوب فني تكتسب فيه الكلمة المفردة أو الصورة الجزئية قيمة رمزية من خلالها تتفاعل مع ما ترمز إليه، فيؤدي ذلك إلى إيحائها واستثارتها لكثير من المعاني الخبيئة، وتشع هذه الصوروتلك الكلمات لارتباطها بأحداث تاريخية، أو تجارب عاطفية، أو مواقف اجتماعية أو ظواهر طبيعية، أو أماكن ذات مدلول شعوري خاص، أو إشارات أسطورية معينة وتراثية عامة. والشاعر في تعامله مع هذه الأشياء يرتقي بمدلولها المتواضع عليه إلى مدلولها الرمزي، وثانيهما- الرمز الكلي وهو معنى محوري شفاف، مجسد في إحدى الظواهر المادية، تتمركز على أرضه جلّ الصور الجزئية التي تتوزع العمل الشعري، وتشده نحو هدف جمالي منظور ويربطها به ينبوع التجربة الشعورية". تعتبر القوى الابتكارية أو الابتداع الذاتي عند الشاعر الذي تتراكم لديه المكونات الثقافية الهائلة، ومخزونات الصور المتفردة ،والتراكيب الشعرية البديعة، أحد منبعي الرمز الأساسيين. ومن النماذج التي يمكن أن نسوقها بشأن ذلك ما أورده شاعرنا الرائد محمد سعيد العباسي في قصيدته (رسائل الصفا) التي وجهها للدكتور زكي مبارك فقد قال وهو يرمز لمصر بماريه، وللسودان بالقرط الذي يزينها بصفتها صورة رمزية لمعنى قائم في شعور الشاعر يشي بالوحدة بين قطري وادي النيل. كما بشر الشاعر في صورة رمزية أخرى بالثورة على الإنجليز، وجعل الصرخة رمزاً لها، والتي ستمنع المحتل من أن ينفرد بالسودان، أو أن ينفصل السودان عن مصر، ولا ريب أنها ستقع على قلب المحتل الواجف محل شدة، وفي نفوس الأحرار برداً وسلاماً، يقول: فيا مارِ سيرى ولا تُخدَعي ** فيُنْتَزَعُ القــرطُ يا مارية
وهبي فإن لسمعِ الزمانِ ** رُنـوَّاً إلى صرخةٍ داوية
تشدُ بها واجفاتَ القُلوبِ ** وتُروى بها المُهجَ الصادية
هذه الصورة الرمزية تضافرت في إبرازها قوى ابتكارية فذة -كما رأينا- وبذلك يكون شاعرنا قد نهل من ابتكاره وابتداعه الذاتي ببراعة والجاً أحد منبعي الرمز، والذي يتمثل منبعه الآخر في التراث، أو ما يسمى بالحياة الواقعية والتراث الإنساني، والذي قُسِمَ من حيث كونه منبعاً رئيسياً من منابع الرمز إلى تراث تاريخي وأدبي وأسطوري وديني وشعبي، وفي التراث التاريخي يستنزل الشاعر الدلالات التاريخية على الأبعاد المعاصرة، وقد أورد الدكتور (حسين قاسم عدنان) مقتطفات من قصيدة (آهات أمام شباك التصاريح عند جسر النبي) للشاعرة الفلسطينية المبدعة فدوى طوقان لاتصالها اتصالاً وثيقاً بالتاريخ العربي والإسلامي، الذي استطاعت فيه فدوى أن تستحضر( ليلى بنت لكيز) التي أسرها الروم وهى في طريقها لتزف إلى زوجها، فأرسلت قصيدة قالت فيها ضمن ما قالت لزوجها البراق: ليتَ للبراقِ عيناً فترى ** ما أُُلاقي من بلاءٍ وعناءِ
كما استحضرت المرأة الهاشمية التي اقترنت باستغاثتها للمعتصم، كما رفدت هاتين الشخصيتين التراثيتين بشخصية تراثية ثالثة؛ ليكتمل الموقف وتتضح صورته في بناء فني متماسك فأتت بشخصية هند بنت عُتبة التي أكلت كبد حمزة في غزوة أُحد، والتي يتخذها العرب رمزآً لأبشع وأشرس صور الثأر، وكأنما أرادت الشاعرة أن تكون هذه الشخصيات الثلاث مجتمعة في ظلِ همٍ ثقيل وهو الاحتلال الصهيوني لبلدها فلسطين، فصرخت قائلة: آه وامعتصماهُ آه يا ثأر العشيرة آه جرحي مرغ الجلادُ جُرحى في الرُّغام ليت للبراق عيناً آه يا ذل الإسار ألفُ هندٍ تحت جلدي جوع حقدي فاغِرٌ فاه سوى أكبادهم لا يشبع الجوع الذي استوطن جلدي آه يا حقدي الرهيب المستثار أما التراث الأدبي فقد يجئ باستخدام الشخصيات الأدبية أو أقوالاً مشهورة اقترنت بها، كما ورد عند شاعرنا الفذ أمل دنقل، الذي حور أبياتٍ معروفة لأبي الطيب للمتنبي ليخلق بها رموزاً تحف بها دلالات إيحائية فقال: ما حاجتي للسيف مشهورا ** ما دمت قد جاوزت كافورا
وعيد بأية حال عُدت يا عيدُ ** بما مضى أم لأرضٍ فيكِ تهويدُ
نامتْ نواطيرُ مصرٍ عن عساكِرِها ** وحاربت بدلاً منها الأناشيدُ
ناديتُ يا نيلُ هل تجري المياهُ دماً ** لكي تفيض ويصحو الأهل إن نودوا عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيدُ ** بما مضى أم لأرض فيك تهوي
ونجد -أيضاً عندما نتحدث عن التراث الأسطوري- أن أمل دنقل في قصيدته (عشاء) قد استلهم إشارة أسطورية، وألبسها ثوباً يتسق وتجربته الشعورية العميقة، وملأها بمغازٍ رمزية جديدة من خلال تناوله لأسطورة مصاص الدماء، فبرزت الصورة الرمزية في النص كصدمة إيحائية شديدة الوقع ذات إيجاز وضربة قوية استثارت الحياة الباطنية برعشاتها الحية عند الشاعر لتسري إلى المتلقي. فمصاص الدماء لا يتحدث ولا يسمع، إنما يرنو بعينيه الصغيرتين، ويلعق الدماء وهو ذاته الفساد الذي يمتص دم الشعب الذي لا يُسمع له صوتاً تقول الصورة: قصدتهم في موعد العشاء.. تطالعوا لي برهة.. ولم يرد واحد منهم تحية المساء.. وعادت الأيدي تراوح الملاعق الصغيرة في طبق الحساء.. نظرت في الوعاء.. هتفت.. ويحكم.. دمي هذا دمي فانتبهوا لم يأبهوا.. وظلت الأيدي تراوح الملاعق الصغيرة وظلت الشفاه تلعق الدماء... ولعل التراث الديني يعتبر من المصادر الكبيرة التي نهل منها الشعراء المحدثون رموزهم. يقول شاعرنا الكبير محمد الواثق في قصيدته (أم درمان تتزوج): ربَّاه ـ حِلْمَكَ ـ ما أم درمانُ منزلةٌ ** لقد خلقتَ بِها الإنسانَ في كَبَدِ
إن كان حُكْمُكَ أنَّا لا نُغًادِرَهَا ** فاجعلْ لنا أجرَ من قد ماتَ في أُحُدِ
أو هبْ لنا منك صبراً نستعينُ بِه ** أو ما حبوتَ به أيوبَ من جَلَدِ
وقد أخذ الشاعر نفسه في قصيدته (فضيحة أم درمان) شخصيات وأحداث ورؤى من التراث الديني إلماحاً وتصريحاً دارت حولها صوره الرمزية الرائعة ،أبانها في النص كما يلي:- الناسُ جاءتكِ يا أم درمان كَوكَبَةٌ ** منهم شفيقٌ ومنهم لائمٌ لاحي قالوا سفينتُنا قد حلَّها دَنسٌ ** من فِعلِ مبذولةِ الفَخْذَينِ مِمْرَاحِ
ما مريمُ ابنة ُعِمْرانٍ فنعذرُها ** أو مثل حواءَ قد هَشَّتْ لتُفَاحِِ
فقلتُ: ما ضَرَّكم صارتْ لها ولدٌ ** عسى يَشِّبُ ويَحْمِى جَانِبَ السَاحِِ
ألقوه في اليمِّ إن جارَتْ سفينتُكم ** قد تُزْهَقُ الرُوح تَفْدِى بعضَ أرواحِِ
فقال منهم زعيمٌ عابسٌ صَلِفٌ ** يُخِفُيهم بكريهِ الوجهِ مِكْلاحِ
إذا المَؤُودةُ في مَلْْحُودِهَا سُئِلتْ ** ماذا نقولُ لربِّ الناسِ يا صَاحِ
ثم الشريعةُ إنَّا ما نُخالفها ** فالجلدُ والرجمُ طُهْرٌ بَعْدَ إصْلاحِ
فالقرآن الكريم، والكتب السماوية المقدسة كانت منبعاً وَرَدَ منه الشعراء، وأخذوا منه شخصيات -كما رأينا في صور محمد الواثق الرمزية- وفي أنموذج آخر نرى شخصية المسيح عليه السلام حينما حملته إلينا قصيدة (أغنية إلى يافا) بصفته رمزاً للفلسطيني المطارد والمعذب: يافا.. مسيحك في القيودْ عارٍ تمزقه الخناجر عبر صلبان الحديدْ وعلى قبابك غيمة تبكي وخفاش يطيرْ وقد ركن الشعراء إلى الإرث الشعبي بإمكاناته الثرة، وحكاياته الشعبية الغنية بأحداثها وشخصياتها التي ارتبطت في أذهان الناس بمواقف خاصة؛ كعنترة بن شداد، وأبي زيد الهلالي، وزرقاء اليمامة، وغيرهم ممن حفلت بهم ذاكرة المجتمع، أو بطون الكتب وفي هذا الإطار يمكن أن نرى مقدرة الإبداع الرمزي في المزاوجة بين المواقف المعاصرة وبين ما يمكن أن يقتطف من القصة الشعبية من أحداث أو شخصيات، وهذا فعله كثيرٌ من الشعراء المميزين كالشاعر المحدث المقتدر بدر شاكر السياب فحينما أدرك أن شخصية السندباد تستطيع أن تتشرب بالوقائع المعاصرة قال: رحل النهارُ ها إنه انطفأت ذبالته على أفقٍ توهجَ دون نارْ وجلستِ تنتظرين عودة السندباد من السِّفارْ والبحرُ يصرخ من ورائك بالعواصف والرعودْ هو لن يعودْ.. سلك الرمزيون طرقاً مختلفة لبناء الصورة الرمزية، وابتكروا أساليب عديدة لاستخدام الرمز، ونجح الكثيرون منهم في تصوير مشاعرهم المعقدة بعد أن أدركوا أن اللغة -بتراكيبها المألوفة- لا تقوى على مثل هذا العطاء الثر، وخطوا بالصورة الرمزية لتصبح ذات كيان مستقل عن الواقع المحسوس وبذلك اختلفت الصورة الرمزية عن الصورة المجازية -سواء كانت استعارية أو تشبيهية- كما اختلفت عن التعبير بالكناية والتي ترتاد -أحياناً- تخوم الرمزية التي تُعد تطويراً لها فالتعبير بالكناية ترافق مع الأدب القديم، وسلك في شعاب التقليد ومدرسته التي اعتمدت على القوانين العقلية المحضة وعالمها الواقعي المحسوس. وقد أشار «إيليا حاوي» إلى أن الكناية تباين الرمز في أنها مستفادة من الواقع فيما يبدع الرمز مَشاهِدَه الحسية، أو يتفطن في المشاهد الواقعية إلى دلالات غير واقعية وغير مبذولة -وإن كانت صادقة. وأخيراً نقول إن مَنْ يجرؤ على الخلط بين الصورة الرمزية والصورة السريالية اللتان تتشابهان في إقصاء المنطق بمعايير الواقع المحسوس فهو مخطيءٌ وواهمْ. فالنزعة السريالية التي شاعت في بيئات الأدباء القائلين بتحرير الشعر من المنطق والقيم الأخلاقية وإقصاء الجمال بالتحليق به بعيداً في عالم التجريد ليعبِّر عن فكرة أصيلة تغوص -أحياناً- في اللا شعور أفسحوا بذلك الطريق لإظهار مكبوتاتهم في صور محمومة لا تلائم طباعنا ولا وثبتنا أو مواريثنا القومية.
(2) قراءة في نفسية الأدب
سيجموند فرويد إفلاطون ليناردو دافنشي
وليم شكسبير أرسطو (الجيوكندا-الموناليزا) لدافنشي
(2) قراءة في نفسية الأدب يعتبر إدراج العلوم الإنسانية في حقل النقد الأدبي بغية الإحاطة بالظاهرة الفنية وفهم الغموض الذي يكتنفها من أهم المحاولات التي قدمها النقاد للأثر الفني وصاحبه،حيث نتمكن معه من رفع الستار الذي أسدله المؤلف أو الفنان بعد ما أنهى عمله وتنحى جانباً وتركنا وجهاً لوجه أمام خطت يداه من ترجمةٍ لباطنه،ففسح لنا المجال للتطلع إلى خلفية عمله الذي قصد أو لم يقصد التواري وراءه.ولعل أهم فرع من فروع العلوم الإنسانية الذي يوصلنا ـ أكثر من غيره ـ إلى نفس المؤلف أو الفنان أوالمبدع هو فرع علم النفس، الذي اكتسى النقد من خلاله صبغة خاصة، حين مكنه من قراءة ما وراء السطور والغوص في كنه العمل الفني بكلماته وحتى حروفه يستنطقها فتفصح له عن آهات لطالما أثقلت كاهل متنفسها، فيتحاور معها وتهمس في أذنه لتخبره عن أسباب خروجها بهذا الشكل أو ذاك.لاسيما وأن كلاً من علم النفس والأدب يقومان على جدلية الأخذ والعطاء التأثر والتأثير.فعلم النفس أثر في الأدب حينما توغل في نفس المبدع محاولاً فهم أسرارها ومكنوناتها،والأدب أثر في علم النفس عندما أثرى فرضياته وجعلها حقيقةً لايمكن إنكارها.فالنتاج الأدبي ونفس الفنان متصلان اتصالاً وثيقاً، ومن ينكر العلاقة بينهما يظل في ريبٍ من أمره،لأن الفن لايمكن أن يتأتى دون مؤهلات نفسية، فلا يمكن أن يكتب من لايمتلك رهافة الحس ومن لم تذقه الحياة مرارة حنظلها،لذلك فإن الإبداع يولد من رحم نفسٍ معذبةٍ أضنتها الدنيا وآلمتها في العمق. وإذا كان الإبداع كذلك فإننا لايمكن أن نفهمه إلا حينما نصل إلى جذور الشجرة لنعرف من أي نسغٍ كونت ثمارها، ولِمَ كونته على تلك الشاكلة.ومن عمل القراءة النفسية الوصول إلى تلك الحقيقة.لذلك فإن من أنكر العلاقة بين علم النفس والأدب يكون قد جانب الصواب فلا يمكن أن نعزو تلك اللوحات النادرة المحفوفة بالأسئلة والغموض التي رسمها {ليوناردو دافنشي} لمجرد الصدفة،كما لايمكن أن نتصور أن حب { أبي نواس} للخمر والتغني بها وتخليدها في شعره هو حبٌ طبيعي يقر به العقل والواقع.فجل ما نتلمسه من أعمال الفنانين دليلٌ على وجود عقد نفسية مدفونة في تلك الساحة الخفية التي تتخزن فيها جميع الرغبات والميول والتناقضات التي تباغت الشعور لتطفو على سطحه في شكلٍ جمالي تتخفى من ورائه. وقد اهتم جل النفسانيين بنفس المبدع ودورها في إبداعه، وكان على رأس هؤلاء{فرويد} الذي كرس حياته منذ بدايتها لدراسة الآداب اليونانية والرومانية في إطارها النفسي البحت، وقد جاء بنظريات خدمت الأدب والنقد من جهات عديدة، وقد سار على نهجه الكثيرون ممن أعجبوا بتحليلاته وآمنوا بصدق نظرياته وممن كانت لهم ميول خاصة للمواضيع النفسانية. وأظهرت أبحاثهم أنه ما من عمل أدبي إلا وله تفسير نفسي يظهر خاصة لإختيار الفنان لنوع من الكتابة أو نوع من الرسم دون الآخر، لأن كلاً منهم تمتلكه نفسية ما وتحكمه ظروف طفولة معينة.يقول الشاعر إبراهيم المازني : وما الشِعرُ إلا صَرخةً طالَ حبسهَا ** يَرِنُ صداها في القلوبِ الكواتم
إن وصول الإنسان بفكره الى أرقى درجات التطور والإزدهارفي شتى ميادين الحياة ومختلف أنواع العلوم ربما كان بسبب طبعه الفضولي الذي جعله يخترع ادوات من الحجر في بدائيته، ويغزو الفضاء ويصل الى القمر في عصرنا هذا، إلا أنه كثيراً ما وقف عاجزاً عن تفسير أمور ومشاعر اجتاحته. إننا نحاول معرفة سر حركة الكواكب، وعلاقة القمر بالمد والجزر في البحار، لكننا ننسى الحركات الخفية لتلك الساعة بين جوانحنا، ولقد اكتشفنا مناطق الأرض كلها وتجولنا في خط الاستواء، وعبرنا القطبين، واكتشفنا الغابات الموحشة، والصحاري المعتمة، والبحار المجهولة، غير أن جهلنا بأنفسنا لا مثيل له. كما أننا غرباء في موطن أرواحنا. وبمرور الزمن وتطور فكر الانسان استطاع ملامسة بعض جوانب هذه النفس الغامضة، فوجد في الفنون بشتى أنواعها متنفسا له، فعبر بسمفونيات موسيقية رائعة عن حزنه تارة وعن فرحه تارة أخرى، وقد عالج "قسيسٌ" نساء مصابات بالهستيريا، بآلة موسيقية هيجتهن ودفعتهن الى الرقص إلى أن سقطن على الأرض من شدة التعب ثم قادتهن الى النوم، وعندما استيقظن وجدن أنفسهن في صحة جيدة، وقد شفين من مرضهن حيث تمس هذه الوسائل وتهدئ المنابع غير الواعية في العقل البشري. كما عبر الانسان بالريشة والألوان عما تكتنزه نفسه من مشاعر، فجعل من اللون الأسود صورة لنفسيته الكئيبة، ومن الألوان الزاهية صورة لنفسيته السعيدة، ولكن رغم ذلك لم يصل براحته الى بر الأمان، فربما لم يفهم الانسان ماذا اراد من وراء عزفه أو رسمه، فارتاد المخاطبة باللغة فأبدع في خطابه الى أقصى الحدود، فكتب الشعر والمسرحيات والقصص والروايات، التي ربما وجد أنه من خلالها أزاح عبئا قد أثقل كاهله. لذلك فإن الإبداع منذ الوهلة الأولى هو تعبير عن نفسية الإنسان، وإن أخذ بمرور العصور منحى أو إتجاها آخر، اتصل بأسباب سياسية أو دينية أو اجتماعية هو بريء منها، والذنب كل الذنب يقع على من اتخذ منه جسراً للوصول إلى أغراض الحياة (كحب التكسب مثلا). إن تعرضنا لهذه الأمور هو رد لكل من أنكر العلاقة القائمة بين علم النفس والأدب. فنقول لهؤلاء إن للنفس علاقة وطيدة بما يبدعه الفنان والأديب على وجه الخصوص، وذلك لأن الكلام الذي يخرج في النهاية في شكل شعر أو قصة أو رواية كان قبل ذلك خوالج اجتاحت نفس المبدع في الظلام قبل أن تخرج إلى النور. وما يعاب على هؤلاء ـ الذين أنكروا دراسة الأدب من وجهة نفسيةـ هو إطلاقية حكمهم ورفضهم لهذا المنهج، أو هذا النوع من النقد من الأساس، في حين كان يجدر بهم ألا يحملوا على عاتقهم مسؤولية إصدار الأحكام المطلقة، ذلك لأن مبدأ الإطلاق لا يوجد في أي جانب من جوانب العلوم الإنسانية. وربما كانوا على نسبة من الصواب فيما ذهبوا اليه من رفضهم لمبدأ "فرويد" الذي جرد الإنسان – إلى حد ما- من الإنسانية عندما جعل من الجانب الجنسي محركه الأوحد، ولكن وإن كان "فرويد" قد غالى فيما ذهب إليه إلا أنه يظل أول من اكتشف جانب الاوعي من الحياة النفسية، أو بعبارة أصدق، أول من صرح بوجوده وسعى لإثباته بطرق علمية دقيقة. ويكفي تشريفا للأدب أن فرويد ما كان ليرسي دعائم نظريته ومدرسته- التي لا يمكن لأحد أن ينكر فضلها في سبر أغوار النفس الإنسانية- لولا دراسته لأعمال أدبية، كرواية (كرامازوف) لـ"دستوفيسكي" ، ومسرحية (أوديب ملكا) لـ"سفوكليس" ، ذلك لأن فرويد كان مؤمناً منذ البداية بأن الأديب في حد ذاته حالة نفسية تصب كل ما تحس به في أعمالها، فـ"دستوفيسكي" أسقط عقده في النموذج العصابي في روايته وجعله بطلاً، فجعل –بذلك- من نفسه بطلا. لذلك فنقول إن القضية منذ البداية ليست قضية تساؤل عما إذا كانت هنالك علاقة بين علم النفس والأدب، لأنها علاقة قائمة -كما سبق وأن أشرنا- مذ أن أراد الإنسان تفسير ما يختلج في نفسه، والتعبير عنه، وإنما القضية تكمن –في رأينا- في طبيعة العلاقة بين علم النفس والأدب.. بمعنى، ماذا قدم علم النفس للأدب؟ وماذا قدم الأدب لعلم النفس؟ وهل العلاقة بينهما قائمة على أساس التكامل والتواصل، أم لا؟0 إن الأدب والنفس يصبان في نهر واحد، لأن الحديث عن الأدب يقودنا –بالضرورة- إلى الحديث عن الحالات النفسية والوجدانية لدى المبدع، فهو نتاج نفسيته التي تطمح إلى إشباعٍ لذاتها ورغباتها التي لا تستطيع تحقيقها على أرض الواقع، لذلك تنزع إلى الأدب للتنفيس أو التخفيف من حدة التوتر التي تنشأ بسبب فشلها في نيل ما كانت تصبو إليه.لذلك نجد المبدع يعبر عن الواقع كما يبدو له متجانساً مع إنفعالاته المختلفة،وليس كم يحدده المجتمع،ويرى فرويد{إن الفن هو الميدان الأوحد في حضارتنا الحديثة،الذي لانزال نحتفظ فيه بطابع القدرة المطلقة للفكر، ففي الفن يندفع الإنسان تحت تأثير رغباته اللاشعورية،لينتج ما يشبه إشباع هذه الرغبات}. أي أن الفن هو نتيجة الكبت المستمر لرغبات عديدة،لم تجد لها مكاناً في المجتمع فظهرت في شكل انفجار،تمثل في الفن بمختلف أنواعه0 ولعلنا واجدون في قصائد{أبي نواس} ومسرحيات{شكسبير} هذه الجوانب من النفس الإنسانية التي تمثل ـ بدورها ـ مسرحاً واسعاً يحاول الفنان أن يبحث فيه عن إبداعه،ثم إن الإبداع بعد أن يخرج في صورته النهائية هو أيضاً ميدان تُفهم من خلاله النفس،فالنفس تجمع أطراف الحياة لكي نصنع منها الأدب،والأدب يرتاد حقائق الحياة لكي يضئ جوانب النفس...إنها دائرة لا يفترق طرفاها إلا لكي يلتقيا. ولعل تقاسم بعض المفردات بين الأدب وعلم النفس دليل على الصلة الوثيقة بينهما كالشعور،والعواطف،والإنفعالات،والوجدان،والتخيُّل،والإدراك الحسي وغيرها0 ويجدر بنا الإشارة ـ هنا ـ إلى أن التحليل النفسي هو أكثر فروع علم النفس إسهاماً في تفسير الأدب من وجهةٍ نفسيةٍ0 إذ أكد فرويد في أكثر من مناسبة أن الإبداع الأدبي شبيه بالتحليل النفسي،إذ إن الأديب يبني الشخصية الأدبية في آثاره بناء العارف بأغوار النفوس، والمحلل النفسي يقوم بالعمل نفسه تقريباً0 فالأديب عندما يتحدث عن بطل روايته أو قصته يتحدث عنه كأنه يعرفه حق المعرفة، أو كأنما الأديب هو البطل، وهذا ما نستشعره ونحن نقرأ عملاً أدبياً مهما كان نوعه، والاديب في تحليله لتلك الشخصية وما يكتنفها من صراعات نفسية، فكأنما هو محلل نفسي يتتبع أسباب ودوافع ورغبات مكنونة في البواطن. وقد رأى بعض النقاد أنه ليس مكانٌ أفضلَ للبحث عن أسباب الإبداع أكثرَ من نفس المبدع، وقد كان "فرويد" أول من بادر إلى ذلك، إلا أنه لم يكن يهدف من وراء مدرسته إلى تقويم العمل الإبداعي، وإنما البحث عما يؤكد فرضية اللاشعور التي استطاع بالفعل إثباتها عن طريق الفن بصفة عامة، والأدب بصفة خاصة. وقد وجد "فرويد" أن أكثر المبدعين في الفن يعانون من بعض الأمراض النفسية التي ربما كان لها الأثر الحاسم في إبداعهم، فراح يحاول تطبيق نظرياته على كثير من الأدباء والفنانين، ليصل في النهاية إلى نتائج مذهلة أكدت صدق مقدماته. وكمثال على ذلك نأخذ شخصية "ليوناردو دافنشي" الذي أكد "فرويد" أن لطفولته دوراً عظيماً فيما وصل إليه من شهرة، حيث كانت مرآباً تكونت فيه عقده والمتمثلة أساساً في حرمانه من أبيه، بإعتباره طفلاً غير شرعي، وحبه المثالي لأمه، وقد سكنت هذه العقد في الجانب اللا شعوري منه، لتظهر فيما بعد في لوحته المشهورة "الموناليزا" والتي حملت ابتسامة غامضة جدا. وبهذا التصور والتحليل أخرج "فرويد" النقد الأدبي من جموده وفتح له الأبواب واسعة للبحث والتنقيب، فباتت بذلك النفس ميداناً للدراسات الأدبية، وبات الأدب ميداناً للدراسات النفسية. ويرجع ذلك إلى أن الأحكام التي كان يصدرها المحللون للأدب على الطريقة التقليدية متناقضة وسطحية وفي الغالب يطغى عليها مجرد الشرح للقصيدة أو للأثر الأدبي والفني والتعرض للإرهاصات التي مر بها الأديب أو الفنان بشكل أو بآخر، في محاولة فجة لفهم شخصيته وبيئته، فهم يكتفون بالقول "إن الأديب صاحب موهبة وأن الظروف التي عاشها أثرت عليه" وكل ذلك عبارة عن محاولات ينقصها السند العلمي والنظري والتحليل الدقيق لذلك أضحت إحدى مهمات الناقد البحث عن حقيقة الإنسان المبدع، اعتماداً على ما تخفيه أو تكشفه آثاره الفنية. إن دراسة الأدب من وجهة نفسية ليست وليدة العصر الحديث فهي لم تولد من رحم فكر "فرويد"، بل ترجع بذرتها إلى العصر اليوناني عصر إفلاطون وأرسطو ، ثم أينعت عند العرب القدامى كإبن قتيبة والقاضي الجرجاني، ونمت وترعرعت في أحضان "فرويد" الذي أخرجها في حلتها النهائية القائمة على مناهج علمية إنطلاقا من الفرضيات ووصولا الى النتائج. إن البداية الفعلية إذن كانت مع إفلاطون الذي أخرج الشعراء من بوابة جمهوريته الفاضلة، وأوصى بإبقائهم خارجها، ونظراً لهيامه بأشعار "هوميروس" خاصة والشعرعامة كان يظن أن الإبداع ليس من نتاج الإنسان، بل تحركه قوة الاهية عظيمة، توحي إليه كل ما يكتب أو ينطق من شعر "لأن الشاعر كائن أثيري مقدس، وهذا الشعر الجميل ليس من صنع الإنسان، ولا من نظم البشر، لكنه سماوي من صنع الآلهة". إن كانت هذه الرؤية الأفلاطونية قد جانبت الصواب وهي تفسر الظاهرة الإبداعية تفسيراً "ميتافيزيقيا"،إلا أنه كان يؤمن إيماناً حقيقياً بأن مايقوله الشعراء هو شيء غريب وعجيب وخارق، لا يمكن لأي كائن أن يأتي بمثله، لدرجة أنه تصور أنه من إلهام الآلهة. وترجع رؤيته هذه إلى نفسية المبدع التي لا يتمتع بها كل الناس، وإلا لقال الشعر جميع بني البشر. وتشبه هذه النظرة نظرة العرب القدامى للظاهرة الشعرية فيما أسموه الموهبة، والموهبة من الوهب للشعراء وليس لهم فيه يد. فقد اعتقد العرب بدور الشياطين في عملية الإبداع وقد عبر الشاعر أبو النجم العجلي عن ذلك بقوله: إني وكل شاعرٍ من البشرْ ** شيطانه أنثى وشيطاني ذكرْ
فما يراني شاعر إلا استترْ ** فعل نجوم الليل عايَنَّ القمرْ
وعبر عن ذات المعنى شاعر آخر وقال: إني وإن كنت صغير السنِ ** وكان في العين نبو عني
فإن شيطاني أميرُ الجنِ ** يذهب بي في الشعر كل فنِ
كما اعتقدوا أن الأديب –رغم تفسيرهم الميتافيزيقي- يحس بالمشكلة قبل إحساس الآخر بها ويسعى للتعبير عنها بأسلوب فريد يخرق كل القواعد والانماط المألوفة،مما يدل على تمتعه بقدرات فائقة ليست موجودة عند البشر العاديين. أما الجانب السلبي في تلك النظرة -حسب اعتقادنا- هو مباعدة هؤلاء بين الشعر وبين الحياة النفسية والحياة الاجتماعية، فكأن أفكار الشاعر وتعابيره وأحاسيسه ما هي إلا من نسج إلهي، ولا علاقة لها بالظروف الاجتماعية من أفراح ومآسي وغيرها فيما يبدع الفنان0بينما أعتبر علم النفس العمل الفني تعبيراً رمزياً عن الخلجات والأحاسيس الباطنية للفنان0 أما أرسطو فقد عُد أباً شرعياً لهذه القراءة{القراءة النفسية} إذ تتخلل تشريحاته النفسية كل مؤلفاته،وتنطوي على مبادئ اتُخِذََتْ فيما بعد دعائم أولية للحقائق النفسية،وتجلت في شكل بارز في نظرية المحاكاة0 فأرسطو يرى أن هدف الفن لا يقوم على إبراز المظهر الخارجي للأشياء عن طريق التكلف والتصنع وإنما على إبراز أهميتها الداخلية،وأكثر الفنون نبلاً هي تلك التي تؤثر على العقل والمشاعر،لذلك يجب توفر وحدة العمل في الرواية أو القصة المسرحية، حتى لايكون فيها مؤامرات منحطة أومخزية، أو حوادث شاذة، بحيث يكون عمل الفن هو التنظيف والتنقية{التطهير}، لأن الانفعالات التي تتراكم فينا تحت الضغط والكبح الإجتماعي تكون قابلة لمخرج مفاجئ في أعمال مخزية وغير اجتماعية،يتم إصلاحها عندما يمسها التهيج المسرحي الأنيس عن طريق الخوف والشفقة التي تؤثر على تنقية هذه المشاعر وتطهيرها0 ففي نظر أرسطو أن عملية الإبداع عبارة عن عملية تطهير النفس من الإنفعالات الزائدة وتهذيبها حتى لا تخرج في شكل مفاجي يضر صاحبه وقد يضر المجتمع أيضاً،لذلك فقد وجد في المسرح ضالته،فبقدر الأثر الذي يتركه العمل الإبداعي والأدبي على وجه الخصوص في نفوس الناس نستطيع أن نحكم على مدى ما حدث من تطهير فيها،وبالتالي على مدى عبقرية المبدع،وقد قيل إن مسرحية {هاملت} كانت متنفساً لشكسبير وإسقاطاً لما أحس به وظهر بين الحين والآخر في كتاباته، كما تغلب اليونانيون على ظلام أحزانهم وخيبة آمالهم ببريق فنهم وإستمدوا من آلامهم مشاهد مسرحياتهم0اما عن ملامح هذا الاتجاه عند العرب فنقول إن النقاد والبلاغيين العرب قد تنبهوا منذ القدم إلى تأثير النفس في الأدب، إلا أن تنبههم كان مجرد ملاحظات متناثرة في ثنايا كتبهم البلاغية والنقدية،ولم تصل تلك الملاحظات إلى نتائج واضحة ذات شرح موضوعي،إنما بقيت محصورة في دائرة الإحساس المبهم،وقصر النظر في الأمور.ولكن رغم ذلك تشكل هذه الملاحظات نواة لنظرة نفسية متكاملة من حيث أبعادها الإبداعية ودلالاتها على نفس صاحبها وتأثيرها في المحاور التي تدور حولها الدراسات النفسية الحديثة للأدب. ولعل من أكبر القضايا التي شغلت النقاد القدامى قضية الطبع ودوره في توجيه الشاعر وأغراضه الشعرية فقد قال{ابن قتيبة} : "والشعراء أيضاً في الطبع مختلفون، فمنهم من يسهل عليه المديح ويعسر عليه الهجاء، ومنهم من تتيسر له المراثي ويتعذر عليه الغزل". وبذلك يكون إبن قتيبة قد أرجع أغراض الشعر إلى عوامل نفسية في الشاعر. ونفهم من ذلك إن كان للشاعرـ مثلاًـ طبعاً فظاً وغليظاً فإن شعره يبرز أكثر ما يبرز في الهجاء،وإذا كان طبع الشاعر هادئاً ومحباً لكل ما هو جميل فإن شعره يظهر فيه المدح والغزل بكثرة، لذلك فلا عجب أن ننسب غرضاً من الشعر لشاعر أكثر من غيره، فنقول مثلاً إن المتنبي رائد الفخر والمدح، وجميل بثينة وقيس ليلى رائدا الشعر العذري، والحطيئة رائد شعر الهجاء، ويعود كل ذلك إلى استعدادات نفسية توجه الشاعر صوب هذا الغرض أو ذاك.وهذا ما أورده {ابن رشيق} في قوله: مع الرغبة يكون المدح والشكر، ومع الرهبة يكون الاعتذار والاستعطاف، ومع الطرب يكون الشوق، ومع الغضب يكون الهجاء والتوعد والعتاب الموجع.كما رأى القاضي الجرجاني أن طبع الشاعر وذكاءه وحفظه لأشعار العرب القدامى وروايتهم هو المكون الرئيسي لملكته الشعرية،بمعنى أنه يأخذ بعين الإعتبار الاستعدادات النفسية وأثرها في شعر المبدع حين يقول وقد كان القوم يختلفون في ذلك وتتباين فيه أحوالهم، فيرق شعر أحدهم ويصلب شعر الآخر، ويسهل لفظ أحدهم ويتوعر منطق غيره. وإنما ذلك بحسب اختلاف الطبائع وتركيب الخلق). ومن خلال هذا الطرح الذي أورده الجرجاني نستنتج أنه ربط بين النص الأدبي وصاحبه، وذلك من خلال انعكاس شخصية صاحب النص على أعماله الأدبية، فكما قال:دماثة الكلام من دماثة الخلقة، وسلامة اللفظ من سلامة الطبع. إن هذه الملاحظات ـ وإن لم تتجاوز مرحلة التأمل المبهم ـ كان لها الأثر البالغ في إنارة الدرب أمام النقاد المحدثين للسير بخطى ثابتة نحو تفسير الأثر الأدبي تفسيراً نفسياً، فمادام القدماء قد إعتمدوا في فهمه على أسس نفسية سائرين على مذهب فرويد من جهة ومؤكدين صحته من جهة أخرى، فحريٌّ بالمحدثين أن يعودوا إلى كنزهم الموروث. وهذا المنهج لم يعرف النور إلا عندما جاء فرويد بنظرية التحليل النفسي التي أثار بها ضجة كبرى وأحدث بها منعطفا خطيرا وعظيما في تاريخ النقد الأدبي والحياة النفسية، وقد انطلق في نظريته الى أن الحياة النفسية لا تقتصر على الشعور فقط بل هناك جانب خفي مستتر وهو جانب اللاشعور أو اللاوعي، وانطلق في مقدمته من أن هناك أموراً تصدر عن الإنسان لا يمكن ردها إلى جانب الاوعي فكثيراً ما ينفلت اللسان بكلمات لا يقصدها، وإنما خرجت في غفلة منا، دون أن نخضعها لرقابة الشعور أو العقل، وربما لو قمنا بإخضاعها للجانب الواعي لما نطقنا بها، كما أن الأحلام لا يمكن تفسيرها بالجانب الواعي من النفس الانسانية، فالانسان عندما ينام يفقد السيطرة الكلية على نفسه وربما تكون لديه رغبات شعورية لا يستطيع تجسيدها على أرض الواقع فيضطر إلى كبتها، بيد أنها تطفو على سطح اللا شعور في شكل أحلام، كما أن للطفولة في نظر فرويد الدور الرائد في تكوين شخصية الإنسان. وقد إتخذ فرويد من هذه النقاط الثلاث منطلقا له في رحلة بحثه، وقد تمكن بالفعل من إثبات وجود الجانب اللا واعي من نفس الإنسان لا يمكن لاحد انكاره، بل لقد أكّدَ وجوده فسيولوجيا، فالمركز تحت اللحائية في الدماغ يختص بكل ما يتصف باللا شعور، أما الشعور والوعي فمركزه اللحاء أو القشرة الدماغية. لذلك انطلق فرويد من فكرة أن الفن هو إناء يصب فيه الفنان رغباته المكبوتة التي لم تجد لها منفذاً آخراً، فتخذت من الفن طريقها إلى تحقيق تلك المكبوتات. أي أن المبدع في نظره هو شخص حرمته الحياة من تحقيق رغباته فجنح الى الفن لتفريغ مكبوتاته، لذلك ربط فرويد الإبداع بالجانب اللا شعوري، فكأن الإبداع هو وسيلة من الوسائل العظيمة التي يستطيع المبدع من خلالها إفراغ ما في جوفه من ألم سببه الكبت المستمر. ففرويد جعل من المبدع شخصاً حالماً ولكن حلمه يكون في أوج الضحى. وهذا الجانب اللا شعوري تحكمه في نظر فرويد أكثر ماتحكمه الدوافع الجنسية، وكأن المبدع هوشخص معقد جنسيا أو هو شهواني أو عصابي. وهذه النقطة بالذات هي التي أدت الى توجيه سهام النقد لهذه النظرية والتشكيك في جدوى دراستها. إلا أن فرويد قد يكون على نسبة كبيرة من الصواب في قوله إن الإبداع يتصل بالجانب اللا شعوري. وهذا ما يؤكده نظرنا لقول أبي نواس حين سئل: كيف عملك حين تريد أن تصنع الشعر؟ فقال: أشرب، حتى إذا ما كنت أطيب ما أكون بين الصحو والسكر صنعت وقد داخلني النشاط وهزتني الأريحية. فأبو نواس هنا يؤكد أن عملية الإبداع تتم في حالة ذهنية تضعف فيها سيطرة الوعي. وربما فرويد نفسه كان متأثرا في فكرته هذه بآراء إفلاطون الذي لمح الى وجود جانب خفي من النفس الإنسانية ولكنه لم يصرح بذلك في كلام واضح وذلك في قوله:"لا يصل رجل في حالة اليقظة الى الحقيقة أو بصيرة النفس الملهمة، ولكن عندما تكون قوة التفكير مقيدة ومكبلة في النوم أو المرض أو الجنون لذلك فان العبقري أخو للمجنون". ثم يستطرد معبراً عن ظهور المكبوتات في شكل لا شعوري هي الأحلام بقوله: "ربما تقدم لنا الأحلام مفتاحاً وحلاً لهذه الميول والنزعات الخبيثة المراوغة، فمن المعروف أن بعض الملذات والغرائز المعينة محرمة ويبدو أنها موجودة في كل إنسان ولكن تم إخضاعها في بعض الأشخاص عن طريق القانون والعقل، وهي إما أن يكون قد تم إخضاعها إخضاعاً تاماً أو تم تخفيض قوتها وعددها، بحيث تصحو وتستيقظ عندما تكون القوة العاقلة والمهذبة الحاكمة في الشخص في حالة نوم وغفوة". ويعطي إفلاطون هو الآخر أهمية بالغة للجنس ودوره في راحة النفس في حالة إشباعه أو في أرق وتوتر النفس في حال عدم إشباعه، فيقول" عندما يكون نبض الإنسان سليما ومعتدلا يذهب إلى النوم بارداً ومعقولاً، بحيث يكون قد أشبع شهواته بإعتدال بما يكفي ليدعها تنام، فهو بذلك أقل عرضة للأحلام غير المشروعة وتصوراتها". ومن هنا نلاحظ أن إفلاطون يعلق أهمية بالغة على الجنس وكأنه هو سبب أحلامنا ومحركها كلها. لذلك قلنا إن فرويد كان متأثراً بالأدب أو الفكر اليوناني، ولم يظهر تأثره فيما سبق، وإنما ظهر في مصطلحات استقاها منه، مثل: (عقدة أوديب) و (أورست) وغيرها. نقول هذا إيماناً منا بأن النفس الإنسانية لا تسوقها غرائز الجنس فحسب، إنما هنالك نتوءات وشوائب نفسية أخرى قد يكون لها الأثر البليغ على العمل الإبداعي. ونسأل النقاد الذين رفضوا هذا المنهج في دراسة الأثر الادبي: لماذا لا نحاول الاستفادة من التحليل النفسي في فهم الأدب؟ كما إستفاد فرويد وتلامذته من الأدب في التحليل النفسي مادام ذلك يخدم النقد ويفتح له المجال واسعاً في سبر الأغوار؟ ولكن دون أن ننسى ما للعوامل الاجتماعية والبيئية من تأثير على الفنان وبالتالي على فنه، ذلك لأن الإفراط في التعامل مع النص الفني على أساس نفسي محض فيه مبالغة، وإلغاء هذا الجانب من العمل الفني إلغاءاً تاما هو أمر مجانب للصواب. لذلك علينا أن نتعلم دائما كيف نمسك العصا من الوسط. إن القراءة في نفسية الأدب دراسة متشعبة لا يفيها إيفاءاً كاملاً ما قلنا به، ومحاولتنا في هذا الشأن كمحاولة ذلك الطفل الذي رام نقل مياه البحر بصدفة إلى حفرة صغيرة على رمال ا
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: munswor almophtah)
|
(3) دراسة حول الأدب الشعبي السوداني {الدوبيت} نتناول في هذه الدراسة الدوبيت السوداني بإعتباره من أهم الفنون القولية السودانية الشعبية وأساس الكلام السوداني المقفى وإن تناولناه في دراسات شاملة في الجزء الأول من موسوعتنا الشعبية الأدبية والذي جاء تحت عنوان{ نظرات في الهمبتة والدوبيت السوداني} غير أن أهميته تفرض علينا أن نورد عنه هذه الدراسة وستشمل الحديث عن مسمياته ومعناه وأصله ونشأته ولغته وأنواعه وذلك على النحو التالي: أولاً/ مسمياته ومعناه وأصله ونشأته: وردت كلمة دوبيت في القاموس العامي بمعنى وزن الشعر المعروف، والكلمة مكونة من مقطعين هما (دو) بمعنى اثنين بالفارسية، و(بيت) وتعني البيت من الشعر بالعربية ويصبح معنى المصطلح بيتين. وهذا التفسير وقع عليه أغلب الباحثون وهناك من يخالفهم في هذا التفسير كالباحث الكبير ميرغني ديشاب فهو يرى أن المصطلح كلمه واحدة نشأت في اللسان العامي السوداني وليس لها علاقة باللغة الفارسية وقد أدى النطق الخاطئ لها إلى هذا التفسير الخاطئ لأن كلمة (دو) بضم الدال هي الكلمة الفارسية التي تعني الرقم إثنين وليس دو بالإمالة الطويلة المضمومة في دالها. وقد عرفه الأستاذان محمد الواثق وعبد القادر محمود في كتابهما (الدوبيت): (إنه شعر شعبي سماعي يرتكز على الإنشاد تميزه نغمة وزن تقوم على التداعي والربط الصوتي ولا يكترث فيه للرسم الكتابي للمفردة) . وعن مسمياته قال الباحثان:" بأنه قد غلب على هذا الفن مسمى الدوبيت، وإن لم يشر أي من شعرائه إلى هذا المصطلح نصاً في رباعياتهم التي تناهت إلينا، بيد أن كلمة (دوبى) كثيرة الدوران في الأنماط لهذا الفن وتجيئ (دوبى) في كل هذا بمعنى أنشد، ومنها يشتق دوباي لا دوبيت، ولم ترد كلمة دوبى في المعاجم العربية، مما يجعلها من الدخيل على العامية السودانية ولا يستبعد أنها بيجاوية" . وقد ذكر الأستاذ الباحث الطيب محمد الطيب أن كلمة دوبيت ليست هي الكلمة الصحيحة التي يجب أن تطلق على هذا النوع من النظم في السودان، إذ إنه استقصى جذور هذا المصطلح في كافة الأماكن التي اشتهرت بمعالجة فن الدوبيت، ولم يجد له أثراً هناك إنما وجد مصطلح دوباي . وجدنا مسميات أخرى أطلقت على هذا الفن الشعري كالقافية والرباعية والمربوعة والربعي، على أن مصطلح النم ثم النميم هو الذي طغى شهرةً على غيره من المسميات، وهنالك تسمية خاصة أطلقت على الرباعية في مناطق كردفان وهي (حاردلو) نسبة للشاعر الحاردلو. عن أصوله يقول الدكتور عبد المجيد عابدين والأستاذ المبارك إبراهيم صاحبا كتاب (الحاردلو شاعر البطانة): (إنه عربي خالص وإن كان يحمل لفظاً فارسياً وبعض طرائف الدوبيت الفارسي، وقد دخل في الأدب العربي وشاع في أقطار العالم العربي، أضف إلى ذلك أن وحدة القصيدة السودانية من الدوبيت هي الرباعية غالباً، وهي أربعة تؤلف في الحقيقة بيتين اثنين، وهذا ينطبق على معنى دوبيت، وهما في القصيدة وحدة مستقلة، ثم إن الشاعر السوداني ينوع القافية في القصيدة الواحدة وليس في الرباعية الواحدة، وهذا أيضاً له نظير في الدوبيت الفارسي) على أن الأستاذ محمد الواثق أورد رأياً مسبباً غاية في الأهمية، إذ أورد عدة أسباب يناهض بها ما رآه الدكتور عبد المجيد عابدين ومن سار علي نهجه القائل بأن الدوبيت السوداني يجمع بين الشكل الفارسي والوزن العربي، واعتبر أن تكريس هذا الرأي يكاد يحول دون استقراء أصل سوداني لهذا الفن، ويأخذ عليه عدة أمور منها أن اللغة الفارسية التي اختلط بها العرب قبل الإسلام كانت الفارسية القديمة (البهلوية) وهي لغة قد اندثرت مثل الإغريقية القديمة والهيروغلوفية، وهي لغات لم يعد يعرفها إلا علماؤها المتخصصون، ولم يرد لنا شيء كثير من آداب الفارسية القديمة البهلوية حتى تنسب أشكال آداب أخرى لها، والقليل الذي ورد ليس فيه الشكل الرباعي. ويستطرد الأستاذ محمد الواثق قائلا إن كانت الإشارة إلى الفارسية الحديثة والتي وجد فيها الشكل الدوبيتي، فالفارسية الحديثة نشأت في كنف الإسلام ولم يشتد عودها إلا في القرن الثاني الهجري، وقد استقت مصطلحها النحوي والبلاغي ومعظم مفرداتها من اللغة العربية، وقد اعتمدت كلية على الأوزان العربية من طويل وبسيط وسائر ما ذكره العروضيون. ويضيف الواثق قائلاً إن التعكير الأهم على هذه النظرية أن الشكل الدوبيتى ظهر في فترة متأخرة من نشوء هذه اللغة الحديثة، وينسب ظهوره إلى فريد الدين العطار والذي عاش في القرن السادس الهجري، وقد ظهر الشكل الدوبيتي لاحقاً للشكل المزدوج والمثنوي الذي يكاد ينسب إلى جلال الدين الرومي شاعر التصوف الفارسي، ويقول الواثق إن الدوبيت الفارسي ظهر في فترة متأخرة، فهل انتظر الأدب السوداني كل هذه الفترة ليتأثر شكلاً بالدوبيت الفارسي، وقد أجمع المؤرخون على أن العرب دخلوا السودان قبل مجيئ الإسلام نفسه؟ وما معنى أن تتأثر الرباعية السودانية بالفارسية شكلاً وبالشعر العربي وزناً والأدب الفارسي ليس له أوزان غير العربية . كل هذا يقودنا للحديث عن نشأة الدوبيت في السودان، فوجدنا أن أقدم أشكاله المدونة يرجع إلى عهد الفونج، إذ غابت الإشارة للدوبيت في المصادر السودانية القديمة ككتاب الطبقات ، وأقدم نصوص الدوبيت التي دونت يرجع تاريخها لنفس الحقبة، كالرباعيات التي وردت في مدح شيخ الشكرية عوض الكريم أبوعلي المتوفى في عام 1779م ، وهناك من يقول إن الشاعر حسان الترك الذي عاش في القرن السادس عشر هو أول من قال الدوبيت في السودان . على أن الناظر للنماذج التي وردت وعرفناها كأقدم أشكال الدوبيت المدونة، يلاحظ عليها عدة أشياء كعدم التزام الشاعر بتساوي الشطرات، وهو ما يعرف عند العروضيين بالإقعاد، وان لم يستطع الدوبيت السوداني في مراحل تطوره اللاَّحِقة أن يتخلص منه بشكل نهائي، كما يلاحظ عدم التزام الشاعر بنسق وزني موحد في كل الشطرات، إذ تنفرد كل شطرة بوزنها الخاص، وقد يهمل الوزن كلية ويعالج عن طريق الإنشاد والتنغيم الصوتي، كما يلاحظ أن الشاعر لم يتكلف شكل البناء الرباعي للدوبيت، مما يقودنا للقول بأن الشكل الرباعي الهندسي للدوبيت بأوزانه المحددة والمنسقة ترسخ في البطانة والشكرية والجموعية والجعليين، في حقبة ظهور الحاردلو 1830-1916م الذي أذن بانبثاق فجر الصرامة الشكلية الرباعية الدوبيتية السودانية، وعلى الرغم من أن النماذج السابقة والمتناهية إلينا تدويناً لم تكن في كمال النضج قبل ظهور الحاردلو، إلاَّ اننا نعتقد أنها كانت مرحلة أخرى من مراحل تطور فن الدوبيت في السودان، مما يعزز اعتقاداً آخر لدينا وهو أن الدوبيت نشأ في السودان قبل عهد مملكة الفونج، بيد أنه تعثر في حظه العاثر من التواتر فلم يصلنا. ثانياً/ لغته: للدوبيت السوداني لغته الخاصة المبنية على المفردة العامية ذات الأصول العربية الغالبة، وفي اعتقادنا أن العامية هي عنوان أصالة ونشأة القول المقفَّى والموزون في السودان، فعندما اتخذ الدوبيت اللغة العامية مرتكزاً لبنائه العام والفني وظل متشبثاً بها ووفياً لها منذ نشأته الأولى إلى آخر مرحلة من مراحل تطوره، حدثنا التاريخ الحديث أن معارك أدبية دارت عند دخول الشعر العربي للسودان، بين الأدباء الذين اتخذوا اللغة العربية الفصحى أداة للتعبير عن خواطرهم الشعرية، وبين أولئك الذين تمسكوا بالعامية وضرورة اعتبارها الأصل الذي ينبغي الرجوع إليه عند كتابه الشعر. ولعل الدكتور عون الشريف قاسم قد أزال عن أذهاننا التردد القائم حول جدوى الدراسات في مجال اللغة العامية، وأزال عنا اَثار تلك المعركة الأدبية التاريخية عندما لخص لنا برؤيته الثاقبة جدوى الاهتمام باللغة العامية، وقد يكون ما أورده قاطعاً لكافة الحجج التي تدبج بها طرفا النزاع حول العامية والفصحى عندما قال في قاموسه العامي: (ولا يخفى على القارئ الكريم تساؤل بعض الباحثين عن جدوى مثل هذه الدراسات، وكيف أن بعضهم رأى فيها دعوة إلى نبذ العربية الفصيحة وتشتيت وحدة العالم العربي بأن ينكفئ كل قطر عربي على لهجته فتفقد العربية سلطانها كأداة مشتركة للتفاهم، وهم محقون في بعض ذلك إذا رأوا كيد المستعمرين للعربية، وتشجيعهم النعرات الإقليمية والعرقية، وسعيهم لإحلال العاميات محل العربية الفصيحة. ولكن فاتهم أن دراسة العاميات في العالم العربي ومقارنتها بعضها ببعض أدعى للتقارب في مجال التفاهم الشخصي، مما يدعم من رابطة العربية الفصيحة ويوسع من دائرتها، وليس الغرض من هذه الجهود إبراز العامية كبديل للفصيحة فهذا ما لم يخطر لنا على بال، ولكن الهدف الأساسي هو التعرف على هذه اللهجة بردها إلى أصولها وتحليل جذورها، حتى نستطيع أن نعرف عن أنفسنا أكثر مما نعلمه. إنها عملية مسح فكري وثقافي لازمة كمقدمة لأية دراسة جادة عن المجتمع السوداني كنموذج لأي مجتمع عربي آخر في بيئاته المتباينة) . لقد كان للغة الدوبيت الخاصة والعامية الأثر البالغ في صورته، ففيها يهمل الإعراب مما ينجم عنه كثرة الساكنات والتقاؤها، كما تحذف حروف الكلمة مثل أنت التي تصير إت، وسويت له التي تصير سيتله، وولد تصير ود، وبنت تصير بت، وامرأة تصير مره، ونصف تصير نص. وقد تستبدل الحروف كسأل فتصير سعل، وكفقأ تصير فقع، وأين تصير وين، وأراه تصير وراه، ويمكننا أن نقيس على ذلك في حروف إخرى كالثاء التي تصير تاء كثلاثة تصير تلاتة، أو تصير سيناً كحديث التي تصير حديس، والجيم دالاً كجيش وجحش فتصيران ديش ودحش، وغير ذلك من الأحرف. كما يكثر القلب في العامية السودانية، ومثال لذلك ضج تصير جض، وزواج تصير جواز، ونضج تصير نجض، ولعن تصير نعل. كما نجد الزيادة تدخل في العامية على بعض الكلمات ومثال ذلك كلمة سلط التي تصير سلبط، وسمر تصير سمكر، وعنق تصير عنقره، ومثل لوح تصير لولح ، ومثل طوح تصير طوطح. ويتسلل النحت للغة العامية فما عليك شئ تصير معليش، وعلي شأن تصير علشان، ولأي شئ هو تصير ليشنو، وهذه الساعة تصير هسع، وبلا شئ تصير بلاش، ولأي شئ هو تصير شنو. وهنالك ظواهر لغوية عامة كإدغام الهمزة في لام التعريف وتشديدها فالأسد تنطق اللسد، والآبرى تنطق اللابري، واستعمال أل بمعنى الذي ككلمة الليك أي الذي لك، كما تستبدل هاء الملك للمذكر المفرد واواً خفيفة أو ضمة، وهاء الملك للمؤنث المفرد الفاً خفيفة أو فتحة، وللجمع نوناً. وغير ذلك من الظواهر العامة كما نجد أن هنالك ظواهر محلية تظهر لدى بعض القبائل والجماعات على الرغم من أن عامية السودان في جوهرها وإطارها العام عربية صحيحة شكلاً ومعنى، إلا أنها تأثرت إلى حد ما من ناحية التركيب والمحتوى ببعض المؤثرات غير العربية كالبجة، والنوبة، والقبائل النيلية والفورية والمصرية القديمة والقبائل الغربية المجاورة للفور، وما أتي من مصر والمغرب، والألفاظ السريانية واللآرامية والأثر السامي والتركي والأوربي . ثالثاً/ أنواعه: رأيت أن أبني خطتي للتعريف بأنواع الدوبيت السوداني على محاور أربعة، إذ وجدت صعوبة بالغة في تحديد أنواع الدوبيت بطريقة شاملة من زاوية واحدة، إذ إن ذلك لا بد أن يأتي قاصراً،وقد بدا لي أن المحور الرابع الذي حددته ضمن هذه الخطة يتخذ شكلاً أساسياً في أنواع الدوبيت السوداني، وهذا ما يبرر الاسهاب الذي تناولناه به. وتتمثل المحاور الأربعة التي حددناها أولا في محور الغناء والإنشاد، وثانياً في محور الشكل الهندسي، وثالثاً في محور التطور التاريخي، ورابعاً وأخيراً في محور البناء والهيكل الفني. وقبل أن نلج في ركاب المحور الأول في تنوع الدوبيت، لا بد أن نذكر بأن الدوبيت فن شفاهي يعتمد على الإلقاء أو التنغيم أو الإنشاد كأساس لتداوله وانتقاله وانتشاره، رغم أهمية التدوين كأداة لتوثيقه وحفظه وحفظ نسبته بعيداً عن التحريف والتبديل والنحل والادعاءات والسرقات والروايات الفاسدة، إلا أن الكتابة أو التدوين لا يحفظ للدوبيت وحدته الصوتية الصحيحة بشكل دقيق، وعِلَّة ذلك أن لغة الدوبيت لغة غير معربة، كما أن التدوين يقصر عن تلافي العيوب الوزنية التي تجيئ أحياناً في الدوبيت، وتعالج عن طريق التنغيم والتمطيط الصوتي، وغنيٌّ عن القول إن الاختلالات الوزنية التي تظهر أحياناً على الدوبيت لا تجوز إطلاقاً في الشعر العربي، رغم ذلك فإن المتأدب بأدب الدوبيت والمتمرس في فنونه والسالك في دراسته وشعابه والمنتمي إلى جهاته والمتشرب من ينابيعه الأصيلة، يدرك بسهولة وحدته الصوتية من خلال الكتابة والتدوين. تنوع الدوبيت من حيث الغناء والإنشاد، وأخذ ضروباً متعددة كالضرب الغنائي المسمى بـ "الشاشاي" الذي يرد كثيراً في المدائح النبوية، و كـ "الهوهاي" الذي ينتشر في شمال السودان ويبرز بشكل خاص في أغاني النشيل، وهي الأغاني التي يترنم بها الذين يردون الماء من الآبار، وهنالك "البوباي" وهو ضرب من اللحن انتشر وعم معظم أنحاء السودان، كما نجد "الدوباي" الذي يعتبر ذؤابة الفن الغنائي في الدوبيت، وهو فن عريق وضارب في القِدم ومتأصل في المزاج الفني للشعب السوداني، وهناك "الجابودي" وهو نوع من الغناء الشعري وضرب من الرقص مشهور، ويتكون الشعر فيه من ثلاث شطرات. وفي غرب السودان نجد أن الدوبيت يتنوع عندما يتخذ ضروباً وأشكالاً غنائية أخرى كـ"البوشان" الذي يعرف بهذا الاسم كذلك لدى القبائل العربية المقيمة في مناطق الالتقاء بين الصحراء والأرض الزراعية في محافظة الشرقية في مصر، والبوشان شائع لدى قبيلة الرزيقات، وينقسم في شأن الغزل إلى ثلاثة أقسام هي: "اللبادة" التي تعرفها أيضاً قبائل دار حمر في غرب كردفان، و"الشتيل" ويعرفه الجوامعة والبديرية في وسط كردفان، و"السنجك" ويعرف عند قبيلة بني هلبة. والبوشان يتغنى به الفرسان إلا أننا نعرف فيه أشكالا متفرعة كبوشان الرثاء الدي يسمى أحياناً "بكائية"، وكبوشان المدح الذي يأخذ أحيانا اسم "الكاتم" الذي يصحبه التصفيق والرقص بالرقبة من الرجال والنساء، على أنه ينحصر لدى الحكّاَمات اللاَّتي يتغنَّين به نهاراً ويمتاز لحنه بالهدوء، وكبوشان الفخر الذي يأخذ أحيانا اسم "تر اللوم" وهو أشبه بالنشيد الحماسي الذي يُلقى ليرتفع بالحماسة لدى الرجال في الحرب، كما نجد "المشكار" الذي لا يختلف عن البوشان من الناحية الشكلية ولكن تتنوع فيه أغراض القول، وفي غرب السودان نجد "القندلة" وهي أغانٍ ورقصات يشترك فيها الشبان مع الشابات داخل حلقة الرقص ذات توقيع بالأرجل والصفقة، وتنتشر بصفة خاصة لدى قبائل الحمر، كما نجد في كردفان "التوية" وهي ضرب من الغناء والرقص والوزن، وكذلك "الكدنداية" التي تعتبر أيضا ضرباً من الغناء ووزناً من الشعر، ويعتبر "الجراري" و "المردوم" من أشهر ضروب إنشاد الشعر في غرب السودان، ولعل الجراري منسوب لقبيلة بني جرار، ويكثر المردوم لدى قبائل الحمر والبقارة، وهو أيضا نوع من الرقص، ويعرف كذلك في غرب السودان باسم "المردوع"، وهناك "الهسيس" وهو من الإيقاعات خفيفة الأداء وقصيرة الأوزان والكلمات، وينتشر بصفة خاصة لدى قبائل الكبابيش، كما نجد "الربق" وهي طريقة غنائية سريعة تتلاءم مع خفة الوزن الذي نشأ به، وينتشر لدى الشايقية والمناصير والرباطاب والجعليين وبادية البطانة وحوض نهر عطبرة وفي شمال كردفان، وهنالك "الهبي" وهو لون مربع من النظم ويغنَّى وخاص بقبيلة البجة في شرق السودان، كما توجد الأشكال الدوبيتية المُغنَّاة في شمال ووسط السودان كأغاني "الصبيان والصبيات" وأغاني "السيرة" وأغاني "الحِنَّاء". على أنه يجب أن نتنبَّه بأن محورنا الأول هذا في شأن أنواع الدوبيت الذي يتخذ أساسه من الغناء والإنشاد والتنغيم، والذي حاولنا جاهدين أن نأتي على صورته كاملة، يشكل بصفة عامة شعر الغناء لدى القبائل السودانية، كما يمثل الأشكال الغنائية الأخرى التي تعتمد أشعارها على فن الدوبيت، وبالطبع فإن أشكال الغناء في ذاتها لا تدخل ضمن دراستنا في هذا المحور، وهي دراسة تعرَّضَتْ لها مصادرأخرى . أما من حيث محور الشكل الهندسي فينقسم الدوبيت إلى ثلاثة أنواع، فإما أن يكون "ثلاثياً" أي يتكون من ثلاث شطرات ويطلق عليه مسمى "الأعرج" لما يلازمه من شعور بالتقصير في بنائه الفني، وقد أضحى اللجوء إلى هذا النوع نادراً، وإما أن يكون "خماسياً" أي مكوناً من خمس شطرات وهذا النوع غير شائع، لذا بات الركون والارتكاز في الدوبيت من حيث الشكل الهندسي هو النوع الثالث، وهو الشكل "الرباعي" الذي يتكون من أربع شطرات باعتباره الأكثر شيوعاً والأبعد أصالة والأكثر استقراراً، وهو النوع الذي ينطبق عليه تعريف الدوبيت كاصطلاح فني. ومن حيث محور التطور التاريخي فينقسم الدوبيت إلى ثلاثة أنواع هي: "الدوبيت الفارسي المعرَّب" و"الدوبيت الرجزي" و "الدوبيت الحضري"، والدوبيت الفارسي المعرَّب هو شكل أخذه العرب المشارقة في العصر العباسي، ونظموا فيه بالفصحى، وقد انقرض هذا النوع ولم يتبق منه إلاَّ نماذج قليلة باللغة الدارجة من شعر الشكرية، والدوبيت الرجزي نوع ظهر في البادية ومازال مزدهراً فيها، والنوع الثالث وهو الحضري ويمثل تاريخياً المرحلة الأخيرة بعد انتشار الدوبيت الرجزي في أنحاء السودان الشمالي، حيث شمل أوزاناً أخرى متنوعة ويكثر هذا النوع في المدن والقرى وفي المناطق النهرية بصفة خاصة. ومن حيث المحور الرابع والأخير المتعلق بالبناء والهيكل الفني، فإن الدوبيت ينقسم إلى ثلاثة أنواع هي: "الرباعية" و"الربقية" و "المسدار". والرباعية كما رأيناها في المحور الهندسي تتكون من بيتين مكونين من أربعة أشطار، وتأتي كوحدة مستقلة بذاتها تعبر عن فكرة محددة، أو تحمل معنى معيناً أو تستوعب خاطراً عابراً، وتعتبر الرباعية هي الأساس لفن الدوبيت والأساس لهذا المحور، إذ تلتئم في النوعين الآخرين منه وتكونهما، فالنوع الثاني في هذا المحور هو الربقية، التي تتكون من نحو ثلاث أو أربع رباعيات، وتكون متصلة القافية، ومتحدة في موضوعها وغالباً ما تكون في "الغزل، ووصف محاسن الفتاة، أو التشوق إلى الحبيبة، أو شرح حال المحبوب، وما يتجرعه من مرارة الشوق والفراق" . وتعتبر المربوقةـ الربقيةـ من أصعب أنواع الشعر الشعبي صناعة، وتستعصى على أصحاب الملكات الضعيفة، إذ تتطلب ذخيرة لغوية كافية وتخيراً في الألفاظ والمعاني والكلمات ذات الرنين والجرس العالي، ولعل النموذج الذي أوردناه يعد مثاليَّاً في شأن المربوقات، ونلاحظ أنه تميز بشكل خاص في قافيته التي جاءت بلزوم ما لا يلزم. وللمربوقة نوع آخر يتشابه إلى حد كبير مع المجادعة أو المجاراة، وذلك عندما يتنافس شاعران أو ثلاثة شعراء في تأليف رباعيات في معنىً وموضوع واحد، ولا يشترط في ذلك اتحاد القافية، لكن يجب في غياب اتحادها أن يبدأ الشاعر المنافس مربعه بذات الكلمة التي بدأ بها الشاعر الأول مربعه، ولا تثريب أن تكون أكثر من كلمة، وهذا يخضع لاتفاق الشعراء في المنافسة. هذا ما كان من أمر الربقية، أما المسدار الذي تكون الرباعية لبنته الأساسية فهو مصطلح شعري، وجمعه مسادير، ويمثل نوعاً معيناً من القصائد الشعبية التي تسير على نمط الرجز الرباعي، ويُعنى بسرد ومتابعة رحلة الشاعر إلى ديار محبوبته أو إحدى صديقاته من الغواني، وهي كلمة مشتقة من الفعل سدر بمعنى ذهب ولم يثنه شيء، وإذا قلنا سدر الرجل في البادية فالمقصود أنه ذهب فيها لا ينثني، ويرى الدكتور عبد المجيد عابدين أن أصلها قد يعود للفعل سرد بمعنى فصل القول ورواه، غير أنه حدث قلباً في الكلمة فصارت مسدار، غيره ذهب إلى أنها قد تكون من صدر أي رجع عن المكان أو صار إليه وقلبت الصاد سيناً، ونجد أن المسدار في البطانة يعني المرعى أو المورد الذي تتجه إليه البهائم، وقد تجيئ كلمة مسدار لتعني القصيدة مطلقاً، واستعمل هذا المعنى في نطاق القصائد الغزلية من الدوباي، كما استعمل في نطاق المدائح النبوية، على أننا قد وجدنا أن الرأي الغالب لدى الباحثين لمعنى المسدار من حيث أنه قصيدة شعبية، وهو حكاية قصة أو رحلة سفر تبدأ بالاستعداد لها وتجهيز الراحلة، وهي عادة جمل أصهب أو بشاري يحتمل السفر الطويل، ثم يبدأ الشاعر في وصف معالم الطريق وما فيه من وديان ووهاد وجبال وحظائر ومزارع وقرى، وفي هذا الأثناء يخاطب جمله ويشجعه على تحمل السفر وعلى المزيد من السرعة، والجمل يرد عليه في أنس جميل بأنه أهل لهذه الرحلة التي تنتهي بهم إلى موطن المحبوبة، ثم يبدأ في ذكر تباشير الوصول واستقبال المحبوبة ثم مكافأة الجمل بالغذاء الجيد لإنجازه المهمة، ثم الاهتمام بالضيف والاستمتاع باللقاء المنتظر بعد شوق وغربة. وقد يحتوي المسدار على أكثر من أربعين رباعية كما هو الحال مع مسادير أحمد عوض الكريم ابو سن اعتماداً على طول الطريق من نقطة البداية إلى نقطة النهاية. ويقول الدكتور سيد حامد حريز في كتابه ( فن المسدار) إن للمسدار هيكلاً وبناءً معهوداً قلَّ أن يخرج عن إطاره، وهو يتطرق في نسق وتدرج للموضوعات التالية: الاستعداد لرحلة الحب وتهيئة الجمل وصاحبه لها. بداية الرحلة. وصف الطريق لديار المحبوبة، ويتخلل ذلك وصف الشاعر لهذا المحبوب ووصف الجمل الذي يجمع بين المحبين. تباشير القرب من ديار الحبيب. الوصول والاستقبال. ما بعد الوصول من تمتع المحبين باللقاء وبأنس الهجوع . وعرف الأستاذ الباحث الطيب محمد الطيب المسدار بأنه تطور للشعر المربع، لأن الهيكل البنائي للمسدار يتكون من تلك المربعات التي يتحدث عنها، وأنه فن قائم بذاته ووحدته هي القصيدة ذات النفس الطويل التي تحكي تجربة متكاملة.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: munswor almophtah)
|
الفصل الثالث شذور حول الأدب العالمي
مقتطفات من الأدب الفارسي وتاريخه
عمر الخيام كما تخيله الرسام
آثار فارسية قديمة هنا دُفِن سايروس ، و هذا القبر لا يزال في إيران إلى اليوم. كانت آخر كلماته: "أنا سايروس ، أنا الذي أنشأ إمبراطورية الفرس .. لا تستاءوا إنْ أخذت قليلاً من هذه الأرض لتغطي جسدي" (أ) مقتطفات من الأدب الفارسي وتاريخه إذا كان الأدب في معناه الحديث بصفة عامة ـ يعني أصول فن الكتابة، ويُعنى بالآثار الخطية والنثرية والشعرية، ويعبر عن حالة المجتمع البشري، ويحيط بالعواطف التي تعتمل في وجدان الشعوب أو طائفة من الناس أو أصحاب حضارة من الحضارات، ويصور الأخيلة والأحلام وما يمر في الأذهان من خواطر ويحيلها إلى نص بديع، يرفرف بجناحي الفكر والفن، متخطياً حدود الزمان والمكان، كاشفاً عن مكنونات الشخصية بسمة المزاوجة بين المضمون والشكل، ليجعل منها وحدة فنية ذات نسق وإبداع ـ فإن الأدب الفارسي الذي نتناول هنا مقتطفات منه ومن تاريخه لايقع خارج إطار هذا المعنى، وإنما هو طائرٌ يغرد في ذات السرب في تناغم وانسجام، ويستقي من مناهل الجماليات في التراث الأدبي الإنساني، التي قادت إلى ما يُعرف بالأدب المقارن ،حيث إن الإلمام بالحركة الأدبية العالمية يحدد مكانة الشعوب ودورها، ويمهد الطريق لإقامة موازنة بين العوامل المحركة للقرائح، وتلك التي تتبعها، وتقود للتعريف بتلك التيارات‘ المنبعثة وتطورها عن طريق رفضها للعناصر المتفجرة من الواقع المحلي. وإذا كانت الحقائق التاريخية تؤكد أن الأدب في عصوره القديمة كان مستقلا عما سواه لافتقاد الوسائل اللازمة للتواصل، إلا أن الأمر بدأ يختلف كثيرا في عصرنا الحديث، فقد ساعدت وسائل الإتصال الحديثة في انهيار تلك السدود التي كانت تحول دون امتزاج الشعوب، التي بدا أنها تستقي من منابع مشتركة، وتنزع إلى تقرير مبادئ متشابهة، على الرغم من تنوع اللغات وتفرق الأنصار في مختلف الأصقاع، إلا أن ذلك لم يمنع أن تتوحد الملامح أو تتقارب في متون التيارات الكبرى. الأدب الفارسي أو الإيراني القديم لم تعرف منه الا عبارات منقوشة في عهد الملوك "الأخيمينيين"، وبالكاد وصلتنا منهم نصوص كتبت باللغة "الزَّنديَّة" التي تتشابه مع الإيرانية القديمة، وتمثلت في آثار قديمة كمجموعة الأناشيد والقواعد التي سميت بـ"بالأفستا" وهي ما تألف منها كتاب "الزرادشتيين" المقدس الذي وقع تفسيره في متن كتاب الزند الذي وصل الينا من الأدب الإيراني القديم، وقد كانت اللغة الفهلوية هي الأداة التي إتخذها الادب القديم كوسيلة للتعبير عن كنه التعاليم الدينية. توقف النشاط الادبي الإيراني لفترة تربو على القرنين على إثر الفتح العربي الإسلامي، وأخذت اللغة الفارسية الجديدة تتأثر تأثراً عميقاً باللغة العربية، وأضحت أداة تفاهم وتبادل حضاري بين سكان قارة آسية الإسلامية بسمتها الهندي، وبنيتها الأوربية، وحرفها العربي. فأقبل عليها الأتراك السلاجقة والمغول، وأسهموا في الترويج لها ونشرها. وعندها بدأ الأدب الفارسي بفضل جهد الفرس وتضافر جهود الشعوب المجاورة لهم في الإزدهار، فأضحت بلاد مثل كردستان، والقفقاز، وتركستان، وبامير، وأفغانستان، وباكستان. وعدد لايستهان به من سكان الهند يعتمدون على الفارسية في الإبانة عن خواطرهم. فإن كانت هذه الشعوب المتنوعة الجذور العرقية قد شاركت في إنتاج هذا الأدب إلا أن خصائصه العامة والأساسية ـ كما يقول الدكتور جبور عبد النور ـ ظلت ثابتة وإن تعددت إنتماءات العاملين فيه، وكذلك إيحاءاته الذهنية ومثله الجمالية الخاصة به التي كانت كافية لتسبغ عليه صفة الفرادة والتميز. فالأدب الفارسي في واقعه وفي منطلقه أدب بلاط وأدب مجتمع إقطاعي ونتاج نخبة مثقفة رهيفة الحس تائقة دائماً إلى جمال الشكل وأناقة التعبير، ويطغى فيه الشعر على النثر، وإن زخر أيضاً بعدد من المؤلفات الفلسفية والموسوعية والتاريخية والدينية والقصصية، التي تتساوى جودة وعمقاً مع ما يشبهها في الأدب العربي. لعلنا واجدون أن الملامح والحكائيات والغنائيات والأخلاقيات والصوفيات هي أكثر ما اندرج تحت الشعر الفارسي، والذي تتألف أبياته من صدر وعجز كطراز الشعر العربي، ولكن ينبني على أربعة من بحور التفعيلات تتمثل في ( المثنوي المصرع) الذي نجده رائجاً في الشعر الغنائي المؤلف من مقاطع ذات القوافي الواحدة (الرباعي) المنظوم من أربعة شطرات كبنية محددة تعبر عن فكرة أو ومضة عاطفية. وأخيراً الدوبيت وهو نوع من الرباعيات وكلمة دوبيت كما يرى الكثير من النقاد تتكون من مقطعين (دو) وهي كلمة فارسية تعني الرقم إثنين و(بيت) وهي كلمة عربية تعني البيت من الشعر. ويختلف الدوبيت عن الرباعي في الوزن إذ إنه يندرج تحت بحر آخر أقرب ما يكون للشعر المقطعي إذ يأتي وزنه في الصدر والعجز فعلن متفاعلن فعولن، وهي رجز يحتفظ بحرية معينة في التقفية. وعموماً فقد عرف الشعر الفارسي أقسام الشعر كما عرفها العرب من رثاء وهجاء وغزل إلى آخر هذه الأغراض واعتمد قائلوه في إخراجه على الأساليب الشائعة في أبواب البديع. قسم الباحثون الأدب الفارسي إلى عصور تبلغ الخمسة، إبتداءً من عصر الخلفاء والممالك المحلية في القرنين التاسع والعاشر، والذي وضع فيه المسعودي النص الأول لملحمة(الشاهنامة) وقدم علي البلعمي ترجمته لشرح القرآن الكريم للطبري. ثم يجيئ عصر السلاجقة الذي عاش فيه عمر الخيام ونظم رباعياته والشاعر النظامي الذي إشتهر بديوانه (الكنوز الخمسة). وبانقضاء القرون الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر انقضى عصر المغول، الذي أعتبر مرحلة ذهبية في تاريخ الشعر الصوفي، وتدفقت فيه الألفاظ العربية على الفارسية، وبرزت فيه أسماء شهيرة(كالعطار) و(سعدي شيرازي) و (جلال الدين المولوي الرومي) و(حافظ الشيرازي). ليبدأ العصر الرابع المسمى بعصر الاستقلال بداية بالقرن السادس عشر وإنتهاءً بالقرن التاسع عشر، وهو عصر انحطاط أصيب فيه الأدب الفارسي بالجمود وإن لم يخلُ من إشراقات كأشعار(الهلالي) وأعمال الباحثين المحققين(أمين الرازي) و (زين شرواني). وبإنتهاء هذا العصر بدأ العصر الخامس والأخير وهو العصر الحديث والمعاصر، والذي تقهقر فيه الشعر مفسحاً المجال للنثر، وفيه تسربت النظريات الغربية للأدب الإيراني بصور متنوعة ومتبدلة، وقد أسهمت في تشويه ملامح أدبها الأصيل والتقليدي، وإن وافقت فيه نخبة من الكتاب الإيرانيين بين تقاليدهم المتوارثة والمدارس الفنية الحديثة، وكشفوا بذلك عن مهارات حقيقية، وبرزت من هذه النخبة أسماء ( كصادق هوايت) مؤلف (البومة العمياء) و(جمال زاده) صاحب المؤلفين (ذات يوم) و(بيت المجانين). إذا أردنا أن نتعرض لبعض النماذج من الأدب الفارسي الزاخر بالأسماء السامقة، كعمرالخيام ورباعياته ،وسعدي وبستانه، وحافظ وديوانه، فهذا لن يكون حائلاً لأن نتخطى الشاهنامة، تلك الملحمة الفارسية التي تعني(كتاب الملوك) لأبي القاسم الفردوسي، الذي أنهاها في حوالي العام1020م إذ إنها أثمن ما في الأدب الإيراني القديم، فقد تلاقت فيها التقاليد الملحمية الفارسية التي تجلت خلال ألف عام، منذ عهد الأفستا إلى بداية الأدب الفارسي الجديد، وكان لها تأثير على كل المصنفات التي وضعت من بعد، حيث أن لغتها كانت الفارسية المستحدثة. تغنى فيها الشاعر الفردوسي بتاريخ الإنسانية وإيران معاً خلال عهود طويلة، وصولاً إلى انهيار الدولة الإيرانية في أيام الفتح العربي الإسلامي. وقد وصف الدكتور جبور عبد النور القسم الأول منها بأنه أبرز ما فيها إذ يتضمن بدايات التاريخ القومي وسيرة الأبطال الأولين أمثال (جمشيد) و (فريدون) و(سام) و(زال) و(رستم) معروضة في إطار عام لحياة البلاط وأحداث الحروب، ويشير إلى إقتسام أبناء فريدون الحكم ونشوب الخلاف بين الفرس والطوارنيين في آسيا الوسطى، وإلى قيام أسرة مالكة جديدة، وإنتشار دين زرادشت، وإلى حروب الإسكندر وفتوحاته. المعروف أن الملحمة تقع في ستين ألف بيت تقريباً، وتعبر خير تعبير عن خيال صاحبها، وتوقه إلى الجمال الفني، وإلى الإبانة عن مشاعره القومية، وحبه لبلاده ولشعبه. فقد ظل هذا الشاعر الملحمي عاكفاً ولمدة خمسة وثلاثين عاماً على إنجاز الشاهنامة وإنهائها وهو في عامه الثمانين. وله ملحمة أخرى نظم فيها حكاية(يوسف وزليخة)، وإن اشتهر في مستهل بداياته الشعرية بالقصائد الغنائية. ولابد أن يكون هذا الشاعر مثالاً لمفهوم الإلتزام في الأدب أو الإلتزام عند الكاتب عموماً. وأخيراً لابد أن نشير إلى الأدب الشفوي الذي تزخر به ساحة الآداب الفارسية، والمتمثل في مجموعة الأساطير والحكايات الشعبية والتي تنتقل من جيل إلى آخر، والذي يمثل في مجمله مصدراً من مصادر الدهشة المفعمة، التي يفتقدها أولئك الذين غاب عن ماضيهم التاريخ المرصع بالحكايات والمزين بالأساطير.
مقتطفات من الأدب الياباني
المترجمة الأدبية والإعلامية الإماراتية الدكتورة ''هيام عبد الحميد''
لأديب الياباني " كواباتا يسوناري" الحائز على جائزة نوبل للآداب
(ب) مقتطفات من الأدب الياباني تسمى المجموعة اللغوية التي تشمل اللغات المغولية والتركية وما تفرَّع منهما باللغات «الألتية»، وإليها تنتمي اللغة اليابانية. غير أن تطورها ومراحل نشأتها الأولى غابت عن معرفة مؤرخي الأدب، حيث إن النصوص التي وصلت إليهم منها تواثبت بحلول القرن الثامن الميلادي، أي بعد أن شبت عن الطوق واجتازت مرحلة الطفولة وشاعت فيها ملامح الفتوة. وقد اتخذ الكتاب في ذلك العهد القديم لغة تراثية فصحى بطيئة التطور هي لغة «البونغو» ليعبروا من خلالها ما أمكنهم عن خواطرهم وكتابة أفكارهم. وقد أُهملت هذه اللغة بحلول القرن التاسع عشر، بعد أن انفتحت اليابان على الحضارة الغربية وحلت مكانها عامية طوكيو، مما جعل قراءة النصوص القديمة عسيرة على الجيل الحالي. والمتفق عليه أن الخط الياباني مقتبس من الخط الصيني، إلا أن ذلك لم يتم بطريقة علمية أو بطريقة نهائية، حيث أن اليابانيين اكتفوا باستعارة واحد وخمسين مقطعاً من الكتابة الصينية لإخراج الأصوات الشائعة لديهم. بدأت ملامح الأدب الياباني تتضح عند تأسيس «نارا» عاصمة اليابان الأولى الإدارية والدينية، فقد ترافق مع هذا التأسيس بروز مجموعة الوثائق الحكومية كطلب الأباطرة وكبار الأمراء، ولحقت المؤلفات الدينية بها أو تلك التي تعالج العادات والتقاليد، وهي مرحلة سادتها إلى حد كبير آثار «بوذا» و«كنفوشيوس واتباعهما، كما قوي فيها التيار الصيني وبحلول العام 794 الميلادي عندما انتقلت العاصمة إلى «كيوتو» أخذت العناصر المكوِّنة للتراث الياباني بالبروز تدريجياً إلى أن تألفت منها ثقافة متماسكة وواضحة المعالم، وبدأت كتابة الأحداث التاريخية والسير والمذكرات والحكايات وجمع الشعر. وبإطلالة العام الألف الميلادي بلغ الأدب الياباني مستوىً رفيعا،ً وذلك في عهد الامبراطور «ايشيجو» فنهض في البلاط الشعر باللغتين اليابانية والصينية، وظهرت دواوين من الشعر لعل أهمها ديوان الشاعرة «موراساكي» التي عرضت فيه حياة المجتمع الارستقراطي والتي كانت جزءاً منه، إذ أنها كانت تعيش في البلاط وذلك من خلال سيرة الأمير «جنجي» وابنه الأمير «كاورو» وديوان «مدونات الوسادة» للشاعرة «سي شو ناغون» الذي عني أيضاً برسم صور الحياة في البلاط بمنأى عن السياسة. واعتبر النقاد هذا الديوان من أفضل ما ظهر في تلك المرحلة، وقد ظل هذان الديوانان محل تقليد للاحقين من الأدباء، فظل ما فيهما من فن رائجاً إلى القرن العشرين. لليابان تاريخ زاخر تزينه الأساطير والحكايات لذا كان لكتابته منزلة رفيعة في الأدب الياباني المتأخر، اتخذ فيه أسلوب الفكاهة والإشارات التاريخية معيناً للتعبير عن ماضي اليابان وما جاورها من أمم كالهند والصين، وهي مرحلة أدبية انتهت بنهاية القرن الحادي عشر. وبحلول القرنين الثاني والثالث عشر تناولت الأقلام وجرى مدادها لكتابة تاريخ البلاد عاماً فعام عن طريق الحواريات الخالدة التي تناقلت من جيل إلى جيل، ومن خلال ذلك تم شرح ما جرى في ميادين القتال وبخاصة أبناء الطبقة الأرستقراطية المقاتلة، ومن أهم المصنفات التي ظهرت في هذه المرحلة كتاب «بطولة هيكة» الذي امتدت ظلاله الأدبية حتى القرن الخامس عشر. ثم بدأ الأدب الشعبي في الظهور من خلال القرنين السادس والسابع عشر متأثراً باللامركزية على الرغم من المعارك التي دارت رحاها في العاصمة مما جعل المدن الصغرى تزدهر أدبياً باستقطاب عدد كبير من كتاب الإمتاع والتسلية. نشطت الآداب التراثية عن طريق استنهاضها بواسطة اللغويين معالجين موضوعات شتى ما بين أخبار الحروب والكتابات النفسية، وقد ازدهر هذا النشاط إبان عصر «اوزاكا» 165-175 وفيه ازداد العمل المسرحي، إذ تم افتتاح مسرح كبير في اوزاكا، وقد نسبت لهذا العصر حوالى (170) مسرحية للكاتب المسرحي «شيكا متسو منزايموت» الذي ذاع صيته وتألق اسمه تألقاً كبيراً آنذاك، وفي هذا العصر ظلت معظم الفنون الحديثة في تنافس وتقدم وتقهقر متصلة بذات النسق طوال عصر «إيدو» 1603-1868 إلى أن أقبلت تيارات الأدب الغربي لترفد الأدب الياباني بمبادئ وأفكار جديدة. ولعل مرحلة الإمبراطور «ميجي» 1868-1912 حملت الأدب الياباني نحو التقنية وتبسيط المعارف والعلوم وظهرت فيه موسوعات عامة عن الحضارة الأوربية، وإن ظل التمسك بالماضي عن طريق الكتاب المحافظين يمثل قوة على الساحة الأدبية المحلية، وقد رافق الميل إلى الغرب ظهور الرواية بمفهومها الحديث وبمدارسها المأثورة فتلاقت في ساحاتها مذاهب المحللين النفسانيين والواقعيين والطبيعيين، غير أن مرحلة «تيشو» 1912-1926 حملت قصصاً حول موضوعات تاريخية مستقاة من المآثر الغابرة. وتواضعت في العام 1910م نخبة من الفتيان حول مجلة «شجرة السندر البيضاء» متأثرة بالكاتب الروسي تولستوي والبلجيكي ما ترلنك، وانتجت آثاراً جمة ومتنوعة في مضامينها مثيرة في بيئتها شتى القضايا. وفي مرحلة «شوا» من العام 1926م وإلى الآن برز تياران رئيسيان مختلفان في الموضوع والأسلوب والغاية يتمثل الأول في تيار ما قبل الحرب العالمية الثانية والآخر برز بعد الحرب وقد غلبت الاتجاهات السياسية في التيار الأول وفي مجراه نشأت رابطة الفنانين العمال المعارضة للجماعات الأخرى ومثلها الكاتب اليساري «كوبيا شي تكيجي»، وبرز في التيار الآخر كتاب ملتزمون يمثلون سياسة اجتماعية مخالفة للاتجاه السابق وفيه ظهرت روايات صيغت بأسلوب شعري أشهرها «سمبا زورو» للكاتب كواباتا يسوناري 1899ـ 1972 الحائز على جائزة نوبل للآداب العام 1968 لإبداعه النثري المكتوب بلغة شعرية راقية وغامضة. وفي اليابان حالياً كثير من الأدباء الذين ينتمون إلى المذاهب الفنية العالمية بيد أن الروح اليابانية الأصيلة تتراءى في آثارهم ومن أولئك الكاتب ميشيما يوكيو والكاتب اوي كنز بورو. امتاز الادب الياباني بالبراعة في القصص القصيرة، ومن التراجم المهمة في مجال القصص القصيرة كتاب «الشاعر النمر» للأديبة الاماراتية هيام عبد الحميد والتي أوردت بين دفتيه مجموعة من القصص القصيرة بترجمة جيدة من اليابانية إلى العربية، كالقصة التي جاء الكتاب على اسمها، والقصة ذائعة الصيت «الوشم»، وقصة «الأسمنت»، وغيرها من القصص التي تراوحت ما بين القصة الواقعية، والقصة الاسطورية، والقصة الرومانسية، والقصة الصدمة. ولعل الأديب القاص شيفاناويا المولود في عام 1883م يعتبر من أهم الروائيين الذين تركوا آثاراً مهمة في مجال القصة القصيرة، رغم أنه روائي ممزق النفس، قلق الطبع. وقد مر بتجارب وجدانية عصيبة، غير أن وساوسه النفسية أخذت بالتلاشي مع مرور الزمن، لا سيما بعد تركه للديانة المسيحية وارتداده إلى عقيدة أجداده. وقد برع في دقة الألفاظ ، وأناقة الأسلوب في رواياته القصيرة التي أقبل عليها أبناء جيله بحماسة، منها «وفاق»» و«جريمة المشعوذ» و«الطريق في الليلة الظلماء» وتعتبر روايته التي أسماها باسم بطلها «اكانيشي كاكتيا»، من آثاره المرموقة والتي حيَّر بها قراءه ونقاده، لأنه شذ بها عن كل مفهوم لفن الرواية آنذاك. وهذه الرواية ذات الثلاثين صفحة والتي تم نشرها في عام 1917، كانت جديرة بأن تأخذ بيد صاحبها لتضعه في مصاف مشاهير عصره. فقد تناولت حبكتها أحداثاً ومؤامرات جرت خلال القرن السابع عشر في إحدى الأسر الإقطاعية الشمالية، وقد أحكم المؤلف بين مختلف أجزائها إلى ما يشبه التناغم بين أقسام القطعة الموسيقية الواحدة، مما جعل اليابانيين يقبلون عليها بشغف، فشاعت في جميع الطبقات وأغرت الفن السابع فاستوحى منها فيلماً بالعنوان نفسه. لئن كان الأدب على وجه العموم يعبر في محيطه الخاص عن محلياته ويلتزم فيه الأديب أو الكاتب بإبراز تاريخ وقضايا وطنه من خلال ما يتميَّز به من شمول وعمق وفرادة ومؤهلات فكرية وتعبيرية، إلا أن إشاراتنا التعريفية للأدب الياباني أو غيره من الآداب العالمية بفتح المجال للتنافذ الأدبي والتناطح الفكري لهذه الآداب العالمية عن طريق إغنائها بالمقتبسات وظهور بنية جديدة مبتكرة في عالم أحالته ثورة الاتصالات الحديثة إلى قرية صغيرة.
تولستوي وفن الرسائل
جورج برنارد شو الكونت ليف نيكولايافيتش تولستوي
. (ج) تولستوي وفن الرسائل أصاب المؤلف ألأيرلندي الشهير برنارد شو كبد الحقيقة عندما أورد عبارته الخالدة في سياق رسالة الى صديقته والتي تقول «دعك من هؤلاء الذين يعيبون على علاقتنا أنها لا تخرج عن نطاق الورق، وتذكري انه على الورق فقط استطاعت البشرية أن تشيد صروح المجد والجمال والحقيقة والمعرفة والفضيلة والحب الخالد». ذلك لأنه أدرك مبكراً أهمية الرسائل، التي يعدها البعض امراً ثقيلاً ومملاً، وتغيب عن أذهانهم حقيقة دور الرسائل المتعاظم في حياة البشر، وأنها واجهة لاعماق الانسان وشخصيته، كما أنها وسيلة تفوق في تعبيرها وصدقها ما يستطيعه اللسان. ولكن الرسالة كفن عظيم يحتاج كاتبها الى الموهبة التي تعطي فنه المصداقية والتعبير الجيد والمؤثر عما يعتمل في دواخله، وما يختلج في وجدانه، من أحاسيس ومشاعر، وما يحمله عقله من صنوف المعرفة الادبية والعلمية. وللرسائل قوانينها وأعرافها الأخلاقية والشكلية والموضوعية، والإلتزام بذلك إلتزاماً صارماً يمنحها التميزعلى غيرها من وسائل الاتصال. من الذين إزدانت بهم قائمة فن الرسائل تولستوي-الروائي والمفكر الشهير وهو الكونت ليف نيكولايافيتش تولستوي ( 9 سبتمبر 1828- 20 نوفمبر 1910 ) من عمالقة الروائيين الروس ومن أعمدة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر والبعض يعدونه من أعظم الروائيين على الاطلاق. كان ليو تولستوي روائي ومصلح اجتماعي وداعية سلام ومفكر أخلاقي وعضو مؤثر في أسرة تولستوي. أشهر أعماله روايتي (الحرب والسلام) و(أنا كارنينا) وهما تتربعان على قمة الأدب الواقعي، فهما تعطيان صورة واقعية للحياة الروسية في تلك الحقبة الزمنية، وهو كفيلسوف أخلاقي اعتنق أفكار المقاومة السلمية النابذة للعنف، وتبلور ذلك في كتاب (مملكة الرب بداخلك) وهو العمل الذي أثر على مشاهير القرن العشرين مثل المهاتماغاندي ومارتن لوثر كينج في جهادهما الذي اتسم بسياسة المقاومة السلمية النابذة للعنف- الذي جاءت رسائله صادقة وذات تأثير كبير وأثر عميق، وقد جعلنا تولستوي نحس إحساساً حقيقياً بمعاناته وألمه وندرك عواطفه وطموحاته وأمانيه في رسائله العديدة التي تعد تجسيداً رائعاً لفن الرسائل، ومن تلك الرسائل الرسالة التي كتبها لزوجته التي أحالت حياته جحيماً، بسبب عدم إيمانها بتعاليمه ومبادئه، وأوغرت صدر أبنائه عليه، وحاولت سرقة الوصية التي تنازل فيها عن جميع حقوقه في مؤلفاته للشعب. غير أن غيرتها عليه التي إتسمت بسمات مرضية والتي كادت أن تأكلها أكلاً كانت من أهم الاسباب التي جعلته يُسطِّر لها هذه الرسالة التي ترجم فيها كل ألمه واحباطه. قال فيها : «عزيزتي الكونتيسة لن أرجع إليك هذه الليلة وسأمكث في بيت صديقي فيودور حتى أطمئن على مستقبلي معك وأثق أن كل شيء فيك قد تغيَّر، وقد تدهشك مني هذه الجرأة وهذا العزم ولكن ما حيلتي لم أعد أحتمل فحياتي بالقرب منك أصبحت بليدة وخاملة بحيث بت أخشى منك على شخصيتي وعلى عملي وعلى ما كنت أحلم به من عظمة ومجد، وأرى من واجبي في هذه الساعة الفاصلة أن أشرح لك كل شئ وأصارحك بالسبب الذي من أجله عقدت عزمي على مغادرة البيت. أنت يا عزيزتي إمرأة مصابة بجنون الحب والغيرة، لم يكد القدر يحقق أحلامك ويجعل منك زوجة لي حتى اضطرب عقلك واستعرَّت عواطفك وخيِّل إليك أن الزواج لم يخلق إلا ليكون وسيلة مشروعة يجب ان تسخَّر لخدمة الحب والغيرة، فالحب في نظرك ـ ولا سيما الحب المتقد غيرة وشكاً ـ هو المجهود الفرد الذي يجب ان تبذله المرأة في ظل الزواج وهو الغاية الوحيدة التي من أجلها نتزوَّج وهو المتعة الدائمة التي يجب أن يقدرها الرجل ويعيش فيها ولها، وهكذا أحببتني حباً صاخباً عنيفاً زيَّن لك خيالك الجامح أنه لا يجب أن يضعف ولا يجب أن يفتر ولا يجب أن يسبقه شئ أو أن يقف في وجه سيله الجارف أي شئ، وكنت أحبك أيضاً ولكني شعرت وواأسفاه أنك تحبين حبك وغيرتك أكثر مني وتحبين ملذاتك ونزواتك أكثر من صحتي وتحبين غرائزك اضعاف حبك لواجبك البيتي، على أن واجب البيت عندك هو الحب، فالعناية بشؤون زوجك لا تهمل، وتربية أطفالك لا تهمل، ومسؤوليتك حيال عملي وجهادي لا تهمل أيضاً، كل هذه الواجبات المقدَّسة تخضعيها لعاطفة الحب المقرونة بالغيرة، وما دامت هذه العاطفة مشتعلة في صدرك فأنت مبتهجة وأنت سعيدة وأنت معتقدة بل مؤمنة بأن زوجك هو الآخر لا بد أن يكون سعيداً، ولا بد أن يكون مثلك مؤمناً بأن ملذات وآلام الحب والغيرة ينبغي أن تظل فوق مصلحة العائلة ومصلحة الأبناء ومصلحة الكل وقانون الحياة بأسره، تلك هي نزعتك الطائشة ذلك هو شيطانك المسيطر، أنت عاشقة لا زوجة أنت انثى لا إمرأة أنت غريزة تسعى لا مخلوق إجتماعي عاقل متزن يعرف ما له وما عليه، وإني لأصارحك هنا بأمر حبك العاصف الغيور المخبول الذي أرهقني وأضجرني ولفني في شبكة مروِّعة من البلادة والكسل والخمول والظلام، والحق اني بت أبحث عن نفسي ولا أجدها وافتقد عقلي وأهيب بارادتي فلا اقع إلا على أعصابي الخائرة وقوايَّ المحطمة وعزمي المسلوب، نعم انها عدواك سرت إليَّ فأنا اليوم خائف منك وخائف من نفسي أن أطاوعك فأجهز بيدي على أحلامي ومستقبلي، وهذا الخوف المزدوج هو الذي دفعني إلى الرحيل إذ كيف يمكن أن أعيش مع زوجة تأبى إلا أن تمثل دور العاشقة المفتونة الغيور؟ إن الحب يا عزيزتي جميل ولكنه ليس كل شئ في الحياة وأروع ما في الحب هو التضحية فإذا لم تضحي ببعض حبك من أجل اسرتك وأولادك وزوجك فأية قيمة لهذا الحب؟ إنه ليتحول إذن إلى أنانية قاتلة، وأنا أحس أن حبي لك سيموت من فرط حبك وغيرته وجبروته المتسلِّط الأعمى، فثوبي الى رشدك وفكري وأمعني النظر وافهمي أن على الرجل فرضاً آخر غير الحب وعملاً آخر غير العاطفة ورسالة اخرى غير الفناء والموت بين أحضان إمرأة، فالرجل يعيش للبيت والعالم، للقلب والعقل، للأسرة والإنسانية، فلا تحبسيه بين جدران قلبك، ولا تسجنيه بين خبايا ضلوعك، ولا تقتليه في حيوانية بدنك، إنك إن أطلقت الرجل كسبته، وإن حررتيه أنقذته، وإن عفوت عنه ولو لفترات سموت به وقويته وشجعته وأغريته بعظائم الأعمال، فاطلقيني من ربقة حبك المجنون وإلا أطلقت نفسي، مكنيني بتضحيتك في سبيل أولادك وبيتك من أن اضحي أنا الآخر ببعض قوتي وشبابي في سبيل إنقاذ نبوغي وتوكيد عبقريتي وخدمة العالم، وأن أجد المرأة التي لا تتشبث بحب الرجل بل في استخدام حبها وحنانها في خلق الرجل، فأخلقيني بحبك بدل أن تقتليني، انقذي البقية الباقية من قوتي بدل أن تجهزي عليَّ، ولكنك لو استرسلت في غيك واتباع شيطان حبك وغيرتك فسيثبت لك الزمن أن في مقدوري أن ادافع بمفردي عن شخصيتي وأدافع وحدي عن عملي واستغني آخر الامر عن حبك كما استغنيت عن التفكير في مصلحتي. هذه رسالتي إليك فاقرئيها بإمعان وفكري ولا تنتظري أن أعود إلى البيت قبل إنقضاء شهر على الأقل فإذا عدت ووجدتك المرأة الطائشة نفسها والعاشقة المفتونة الغيورة نفسها فسأقبل يدك شاكراً وأعتمد بعد الله على نفسي وأودعك الوداع الأخير. {زوجك تولستوي} إن الصدق الذي كمن بين طيات رسالة تولتسوي التي استعرضناها هو من أهم عناصر فن الرسائل، وهو فن لا يستقيم بغير الموهبة والشجاعة والشفافية والايمان بالطرح، ويقيني أن الرسالة الناجحة هي التي يتحرر كاتبها من كل القيود ومن كل التيارات، فكتابة الرسالة هي التحرر بكل معانيه وأشكاله، سواء كان ذلك تحرراً عاطفياً أو اجتماعياً أو نفسياً أو سياسياً، لأن الحرية هي كل هذه الاشكال والمعاني، فهي ليست كلمة تقال أو طبولاً تقرع أو حفلات تقام أو مؤسسات تشيَّد، إنها كالطائر الطليق الذي لم تلده الاساطير، أو تقيده الجهات والأمكنة، فكتابة الرسالة الفذة جواد لا يستطيع ركوبه إلا الشجعان، وجبل لا يتسلقه إلا الأقوياء، ومملكة لا تفتح أبوابها إلا للمنتصرين.
مقتطفات عن علاقة الجنوح والإبداع عند الأديب الفرنسي "جان جينيه"
جان جينيه
سيمون دي بوفوار مع جان بول سارتر
مقتطفات عن علاقة الجنوح والإبداع عند الأديب الفرنسي "جان جينيه" إن الصلة بين حياة الأديب الفرنسي المعاصر (جان جينيه) 1910 ـ 1986 الذي نزع نحو الجنوح والشذوذ وإبداعه الأدبي هي صلة وثيقة تقع في إطار فهم الظاهرة الإبداعية لديه ويجب ألا نتحاشى ذكرها عند دراسة إبداع هذا الأديب المؤلف تحدياً للحقيقة وامتثالاً لمقولة إنه لاحياء في العلم وإن إماطة اللثام عن هذا الأديب الذي فضح نفسه ـ شأن الكثير من الأدباء العالميين ـ بصراحة شديدة واعترافات مذهلة تضع القارئ العربي أمام حقيقة أن الحرية التي يتمتع بها الكاتب الغربي تتضاءل أمامها تلك الحرية المزعومة التي يتمتع بها الكاتب العربي ، وفي هذا الإطار يعلق جان جينيه أهمية قصوى على حرية التعبير عن أفكاره مهما بدت غريبة في أعين الآخرين، وأنه ليس مولوداً بالشر والإنحراف كل ما هناك أنه يستسلم لنوازعه دون أن يحس فيها بأدنى عيب أو غضاضة، ويقول فيما يتعلق بالنوازع المثلية لديه: أنه لايعرف عنها شيئا بالمرة، ويتساءل: وماذا يعرف الناس عنها؟ ويجيب قائلاً: إن هذه النوازع المثلية فُرضت عليه كما فرضت على عينيه ألوانها. غير أن الكاتبة(سيمون دي بفوار) عشيقة صديقه الفيلسوف( جان بول سارتر) تقول إن مؤلفنا ـ تعني جينيه ـ كان منبوذاً من المجتمع منذ أن رأت عيناه النور، فلا غرو إن رأيناه لا يكن أي إحترام لهذا المجتمع، وأن يحاول الإنتقام منه عن طريق السلوك الشائن المعيب. ولكننا نجد أن نشأة وسيرة جان جينيه تلقي ضوءً أكثر من ذلك الذي قالت به سيمون، مما يجعله أكثر عرضة وإغراءً لقراءة أدبه قراءة نفسية. فقد تشكل فيه الإنحراف وتوثقت عرى العلاقة بين أدبه ونفسيته. فجان جينيه الذي إختارته في العام 1976 مؤسسة لاروس كواحد من أدباء فرنسا العظام، ولد لإمرأة غير متزوجة إسمها(كامبل جابراييل جينيه) التي عهدت به إلى ملجأ لرعاية اللقطاء في العاصمة الفرنسية باريس، وبما أنه مجهول الأب فقد نسب إلى أمه فأضحى اسمه جان جينيه، وقد نشأ نشأة تضافر فيها الجنوح والإضطراب، ورغم أن حياته تقلبت ما بين التشرد والترحال والإملاق والثراء العابر الذي كان يجنيه من نشر كتاباته إلا أنه في كل الأحوال لم يتورع من إرتكاب جرائم السرقة، مما قاده للسجن أكثر من إثني عشر مرة، ولا يفتأ أن يعترف بلصوصيته كما حدث وأخبرنا خلال سيرة حياته الروائية( يوميات لص ). وقد تأثر جينيه تأثراً عميقاً بالكاتب المنحرف( جوهاندو) الذي إلتقاه وتعرف إليه خلال سجنه عندما قال له: إن السجن ليس سجناً بل هو المهرب والحرية ففيه يستطيع الإنسان الهرب من تفاهات الحياة كي يعود إلى جوهرها. وعندما قال جان جينيه: إنه يتوق إلى الإقلاع عن السرقة وأن يكسب قوته عن طريق التأليف والكتابة. فإذا بجوهاندو يعترض على ذلك قائلاً: يا صديقي إنه من المؤكد إنك تمتلك نوعاً من الموهبة في الكتابة، ولكن لاتحاول إحترافها وإلا أفسدت كل شيئ، وإذا شئت أن تصدقني فينبغي عليك الإستمرار في السرقة. إن مناصرة جينيه للمضطهدين والسود والعرب والفقراء والمشردين والقضية الجزائرية والفلسطينية هي نتاج تحويل تجاربه في الحياة ــ كما يقول ــ إلى تجربة عامة يحس فيها بآلام الموجودين من البشر في كل مكان. على أننا نجد أن علاقاته مع أصدقائه كلاعب السيرك الجزائري( عبد الله بنتاجا ) والتي أثمرت عن بعض إبداعاته ككتابه( فنان الأسلاك العالية) ومسرحيته ذائعة الصيت ( السواتر) وهناك الكثير من الشواهد الدالة على أن شخصية سعيد المحورية في هذه المسرحية مستمدة من شخصية عبد الله الذي يعتبره جينيه من أهم عشاقه المقربين في حياته على الإطلاق، والثاني هو( ديكارتين) وهو يساري إنخرط في مقاومة الإحتلال النازي لفرنسا. كان جينيه في إعترافاته بهذه العلاقات المثلية الشاذة يتباهى في صفاقة لاتدانيها صفاقة إلا صفاقة ذلك الجندي الأمريكي الذي أفشل كميناً نصبه الفيتناميون وقتل منهم عشرة جنود فمنحوه وساماً وعندما قبضوا عليه متلبساً بممارسة الشذوذ مع أحدهم فصلوه من الجيش الأمريكي فأرسل رسالة لإحدى الصحف قال فيها: منحوني وساماً عندما قتلت عشرة رجال وفصلوني من الجيش عندما أحببت رجلاً واحداً..! لعلنا واجدون في قصيدة جينيه المعروفة(الرجل المحكوم عليه بالموت) إسقاطات بذيئة وإعترافات بجنوحه وشذوذه وقد أنشأها بين جدران السجن الذي يعتبره المكان الأمثل للكتابة والمهبط الذي يؤثره الوحي الشعري وهو نفس المكان الذي كتب فيه رائعته ( معجزة الوردة ) وهي رواية تزخر بالرموز المستمدة من حياة القرون الوسطى وتقع أحداثها في دير تابع لعائلة (البوربون) المالكة قبل أن تندلع الثورة وتحوله إلى سجن والمعجزة التي تناولتها الرواية تتلخص في أن الأغلال التي يرسف فيها السجين تتحول إلى أكاليل غار وورود والرواية تصور حياة السجين على أنها شيئ مقدس فهي أقرب ما تكون إلى حياة النساك والرهبان والقديسين وهي تخلو تماماً من متاع الدنيا. شق جينيه طريقه نحو الشهرة والمجد عند توزيع روايته (عزراء الزهور) فقد أراد جينيه من منطلق النتوءآت التي نمت في أعماقه بسبب الجنوح والشذوذ أن يبصق على وجه المجتمع الفرنسي البرجوازي المنافق وأن يفضح بصدق كل مظاهر الزيف والإدعاء من حوله فلم يجد وسيلة إلى هذا غير الإمعان في الفحش والبذاءة والكتابة عنهما. كان حريَّاً بجينيه أن ينضم إلى منظومة كتاب فرنسا العظماء كما رأت مؤسسة لاروس فقد كان كاتباً شاملاً ومبدعاً حقيقياً كتب الشعر والرواية والمسرحية وسيناريوهات الأفلام ومارس الإخراج السينمائي عندما أخرج فيلماً سينمائياً بعنوان (أغنية الحب) عن كتاب له وغير ذلك كثير من الأعمال الإبداعية في مجال الأدب مما لم نتعرض له بقدر إعراضناـ بسبب الإيجازـ عن تلك الجوانب الأكثر قتامةً في حياة هذا المؤلف الذي إستطاع أن يذيب النوازع الفتاكة القابعة في دواخله في بوتقة الخلق والإبداع الأدبي والفني الذي أخذت آثاره تنداح في العقول والمشاعر وتمكنه من تغيير نفسه على نحو مذهل عندما إسودت الدنيا في ناظريه وتكررت محاولاته للإنتحار واعتبر نفسه لعنة. في مرحلة متأخرة بعض الشيء من حياته إتخذ جينيه من المغربي (محمد القطراني) عشيقاً له وهو أصلاً مفتون بالشرق الذي جاب نهاده ووهاده وعندما أصيب بسرطان الحلق وشعر أن برودة الموت بدأت تسري في أوصاله أوصى أن يدفن في مدينة (لاراش) المغربية ولم ينس أن تشمل وصيته المالية في قسم كبير منها على عشيقه لاعب السيرك عبدالله بنتاجا ومحمد القطراني وإبنه الذي أطلق عليه جينيه إسم عزالدين تأثراً بأحد المناضلين الفلسطينيين. في باريس وعند حلول ليلة الرابع عشر من شهر إبريل العام 1986 رحل جينيه عن الدنيا فأصر محمد القطراني أن يأخذ جثمانه حسب ما أوصى ليدفن في مدينة لاراش المغربية واختار البقعة التي كان يلعب فيها مع ابنه عز الدين لتكون مثواه الأخير وهي قريبة من المنزل الذي إشتراه جينيه هدية لصديقة محمد القطراني الذي بكاه مر البكاء وفي يأسه استقل سيارته ـ كانت هي الأخرى هدية من جان جينيه لأبي عزالدين ـ ليرتطم بشجرة ويتوفى في هذه الكارثة التي كانت أقرب للإنتحار منها إلى الحادث. شعر المغاربة بالفخر لأن هذا الكاتب العظيم دفن في ثراهم وكانت الحكومة المغربية قد عرضت إيفاد فرقة موسيقية عسكرية لإستقبال الجثمان عند الطائرة حال وصوله بيد أن أصدقاء جينيه رفضوا هذا الجو الرسمي في تشييع الفقيد الذي آثر البساطة ونبذ الغنى والمظاهر الزائفة.
الفصل الرابع شذور متفرقة مـــــا بيـن الموروث القصصي والشعر
الشُّمُوسُ تَمشي في الدِّماءِ جِهَارا
(أ) الشُّمُوسُ تَمشي في الدِّماءِ جِهَارا إنها قصةٌ نشرتْ علينا مأساتها وعِبَرَها من غور التاريخ وقلب الزمان، فأحداثها العجيبة كما روى صاحبُ الأغاني وقعت في عهدٍ سحيق، بموضع يقال له {اليمامة} كانت تقطنه قبيلة يقال لها{جديس}، وقد ساد {عمليق} ملك {طسم}هذه البلاد في ما ساد من أرض، وقد كان عمليق بن لاوذ يمت بصلة رحم لأهل جديسٍ إلا أنه أذاقهم الأمرين، إذ عُرِفَ عنه الفساد والظلم والبطش، وقد لقي منه أهل اليمامة أبشع صنوف الذل والمهانة التي يمكن أن تصدر عن حاكم متسلط متجبر، ومن صور ظلمه البشعة ما فعله بإمرأة من جديس يقال لها {هزيلة}، فقد جاءته مختصمة زوجها في أمر إبن لهما أراد الزوج أن يأخذه عنوة، فأمر عمليق أن ينتزع من كليهما وأن يُجعل في غِلمانه، فخرجت هزيلة يتملكها حزن عظيم وشعور بالضيم لا حد له، فأخذت تهجو العمليق شعراً، وفي ذلك قالت:
أتينا أخا طَسمٍ ليحكُمَ بَيْنَنَا ** فأنْفَذَ حُكماً في هزيلةَ ظالِمَا
لَعَمْرِي لقدْ حَكَمْتَ لا مُتَوَرِعاً ** ولا كُنتَ فِيمَا تُبْرِمُ الحُكْمَ عالِمَا
ولأن للعمليق عيونٌ وآذانٌ مبثوثةٌ في كل مكان ـ كفعل كل متجبر جبان ـ جاءه على جناح السرعة خبر الهجاء الذي قالته هزيلة، فأصدر فور ذلك أمراً قاهراً وقاسياً ومدهشاً ولكنه يتسق وفحولته الآثمة وظلمه البين وشهوانيته الحيوانية المدمرة، فقد أمر العمليق ألا تتزوج بِكرٌ من جديس وتُهدى لزوجها حتى يفترعها هو قبل زوجها..! فلقي أهل جديس من ذلك بلاءً وذُلاً لاحد له، ولا أحد يعترض، حتى كاد الأمر يجري فيهم مجرى العادة، وكاد منظر الأبكار من العرائس وهي تُحمل إلى العمليق ـ وسط الأهازيج والأغاني ـ أن يعرف كطقس من طقوس زواج الأبكار. غير أن هناك صبيةً من جديس كانت تشب عن الطوق، وكانت الثورة تعتمِلُ في نفسها، وعندما بلغت مبلغ الحلم كانت قد بلغت منتهى جمالها، كأنما النور قد شق لها ثوباً من محاسنه، فالوجهُ للشمسِ والعينانِ للريمِ، كانوا يدعونها{الشموس} وكان اسمها { عُفيرة بنت عبادة}، والشموس مع ثورتها مع لم تكن معتدة بحسنها النبيل، إذ كانت غاضبة الفؤاد، متخثرة الوجدان، آسية لما يفعله العمليق بقومها وبأبكار القبيلة من عرائسها الفتيات، بيد أنها كانت تتوجسُ خِيفةً، ففي غدٍ ستطلب إلى الزواج، وعليها ستدور دائرة العمليق، وهو أمرٌ لن تقبله أبداً ولن ترضى به مطلقاً، ولكن ما حيلتها؟ فكرت في الأمر فوجدت نفسها بين خيارين، أفضلهما تحريض قومها على العمليق لقتله والتخلص منه، وثانيهما أن تضرب على نفسها سياجاً قوياً ضد الزواج برفضه تماماً. وعندما لم تنجح في إثارة ثائرة قومها ضد العمليق ـ وكان منهم شقيقها الأسود بن عبادة ـ بكل ما تملكه من أسلحة التحريض التي كان أقواها شاعريتها القوية والناضجة ،عمدت إلى حبس نفسها، وأبدت إعتراضها لكل من طلبها إلى الزواج. إنها حقيقة ترغب في الزواج، ولكن ليس في وجود العمليق، الذي أصدر أوامره الملكية بمنع عذراوات القبيلة عند زواجهن من الذهاب إلى أزواجهن، قبل زيارتهن له، ليفترعهن واحدة تلو الأخرى، ويفض بكارتهن، يا للعجب ويا للذل. وعندما أعياها التفكير أسعفها البعض بوعد لطالما اشتهته. فثلةٌ من قومها بذلوا لها وعداً غليظاً بحمايتها من العمليق، وإن دعا الحال إلى قتله. وعليها الآن أن تفكر في أمر زواجها، فعاد وجهها إلى إشراقه القديم، وامتلأ قلبها بحب الحياة، وانطلقت في فرحة وحبور ترتاد الشواطئ والجنائن، وتسامر رفيقاتها، فيتعاطين سراً أشعار العشق والهوى، وعندما طلبها للزواج من هوته لم تتردد في الموافقة. وفي يوم عرسها أشرقت كالشمس، وبدت كأجمل بنات القبيلة، وأخذ يغزوها الطرب، والغناء يغزو مسامعها وكأنه يصدر من كل شئ، من الدور التي تكاد تغني، ومن الإيوان الذي يتمايل رقصا، ولكن تباً لهؤلاء المسلحين الذين هجموا على الإيوان بغتةً فأسكتوا كل صوت، وهم يقولون بأصوات آمرة: إن عمليق يطلب أن تُحمل الشموس إليه في قصره في الحال. فتلفتت الشموس يمنة ويسرة فما من حراك أو صوت، وعندما أقترب منها رجال عمليق أدركت أن قومها قد جبنوا، فتوسلت إليهم توسلاً أبدت فيه كل ما تعرفه من كلمات الإستعطاف والتحريض، وأخذت تذكرهم بوعدهم لها بالحماية ولكن لاحياة لمن تنادي. وعند ذلك بدأ طقس في الزواج ما كانت الشموس لتربغ فيه، فقد أمر رجال عمليق جوقتهم من القيان ليبدأن الغناء، والشموس محمولة على هودج فبدا لها كالنعش، وصوت الغناء يرتفع ويخاطبها في غير طرب: أبدي بِعمليقَ وقومي واركَبي ** وبادِري الصبحَ لأمرٍ مُعْجَبِ
فَسَوفَ تَلْقِينْ الذي لمْ تَطْلُبي ** ومَا لِبِكْرٍ عِنْدَهُ مِنْ مَهْرَبِ
ثم طغى صوت الشموس على كل صوت عداه،يخاطب قومها و يحمل في نبراته أسىً وغضباً وثورةً وعنفاً:أين وعدكم؟ أين وعدكم يا أشباه الرجال؟ بل أين وعدكم يا إناث؟! ويتكرر سؤال الشموس في قوة وعنفوان، ولكن كما كان يتفرق الجمع كان هتاف الشموس يضعف ليتلاشى والموكب يسير موغلاً إلى حيث قصر العمليق، الذى كان ينتظر وتكاد تصرعه الشهوة، وعندما أدخلوها إليه في مخدعه ورأى فيها من الحسن ما رأى، إستبدت الشهوة بعروقه وساقته إلى القرب منها، فابتعدت، فعاود الإقتراب، فغالت في الإبتعاد، فتأججت أشواقه، وشبت الحرائق في كيانه الذي يماثل كيان بغل مُعْتنىً به، فأسرع ووقف قبالتها والشهوة تمزقه، ولما رأت الشموس أن خطراً يكمن في وجهه القبيح، عاجلته بصفعة مدوية، أودعتها كل ما نفسها من غِلٍ وثورة على الذل والمهانة، فاحتدمت في الوجه القبيح ثائرةٌ من شبقٍ وغضب، فدفعها أرضاً بكل قوته ليرتطم رأسها على الرخام وتستريح إلى غيبوبة، وأخذ الملك يمزق ثيابها وتمكن منها، وفضها، وأفرغ فيها ما إستطاع من شهوته التي تحملها فحولته المهووسة، وأخذ يكرر ويكرر، ومن بعد أمر أن تُحمل شبه عارية إلى خارج القصر حتى تكون عبرة لكل من تسول له نفسه التطاول على الملك أو معاندة رغباته، ثم رسمت الدماء طريق خروجها المُذل، والوعي يعود لسيدة العنفوان رويداً رويدا، وعندما اكتمل، أدركت الشموس أن مأساتها قد إكتملت، فجرجرت أثمالها الدامية وأرجل الغضب تحملها نحو قومها، فأقبلت عليهم سائلة الدماء شاقة درعها وهي في أقبح منظر لتبتدرهم راجزة هاجية متسائلة: لا أحدَ أذلُ مِنْ جَدِيسْ ** أهكذا يُفْعَلُ بالعروسْ؟
وترتفع لديها وتيرة الغضب، وتحتوش ذاتها الشاعرة المحرضة بأقسى نوع من أنواع الهجاء الذي يمكن أن يذم به رجل أورجال، قالته وهي تتفرس في وجوههم، وتدور حولهم، وينطلق شعرها الذي سارت به الركبان: أيَجْمُلَ ما يؤتى إلى فَتَياتِكمْ ** وأنتُم رِجَالٌ فيكُم عددُ النملِ
وتُصبِحُ تمشي في الدماءِ عُفَيرةُ ** جِهاراً وزُفَّتْ في النساءِ إلى بَعْلِ
ولو أننا كُنا رِجالاً وكُنتُمْ ** نِساءً لكُنا لا نقرُ بِذا الفِعْلِ
فموتوا كِراماً أو أمِيتُوا عَدُوَكُمْ ** ودِبوا لنارِ الحربِ بالحطبِ الجَّزلِ وإلاَّ فَخَـلُّوا بَطْنَهَا وتَحَمَــلُوا ** إلى بـلدٍ قفرِ وموتـُـوا من الهزلِ
فللبينِ خَيرٌ من مقامٍ على أذى ** وللموتِ خيـرٌ من مقامٍ على الذُّلِ
وإنْ أنتـُم لم تغضبُوا بَعدَ هذه ** فكونوا نِساءً لا تُعابُ من الكُحْلِ
ودونَكُم طِيبُ العروسِ فإنما ** خُلِقْتُمْ لأثــوابِ العروسِ وللغُسْلِ
فبُعداً وسُحقاً للذي ليسَ دافِعاً ** ويختالُ يمشي بيننا مِشيةَ الفَحْلِ
أضرمت القصيدة اللهب في وجدان وقلوب قوم الشموس، وأحالت مواتهم إلى حياة، وسكونهم إلى بركان، فقام فيهم شقيقها الأسود بن عبادة، وكان فيهم سيداً مطاعا، فخطب فيهم خطبة الثورة على العمليق وأذنابه السفلة، وقرر الجميع إستدراج عمليق ومن معه من الوزراء و الحاشية والجند إلى وليمة، غرضها الظاهر الإحتفاء به وتقديم فروض الولاء والطاعة له، وهدفها المستتر القضاء عليه ومن معه. ونجحت الخطة التي رسمها الأسود ، فعندما جاء عمليق في موكبه الفاخر لوليمته الملكية جلس إلى جوار مضيفه الأسود إبن عبادة، وعندما إمتدت الأيدي إلى الطعام كانت أيدي قوم الشموس تمتد إلى السيوف، والشموس من خلف خبائها تراقب المشهد، وقلبها الحر ينتفض بما وسعه من الدماء، وبلغ أوج إنتفاضته عندما رأت سيف شقيقها يتجه مباشرة صوب قلب العمليق إلى أن غاب فيه واخترق ظهره. وما فعله الأسود فعله أبناء جديس كل بقرينه الذي يجالسه من قوم الملك المقتول. ثم التفتوا إلى ما تبقى من السفلة وأعملوا فيهم السيوف حتى قضوا عليهم عن بكرة أبيهم، فخرجت الشموس من خبائها وناظِرُها باللؤلؤ الرطبِ دامعُ، وهي تهتف لقومها هتاف العزة، وتكيل لهم من أشعار الحماسة والمدح ما خطر لها، وشقيقها الأسود يجاوبها ويقول: ذوقي ببغيكِ يا طسمُ مُجللةً ** فقد أتيتِ لِعَمري أعجبَ العجبِ
إنا أبينا فلمْ ننفكُ نقتلَهُم ** والبغْيُّ هَيَّجَ مِنَا ثورةَ الغضبِ ولن يعودَ علينا بغيهم أبدا ** ولن يكونوا كذي أنفٍ ولا ذنبِ
وإن رعيتُم لنا قُربى مؤكدة ** كنا الأقارب في الأرحامِ والنسبِ
وهكذا تحرر قوم الشموس بعد مقتل العمليق وبطانته بعد سنوات من الذل والمهانة والخضوع، غير أن الشموس لم تتحرر من ذكراها الأليمة التي أخذت تتجدد في كل يوم عند كل حركةٍ يتحركها عمليق الصغير في أحشائها، وكأنه يعلن لها أن أباه يقاوم الموت ويرفض أن يسافر ليطل بعد قليل بوجهه القبيح. هداها تفكيرها للإتجاه صوب عرافة القبيلة لتستشيرها في أمر حملها المشئوم، فقالت لها العرافة مذعورة: ستلدين يا شموس صبياً، ولن يكون لك في تربيته يد، نجمه شؤم، ومعدنه لؤم، سيكبر ويتجبر، ويكون من بذرته في جهات العرب نسل كثير من الطغاة اللئام. وبعد أعوام كانت قبيلة الشموس ضحية لغارة قبلية غادرة، فوقع عمليق الصغير سبياً في أيدي الغزاة، وتفرق قوم الشموس أيدي سبأ، وعمليق الصغير وحده يواجه مستقبلاً مجهولا، لايعرف سره ولعنة الدهر في نسله غير عرافة القبيلة والشموس القتيلة...!!
رِجَالٌ يُحْبَسُونْ وأعْنَاقٌ تُدَقُ وشُعَراءُ يَأْسَونْ
هاشم الرفاعي ايلياء ابوماضي
جوزيف قرنق الشيخ عبدالعزيز جاويش
(ب) رِجَالٌ يُحْبَسُونْ وأعْنَاقٌ تُدَقُ وشُعَراءُ يَأْسَونْ السجنُ تجربةُُ يستعصي إستيعابُ كُنهِها علي من لم يدخُل فيها، ففيه يتعطل الزمان وينعدم المكان ، ويصير الأسير فيه نهباً لديمومة الهواجس المقلقة، وهو مقبرة الأحياء، فالداخل فيه مفقودٌ والخارج منه مولود. ودق الأعناق هي أقصى وأقسى ما يمكن أن يلحق بالإنسان من عقوبة. وكل هذا يثير قرائح الشعراء ويلقي بهم إلي أبعد مواجد الأسى والحزن، ويكون الأمر أبعد أثراً وأقوي تأثيراً إذا ما إنطلقت القافية ممن يكابد التجربة كقول الشاعر الراحل هاشم الرفاعي الذي كان يتهيأ للموت كما يتهيأ الشاعر الصامد، فعندما أزفت ساعة شنقه أرسل رسالةً شعرية لوالده أسماها (رسالة في ليلة التنفيذ) وهي قصيدة طويلة من نحو سبعين بيتاً نجتزئ منها الأبيات التالية:- أبتاه ماذا قد يخط بناني ** والحبل والجلاد منتظرانِ
هذا الكتاب إليك من زنزانة ** مقرورة صخرية الجدرانِ
لم تبق إلا ليلة أحيا بها ** وأحس أن ظلامها أكفاني
أبتاهُ إنْ طَلَعَ الصّباحُ على الدُنى ** وأضَاءَ نُورُ الشمسِ كُلّ مَكانِ
واسْتَقبَلَ العُصْفُورُ بين غصُونِهِ ** يَوماً جديداً مُشرق الألوانِ
وَ سمِعتَ أنغَامَ التفَاؤُلِ ثرةً ** تجْرِي علي فَمِ بائعِ الألبانِ
وأتى يَدُقُ كَما تَعَوَّد بَابنَا ** سَيدُقُ بابُ السِجْنِ جلاّدانِ
وأكُوُنُ بَعَدَ هُنيْهَةٍ مُتَأرجحَاً في ** الحبلِ مَشْدُوداً إلى العيدَانِ
وإذا سمعت نشيج أمي في الدجى ** تبكى شبابا ضاع في الريعان
وتُكَتِّم الحسرات في أعماقها ** ألماً تواريه عن الجيران فاطلب إليها الصفح عني إنني ** لا أبتغي منها سوى الغفران
والآن لا أدرى بأي جوانح ** ستبيت بعدى أم بأي جنان
وقد جاء في ترجمة هذا الشاعر المصري الذي تم إعدامه في أواخر العقد السادس من القرن الماضي أن إسمه الحقيقي هو سيد جامع هاشم مصطفى الرفاعي ولكنه أشتهر بإسم جده هاشم تيمناً به لما عرف عنه من فضل وعلم وقد التحق بمعهد الزقازيق الديني التابع للأزهر الشريف سنة 1947م وحصل على الشهادة الابتدائية الأزهرية في عام 1951م، ثم أكمل دراسته في هذا المعهد وحصل على الشهادة الثانوية سنة 1956م ثم التحق بكلية دار العلوم وتم إعدامه في عهد الرئيس جمال عبد الناصر قبل أن يتخرج سنة 1959م. ورؤية هاشم الرفاعي الشعرية المؤثرة في تجربته القاسية قد تختلف دروبها عن رؤية شاعرنا القومي الراحل كباشي الذي تم إعدامه شنقاً بسجن كوبر علي أن التجربتين تشربان من منهل واحد هو الأسى، فعندما أخبروا كباشي بأنه سيرحل في غده من سجن الأبيض بالقطار إلي سجن كوبر توطئةً لتنفيذ حكم الإعدام عليه، وفي ليلته الباردة تلك سمع صافرة القطار فبرزت صوفيته المؤتلفة في ذاته لتختلط بأنفاسه الشعرية مع مزيج من مأساته وهواه وحبه للحياة وأخذ يقول واللحظات تحتشد بكل مشاعر الأسى أبياتاً يحن فيها للنسائم وقد أودعها لواعج أشواقِ بعيدة لمحبوبةٍ ترفل في ثوبها البنغالي المنمق ويرن في قدمها ساعة السحر حجلها الأنيق: بابُور التُرُكْ الليله نَوَى بالنجعَه والسَاده اجمعين انا بندهم للرجعَه البنقالي والحِجِلْ البِنَقِّرْ هجْعَه شَغَلَنْ بالِي والنْسَّامْ بِزيدْ الوَجْعَه
ياله من إطارٍ حزين يقود إلي عالم شجي من عوالم الشعراء وفيه أقلقني صوت الشاعرة قتيلة بنت الحارث مثلما أقلق سيد الخلق سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات والتسليم فبعد أن أمر الرسول الكريم سيدنا علياً كرم الله وجهه بقتل النضر بن الحارث بن كلدة وهو أحد بني الدار و قام بدق عنقه بالأثيل، قالت قتيلة بنت الحارث علي أثر ذلك والتي أُتُّفِقَ أن شعرها كان من أكرم الشعر الموتور وأحسنه: يا راكباً إن الأثيل مظنة ** من صبح خامسة وأنت موفق
أبلغ بها ميتاً بأن تحية ** ما إن تزال بها النجائب تخفق
مني إليك وعبرة مسفوحة ** جادت بواكفها وأخرى تخنق
هل يسمعني النضر إن ناديته ** أم كيف يسمع ميت لا ينطق
أمحمد يا خير ضنء كريمة ** في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما ** منَّ الفتى وهو المغيظ المحنق
أو كنت قابل فدية فلينفقن ** بأعز ما يغلو به ما ينفق
فالنضر أقرب من أسرت قرابة ** وأحقهم إن كان عتق يعتق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ** لله أرحام هناك تشقق
صبراً يقاد إلى المنية متعباً ** رسف المقيد وهو عان موثق
قال ابن هشام: فيقال والله أعلم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه هذا الشعر قال: لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه. وليس بعيداً عن أذهاننا ما جري لشاعرنا القومي الفحل عمر ود الشلهمة فعندما أخذت تفصل بينه وبين المقصلة خطوات قليلة قال له شقيقه طه ود الشلهمة مُشجعاً ومُؤازِراً: قلْبَكْ مُو لحمْ مِن الدبادِب طايرْ صنديدْ وقعةْ العركةْ الخيولا دمايِرْ الموت يا جليس ام رُوبَه كاساً دايرْ سماحتُو عليك مِتِلْ نورةَ العريس السايرْ
إنجليزي ثم أمسك شقيقه الآخرالشاعر الفنجري بيديه المقيدتين وقال له مودعاً وهو آسٍ فشقيقه سيلقى حتفه بأمر قاضٍ كافر وليس على صهوة جواده في معركةٍ يكون فيهاالموت عزةً وكرامة: موتك دُرتو فوق أصدا ومَخَمَّسْ دافِرْ يابِسْ فوقْ سِروجِنْ ماهُو حاكمَكْ كافِرْ يا مُقْنَعْ كواشفْ أُمَّاتْ وضيباً وافِرْ ما دامْ العُمُرْ عارِيَه خَلُو يسافِرْ
في دراسةٍ إجتماعيةٍ قيمةٍ لباحث إجتماعي أمريكي مرموق خلص فيها إلى أن العلاقات التي تنشأ أو تتكرس في مواطن الشدة كالسجن ـ إن كانت خالصة ـ يأتي ترتيبها ثانياً في العلاقات الإجتماعية بعد علاقة الزوجية، ولديَّ نموذج هام في هذا الصدد، فعندما تزامن إعتقال الشاعر محمد الواثق مع صديقه جوزيف قرنق في خريف العام 1971 بسجن كوبر تكرست العلاقة بينهما فكانت تلك الدمعة الحرى التي ذرفها محمد الواثق عندما أُقتيد صديقه جوزيف من جواره ليعدم بمشنقة سجن كوبر العتيدة وأخذ يقول قصيدة منها : صديقي المثابر جوزيف قرنقْ ترامى قُبَيلَ احتدامِ الشفقْ إلى سجن كوبر حيثُ شُنِقْ فيا ربِ هلْ على روحهِ أقرأُ الفاتحة فقد عدِمَ القبرَ والنائحة وأُلحِدَ في التُربِ كيفَ اتفقْ ** ** ** وكان إذا جاشَ مِواره تدافعه روحه الثائرة وصادمت الكونَ أفكاره وكم أنبت الكونُ من زهرةٍ ناضِرة فكنتُ إذا تمادتْ به الفكرةُ الجانحة أشيح إلى مكة القرية الصالحة أعوذ نفسي بربِ الفلقْ على أن جوزيف قرنقْ كما شهدت دمعتي السافحة جميل المحيا جميل الخُلُقْ فياربِ هلْ على روحهِ اقرأ الفاتحة فقد عَدِمَ القبرَ والنائحة وأُلحِدَ في التربِ كيف اتفقْ ** ** ** تذكرتُ في السجنِ أطفاله يعاودهم شبح المقصلة وزوجته تُباغمُ في الليلِ تمثاله لواعج تعرفها الأرملة مدامع في خدِها تَستبِقْ ويُورِثُهَا طيفُ جوزيف قرنق حرائق في قلبِها جَائحة هواجر في صدرها لافحة
والشعراء لايأسون ويحزنون فحسب عندما تثب المحن على أحبائهم وأصدقائهم إنما يرفدونهم بالصبر والتشجيع والمدح رفداً يتسق وقيمة الوفاء للعلاقة وفي ذلك نماذج شعرية كثيرة بعضها خلده التاريخ كقول الشاعر البحتري الذي آسى صديقه محمد إبن يوسف وقد كان محبوساً عن الإفك والظلم بأبيات شعرية خلدها الزمان وسارت بها الركبان، قال فيها : وما هذه الأيامُ إلا منازِلٌ فمن وقد دهمتك الحادثات وإنما أما في نبي الله يوسُف أُسوةٌ أقام جميلَ الصبرِ في السِجنِ بُرهةً ** منزلٍ رَحْبٍ إلى منزلٍ ضنَكِ صفا الذهب الإبريز قبلك بالسبكِ لمثلِك محبوسٌ عن الظُلمِ والإفكِ فآلَ به الصبرُ الجميلُ إلى المُلكِ
** ** **
ومن النماذج الحديثة في هذا الشأن تلك القصيدة التي أبدعها الشاعر العظيم إيليا أبوماضي وقد أنشأها عقِب إيداع الشيخ عبد العزيز جاويش السجن وكان الشيخ عبد العزيز يهاجم الإحتلال وينتقده إنتقاداً مراً . يقول في بعضها: لإنْ حَجَبُوكَ عنْ مُقَلِ البَرَايَا وإنْ تَكُ قدْ حُبِسْتَ وأنْتَ حُرٌ كَبِيرُ القَوْمِ أكبرهم خطوباً لقد إعتليتَ قدْرَ السِجْنِ حتى ولا عَجَبَ إذا أُسْكِنْتَ فيه تَعددتِ الطِيُور فلا حَبِيسٌ ** فما حجبُوا هواكَ عن الصدورِ فكم في الحبْسِ من أسدٍ هصُورِ لذاك رميت بالخطبِ الكبيرِ أحب السجن أهل القصورِ فكم في الليلِ من قمرٍ منيرِ سِوي الغُرَّدِ الجمِيلِ من الطيورِ
وهنالك من الشعراء ممن عاقروا مرارة التجربة وصبرو عليها مبدين ثباتاً وشجاعة كشاعرنا الفحل جبر الدار محمد نور الهدى المحكوم عليه الآن بالإعدام و الذى تعرضنا لسيرته في مقال سابق ومن هنا نناشد الأسرتين الكريمتين أسرة المرحوم أولياء الدم وأسرة جبر الدارللوصول إلى وفاق وتراضي فهما عائلة واحدة وأحسب أنهما كغصني شجرة أيهما قُطِعَ أوحش صاحبه . يقول جبر الدار وهو يحكي مفارقة عجيبة وهي أنه يلبس الآن القيود الحديدية التي تصنعها الشركة التي كان يعمل بها.. وهو قولٌ علاه الشوق وبان فيه الفِراق ، قال يخاطب زوجته أم أحمد: أم احمد عزيز وصلك بقالنا مُحالْ وطالت الغيبه ما ختيت عصا الترحالْ بعد ما كُتْ أفندي وفي جِياد شغَالْ لِبِستَ قِيودا،معليش الزمان دوالْ
وطائفة الشعراء من المهاجرة لا يأبه غالبيتهم بالسجن وقد يزدرونه فالسجن في توقعاتهم دائماً ، وفي أدبهم الشعبي يتناولون تجربتهم فيه بالفخر كما أن لهم في ذلك طرائف وحكم ، ويحلو لي كختام لهذا المقال أن أورد مربعاً للشاعر الطيب ود ضحوية أمير المهاجرة وأمير قوافيهم ففيه حكمة بالغة حول السجن تأخد بتلابيب الشامتين وتسخر في صدرها من ما نسميه الآن بالإكراه البدني فحقاً إن هذا الشاعر سبق عصره. يقول : السِجنْ أبْ حَجَرْ والقيدْ المَبَرْشَمْ دَقُو ما بِجِيبُو حاجَه للزولْ المِوَدِرْ حَقُو يَا مَاشْ أَرْبَعِينْ قُولْ ليْ فَاطنَه بِتْ البَرْقُو أَنِحْنَا مَرَقْنَا والبِتْقاَنَتُو اللِّنْشَقُو!!
ماءُ المآقي في قوافي العاشقين
بدر شاكر السياب محمد مفتاح الفيتوري نزار قباني
(ج) (ج) ماءُ المآقي في قوافي العاشقين عُنيت العربية بالكلام المقفى منذ أقدم عصورها وهي ميزة إتخذتها لنفسها كأداة تفوقت بها على غيرها من اللغات السامية التي لم نعرف لغة منها كان فيها للقافية ما كان لها في العربية وليس أدل على هذا مما حفلت به لغة التنزيل من أفانين السجع والمزاوجة أو سفر العرب الذي حفل بأمتع الفنون القولية الموشاة وبرنين الوزن ونغم القافية، وهذا التفوق جعل في نصوصها مسالك تلج بسهولة، ويسر وإمتاع الى أتون الذاكرة ومناحي الوجدان خاصة فيما يتعلق بضروب القافية الدامعة ووصف العاطفة الملتهبة وهو شأن يبرز بجلاء في شعر العاشقين فعندما تأخذهم تباريح الهوى كل مأخذ ويصيرون نهباً لآلام الفراق تتناوح عنادل شعرهم بألحان الفراق الأليم وتسبح جفونهم بماء الدمع السخين ومن الصور الرائقة التي تلح علينا بإيرادها هنا في معنى الفراق وسطوته الأليمة قافية ذلك العاشق القديم التي جاءت مُختالة في حُللٍ من حُسن الصوغ وجمال الصنع وقوة التأثير يقول: ولما تنادتْ للرحيلِ جمالُنا ** وجدَّ بنا سيرٌ وفاضتْ مدامعُ
تبَدَّتْ لنا مذعورة من خبائها ** وناظرُها باللؤلؤ الرطبِ دامعُ
أشارت بأطرافِ البنانِ وودعتْ ** وأومتْ بعينها متى أنت راجعُ
فقلتُ لها والله ما من مسافرٍ ** يسيرُ ويدري ما به اللهُ صانعُ
فشالتْ نقاب الحسن من فوق وجهها ** فسالت من الطرف الكحيل مدامعُ
وقالت إلهي كُنْ عليه خليفة ** وياربِّ ما خابتْ لديك الودائعُ
المتأمل لهذه الصورة يدرك أن ما فيها من الصمت هو شلال من الإيحاء إذ حوت حواراً صامتاً جاء كمناجاة بين روحين في مواطن الوجد والجمال وعلى صمتها ترن موسيقاها الحزينة وإيقاعها الملتاع وهو معنى وقع عليه أيضاً الشاعر عمر بن ابي ربيعة في بيتيه القائلين: ومما شجاني أنها حينَ ودعتْ تولتْ ** ودمع العينِ في الطرف خائرُ
فلما أعادتْ من بعيدٍ بنظرةٍ ** إلىَّ التفاتا أسلمته المحاجرُ
هذا التصوير الرائع الذي أشجانا به عمر بن ابي ربيعة هو من الفنون التي أجاد العزف على قيثارها والضرب على أوتارها ولا غرو في ذلك إذ أنه أحد الأفذاذ الذين صعدوا بفنهم الأدبي إلى ذُرى المجد وتسلقوا بعبقريتهم الشعرية على معارج الشهرة والعظمة والخلود. وقد وجدنا دماءً لليلى العامرية في شأن الدمع على قافية عاشقها ومجنونها قيس بن الملوح عندما قال: فلما تلاقينا على سفحِ رامةٍ ** رأيتُ بنانَ العامريةَ أحمرا
فقلتُ أخضبتِ الكفَّ بعد فراقنا ** قالتْ معاذَ الله ذلك ما جَرى
ولكنني لما وجدتُكَ راحلاً ** بكيتُ دماً حتى بللتُ به الثرى
مسحتُ بأطرافِ البنان مدامعي ** فصار خِضاباً باليدين كما تَرى
لاشك أن الفراق من الدواعي التي تدمع القوافي وتصيب قلوب العاشقين في مقتل ولنرى الآن ماذا قال في هذا شاعرنا العاشق القديم: لما اناخوا قبُيلَ الصبحِ عيسهمو ** وحملوها وســـارت بالدُمى الابلُ
وقلبتْ بخلالِ السجفِ ناظرها ** يرنو إليَّ ودمـعُ العينِ ينـهملُ
وودعتْ ببنانٍ زانه عندمٌ ** ناديتُ لا حملتْ رجلاكَ يا جمـلُ
ياحادي العـيس عَرِجْ كي أودعهم ** ياحادي العيسِ في تِرْحَـالَكَ الأجلُ
اني على العهدِ لم انقُضْ مودتهم ** ياليتَ شـعري لطولِ البُعدِ ما فعلـوا
وللفراق لوعة أخرى أكثر غوراً عند أهل العشق والصبابة إن كان الفراق أبدياً فدمعة العشق الحرى التي ذرفها الشاعر العباسي (ديك الجن الحمصي) الذي عشق جاريته (ورد) حد الوله فخانته فقتلها وظلت تلك الدمعة تنساب من على عينيه وتنسال على محاجره مدى حياته ضارباً صفحاً عن أسباب الصبر ووسائل السلوان في محاولة في واقعها لن تجدي شروي نقير أو مثقال قطمير فنسج موسيقاه الحزينة عندما حكى قصة مأساته من فتائل الأسى والأسف على شاطيء اللوعة البالغة بقافية دامية تتقطع معها نياط القلوب وترج الوجدان رجاً إنه عاشق أفناه برج النوى وأضناه الفراق الأبدي.. يقول: يا طلعة طلع الحمام عليها ** وجنى لها ثمر الردى بيدها
رويتُ من دمها الثرى ولطالما ** روى الهوى شفتيَّ من شفتيها
حكَّمتُ سيفي في مجال خناقها ** ومدامعي تجري على خديها
فوحق نعليها وما وطيَّ الحصى ** شيء أعز علىَّ من نعليها
ما كان قتليها لأني لم أكن ** أخشى إذا سقط الغبارُ عليها
لكن صننتُ على العيونِ بحسنها ** وأنفتُ من نظرِ الحسودِ إليها
وأبيات ديك الجن هذه ألهمت شاعرنا المعاصر نزار قباني قصيدته(ديك الجن) التي أنشأها برؤية تتسق مع رسالته في الحب والحرية ويقول فيها: إني قتلتك و استرحت ** يا ارخص امرأة عرفت
أغمدت في نهديكي سكيني ** وفي دمك.. اغتسلت
وأكلت من شفة الجراح ** ومن سلافتها.... شربت
وطعنت حبك في الوريد ** طعنته..... حتى شبعت
ولفافتي بفمي فلا انفعل ** الدخان..... ولا انفعلت
ورميت للأسماك لحمك ** لا رحمت.... ولا غفرت
لا تستغيثي.. وانزفي ** فوق الوساد كما نزفت
نفذت فيكي جريمتي ** ومسحت سكيني... ونمت
ولقد قتلتك عشر مرات ** ولكني ........ فشلت
وظننت والسكين تلمع ** في يدي..... إني انتصرت
وحملت جثتك الصغيرة ** طي أعماقي..... وسرت
وبحثت عن قبر لها ** تحت الظلام فما وجدت
وهربت منك وراعني ** إني إليك ... أنا هربت
في كل زاوية أراك ** وكل فاصلة..... كتبت
في الطيب في غيم السجائر ** في الشراب.. إذا شربت
أنت القتيلة.... أم أنا ** حتى بموتك ما استرحت
حسناء... لم أقتلك أنت ** وإنما........ نفسي قتلت
ليس ألم الفراق وحده عند العاشقين ما يجعل أعينهم تجود فاللقيا بعد طول الفراق تردهم إلى المورد نفسه وتسلمهم إلى دموع سابلة وقواف حزينة ولنرى ذلك في قول عاشق آخر يقول: وبدا له من بعد ما إندمل الهوى ** برق تألق موهناً لمعانه
يبدو كحاشية الرداء ودونه ** صعب الذرا متمنع أركانه
وبدا لينظر كيف لاح فلم يطق ** نظراً إليه وصده أشجانه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ** والماء ماسحت به أجفانه
وهذا للناظر إنعكاسة لما يعتلج بين الجوانح أو ما يشب بين الضلوع من أوار شمله اسلوب يميس في برود الإبداع والجمال وإن إمتزجت خيوطه بأصباغ حالكة السواد.. فالعشق وماء المآقي في قوافي العشاق اهون المصارع التي تكمن وراء الشوق والذكرى وهذا ما حمل شاعرنا شمس الدين محمد التلمساني الملقب بالشاعر الظريف الى مخاطبة رفيقه المحب الباكي والعاشق الكتوم بقوله: لاتُخف ما فعلت بك الأشواقُ ** واشرح هواك فكلنا عُشاقُ
قد كان يخفي الحب لولا دمعك ** الجاري ولولا قلبك الخفاقُ
لا تجزعن فلست أول مغرم ** فتكت به الوجنات والأحداقُ
فسوف يعينك من شكوت له ** الهوى في حمله فالعاشقون رفاقُ
واصبر على هجر الحبيب فربما ** عاد الوصال وللهوى أخلاقُ
إن بث الشكاة للرفقة الأنيسة تخفف من ربقة الهوى ووطأة ذكراه وإلحاح أشواقه، وقد جنح كثير من شعراء العشق عندما تمازجهم هذه الآلام وتعاقرهم المنى إلى مخاطبة الرفيق مهما بدا وكيف كان كما فعل الطغرائي الحسين بن محمد الأصبهاني الذي ارتفع بنا إلى آفاق من الشجو الجميل وهو يخاطب حمامة نائحة فقال: أيكيةٌ صدحت شجواً على فننٍ ** فأشعلت ما خبا من نار أشجاني
ناحت وما فقدت إنساً ولا فجعت ** فذكرتني أو طاري وأوطاني
طليقة من إسار الهم ناعمة ** أضحت تجدد وجد الموثق العاني
تشبهت بي في وجدٍ وفي طربٍ ** هيهات ما نحن في الحالين سيانِ
ما في حشاها ولا في جفنها أثرٌ ** من نار قلبي ولا من ماء أجفاني
ياربة البانة الغناء تحضنها ** خضراء تلتف أغصاناً بأغصانِ
إن كان نوحك اسعاداً لمغترب ناءٍ ** عن الأهل ممنىً بهجرانِ
فقارضيني إذا إعتادني طربٌ ** وجداً بوجدٍ وسلواناً بسلوانِ
ما أنت مني ولا يعنيك ما أخذت ** مني الليالي ولا تدرين ما شأني
كلي للسُحب اسعادي فإن ** لها دمعاً كدمعي وإرناناً كإرناني
ومثل الطغرائي فعل أبو فراس الحمداني حينما قال: أقـول و قد ناحت بقربي حمامة ** أيـا جارتا هل بات حالك حالي
معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى ** و لا خـطرت منك الهموم ببال
أتـحـمـل محزون الفؤاد قوادم عـلى غُصُن نائي المسافة عال
أيـا جارتا ما أنصف الدهر بيننا تـعـالـي أقاسمك الهموم تعالي
تـعالي تري روحا لدي ضعيفة تَـردد فـي جـسـم يُعذب بال
أيـضحك مأسور و تبكي طليقة و يـسكت محزون و يندب سال
لـقد كنت اولى منك بالدمع مقلة و لـكن دمعي في الحوادث غال
وعندما يشتف الحب مشاشة العاشقين وتورق شجرة الوعد عن ثمر لا يسلم من جوانح الزمن تتفجر أعينهم بالدمع وتهطل من المحاجر تهانها كما تبرز لنا صورة بن زريق البغدادي الشاعر العباسي المعروف.. يقول: استودع الله في بغداد لي قمراً ** بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني ** صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشفع بي أن لا أفارقه ** وللضرورات حال لا تشفعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحىً ** وأدمعي مستهلات وأدمعه
فأماني الوصال المتعثرة تدر الدمع أيضاً عند الشعراء العاشقين ومنهم الشاعر النابه والناظم الساحر والناغم المؤثر بشار بن برد الذي اكتوى بحب عبيره التي قال عنها: نظرت فأقصدت الفؤاد بلحظها ** ثم إنثنت عنه فظل يهيم ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت ** وقع السهام ونزعهن أليم
وفي وصله المتعثر قال: أبيت وعيني بالدموع رهينة ** وأصبح صباً والفؤاد كئيب
ألا ليت شعري هل أزورك مرة وليس علينا يا عبيدُ رقيب
ومن صور الشعر الحديثة في معنى العشق المعبر عنه بالقوافي الدامعة ما قال به في انشودة مطرة الشاعر العراقي المحدث بدر شاكر السياب في معنى لا يخلو من الطرافة يقول:
أتعلمين أي حُزن يبعث المطر وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع بلا إنتهاء كالدم المراق كالجياع كالحب كالأطفال كالموتى هو المطر مطر مطر مطر ومقلتك تطل مع المطر مطر مطر مطر وكم ذرفنا ليلة الرحيل من دموع ثم إعتللنا خوف أن نلام بالمطر
وفي زهر الكلمات قصيدة شاعرنا الذي يحلو لي أن أقول إنه سوداني محمد مفتاح الفيتوري يقول في قافيته عن دموعه:
لم أجد غير نافذة في سمائك مبتلة بدموعي فألصقت عيني فوق الزجاج لعلي أراك لعلك تبصرني وأنا هائم مثل سرب من الطير منهمك في مداك... فالقوافي الباكية تجدد رؤاها على الألسنة العاشقة القديمة والجديدة لأن الهوى في كل قلب نابض قدر الإنسان مذ كان الأزل.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: munswor almophtah)
|
الشاعر جبر الدار محمد نور الهدى.. لا يزال ينتظر في محبسه الإعدام أو الفرج (4) جبر الدار محمد نور الهدى شاعرٌ بينَ سديم ِالمنافي وشموس ِالقوافي وقف كل من كان حاضراً بقاعة محكمة القطينة العامة يلفهم الصمت العميق إلا من دقات قلوبهم وتهدج أنفاسهم، وهم يرون القاضي يدخل ليتصدر منصته ويتأهب لإصدار حكمه على المتهم، فأمرهم بالجلوس عدا المتهم الذي ظل واقفاً مترقباً، ثم أخذ القاضي يتلو حكمه على المتهم "حكمت عليك المحكمة بإلاعدام شنقاً حتى الموت" ٍقدر الله وما شاء فعل" جملة رددها شاعرنا جبر الدار بعد أن سمع الحكم بإعدامه. حدث هذا في خريف عام 2005م، ومنذ ذلك التاريخ وحتى كتابة هذه السطور لا يزال جبر الدار رهين محبسه ما بين مقاومة هذا الحكم وانتظار تنفيذه عليه بغرفة الإعدام بالسجن الاتحادي بالخرطوم بحري كوبر. وكل من اقترب من هذا الشاعر الشاب يدرك أنه شاب خلوق متمسك بدينه، وعلى سمته يجلس وقارُُ مستظهر، وعلى سيمائه لطف كبير وحس مرهف، تمنعه من قتل ذبابة قصداً أو ظلماً. إذن ماهي قصة هذا الحكم الذي صدر على شاعرنا جبر الدار وجعله يقاوم سديم المنافي الضبابية بشموس القوافي الساطعة ؟ سنرى ... شاعرنا جبر الدار الذي يقف الآن على قمة العقد الرابع من عمره، ولد بمنطقة "أم أصلة" الواقعة بمحافظة المناقل في غرب ولاية الجزيرة وسط السودان، واستقرت أسرته بإحدى القرى الحديثة التي نشأت مع مشروع الجزيرة الزراعي وهي قرية " أبو مريخة" وينتسب إلى قبيلة " الطوال" أحد فروع قبيلة رفاعة الكبرى. والطوال قبيلة لها تاريخها الناصع و المضئ الذي أغري سليلها شاعرنا جبر الدار بكتابته، ومن أمانيه العزيزة أن يستطيع إكمال كتابة هذا البحث التاريخي، فهو يرى أن المؤرخين قد أهملوا تاريخ الطوال رغم ثرائه. ومما كتبه جبر الدار عن تاريخ الطوال نجتزئ بعض المقتطفات. يقول:- الطوال ينتمون إلى حمد بن السيد رافع بن السيد عامر بن السيد عبد الله بن السيد إبراهيم بن السيد إلامام موسى الكاظم بن السيد الامام جعفر الصادق بن الامام محمد الباقر بن الامام على زين العابدين بن الامام أبي عبد الله الحسين بن الامام على كرم الله وجهه. ويقول جبر الدار إن قبائل "الحمدة" و"العركيين" و "العسيلات" و "الحلاويين" و"القواسمة" و"العوامرة" و"العمارنة" و"الضباينـة" وبعض القبائل الاخرى، ينتسبون إلى السيد حمد بن السيد رافع الذي كان له خمسة عشر ابناً. ويقول جبر الدار إن الطوال ينقسمون إلى ثلاثة أفخاذ هم "النصيرات" ومنهم الشيخ سلمان الطوالي جد الطوال و"السواعدة" ثم "النهراب". وأبان جبر الدار أن جد جده نور الهدى ود محمد ود الصافي بايع الامام المهدي وهو شيخ يربو على الثمانين من عمره، وعاصر خليفته عبد الله التعايشي، وتوفي في عهده ودفن بمقابر أحمد شرفي بجوار زوجته الحرم بنت أبو القاسم. والمعروف أن ابنه مصطفى نور الهدى قد شارك في حملة عبد الرحمن النجومي وعبد الحليم مساعد إلى مصر التي انتهت بمعركة "توشكي". وأوضح جبر الدار أن هذه الوشائج ربطت آباءه بعقيدة المهدية، وأضحوا من أبكار المهدية والأنصار، كما أوضح أن هنالك أمراءً في المهدية ينتسبون إلى قبيلة الطوال، منهم محيي الدين ود المدني الذي كان مقرباً من الخليفة عبد الله التعايشي، وكان الكاتب الرئيسي لأحمد بك عوض الكريم أبو سن عندما كان مديراًً لمديرية الخرطوم إبّان العهد التركي. وأورد جبر الدار في بحثه قصة حبس جد جده نور الهدى مع مالك ود أب روف اللذين أعلنا عصيانهما خلال حكم التركية السابقة عندما كان الحاكم هو ممتاز باشا، ورفضا دفع الضرائب رغم أن حالهما كان ميسوراً، ولم ينصاعا رغم حبسهما وتعذيبهما، وعندما تم إطلاق سراحهما قام مالك ود أب روف بنحر أعداد هائلة من إلابل ووزع لحومها على " الجعيدية"، والجعيدية اسم كان يطلق على الغجر آنذاك، وذلك تدليلاً على أنه يملك المال ولا يود دفع الضرائب كمجاهدة مدنية ضد المستعمر الأجنبي، لذا سمي بمالك ود أب روف ضباح ألبل للجعيدية، ويضيف جبر الدار بأن جده نور الهدى قد قال في ما يشبه التنبؤ وبعد أن تم إطلاق سراحه، بأن حكم ممتاز سيزول وأنهم سوف يثأرون، وذلك من خلال مربع شعري قاله وهو يصف جملاً أهداه له مالك ود أب روف . يقول فيه:-
التَـــرزو مَخــــدّه وسَمـحَـه فوقـو الشَـدّه حُــكـم مُمتـاز بِتعَـدّى وبنلقـى وِكيـت بِنَسـَدَّه وفعلاً زال حكم ممتاز باشا وتسيدت المهدية، وقام نور الهدى إلى مبايعتها في شبـشة الشيخ برير بالنيل الأبيض الواقعة شمال الدويم على الضفة الغربية للنيل الأبيض. وتعرض جبر الدار في حديثه عن تاريخ الطوال إلى أحداث كثيرة ومثيرة، ومن ذلك أورد تفاصيل معركة " لُقُدْ أَبو وِدَيعَة" بين الطـوال والحسانـية، وكـان قـد نشـب بيـن القبيلتين نزاع حول "لقد أبو وديعة"، وهي أرض خصبة تتجمع فيها مياه الأمطار. ورغم أن المعركة قتل فيها حوالى ثلاثين من الطوال وهم جل من اشترك منهم في المعركة، إلا أنهم فازوا بالأرض بعد انسحاب الحسانية الذين كانوا يخشون أن تتدخل قبائل مناصرة للطوال في المعركة. وحدثت تلك المعركة في القرن الثامن عشر، وكان في يوم أربعاء، فصارت المقولة التاريخية" الأربعاء الكَّمْلَتْ الطُوال" ورغم أن أبناء عمومة الطوال من العركيين كانوا قريبين من أرض المعركة، إلا أنهم لم يناصروهم بسبب نزاع سابق بينهما، حكى لنا جبر الدار قصته، وقال إنه نشأ حول ملكية عِد "بئر" يسمى "عِــد معتوق"، وهذا العِد اكتشفه أحد رقيق الطوال في وقت كانت فيه المياه شحيحة، وبسبب هذا الاكتشاف تم عتق ذلك الرقيق، ومن هنا جاءت تسميته بعد معتوق، وغير هذا كانت للطوال من الأدلة ما يساند ملكيتهم لهذا العد الذي إدعى العركيون ملكيته، ومنها أن الشيخ محيي الدين راجل أب سويد ود الشيخ سلمان الطوالي مقبور في مقابر معتوق ويزار قبره إلى اليوم، واستمر العداء بين العركيين والطوال منذ ذلك العهد. ومما ترك ضغائن وإحناً في النفوس قيام المك الإحيمر مك العركيين بقتل "سلوقي" خال عبد القادر ود الشيخ نور الهدى أبو قرن، وعبد القادر هذا أخ الشيخ محيي الدين وصهر المك إلاحمير، فقد كان متزوجاً بابنته، إلا أنه لم يكن حاضراً ساعة قتل سلوقي، فقد كان غائباً ومشغولاً بتجارة الرق التي كان يمارسها، وعندما حضر وعلم بما حدث، أخذ عدداً من عبيده ولحق بالمك الإحيمر بمنطقة "أم بيلول" جنوب شرق معتوق وقتله بالقرب من قرية العطشــة حالياً. ويذكر جبر الدار أن شاعرة الطوال" بت رغمان" قد رافقت أهلها من الطوال في معركتهم ضد الحسانية في لقد أبو وديعة، وكانت لأشعارها الحماسية قبل وأثناء المعركة آثار بائنة، فلم يغادر الطوال أرض المعركة، فمات جلهم في أبو وديعة، وظلت بت رغمان تفخر بأهلها بعد المعركة التي كان من نتائجها فوزهم بالأرض، وقد أورد جبر الدار في بحثه أشعاراً لبت رغمان، ومن تلك الأشعار الكثيرة تقول بت رغمان: شَنـُّو المِزَاحْ خَربـــو وتَيرانْ حَرِكَا دَرب الشُرادْ سَدو تَــرا الطيـــن وَجّـَبـو ******** أهَـل اللصهبْ البنَصــرْ إِن دَخلوا الكُجَرْ لي جَلسةْ المَحَكرْ وإن دخلوا الوسيق قلبوا مَنايحَ الدَّرْ مِـا فيـهُـن وَركـاً أَحــلْ ترا الشمتانْ يضوق يومكن أحر وأمر تَــرا الطيـن وَجَّـَبـوا ******** يا حِليل أب جَماير اللي تِلبَ الخُلُوْق بِنْهَرْ القوي والضعيف مِنُو الرِجال تنْصَّرْ يا وارد مَشَارعُو لَيْ غُسْلَكْ إِتْحَضَّرْ سد القَدْ أبوك يا المعني فات شبَّرْ سِيــد عزاً قديم وافرْ ولو مَعَبـَرْ ترا الطين وجَبوا ******** أبْ فاطنـه الخـليل اللفظه حَـقاهَا ونَايحةْ السما في جســدُو غَـدَّاها ودْ شَقَّاقْ بِقول فَســلاتْ بِنْطرَاها وكتْ القير يقيف فات العِيَارْ طَــه ونُور هِدى يا العيال بي جَرَّه سدَّاهَا تـرا الطين وجَّـبوا ******** يــوم الأربعـاء الأصبح علينا شطيط الكمـل عـيال المـلـكـه والشنكـيت صقـر الجـو بحلق فـي سماهو بعيط قال ليهم أنا من هناك سمعت بيكم جيت قــالو لو أبشر يا صقر نحنا بنغديك ******** نغـديك كـلاوي مــو لحـم عيسيت نحـنا مهوسكين لي أمات حِلي وسوميت
واحرتو الكف جميع كان خدره ما بتشيط ترا الطين وجَّبـوا
ويحتشد البحث التاريخي الذي يعده جبر الدار بوقائع تاريخية مهمة تعكس تاريخ قبيلة الطوال، والقبائل ذات الصلة والمجاورة والحالة الاجتماعية والسياسية والعقلية التي كانت سائدة في منطقة الطوال الجغرافية، ابتداءً من القرن الثامن عشر وما لحق بها من تطورات متلاحقة. والبحث اعتمد على ما تيسر لكاتبه من مصادر مكتوبة وشفهية، واتسم بالدقة والعلمية والجدة. ونأمل أن تزدان به المكتبة السودانية قريباً. وتلقي شاعرنا جبر الدار تعليمه الأولي بمدرسة أبو مريخة الابتدائية، ومنها انتقل إلى مدرسة الرخاء المتوسطة بمنطقة الماطوري، ورغم اجتيازه للامتحان النهائي المؤهل للدخول للمدرسة الثانوية وقبوله بمدرسة فريـني التجارية بمدني القسم الخارجي، إلا أنه آثر أن يجلس للامتحان مرة أخرى لرغبته في أن يستوعب بمدرسة حنتوب الثانوية القسم الداخلي، فالتحق بمدرسة عمر المتوسطة بنين وكانت مدرسة حديثة، فأقام سنته تلك بحلة عمر لدى أسرة محمد ود اللمين ود حمد، وهو عركي كمبويابي، وكانت هذه الفترة فترة مهمة في حياة شاعرنا جبر الدار الذي يقول عن أهل حلة عمر بأنهم أهل علم ويشجعون التعليم، كما أن حلة عمر تعتبر من أهم القرى النموذجية بالجزيرة قاطبة. ويقول إنه لن ينسى أبداً تلك الحفاوة والاحترام الكبيرين اللذين وجدهما من أهل حلة عمر ومن أسرة مدرستها. ويقول عن مضيفه الكريم السيد محمد ود الامين ود بداًأ حمد بأنه شاعر ومتزوج بسيدة فاضلة، وهي ابنة عمه خادم الله بت أحمد ود حمد، وهي الأخرى شاعرة وشقيقة الشاعر المعروف محمد أحمد ود حمد الملقب "بالإسيد"، وابنة الشاعر الشهير أبو علامة الإسيد. ويقول إنه قد استفاد كثيراً في صقل موهبته الشعرية وهو في أحضان هذه الأسرة الكريمة التي تتنفس شعراً، وأنه لن ينسى أبداً عندما أكمل سنته تلك وأحرز في الامتحان درجات عالية، وقامت أسرة مدرسة عمر المتوسطة بإهدائه مبلغ خمسين جنيهاً كانت كالثروة في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، فغادرها وهو يحمل أجمل الذكريات ليلتحق بمدرسة (24) القرشي الثانوية – رغم أنه كان يتمنى حنتوب- ومن بعد إلى جامعة شرق النيل حيث درس فيها الاقتصاد مدرسة إلادارة وتخرج فيها عام 1996م. ويؤمن جبر الدار إيماناً عميقاً بقيمة العمل، فمنذ طفولته الباكرة وفجر صباه عمل بالرعي، فقد كان ربيب جديه لأمه وأبيه شيخ العرب نور الهدى محمد نور الهدى والعمدة عبد القادر محمد نور الهدى اللذين علماه أسرار الرعي والزراعة وهو يافع، فارتبط بالارض ارتباطا وثيقاً، وظل وفاؤه لها قائماً إلى الآن، وهذا ما يفسر لنا علمه الغزير بالمفردات اللغوية البدوية ذات الصلة بإلارض والزراعة والرعي والطبيعة التي وظفها توظيفاً بديعاً في أشعاره، كما سنرى في النماذج الثلاثة التالية الذي يقول في أولها مربعاً شعرياً اختار له قافية طروباً، وتراكيب شعرية احتشدت بالمفردات البدوية الوثيقة الصلة بلأرض، مستفيداً من مخزونه اللغوي الهائل، ثم أضفى عليه وزناً مموسقاً، وجعل من كل ذلك وصفاً لحسناء في أول الصبا كاد جمالها يطيح بروحه. يقول:- مَفـرودْ السَرَابْ اللتّـَبْ بَعـد مـا شَتَّ الفـرع النَش سِقايتو وبـاعدولو الختَّـه نَيّـل وزَاد خَدارْ ويادوب شراهو إنحتَّـه خَـلى الروح مِتِلْ ضَهر البِقتْ مُنبَــتَّه
ويقول وهو يخاطب راحلته وقد دنت به من ديار الأهل والأحباب مربعاً شعرياً لا يقوى عليه إلا شاعرٌ بدويٌ متمرس، وقد ضمنه ثقافته المرتبطة بالأرض ووصف غزلي بديع:- وَصلتَ أم أَصـله حَدَباتا البُيض هوَّايَّــه المخَلوفه قـوقـتْ رَقـليِكَ مِسليَـها حكَايه مَشتول التقـانِتْ المفروقْ وقَارضو رمَايـه العِقـد بين مقامْ ورَحيلْ و العَراوِي شقايَّـه وفي النموذج الثالث يصف جـبر الدار جمله ووعورة الدرب وحالته الوجدانية، وهـو في طريقة إلى ديار المحبوبة. وسنلاحظ في الشطرة الأولى والثالثة أنه لا يزال يتمسك بثقافة الأرض. يقول:- دَقَـشْ بـي أَنكُوجـاً دَبيبـــوا إِفِحْ فَـارد إيدهـو سِيدو من المَغايس إوِحْ عـلى برُيبـةْ الوَعَـرْ الصبيبو إِسٍـحْ مبيتنا الليله عِندو أَكانْ كِضِبْ إِن صِِحْ وظل إيمان جبر الدار بقيمة العمل قائماً في نفسه، واستطاع أن يوفق ما بين دراسته والعمل، وأخذ عمله بالأرض متصلاً رغم دخوله المدرسة، وعندما حاز الشهادة السودانية والتحق بالجامعة، عمل بموجب شهادته الثانوية موظفاً بالشؤون إلادراية بشركة الشيخ مصطفى الأمين للزيوت والصابون بالباقير لفترة عشر سنوات امتدت من عام 1990م إلى عام 1999م، ثم عمل بشركة جياد لصناعة السيارات لفترة امتدت منذ عام 2000م إلى عام 2003م، ثم انتقل ليعمل بالهيئة القومية للكهرباء حتى عام 2005م، إلا أنه لم يستطع مواصلة عمله فيها، حيث قام في 18/5/2005م بتسليم نفسه إلى مركز شرطة الهشابة، على إثر قتله المرحوم مصطفى المدني، وهو حادث سنتعرض لأهم تفاصيله في مكان آخر من هذه اللمحات. ورغم أن شاعرنا ظل يدرس ويعمل كما رأينا، إلا أن ذلك لم يشغله مطلقاً عن عمله في الزراعة، ولم يفصم عُرى ارتباطه بالأرض أبداً، فقد كان يتحين أية فرصة تتاح له كالاجازات السنوية والأسبوعية والمناسبات، ليشرف على زراعته بأم أصلة وأبو مريخة. وتعلق جبر الدار بالدوبيت منذ صغره وأيامه الباكرة وهو في كنف جديه، فقد كانا راويتان للدوبيت، فحفظ عنهما الكثير، وتعلم منهما أصول الدوبيت وفنونه وأسراره ولغته الخاصة ومفرداته، وجبر الدار حباه الله بصوت شجي، فعندما يشدو بالدوبيت يأخذ بمجامع القلوب، كل ذلك أضفى لاستعداده الفطري الذي شاكلته موهبته الكبيرة صقلاً ومِراناً، فأضحى شاعراً مُجِيداً، وقد عُرف جبر الدار بشاعريته الفذة في وقت مبكر، فقد كان شاعر الجمعيات الأدبية في المدارس التي تلقى تعليمه فيها، وكان يلقي عليهم الشعر دوبيتاً وفصيحاً، وكان لثقافته الواسعة وإطلاعه وقراءاته المتصلة وتعليمه العالي إسهام فاعل في رفعه إلى قمة سامقة من قمم شعر الدوبيت. واقترن في عام 1999م بإحدى قريباته، وهي السيدة فائزة فضل المولى أحمد التي تسانده الآن وهو يكابد محنته، مساندة الزوجة الصالحة التي إذا نظرت إليها سرتك، وإن أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك وعرضك، أهدته في أكتوبر من عام 2000م ابنة أسمياها زينب، فشبت نابغة، واستطاعت أن تحرز في عام 2006م ولمرتين على التوالي المركز الأول بالصف الأول بمدرسة أبو مريخة الابتدائية، وفي أغسطس من عام 2002م أنجبت له أحمد، وفي أكتوبر 2004م أنجبت له رواح. واستطاعت فائزة حرم شاعرنا المصون رغم مسئولياتها بصفتها زوجة، أن تواصل تعليمها وتخرجت في عام 2004م في كلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم بمرتبة الشرف الأولى. وشاءت إلاقدار أن يبتعد جبر الدار قسراً عن أسرته التي أحبها حباً ملك عليه كيانه، وهذا الابتعاد هو أقسى ما يعانيه، وأوقع وأمر على أحاسيسه من ظلام الزنزانة، وما أثقِلتْ به أعضائه من حديد. يقول جبر الدار وهو خلف أسواره وبين حوائط زنزانته الضيقة لأم أحمد وقد طال الفراق:- أَم أَحـمد عَزيزْ وَصلك بقالنا مُحـالْ وطالتَ الغيبَه مَاخَتيتْ عَصا التِرحَالْ بَعـدْ مَاكُـتْ أَفندي وفي جِياد شَغَّالْ لِبستَ قِـيوداً معليش الزمـان دوَّالْ
ويقول وهو يصف جمالها وأخلاقها:- مـن أُمـات عُـزازْ شَـالتْ طَبـايع سِتَّـه مَـا مَـرَّاقـه مــا خـانتْ عَـشيرا البتَّـه مَاها بَخيله لي ضيفَانا ما سَوَّتْ طَعام بي نَتَّـه خِلقَه جَميله فـي عينيها إحتشد الحيا واتختَّه
ويقول جبر الدار في مربع يأسر أصحاب الوجدان المتخثر والقلوب المتحجرة، وقد زارته في محبسه محبوبته وصنو روحه ورفيقة دربه، ثم ودعته وداعاً ما رغب فيه وهي تفرد يدها لتمدها إليه عبر سياج السجن، فرأى ساعتها أن كل أيامه الزاهية الماضية تبدلت حلاوتها إلى طعم مرّ، وهذا معنىً أجاد إبرازه هذا الشاعر المتمكن، وكأنما استـله استلالاً من قلب الإبداع ومن جوف الروعة. يقول:- اللَيلَه الصَعــيدْ أَمست بُروقو إِبرقّنْ وما حاسبَ السِنينْ مِن البَريدو إِفرقّنْ وَكِتْ ودَعنا فارد إيديهو لينا إتَمـدَّنْ مَسَّخْ لينا طعـم أيام معاهو اتعَـدَّنْ
تلك الأيام التي صار طعمها ماسخاً رغم ما كان لها من حلاوة كالشهد في نفس شاعرنا، ليست سوى اندياحاً عنيفاً جرف شاعرنا إلى أقصى مواجد الأسى وهو يكابد مأساته التي بدأ القدر في نسج خيوطها بفتائل سوداء منذ عام 2001م، وهو العام الذي فقد فيه جبر الدار خاله الحبيب وصديقه الصدوق المربي العمدة أحمد عبد القادر نور الهُدى الذي كانت تجمعه به إلفة ومودة كبيرتان، فشاءت الأقدار أن يقتله مصطفى المدني محيي الدين، وهو أحد أقاربه وحفيد الأمير المهدوي محيي الدين ود المدني، فأدانته المحكمة بجريمة القتل شبه العمد، وقضت بحبسه خمس سنوات، وان يدفع وعائلته لأولياء الدم الدية الكاملة ومقدارها ثلاثة ملايين دينار، وبذلك فقد جبر الدار خاله العزيز فقداً مأساوياً، وبهدوء قضى مصطفى المدني عقوبته وخرج من السجن. وبتاريخ 18/5/2005م عقب صلاة الفجر رافق جبر الدار ابن عمه أحمد الخير من قريتهم أبو مريخة نحو مزراع أب جراد، مستقلين تراكتورا ملحقة به ترلة لشحنها بالقصب الذي يخص أحمد الخير لبيعه في قرية ود النجومي، وذلك مروراً بقرية مبروكة. وعند انتهاء المهمة تحرك ركبهم عائداً نحو أبو مريخة عن طريق قرية مبروكة قاصدين بعض العمال ليرافقونهم، وهم في طريق العودة هناك شاهد جبر الدار قاتل خاله وفي يده عصاة. ويقول جبر الدار إن قاتل خاله حينما رآه استغرق في ضحك استفزازي، وقام برفع عصاه وأخذ يحركها من أسفل إلى أعلى، وهي إشارة بذيئة استفزته استفزازاً شديداً، فما كان منه وهو في ثورة غضبه إلا أن التقط عصاةً كانت بالتراكتور، وقفز نحو مصطفى المدني الذي بادره بالقول:- " بلحِقَك ليهو" أي ساقتلك كما فعلت بخالك، ثم دارت بينهما معركة استطاع خلالها جبر الدار أن يسدد عدة ضربات لمصطفى الذي خرّ ساقطاً، ولم تنجح محاولات إسعافه فتوفي إلى رحمة مولاه متأثرا بضربات جبر الدار الذي سارع بتسليم نفسـه إلى مركز شرطة الهشابة، وحدث السلطات بالوقائع التي حدثت. في ذات المركز دون ضد جبر الدار بلاغاً تحت تهمة القتل العمد، وبعد التحقيق معه تم نقله لحراسة شرطة مركز "الكوة " ومن ثم نقل إلى "القطينة" حيث أجريت المحاكمة التي نجم عنها حكم الإعدام شنقاً حتى الموت قصاصاً على شاعرنا جبر الدار محمد نور الهُدى. ولم يقبل جبر الدار بالحكم وقام باستئنافه لدى محكمة ولاية النيل الأبيض التي أيدت قرار محكمة الموضوع، ومن ثم تم رفع أوراق القضية إلى المحكمة العليا بالخرطوم مشفوعة بطعن من محامي جبر الدار، ورأت المحكمة العليا أن القتل كان نتيجة للاستفزاز الشديد المفاجئ، وبالتالي يعد قتلاً شبه عمد، وأمرت بإلغاء حكم الاعدام واستبدلته بالسجن لمـدة خمس سنوات والدية الكاملة التي تبلغ ثلاثة ملايين دينار. وحكم المحكمة العليا لم يُرض أولياء دم المرحوم مصطفى المدني، وطالبوها بمراجعة قرارها. وفي قرار المراجعة رأت الدائرة القضائية أن جبر الدار لا يستفيد من ظرف إلاستفزاز الشديد المفاجئ، حيث إن الاستفزاز لم تسنده الوقائع الثابتة بالبينات، ورأت أن تصدر قراراً بموجبه ألغت قرار المحكمة العليا، واستعادت حكم إلاعدام شنقاً حتى الموت قصاصاً على شاعرنا جبر الدار. ورأت دائرة التأييد أن جبر الدار قتل المرحوم ثأراً وانتقاماً لمقتل خاله، ولم يكن القتل نتيجة للاستفزاز، على أن محامي جبر الدار عارض هذا الحكم عن طريق دعوى دستورية، فأمرت المحكمة الدستورية بإيقاف تنفيذ حكم الاعدام إلى حين أن تفصل في الدعوى الدستورية المقامة أمامها، وإلى هذا الحين لم تفصل المحكمة الدستورية في الدعوى. ولا ندري ماذا سيحدث، غير أننا نأمل أن تصل أسرتا جبر الدار والمرحوم مصطفى المدني إلى صلح يقضي على حالة العداء التي قامت بينهما، فهما أسرتان ومن منطقة واحدة، وينتميان إلى قبيلة واحدة، وتجمع بينهما أواصر القربي، والصلح بينهما سيفضي إلى سلام اجتماعي وأمن أهلي بينهما، ويقطع موجات الشر والدائرة الجهنمية. ومنذ أن قضت محكمة القطينة بإلاعدام على جبر الدار وتم ترحيله إلى سجن كوبر بالخرطوم بحري، أضحت السلاسل والقيود الحديدية والزنازين الضيقة مصاحبة له، وهذه صورة لم تغب في أشعار جبر الدار. يقول:- يـوم إتنَينْ صَباح في أَولك يـا أكتوبَرْ من قَيقر في الدويم لي خَميس في كوبَرْ" " قَيـداً من تُقُلتو في مَشيك تِتخوبـــر ومِترين فـي متر الداخِلن إضطوبَــرْ" " بيد أن جبر الدار يدخر في نفسه شجاعة وصبراً وإيماناً، ويعد لكل حالة لبوسها، ويستدعي ما يدخره في نفسه لمجابهة كل أمر يسوقه له القدر كيفما بدا وعلى كل شاكلةٍ يكون، وهي معانٍ أفصح عنها في مربع شعري علاه الشوق والحنين يقول فيه: دَمير الشَوق عِلا وقَصد البَنَادِر عَـدَّى ومَا بتنشافْ جزايِرْ صَبرو قيفو إنهـدَّ ومـا بِنفَعْ مَـلاَم بَعَدْ القَـدر مــاهَدَّ " " تِنقَدَ الرهيفهْ إن شـاء الله مَــا تِنَسـدَّ ومن ارومته الكريمة ومن سماء تاريخها المرصع بنجوم العزة وشموس التصدي والشجاعة يستمد شاعرنا تحديه للقيود الحديدية والموت فيقول:- سَكِيـك القَيد زَاد العِزه في نَفسي القِبيل بَطرانَـه " " وحُكم المَــوت على إِعـدام شنِــق مَاهانَـه في بو وديعه لُقــد المَـوت مَلينــا الخَـانه " " كيـف تَاباهـو نَفســاً بين بيتينْ عُزازْ ربيان غير أن هذا الصمود تهزمه تباريح الأشواق الليلية، ومعها يفر المنام من أجفان شاعرنا فيقول:- بَعــد مَا الليل هِـدا وسَكَتَنْ جَنادبُو صَريخنْ ولوّشْ نجمو غَربْ وبُومــو زَاد في نويحنْ عُيون الرمـادْ لجَّــنْ وزَاد الأسى تجريحنْ مِـن وَين أَجيبلهِنْ مَـنام طَوَّلْ مَعاى تبريحَنْ وعندما يتملى جبر الدار حالة سجنـه الكئيب وسديمه الضبابي الذي تسامى فيه على آلامه بشموس القوافي، يدرك أن ما يصدر عن بعض رفقاء سجنه من تصرفات غير لائقة، لا تشي بمعرفتهم لمقامه وبما يحس به من عزة، وهذا ما يشكل له هواجس ظلت تطارده إلى أن عبر عنها بقوله:- النَاس هِـنا مَا بتَعرف مَقـام الناسْ وعُرفاً في السجن المابِدوس بِنْدَاسْ اللعـوجْ عَـديـلْ و الدَليلْ نسنَّاسْ الخَـاينْ زَعـيم واللئيمْ وَدْ نَـاسْ ومن هذا المحبس اللعين وضيقه المنفر نخرج إلى جمال الشعر ورحابته، فجبر الدار اقتحم عمارة الثلاثية الخالدة في شعر الدوبيت اقتحام المقتدر المتمرس، فغنى للأيانــق والحبائب. ومن ثلاثياته نورد نموذجين فيهما ما فيهما من ألق الشعر وتماسكه وقوته وجدته. يقول:- الليلة اللَحـو في خَبـُو ظَاهره البدنـَه ودومَاتو الكُبارْ فِيهِـنْ بَشوفو وَعِـدنَا أسرع فـي جَريـك وبيهـو لا توَجِعنَا كان حاسْ بالعليْ مِنْ يَوم مَجينا رَجَعنَا ويقول:- قَطـع مِيعـةْ الشاقَه والبَان البَعيـدْ إِتكَاشَفْ سِيـدك نَـمّ ووطيكْ فَـوقَ الأرض إتخافَـفْ جَابلـو عَجاجَـه واخفافُـو الحِـفنْ تِتْرَافَفْ على بُريبة الجَفَلَنْ تَـالا السَمـا البِترَافَـفْ
ودائماً ما تغرينا حديقة جبر الدار الشعرية بالدخول إليها وقطف ما يحلو من ثمارها وأزهارها، فلجبر الدار عن الأرض والمزن أشعار كثيرة تثبت لنا صلته بالطبيعة وحبه العميق لها. يقول:- ضُهريك كَجَرْ غَـطى الشَمس وحَجبهَــا وقِبليك مـا خيَّب السارحَ مضيق ورَحبهَـا وضَحويك قعـد الخَاتَّـه أم رِويق وسحبها فـوق بِلدات تُروسـا ضَعيفه مـا نقعـها ويقول:- كَجر ضُلك ومـن عصراً كبير سحابو إتردّمْ وعيشِــك شَال سَرُو سدَّ المسافات خَمْخَمْ عّجَّ خَلاهـو صوت رَاعيهـو دوبا ونَمْنَمْ وسيدك بَـدري نَام جَدَّع هُمومو ورَخَّــمْ وشاعرنا يعالج الغزل أيضاً، ومن غزلياته الممزوجة برائحة الطبيعة الخلابة وغزلانها المارِحة ونفور الحبائب الجميل وصدودهن المستحب الممزوج بالحياء والأدب يضمخنا بعطر مفرداته الجميلة وشذى كلماته المختارة، عندما يقول:- يا دَرعـةَ القَفرْ العَفـا القَيّـل عَقِيدك حَايمْ ودون تعَّـال صَبيب جابَتْ هَبايبـو نَسايـمْ قَفّا مزوزِي جَافل مِن دُهمةْ إِنسْ وسَوايـمْ " " خِلقــه الجفَوه طَبعوَ وشَابِك وَطيفو ونايمْ" " ويقول:- الدَرعـة الرَعيـها نَجيعْ فـلاه وممطورا أبيض لونـا سـابل ديسـا لـيْ متبوره مـن أبـوات قبيل شامات مجالس ونورا مـا بِدوهـا زوَل غَير وُدْ مَحل من دورَا وعندما تخالل أشعار جبر الدار الأشواق والحنين، يرسم في وجداننا لوحات الشجن فتحملنا معه في بساط الريح نحو ما يبتغيه من الوصال المنشـــود. يقول:- الشَـوقْ كِـتِر وغُـنانَا أمسـى صَريـحْ وضَربـاً في الضلوع كرتوبْ وخَاتي وَحيحْ " " شَـلَّعْ نَـومي ما خـلاني رَيَدو نصيــح لي متين نَمسي بينْ إِيدهـو سَـابق الرِيحْ ويوغل بنا جبر الدار في إتون الوجد الشفيف حينما يقول:- مَربَـطْ عِجيـل بَرقـاً ِيلـوحْ وإِتخَبَّـا" " طلـقْ فـيَّ نيـرانْ والقِّـليبْ إِتعـبَّـا مـن تَالا البَريدو وفي الفريقْ إِتربًّــا لي متينْ نمسي بَينْ إِيديهو ناخَـذْ العَبَّا قبل أن اخرج من هذه الحديقة الغناء وأن أُنهِيَّ ما أكتبه عن المبدع جبر الدار، لا بد أن أقرر بأن هذا الشاعر الفحل يعض بنواجذه على إرثنا الفني المتمثل في شعر الدوبيت الذي نظن أن راياته ستظل معه ومع أمثاله من الشعراء الشباب خفافة أبداً، وسيظل شعرنا القومي والدوبيت كاساس له قائم فينا وفي وجداننا ما ظلت تلك الآرام ترعى في مسارحها، وما ظلت تلك الظعائن ترنــو للبروق والصبيب، وما ظلت الأرض تنبت على أديمها الزرع ويسمق فيه الفرع، وما ظلت المودة تلف قلوب المحبين والعاشقين، وما ظلت النساء تنجب أمثال جبر الدار محمد نور الهدى.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: munswor almophtah)
|
الشاعر جبر الدار محمد نور الهدى.. لا يزال ينتظر في محبسه الإعدام أو الفرج (4) جبر الدار محمد نور الهدى شاعرٌ بينَ سديم ِالمنافي وشموس ِالقوافي وقف كل من كان حاضراً بقاعة محكمة القطينة العامة يلفهم الصمت العميق إلا من دقات قلوبهم وتهدج أنفاسهم، وهم يرون القاضي يدخل ليتصدر منصته ويتأهب لإصدار حكمه على المتهم، فأمرهم بالجلوس عدا المتهم الذي ظل واقفاً مترقباً، ثم أخذ القاضي يتلو حكمه على المتهم "حكمت عليك المحكمة بإلاعدام شنقاً حتى الموت" ٍقدر الله وما شاء فعل" جملة رددها شاعرنا جبر الدار بعد أن سمع الحكم بإعدامه. حدث هذا في خريف عام 2005م، ومنذ ذلك التاريخ وحتى كتابة هذه السطور لا يزال جبر الدار رهين محبسه ما بين مقاومة هذا الحكم وانتظار تنفيذه عليه بغرفة الإعدام بالسجن الاتحادي بالخرطوم بحري كوبر. وكل من اقترب من هذا الشاعر الشاب يدرك أنه شاب خلوق متمسك بدينه، وعلى سمته يجلس وقارُُ مستظهر، وعلى سيمائه لطف كبير وحس مرهف، تمنعه من قتل ذبابة قصداً أو ظلماً. إذن ماهي قصة هذا الحكم الذي صدر على شاعرنا جبر الدار وجعله يقاوم سديم المنافي الضبابية بشموس القوافي الساطعة ؟ سنرى ... شاعرنا جبر الدار الذي يقف الآن على قمة العقد الرابع من عمره، ولد بمنطقة "أم أصلة" الواقعة بمحافظة المناقل في غرب ولاية الجزيرة وسط السودان، واستقرت أسرته بإحدى القرى الحديثة التي نشأت مع مشروع الجزيرة الزراعي وهي قرية " أبو مريخة" وينتسب إلى قبيلة " الطوال" أحد فروع قبيلة رفاعة الكبرى. والطوال قبيلة لها تاريخها الناصع و المضئ الذي أغري سليلها شاعرنا جبر الدار بكتابته، ومن أمانيه العزيزة أن يستطيع إكمال كتابة هذا البحث التاريخي، فهو يرى أن المؤرخين قد أهملوا تاريخ الطوال رغم ثرائه. ومما كتبه جبر الدار عن تاريخ الطوال نجتزئ بعض المقتطفات. يقول:- الطوال ينتمون إلى حمد بن السيد رافع بن السيد عامر بن السيد عبد الله بن السيد إبراهيم بن السيد إلامام موسى الكاظم بن السيد الامام جعفر الصادق بن الامام محمد الباقر بن الامام على زين العابدين بن الامام أبي عبد الله الحسين بن الامام على كرم الله وجهه. ويقول جبر الدار إن قبائل "الحمدة" و"العركيين" و "العسيلات" و "الحلاويين" و"القواسمة" و"العوامرة" و"العمارنة" و"الضباينـة" وبعض القبائل الاخرى، ينتسبون إلى السيد حمد بن السيد رافع الذي كان له خمسة عشر ابناً. ويقول جبر الدار إن الطوال ينقسمون إلى ثلاثة أفخاذ هم "النصيرات" ومنهم الشيخ سلمان الطوالي جد الطوال و"السواعدة" ثم "النهراب". وأبان جبر الدار أن جد جده نور الهدى ود محمد ود الصافي بايع الامام المهدي وهو شيخ يربو على الثمانين من عمره، وعاصر خليفته عبد الله التعايشي، وتوفي في عهده ودفن بمقابر أحمد شرفي بجوار زوجته الحرم بنت أبو القاسم. والمعروف أن ابنه مصطفى نور الهدى قد شارك في حملة عبد الرحمن النجومي وعبد الحليم مساعد إلى مصر التي انتهت بمعركة "توشكي". وأوضح جبر الدار أن هذه الوشائج ربطت آباءه بعقيدة المهدية، وأضحوا من أبكار المهدية والأنصار، كما أوضح أن هنالك أمراءً في المهدية ينتسبون إلى قبيلة الطوال، منهم محيي الدين ود المدني الذي كان مقرباً من الخليفة عبد الله التعايشي، وكان الكاتب الرئيسي لأحمد بك عوض الكريم أبو سن عندما كان مديراًً لمديرية الخرطوم إبّان العهد التركي. وأورد جبر الدار في بحثه قصة حبس جد جده نور الهدى مع مالك ود أب روف اللذين أعلنا عصيانهما خلال حكم التركية السابقة عندما كان الحاكم هو ممتاز باشا، ورفضا دفع الضرائب رغم أن حالهما كان ميسوراً، ولم ينصاعا رغم حبسهما وتعذيبهما، وعندما تم إطلاق سراحهما قام مالك ود أب روف بنحر أعداد هائلة من إلابل ووزع لحومها على " الجعيدية"، والجعيدية اسم كان يطلق على الغجر آنذاك، وذلك تدليلاً على أنه يملك المال ولا يود دفع الضرائب كمجاهدة مدنية ضد المستعمر الأجنبي، لذا سمي بمالك ود أب روف ضباح ألبل للجعيدية، ويضيف جبر الدار بأن جده نور الهدى قد قال في ما يشبه التنبؤ وبعد أن تم إطلاق سراحه، بأن حكم ممتاز سيزول وأنهم سوف يثأرون، وذلك من خلال مربع شعري قاله وهو يصف جملاً أهداه له مالك ود أب روف . يقول فيه:-
التَـــرزو مَخــــدّه وسَمـحَـه فوقـو الشَـدّه حُــكـم مُمتـاز بِتعَـدّى وبنلقـى وِكيـت بِنَسـَدَّه وفعلاً زال حكم ممتاز باشا وتسيدت المهدية، وقام نور الهدى إلى مبايعتها في شبـشة الشيخ برير بالنيل الأبيض الواقعة شمال الدويم على الضفة الغربية للنيل الأبيض. وتعرض جبر الدار في حديثه عن تاريخ الطوال إلى أحداث كثيرة ومثيرة، ومن ذلك أورد تفاصيل معركة " لُقُدْ أَبو وِدَيعَة" بين الطـوال والحسانـية، وكـان قـد نشـب بيـن القبيلتين نزاع حول "لقد أبو وديعة"، وهي أرض خصبة تتجمع فيها مياه الأمطار. ورغم أن المعركة قتل فيها حوالى ثلاثين من الطوال وهم جل من اشترك منهم في المعركة، إلا أنهم فازوا بالأرض بعد انسحاب الحسانية الذين كانوا يخشون أن تتدخل قبائل مناصرة للطوال في المعركة. وحدثت تلك المعركة في القرن الثامن عشر، وكان في يوم أربعاء، فصارت المقولة التاريخية" الأربعاء الكَّمْلَتْ الطُوال" ورغم أن أبناء عمومة الطوال من العركيين كانوا قريبين من أرض المعركة، إلا أنهم لم يناصروهم بسبب نزاع سابق بينهما، حكى لنا جبر الدار قصته، وقال إنه نشأ حول ملكية عِد "بئر" يسمى "عِــد معتوق"، وهذا العِد اكتشفه أحد رقيق الطوال في وقت كانت فيه المياه شحيحة، وبسبب هذا الاكتشاف تم عتق ذلك الرقيق، ومن هنا جاءت تسميته بعد معتوق، وغير هذا كانت للطوال من الأدلة ما يساند ملكيتهم لهذا العد الذي إدعى العركيون ملكيته، ومنها أن الشيخ محيي الدين راجل أب سويد ود الشيخ سلمان الطوالي مقبور في مقابر معتوق ويزار قبره إلى اليوم، واستمر العداء بين العركيين والطوال منذ ذلك العهد. ومما ترك ضغائن وإحناً في النفوس قيام المك الإحيمر مك العركيين بقتل "سلوقي" خال عبد القادر ود الشيخ نور الهدى أبو قرن، وعبد القادر هذا أخ الشيخ محيي الدين وصهر المك إلاحمير، فقد كان متزوجاً بابنته، إلا أنه لم يكن حاضراً ساعة قتل سلوقي، فقد كان غائباً ومشغولاً بتجارة الرق التي كان يمارسها، وعندما حضر وعلم بما حدث، أخذ عدداً من عبيده ولحق بالمك الإحيمر بمنطقة "أم بيلول" جنوب شرق معتوق وقتله بالقرب من قرية العطشــة حالياً. ويذكر جبر الدار أن شاعرة الطوال" بت رغمان" قد رافقت أهلها من الطوال في معركتهم ضد الحسانية في لقد أبو وديعة، وكانت لأشعارها الحماسية قبل وأثناء المعركة آثار بائنة، فلم يغادر الطوال أرض المعركة، فمات جلهم في أبو وديعة، وظلت بت رغمان تفخر بأهلها بعد المعركة التي كان من نتائجها فوزهم بالأرض، وقد أورد جبر الدار في بحثه أشعاراً لبت رغمان، ومن تلك الأشعار الكثيرة تقول بت رغمان: شَنـُّو المِزَاحْ خَربـــو وتَيرانْ حَرِكَا دَرب الشُرادْ سَدو تَــرا الطيـــن وَجّـَبـو ******** أهَـل اللصهبْ البنَصــرْ إِن دَخلوا الكُجَرْ لي جَلسةْ المَحَكرْ وإن دخلوا الوسيق قلبوا مَنايحَ الدَّرْ مِـا فيـهُـن وَركـاً أَحــلْ ترا الشمتانْ يضوق يومكن أحر وأمر تَــرا الطيـن وَجَّـَبـوا ******** يا حِليل أب جَماير اللي تِلبَ الخُلُوْق بِنْهَرْ القوي والضعيف مِنُو الرِجال تنْصَّرْ يا وارد مَشَارعُو لَيْ غُسْلَكْ إِتْحَضَّرْ سد القَدْ أبوك يا المعني فات شبَّرْ سِيــد عزاً قديم وافرْ ولو مَعَبـَرْ ترا الطين وجَبوا ******** أبْ فاطنـه الخـليل اللفظه حَـقاهَا ونَايحةْ السما في جســدُو غَـدَّاها ودْ شَقَّاقْ بِقول فَســلاتْ بِنْطرَاها وكتْ القير يقيف فات العِيَارْ طَــه ونُور هِدى يا العيال بي جَرَّه سدَّاهَا تـرا الطين وجَّـبوا ******** يــوم الأربعـاء الأصبح علينا شطيط الكمـل عـيال المـلـكـه والشنكـيت صقـر الجـو بحلق فـي سماهو بعيط قال ليهم أنا من هناك سمعت بيكم جيت قــالو لو أبشر يا صقر نحنا بنغديك ******** نغـديك كـلاوي مــو لحـم عيسيت نحـنا مهوسكين لي أمات حِلي وسوميت
واحرتو الكف جميع كان خدره ما بتشيط ترا الطين وجَّبـوا
ويحتشد البحث التاريخي الذي يعده جبر الدار بوقائع تاريخية مهمة تعكس تاريخ قبيلة الطوال، والقبائل ذات الصلة والمجاورة والحالة الاجتماعية والسياسية والعقلية التي كانت سائدة في منطقة الطوال الجغرافية، ابتداءً من القرن الثامن عشر وما لحق بها من تطورات متلاحقة. والبحث اعتمد على ما تيسر لكاتبه من مصادر مكتوبة وشفهية، واتسم بالدقة والعلمية والجدة. ونأمل أن تزدان به المكتبة السودانية قريباً. وتلقي شاعرنا جبر الدار تعليمه الأولي بمدرسة أبو مريخة الابتدائية، ومنها انتقل إلى مدرسة الرخاء المتوسطة بمنطقة الماطوري، ورغم اجتيازه للامتحان النهائي المؤهل للدخول للمدرسة الثانوية وقبوله بمدرسة فريـني التجارية بمدني القسم الخارجي، إلا أنه آثر أن يجلس للامتحان مرة أخرى لرغبته في أن يستوعب بمدرسة حنتوب الثانوية القسم الداخلي، فالتحق بمدرسة عمر المتوسطة بنين وكانت مدرسة حديثة، فأقام سنته تلك بحلة عمر لدى أسرة محمد ود اللمين ود حمد، وهو عركي كمبويابي، وكانت هذه الفترة فترة مهمة في حياة شاعرنا جبر الدار الذي يقول عن أهل حلة عمر بأنهم أهل علم ويشجعون التعليم، كما أن حلة عمر تعتبر من أهم القرى النموذجية بالجزيرة قاطبة. ويقول إنه لن ينسى أبداً تلك الحفاوة والاحترام الكبيرين اللذين وجدهما من أهل حلة عمر ومن أسرة مدرستها. ويقول عن مضيفه الكريم السيد محمد ود الامين ود بداًأ حمد بأنه شاعر ومتزوج بسيدة فاضلة، وهي ابنة عمه خادم الله بت أحمد ود حمد، وهي الأخرى شاعرة وشقيقة الشاعر المعروف محمد أحمد ود حمد الملقب "بالإسيد"، وابنة الشاعر الشهير أبو علامة الإسيد. ويقول إنه قد استفاد كثيراً في صقل موهبته الشعرية وهو في أحضان هذه الأسرة الكريمة التي تتنفس شعراً، وأنه لن ينسى أبداً عندما أكمل سنته تلك وأحرز في الامتحان درجات عالية، وقامت أسرة مدرسة عمر المتوسطة بإهدائه مبلغ خمسين جنيهاً كانت كالثروة في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، فغادرها وهو يحمل أجمل الذكريات ليلتحق بمدرسة (24) القرشي الثانوية – رغم أنه كان يتمنى حنتوب- ومن بعد إلى جامعة شرق النيل حيث درس فيها الاقتصاد مدرسة إلادارة وتخرج فيها عام 1996م. ويؤمن جبر الدار إيماناً عميقاً بقيمة العمل، فمنذ طفولته الباكرة وفجر صباه عمل بالرعي، فقد كان ربيب جديه لأمه وأبيه شيخ العرب نور الهدى محمد نور الهدى والعمدة عبد القادر محمد نور الهدى اللذين علماه أسرار الرعي والزراعة وهو يافع، فارتبط بالارض ارتباطا وثيقاً، وظل وفاؤه لها قائماً إلى الآن، وهذا ما يفسر لنا علمه الغزير بالمفردات اللغوية البدوية ذات الصلة بإلارض والزراعة والرعي والطبيعة التي وظفها توظيفاً بديعاً في أشعاره، كما سنرى في النماذج الثلاثة التالية الذي يقول في أولها مربعاً شعرياً اختار له قافية طروباً، وتراكيب شعرية احتشدت بالمفردات البدوية الوثيقة الصلة بلأرض، مستفيداً من مخزونه اللغوي الهائل، ثم أضفى عليه وزناً مموسقاً، وجعل من كل ذلك وصفاً لحسناء في أول الصبا كاد جمالها يطيح بروحه. يقول:- مَفـرودْ السَرَابْ اللتّـَبْ بَعـد مـا شَتَّ الفـرع النَش سِقايتو وبـاعدولو الختَّـه نَيّـل وزَاد خَدارْ ويادوب شراهو إنحتَّـه خَـلى الروح مِتِلْ ضَهر البِقتْ مُنبَــتَّه
ويقول وهو يخاطب راحلته وقد دنت به من ديار الأهل والأحباب مربعاً شعرياً لا يقوى عليه إلا شاعرٌ بدويٌ متمرس، وقد ضمنه ثقافته المرتبطة بالأرض ووصف غزلي بديع:- وَصلتَ أم أَصـله حَدَباتا البُيض هوَّايَّــه المخَلوفه قـوقـتْ رَقـليِكَ مِسليَـها حكَايه مَشتول التقـانِتْ المفروقْ وقَارضو رمَايـه العِقـد بين مقامْ ورَحيلْ و العَراوِي شقايَّـه وفي النموذج الثالث يصف جـبر الدار جمله ووعورة الدرب وحالته الوجدانية، وهـو في طريقة إلى ديار المحبوبة. وسنلاحظ في الشطرة الأولى والثالثة أنه لا يزال يتمسك بثقافة الأرض. يقول:- دَقَـشْ بـي أَنكُوجـاً دَبيبـــوا إِفِحْ فَـارد إيدهـو سِيدو من المَغايس إوِحْ عـلى برُيبـةْ الوَعَـرْ الصبيبو إِسٍـحْ مبيتنا الليله عِندو أَكانْ كِضِبْ إِن صِِحْ وظل إيمان جبر الدار بقيمة العمل قائماً في نفسه، واستطاع أن يوفق ما بين دراسته والعمل، وأخذ عمله بالأرض متصلاً رغم دخوله المدرسة، وعندما حاز الشهادة السودانية والتحق بالجامعة، عمل بموجب شهادته الثانوية موظفاً بالشؤون إلادراية بشركة الشيخ مصطفى الأمين للزيوت والصابون بالباقير لفترة عشر سنوات امتدت من عام 1990م إلى عام 1999م، ثم عمل بشركة جياد لصناعة السيارات لفترة امتدت منذ عام 2000م إلى عام 2003م، ثم انتقل ليعمل بالهيئة القومية للكهرباء حتى عام 2005م، إلا أنه لم يستطع مواصلة عمله فيها، حيث قام في 18/5/2005م بتسليم نفسه إلى مركز شرطة الهشابة، على إثر قتله المرحوم مصطفى المدني، وهو حادث سنتعرض لأهم تفاصيله في مكان آخر من هذه اللمحات. ورغم أن شاعرنا ظل يدرس ويعمل كما رأينا، إلا أن ذلك لم يشغله مطلقاً عن عمله في الزراعة، ولم يفصم عُرى ارتباطه بالأرض أبداً، فقد كان يتحين أية فرصة تتاح له كالاجازات السنوية والأسبوعية والمناسبات، ليشرف على زراعته بأم أصلة وأبو مريخة. وتعلق جبر الدار بالدوبيت منذ صغره وأيامه الباكرة وهو في كنف جديه، فقد كانا راويتان للدوبيت، فحفظ عنهما الكثير، وتعلم منهما أصول الدوبيت وفنونه وأسراره ولغته الخاصة ومفرداته، وجبر الدار حباه الله بصوت شجي، فعندما يشدو بالدوبيت يأخذ بمجامع القلوب، كل ذلك أضفى لاستعداده الفطري الذي شاكلته موهبته الكبيرة صقلاً ومِراناً، فأضحى شاعراً مُجِيداً، وقد عُرف جبر الدار بشاعريته الفذة في وقت مبكر، فقد كان شاعر الجمعيات الأدبية في المدارس التي تلقى تعليمه فيها، وكان يلقي عليهم الشعر دوبيتاً وفصيحاً، وكان لثقافته الواسعة وإطلاعه وقراءاته المتصلة وتعليمه العالي إسهام فاعل في رفعه إلى قمة سامقة من قمم شعر الدوبيت. واقترن في عام 1999م بإحدى قريباته، وهي السيدة فائزة فضل المولى أحمد التي تسانده الآن وهو يكابد محنته، مساندة الزوجة الصالحة التي إذا نظرت إليها سرتك، وإن أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك وعرضك، أهدته في أكتوبر من عام 2000م ابنة أسمياها زينب، فشبت نابغة، واستطاعت أن تحرز في عام 2006م ولمرتين على التوالي المركز الأول بالصف الأول بمدرسة أبو مريخة الابتدائية، وفي أغسطس من عام 2002م أنجبت له أحمد، وفي أكتوبر 2004م أنجبت له رواح. واستطاعت فائزة حرم شاعرنا المصون رغم مسئولياتها بصفتها زوجة، أن تواصل تعليمها وتخرجت في عام 2004م في كلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم بمرتبة الشرف الأولى. وشاءت إلاقدار أن يبتعد جبر الدار قسراً عن أسرته التي أحبها حباً ملك عليه كيانه، وهذا الابتعاد هو أقسى ما يعانيه، وأوقع وأمر على أحاسيسه من ظلام الزنزانة، وما أثقِلتْ به أعضائه من حديد. يقول جبر الدار وهو خلف أسواره وبين حوائط زنزانته الضيقة لأم أحمد وقد طال الفراق:- أَم أَحـمد عَزيزْ وَصلك بقالنا مُحـالْ وطالتَ الغيبَه مَاخَتيتْ عَصا التِرحَالْ بَعـدْ مَاكُـتْ أَفندي وفي جِياد شَغَّالْ لِبستَ قِـيوداً معليش الزمـان دوَّالْ
ويقول وهو يصف جمالها وأخلاقها:- مـن أُمـات عُـزازْ شَـالتْ طَبـايع سِتَّـه مَـا مَـرَّاقـه مــا خـانتْ عَـشيرا البتَّـه مَاها بَخيله لي ضيفَانا ما سَوَّتْ طَعام بي نَتَّـه خِلقَه جَميله فـي عينيها إحتشد الحيا واتختَّه
ويقول جبر الدار في مربع يأسر أصحاب الوجدان المتخثر والقلوب المتحجرة، وقد زارته في محبسه محبوبته وصنو روحه ورفيقة دربه، ثم ودعته وداعاً ما رغب فيه وهي تفرد يدها لتمدها إليه عبر سياج السجن، فرأى ساعتها أن كل أيامه الزاهية الماضية تبدلت حلاوتها إلى طعم مرّ، وهذا معنىً أجاد إبرازه هذا الشاعر المتمكن، وكأنما استـله استلالاً من قلب الإبداع ومن جوف الروعة. يقول:- اللَيلَه الصَعــيدْ أَمست بُروقو إِبرقّنْ وما حاسبَ السِنينْ مِن البَريدو إِفرقّنْ وَكِتْ ودَعنا فارد إيديهو لينا إتَمـدَّنْ مَسَّخْ لينا طعـم أيام معاهو اتعَـدَّنْ
تلك الأيام التي صار طعمها ماسخاً رغم ما كان لها من حلاوة كالشهد في نفس شاعرنا، ليست سوى اندياحاً عنيفاً جرف شاعرنا إلى أقصى مواجد الأسى وهو يكابد مأساته التي بدأ القدر في نسج خيوطها بفتائل سوداء منذ عام 2001م، وهو العام الذي فقد فيه جبر الدار خاله الحبيب وصديقه الصدوق المربي العمدة أحمد عبد القادر نور الهُدى الذي كانت تجمعه به إلفة ومودة كبيرتان، فشاءت الأقدار أن يقتله مصطفى المدني محيي الدين، وهو أحد أقاربه وحفيد الأمير المهدوي محيي الدين ود المدني، فأدانته المحكمة بجريمة القتل شبه العمد، وقضت بحبسه خمس سنوات، وان يدفع وعائلته لأولياء الدم الدية الكاملة ومقدارها ثلاثة ملايين دينار، وبذلك فقد جبر الدار خاله العزيز فقداً مأساوياً، وبهدوء قضى مصطفى المدني عقوبته وخرج من السجن. وبتاريخ 18/5/2005م عقب صلاة الفجر رافق جبر الدار ابن عمه أحمد الخير من قريتهم أبو مريخة نحو مزراع أب جراد، مستقلين تراكتورا ملحقة به ترلة لشحنها بالقصب الذي يخص أحمد الخير لبيعه في قرية ود النجومي، وذلك مروراً بقرية مبروكة. وعند انتهاء المهمة تحرك ركبهم عائداً نحو أبو مريخة عن طريق قرية مبروكة قاصدين بعض العمال ليرافقونهم، وهم في طريق العودة هناك شاهد جبر الدار قاتل خاله وفي يده عصاة. ويقول جبر الدار إن قاتل خاله حينما رآه استغرق في ضحك استفزازي، وقام برفع عصاه وأخذ يحركها من أسفل إلى أعلى، وهي إشارة بذيئة استفزته استفزازاً شديداً، فما كان منه وهو في ثورة غضبه إلا أن التقط عصاةً كانت بالتراكتور، وقفز نحو مصطفى المدني الذي بادره بالقول:- " بلحِقَك ليهو" أي ساقتلك كما فعلت بخالك، ثم دارت بينهما معركة استطاع خلالها جبر الدار أن يسدد عدة ضربات لمصطفى الذي خرّ ساقطاً، ولم تنجح محاولات إسعافه فتوفي إلى رحمة مولاه متأثرا بضربات جبر الدار الذي سارع بتسليم نفسـه إلى مركز شرطة الهشابة، وحدث السلطات بالوقائع التي حدثت. في ذات المركز دون ضد جبر الدار بلاغاً تحت تهمة القتل العمد، وبعد التحقيق معه تم نقله لحراسة شرطة مركز "الكوة " ومن ثم نقل إلى "القطينة" حيث أجريت المحاكمة التي نجم عنها حكم الإعدام شنقاً حتى الموت قصاصاً على شاعرنا جبر الدار محمد نور الهُدى. ولم يقبل جبر الدار بالحكم وقام باستئنافه لدى محكمة ولاية النيل الأبيض التي أيدت قرار محكمة الموضوع، ومن ثم تم رفع أوراق القضية إلى المحكمة العليا بالخرطوم مشفوعة بطعن من محامي جبر الدار، ورأت المحكمة العليا أن القتل كان نتيجة للاستفزاز الشديد المفاجئ، وبالتالي يعد قتلاً شبه عمد، وأمرت بإلغاء حكم الاعدام واستبدلته بالسجن لمـدة خمس سنوات والدية الكاملة التي تبلغ ثلاثة ملايين دينار. وحكم المحكمة العليا لم يُرض أولياء دم المرحوم مصطفى المدني، وطالبوها بمراجعة قرارها. وفي قرار المراجعة رأت الدائرة القضائية أن جبر الدار لا يستفيد من ظرف إلاستفزاز الشديد المفاجئ، حيث إن الاستفزاز لم تسنده الوقائع الثابتة بالبينات، ورأت أن تصدر قراراً بموجبه ألغت قرار المحكمة العليا، واستعادت حكم إلاعدام شنقاً حتى الموت قصاصاً على شاعرنا جبر الدار. ورأت دائرة التأييد أن جبر الدار قتل المرحوم ثأراً وانتقاماً لمقتل خاله، ولم يكن القتل نتيجة للاستفزاز، على أن محامي جبر الدار عارض هذا الحكم عن طريق دعوى دستورية، فأمرت المحكمة الدستورية بإيقاف تنفيذ حكم الاعدام إلى حين أن تفصل في الدعوى الدستورية المقامة أمامها، وإلى هذا الحين لم تفصل المحكمة الدستورية في الدعوى. ولا ندري ماذا سيحدث، غير أننا نأمل أن تصل أسرتا جبر الدار والمرحوم مصطفى المدني إلى صلح يقضي على حالة العداء التي قامت بينهما، فهما أسرتان ومن منطقة واحدة، وينتميان إلى قبيلة واحدة، وتجمع بينهما أواصر القربي، والصلح بينهما سيفضي إلى سلام اجتماعي وأمن أهلي بينهما، ويقطع موجات الشر والدائرة الجهنمية. ومنذ أن قضت محكمة القطينة بإلاعدام على جبر الدار وتم ترحيله إلى سجن كوبر بالخرطوم بحري، أضحت السلاسل والقيود الحديدية والزنازين الضيقة مصاحبة له، وهذه صورة لم تغب في أشعار جبر الدار. يقول:- يـوم إتنَينْ صَباح في أَولك يـا أكتوبَرْ من قَيقر في الدويم لي خَميس في كوبَرْ" " قَيـداً من تُقُلتو في مَشيك تِتخوبـــر ومِترين فـي متر الداخِلن إضطوبَــرْ" " بيد أن جبر الدار يدخر في نفسه شجاعة وصبراً وإيماناً، ويعد لكل حالة لبوسها، ويستدعي ما يدخره في نفسه لمجابهة كل أمر يسوقه له القدر كيفما بدا وعلى كل شاكلةٍ يكون، وهي معانٍ أفصح عنها في مربع شعري علاه الشوق والحنين يقول فيه: دَمير الشَوق عِلا وقَصد البَنَادِر عَـدَّى ومَا بتنشافْ جزايِرْ صَبرو قيفو إنهـدَّ ومـا بِنفَعْ مَـلاَم بَعَدْ القَـدر مــاهَدَّ " " تِنقَدَ الرهيفهْ إن شـاء الله مَــا تِنَسـدَّ ومن ارومته الكريمة ومن سماء تاريخها المرصع بنجوم العزة وشموس التصدي والشجاعة يستمد شاعرنا تحديه للقيود الحديدية والموت فيقول:- سَكِيـك القَيد زَاد العِزه في نَفسي القِبيل بَطرانَـه " " وحُكم المَــوت على إِعـدام شنِــق مَاهانَـه في بو وديعه لُقــد المَـوت مَلينــا الخَـانه " " كيـف تَاباهـو نَفســاً بين بيتينْ عُزازْ ربيان غير أن هذا الصمود تهزمه تباريح الأشواق الليلية، ومعها يفر المنام من أجفان شاعرنا فيقول:- بَعــد مَا الليل هِـدا وسَكَتَنْ جَنادبُو صَريخنْ ولوّشْ نجمو غَربْ وبُومــو زَاد في نويحنْ عُيون الرمـادْ لجَّــنْ وزَاد الأسى تجريحنْ مِـن وَين أَجيبلهِنْ مَـنام طَوَّلْ مَعاى تبريحَنْ وعندما يتملى جبر الدار حالة سجنـه الكئيب وسديمه الضبابي الذي تسامى فيه على آلامه بشموس القوافي، يدرك أن ما يصدر عن بعض رفقاء سجنه من تصرفات غير لائقة، لا تشي بمعرفتهم لمقامه وبما يحس به من عزة، وهذا ما يشكل له هواجس ظلت تطارده إلى أن عبر عنها بقوله:- النَاس هِـنا مَا بتَعرف مَقـام الناسْ وعُرفاً في السجن المابِدوس بِنْدَاسْ اللعـوجْ عَـديـلْ و الدَليلْ نسنَّاسْ الخَـاينْ زَعـيم واللئيمْ وَدْ نَـاسْ ومن هذا المحبس اللعين وضيقه المنفر نخرج إلى جمال الشعر ورحابته، فجبر الدار اقتحم عمارة الثلاثية الخالدة في شعر الدوبيت اقتحام المقتدر المتمرس، فغنى للأيانــق والحبائب. ومن ثلاثياته نورد نموذجين فيهما ما فيهما من ألق الشعر وتماسكه وقوته وجدته. يقول:- الليلة اللَحـو في خَبـُو ظَاهره البدنـَه ودومَاتو الكُبارْ فِيهِـنْ بَشوفو وَعِـدنَا أسرع فـي جَريـك وبيهـو لا توَجِعنَا كان حاسْ بالعليْ مِنْ يَوم مَجينا رَجَعنَا ويقول:- قَطـع مِيعـةْ الشاقَه والبَان البَعيـدْ إِتكَاشَفْ سِيـدك نَـمّ ووطيكْ فَـوقَ الأرض إتخافَـفْ جَابلـو عَجاجَـه واخفافُـو الحِـفنْ تِتْرَافَفْ على بُريبة الجَفَلَنْ تَـالا السَمـا البِترَافَـفْ
ودائماً ما تغرينا حديقة جبر الدار الشعرية بالدخول إليها وقطف ما يحلو من ثمارها وأزهارها، فلجبر الدار عن الأرض والمزن أشعار كثيرة تثبت لنا صلته بالطبيعة وحبه العميق لها. يقول:- ضُهريك كَجَرْ غَـطى الشَمس وحَجبهَــا وقِبليك مـا خيَّب السارحَ مضيق ورَحبهَـا وضَحويك قعـد الخَاتَّـه أم رِويق وسحبها فـوق بِلدات تُروسـا ضَعيفه مـا نقعـها ويقول:- كَجر ضُلك ومـن عصراً كبير سحابو إتردّمْ وعيشِــك شَال سَرُو سدَّ المسافات خَمْخَمْ عّجَّ خَلاهـو صوت رَاعيهـو دوبا ونَمْنَمْ وسيدك بَـدري نَام جَدَّع هُمومو ورَخَّــمْ وشاعرنا يعالج الغزل أيضاً، ومن غزلياته الممزوجة برائحة الطبيعة الخلابة وغزلانها المارِحة ونفور الحبائب الجميل وصدودهن المستحب الممزوج بالحياء والأدب يضمخنا بعطر مفرداته الجميلة وشذى كلماته المختارة، عندما يقول:- يا دَرعـةَ القَفرْ العَفـا القَيّـل عَقِيدك حَايمْ ودون تعَّـال صَبيب جابَتْ هَبايبـو نَسايـمْ قَفّا مزوزِي جَافل مِن دُهمةْ إِنسْ وسَوايـمْ " " خِلقــه الجفَوه طَبعوَ وشَابِك وَطيفو ونايمْ" " ويقول:- الدَرعـة الرَعيـها نَجيعْ فـلاه وممطورا أبيض لونـا سـابل ديسـا لـيْ متبوره مـن أبـوات قبيل شامات مجالس ونورا مـا بِدوهـا زوَل غَير وُدْ مَحل من دورَا وعندما تخالل أشعار جبر الدار الأشواق والحنين، يرسم في وجداننا لوحات الشجن فتحملنا معه في بساط الريح نحو ما يبتغيه من الوصال المنشـــود. يقول:- الشَـوقْ كِـتِر وغُـنانَا أمسـى صَريـحْ وضَربـاً في الضلوع كرتوبْ وخَاتي وَحيحْ " " شَـلَّعْ نَـومي ما خـلاني رَيَدو نصيــح لي متين نَمسي بينْ إِيدهـو سَـابق الرِيحْ ويوغل بنا جبر الدار في إتون الوجد الشفيف حينما يقول:- مَربَـطْ عِجيـل بَرقـاً ِيلـوحْ وإِتخَبَّـا" " طلـقْ فـيَّ نيـرانْ والقِّـليبْ إِتعـبَّـا مـن تَالا البَريدو وفي الفريقْ إِتربًّــا لي متينْ نمسي بَينْ إِيديهو ناخَـذْ العَبَّا قبل أن اخرج من هذه الحديقة الغناء وأن أُنهِيَّ ما أكتبه عن المبدع جبر الدار، لا بد أن أقرر بأن هذا الشاعر الفحل يعض بنواجذه على إرثنا الفني المتمثل في شعر الدوبيت الذي نظن أن راياته ستظل معه ومع أمثاله من الشعراء الشباب خفافة أبداً، وسيظل شعرنا القومي والدوبيت كاساس له قائم فينا وفي وجداننا ما ظلت تلك الآرام ترعى في مسارحها، وما ظلت تلك الظعائن ترنــو للبروق والصبيب، وما ظلت الأرض تنبت على أديمها الزرع ويسمق فيه الفرع، وما ظلت المودة تلف قلوب المحبين والعاشقين، وما ظلت النساء تنجب أمثال جبر الدار محمد نور الهدى.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: munswor almophtah)
|
كيف سينظر الشارع العربي لجسد الشاعرة جمانة حداد
جمانة ولحظة تأمل وترقب
(6) كيف سينظر الشارع العربي لجسد الشاعرة جمانة حداد جمانة سلوم حداد شاعرة وصحفية لبنانية نشطة تقول في تعريفها ويكيبيديا الموسوعة الحرة بالشبكة العنكبوتية أنها تعمل كمسؤولةً عن الصفحة الثقافية في جريدة النهار اللبنانية، ومديرةً إداريةً للجائزة العالمية للرواية العربية (أو الـ"بوكر" العربية)، ورئيسة تحرير مجلة "جسد"، وهي مجلة أولى من نوعها في العالم العربي، متخصصة في آداب الجسد وفنونه أصدرت مجموعات شعرية عدّة نالت صدى نقدياً واسعاً في لبنان والعالم العربي، كما تُرجم بعضها إلى لغات أجنبية.أجرت سلسلة من الحوارات الشاملة مع مجموعة كبيرة من الكتّاب العالميين، من أمثال أومبيرتو إكو، بول أوستر، جوزيه سارامو، باولو كويلو، بيتر هاندكه وآخرين.تتقن سبع لغات، ولها ترجمات في الشعر والرواية والمسرح لعددٍ من الأدباء العرب والعالميين، منها "انطولوجيا الشعر اللبناني الحديث" بالاسبانية التي صدرت في اسبانيا كما في بلدان مختلفة من أميركا اللاتينيةنالت جائزة الصحافة العربية عام 2006.هي عضوٌ في هيئة الكتاب والمطالعة في وزارة الثقافة اللبنانية.جمانة حداد أيضاً فنانة كولاج.وقتٌ لحلم، 1995، بيروت. دعوة إلى عشاء سرّي، 1998، دار النهار للنشر، بيروت. يدان إلى هاوية، 2000، دار النهار للنشر، بيروت. لم أرتكب ما يكفي، 2003، مختارات شعرية، دار كاف نون، القاهرة. عودة ليليت، 2004، دار النهار للنشر، بيروت/ 2007، دار آفاق، القاهرة. النمرة المخبوءة عند مسقط الكتفين، 2007، مختارات شعرية، منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم، الجزائر. عادات سيئة، 2007، مختارات شعرية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة. مرايا العابرات في المنام، 2007، دار النهار للنشر والدار العربية للعلوم، بيروت. تتقن سبع لغات. فازت بجائزة الصحافة العربية للعام 2006 عضوٌ في هيئة الكتاب والمطالعة في وزارة الثقافة اللبنانية. تمتاز جمانة بلغة شرسة سمعناها تقول لقارئها:{ إماّ أن تهرب، إما أن تدجّن موتكَ... لا يُقرأ هذا الكتاب إلا بالتدجين} وهي تبتدر أثرها {مرايا العابرات في المنام} الذي تتحدث فيه عن إثنتي عشرة شاعرة من إثني عشر بلداً إنتحرن بطرق مختلفة {حبوب منومة، إطلاق نار، غرق، شنق، غاز، قفز من مكان عال، سم، مخدرات، قطع شرايين من الرسغ، حريق، وكهرباء} وتخترع جمانة لهؤلاء الشاعرات المنتحرات عوالم وميتات وتتقمصهن، وتتكلم بإسمهن تارة، وتخاطبهن طوراً، ثم تروح تنقب في فلسفة عيشهن، وتعري أساليب إنتحارهنَّ وطقوسها، مُقدِمةً تفسيرات وجودية وتخييلية لها بناء على مثلث الدين والعلم والأدب. من أجواء { مرايا العابرات في المنام} نطرح جزءاَ من نموذج البريطانية المنتحرة {فرجينيا وولف} تقول عنها جمانة: بعد موجة كآبة شديدة، في صباح جمعة باردة من شهر آذار، مشت الروائية البريطانية فرجينيا وولف الى حتفها بجيوب مثقلة بالحجارة في النهر الى أن أخذ انفاسها الأخيرة وحققت التجربة التي قالت إنها :" لن تضيعها ابدا".. كتبت كلماتها الأخيرة لزوجها ليوناردو وتركتها على موقد الفحم:" أيها الأعز، لدى يقين أنني أقترب من الجنون ثانية. وأشعر أننا لن نستطيع الصمود أمام تلك الأوقات الرهيبة مجدداً فلن أشفى هذه المرة ـ بدأتُ أسمع الأصوات ولم يعد في وسعي التركيز، لهذا سأفعل الشيء الذي أظنه الأفضل، لقد كنتَ صبورا إلى أقصى حد، وطيباً على نحو لا يصدق، أود أن أقول هذا ـ كل الناس يعلمون هذا. إذا كان ثمة من أنقذني فقد كان أنت. كل شيء ضاع مني إلا يقيني بطيبتك لا أستطيع أن أستمر في إفساد حياتك أكثر". كما تتسلق الجرأة لغتها الشعرية وهذا أوضح ما يكون في نصها { عودة ليليت} وليليت كما تقول: جاء ذكرُها في الميتولوجيات السومرية والبابلية والأشورية والكنعانية، كما في العهد القديم والتلمود. تروي الأسطورة أنّـها المرأة الأولى، التي خلقها الله من التراب على غرار آدم. لكنّ ليليت رفضت الخضوع الأعمى للرجل وسئمت الجنّة، فتمرّدت وهربت ورفضت العودة. آنذاك نفاها الربّ الى ظلال الأرض المقفرة، ثم خلق من ضلع آدم المرأة الثانية، حوّاء. تقول في بعض مقاطع القصيدة: {أنا ليليت إلهةُ الليـلَين العائدةُ من منفاها،أنا ليليت العائدةُ من سجن النسيان الأبيض، لبوء ة السيّد وإلهة الليـلَين. أجمعُ ما لا يُـجمع في كأس وأشربه لأنّي الكاهنة والهيكل. لا أترك ثمالةً لأحد كي لا يُـظنَّ ارتويت. أتجامعُ وأتكاثرُ بذاتي لأصنع شعباً من ذريتي، ثم أقتلُ عشّـاقي كي أفسح للذين لم يعرفوني،أنا ليليت المرأةُ الغابة. لم أعرف انتظاراً يُـرجى لكنّي عرفتُ الأسُود وأصناف الوحوش الأصيلة. ألقّح جميع أنحائي لأصنع الحكاية، أجمع الأصوات في رحمي لـيكتمل عدد العبيد. آكل جسدي كي لا أُعيَّر بالجوع وأشرب مائي كي لا أشكو عطشا. ضفائري طويلة من أجل الشتاء وحقائبي غير مسقوفة. لا يرويني شيء ولا يشبعني شيء، وأعود لأكون لبوءة الضائعين في الأرض،من ناي الفخذين يطلع غنائي، الأنهرُ من شبقي، فكيف لا يكون مدٌّ، كلّما افترّت شفتاي العموديتان عن قمر؟ أنا ليليت سرُّ الأصابع حين تلحّ. أشقُّ الطريق وأكشفُ الأحلام وأشرّعُ مدن الذكورة أمام طوفاني. لا أجمع اثـنين من كل جنس بل أكونهما كي يرجع النسل نقياً من كل طهر،غرورُ النهدين أنا، صغيران لينموا ويضحك،ليطلبا ويؤكلا، نهداي مالحان، شاهقان لا أبلغهما،قبِّـلوهما عنّي،لي عرشُ بلقيس وتاجُ كليوباترا،لي كتابُ نرسيس ورؤوسُ يوحنّا، ليس من رداءٍ أتدثّر به سوى فمي، جنسي المحجور عليه في أعماق الرأس، محجورٌ عليه ليظلّ يطالب،أنا ليليت الملاكُ الماجنة. فرس آدم الأولى ومفسدة ابليس. الحيية لأنّي حورية البركان والغيور لأني وسواس الرعونة الجميل. لم تحتملني الجنّة الأولى فطُردتُ لأرمي فتنةً في الأرض وأدبّر في المخادع أحوال رعيتي.أنا اللبوءةُ المغوية أعودُ لأصحّح ضلوع آدم وأحرّر الرجال من حواءاتهم،أنا ليليت العائدةُ من منفاها لأرثَ موتَ الأم التي أنجبتُـها}. ظلت جمانة حداد في دائرة الأضواء الأدبية والشعرية والصحفية منذ أن بدأت الكتابة والنشر في وقت مبكر من حياتها وهي لم تتجاوز الثالثة عشرة من عمرها عندما صدر لها ديوانها الشعري الأول باللغة الفرنسية وقدم له الرئيس اللبناني شارل حلو وهي مطلوبة بشدة في الحوارات الصحفية العربية والأجنبية أو في الحوارات عبر القنوات الفضائية وفي المنتديات الأدبية وقد كتب عنها الكثير من الكتاب والأدباء والنقاد وقد عنَّ لي مقال لسناء غانم لإيراده هنا وجاء تحت عنوان{دعوة إلى مناطق الهجس} نشرته في 22/10/1998 جريدة النهار البيروتية وقد برز كما يلي: { نغتبط عندما نقرأ ديواناً شعرياً او روايةً او نصاً ادبياً عاماً في العربية يكسر، مباشرة وبقوة حرمة المكرّس في الكتابة الذكورية التي تتحدث عن المرأة بلسان رجل. كما لدى قراءتنا الادبي العربي الحديث، وخصوصاً اللبناني ، وفي الستينات وبعد السبعينات ، نشعر ان الكتابة الادبية آخذة في تضييق المسافة الهائلة بين لغتي الرجل والمرأة ، وان لا احد من الطرفين يستطيع منفرداً ان يستأثر بالآخر ادبياً ، وينوب عنه في التعبير عن مشاعره وافكاره ، مهما بلغت حدة توتراتها الداخلية، وايا تكن المناطق السرية التي ترتادها. لقد أسّس في تلك الحقبة " تراث" حر من الادب الجديد ، كانت فيه الكتابة نوعاً من الارض المشتركة والمتداخلة بين الرجل والمرأة. فكان الكاتب اذا اراد ان يكتب الحبيبة او عنها، يعرف في المقابل ان ثمة كاتبة تكتب ذاتها او عن ذاتها ويعرف ايضا ان ثمة فوق تلك الارض الادبية المشتركة ما لا يستطيع هو ان يكتبه بنفسه او يكتب عنه، بقلم هواجسه وعقله وجسده ومشاعره. وبات ذلك التأسيس مثابة جزء لا يتجزأ من طبع حياتنا الادبية ومن إلفة تلك الحياة وغناها. لكن زمن الوهج ذلك، عندما انقضى اكثره، سدل ستارة من الخسران وراءه، بحيث ان كتابتنا دخلت، رغم كل الانتاج الادبي النسائي المرافق والمتنوع، في مرحلة شبه أحادية تمثلت في كتابة الذكوريه عن المرأة الى حد بتنا معه نظن ان الكتابة على لسان امرأة وفي صيغة " الأنا " الحادة لن تستطيع ان تشق طريقها في سهولة في حياتنا اللبنانية العربية. صحيح ان كتابات كثيرة ظلت تغني مكتبتنا الادبية، طوال الفترة الممتدة من السبعينات حتى اليوم، تحمل توقيع اديبات وروائيات وشاعرات، من لبنان والعالم العربي، لكن بعض هذه الكتابات اختار صيغاً لا تقوم على استخدام " الانا " الانثوية مباشرة ، بل ربما تبتعد عن خوض غمار التجرؤ على السائد الكتابي و" انتزاع" الدور الذي صادره الرجل ، بحكم الامر الواقع ، وجعله لنفسه، حيث يعبّر عن هواجس المرأة وأفكارها، مروراً بقلمه وبجسده وبلغته الشخصية. في غالب الاحيان نقرأ في ادبنا، وربما في ادب غيرنا ، صورة المرأة وافكارها وجسدها وهواجسها خلال ما يكتبه الشاعر او الروائي عنها. فأدبنا الذكوري يكتب في " جرأة " عن المرأة ، واحياناً يكتب المرأة ، لكن من حيث يرى ويشعر ويختبر. واذا كانت بعض الكتابات النسائية تروح اليوم في اتجاه كسر هذا السائد ، فان بعضها يسعى الى ذلك ، عبر اساليب لغوية وذهنية يجري فيها اكثر الكلام على لسان الاخر ايا كان ضميره اللغوي. يخشى المرء وهو يكتب مثل هذا المقال ان يقع في التعميم، الذي يجرف التفكير الى متاهات يصعب التقاط وقائعها وحسن نتائجها الحسية والعقلية بالبرهان الدامغ. لكن ما لا نخشاه هو شوقنا الى أدب يجري على لسان امرأة بلغة "الأنا" ويدخل علينا دخولاً جريئاً ومتجزئاً، كاسراً حدة التحايل والمراوغة والخجل في قول الذات ، مانعاً "اللياقة" المواربة والخبيثة، واضعاً الكلام بدون أقنعة لغوية وذهنية وشعورية وبدون خفر منهجي ومبرمج. أدب يفتح لنا بلغة المرأة الحقيقية أبواب رأسها وجسدها وعقلها وكل الامكنة المغمورة في داخلها بالقمع والنسيان والتفادي والتهرّب. ادب يقول لنا بقلم المرأة ان الارض الادبية المشتركة هي فعلاً أرض مشتركة، ولا احد يستطيع ان يصادرها ويكتبها منفرداً وان لا احد يستطيع ان يخترق سطح العقل الاخر ليكون باطنه، مثل هذا الشخص الاخر بالذات ، كما لا يستطيع ان يخترق سطح جسده وسطح مشاعره الانسانية وهلوساته وملامح جنونه وحكمته ، مثلما يفعل هو أيضاً . في هذا المعنى بالذات ، وبعيداً عن اصدار احكام القيمة ، نحب أن نقرأ " دعوة الى عشاء سري" لجمانة سلوم حداد ، كتاب يقول لنا " الشخص الاخر " بلغة هذا الشخص الاخر وأفكاره وهواجسه وتجاربه ، كتاب يقول لنا شخص الانثى، عقلها، جسدها مشاعرها ورغباتها . يقول لنا كل ذلك وبلا خوف بل بفروسية ونبل نسائيين واضحي المعالم والنبرات. يقول لنا كيف تعاش الحياة في المكان الاخر وبلغة الشخص الاخر ، وكيف يكون الخروج من قمقم اليومي والزائل الى فضاء يذهب عميقاً وعميقاً الى قعر الذات ومشاعرها ورغباتها. "دعوة الى عشاء سري" لجمانة سلوم حداد يضعنا في " المنطقة المحرّمة " منطقة الرأس الذي يقول كل شيء ، منطقة الهواجس والافكار والتجارب الحقيقية والتطلعات المتخيلة ، بصدق صادم ومفترس، وبحكمة طاغية، وبجنون اليف، وبايروتيكية شديدة وخاصة، حرة ومنزّهة من الابتذال. وتضعنا الشاعرة في تلك "المنطقة المحرّمة" بعلو نفس وبصدق نادرين في بساطتهما وحرارتهما. كتابها نوع من السفر في رأس المرأة، وكيف ترى المرأة الحياة وكيف تعيشها وتموتها ، وكيف تهرب وتعود ، وكيف تنعتق وتنسجن ، وكيف تفكّر المرأة في الرجل ، كيف تراه ، كيف تعيشه، كيف ترذله وتحبه وتتركه وتصطاده ، وكيف تكتب كل هذا وغيره عن نفسها ، وبأي صدق وبساطة فتأخذ الحرية في هذا النوع من الكتابة مجراها كاملاً ، كاسرة حواجز التابو والمحرّم ، وفاتحة نافذة مشرقة على قمر الرغبات، أياً يكن تحليقها والفسحات التي ترتادها. لكنه كتاب بريء من ثقل " الإيديولوجيا " النسائية ومن افكار الكفاح الاجتماعي ومن الارث الثقافي في هذا المجال، وهو كأنه يكتب لغته ويطلع من تجربته الشخصية بلا ام ولا أب، متحرراً من ماضي الكتابة، محاولاً الطيران في عالمه الخاص بجناحي الشعر والنثر في آن واحد، ولئن كان النثر يضفي على الكتاب بعد حضوره ، الا ان الشعر سرعان ما يخطف الكلام ويعلّي خفق جناحيه بين الغيوم. لغة الكتاب تأتي من العالم المغلق والحميم ، لتقول كل الذات ، افكارها ، جسدها ، وكل الرغبات بقلم الحب والحنان والبساطة والجرأة والتمرّد، ولتفتح المرأة على لاوعيها السري والغامض، أي على مناطق الهجس التي لا يملكها سوى الشعراء والكتّاب والفنانين عموماً. تكتب جمانة حداد من وراء خفر العقل ومن وراء احجام المنطق الاجتماعي، تكتب شخصيتها بايقاعاتها وبتوترات دواخلها. تكتب موسيقى حياتها السرية، براكينها المضطرمة في آن واحد. وهي مثل النبع ، لا يتوقف حلمها عن الانبجاس، فتصل ليل الخيال بنهاره، وعتمة الجسد بضوئها ، وهي تفعل ذلك من دون الوقوع في موت اللغة ، لان تجربتها تعد بسعادة الحياة الكاسرة حدودها قدر ما تنبثق من جحيم العيش وأتون الحرب. تأتي جمانة حداد الى كتابها هذا من تجربة كانت منذورة للغة الفرنسية، وللغات الأجنبية الاخرى، فقد أصدرت سابقاً مجموعة شعرية بالفرنسية، تعكس الرؤى التي تضج في رأس المرأة وعوالمها الداخلية ، ولئن كان كتابها الصادر الآن يتجرأ علينا بعنف التجربة وعمقها الإنساني والفلسفي والوجودي، ولئن كان يتطلع بثقة لافتة الى اختمار لغته الشعرية، فإنّه لا يتوانى عن تقديم الوعود الحقيقية بربيع حياته الشعرية المقبلة}. على أن مشروع جمانة الأدبي الأحدث هو مجلتها{جسد} وهي مجلة ثقافية فصلية جديدة أولى من نوعها متخصصة في آداب الجسد وفنونه وتقول جمانة إن المجلة تنطلق من مقولة الشاعر الألماني{نوفاليس}:" المعبد الحقيقي الوحيد في هذا العالم هو جسد الإنسان". وتضيف: الجسد هو فعلاً جزء جوهري من من إرثنا وحياتنا ولكننا في العلم العربي عمدنا إلى إخفائه،إلى تجاهله، أو إلى إحتقاره كما لو أنه غير موجود كما لو أنه ينبغي علينا أن نستحي منه. وتستمر جمانة فتقول: لأجل ذلك ولأسباب أخرى كثيرة تمثل {جسد} مبادرة رائدة في المنطقة العربية، مبادرة تهدف الى المساهمة في كسر التابوهات الظلامية التي تؤخر تقدم ثقافتنا وأذهاننا ولغتنا. وصرحت جمانة بأم مجلتها ستنطوي على أبحاث في السنما والأدب والفن التشكيلي والتجهير والتصوير والمسرح وإلى ما ذلك وسترافق موادها مروجة واسعة من الصور واللوحات والرسوم التي تدور حول قيمة الجسد. ثم انتحى تصريح جمانة منحى خطيرا عندما أشارت الى أن المجلة أقساما وزوايا متنوعة بدءا من ربيورتاجات حول المثلية والكانيبالية وتشويه الذات وصناعة البورنو وصولا الى وصفات مثيرة للشهوة وعرض الطقوس الجنسية في الثقافات الغربية مرورا بقصائد وقصص تنتمي الى الأدب الايروتيكي بأقلام كتاب لبنانيين وعرب وعالميين. ثم اختتمت تصريحها بقولها: إن الكتاب يستحقون الحرية.. حرية الفكر.. حرية الكلمة.. حرية التعبير.. حرية اللا يتعرضوا للرقابة ولا للتهديدات ولا لأشكال التطرف كافة.. حرية أن يعضوا.. حرية أن يتحدوا.. حرية أن يكسروا.. لأن الكتاب والفنانين يستحقون مثل هذه الحريات وأنا على ثقة بأن مجلة جسد ستوفر لهم ذلك وأكثر. لم تسلم جسد من الهجوم الضاري قبل صدورها وقد إتخذ الهجوم عليها شكلين الشكل الأول إتهامها بسرقة الفكرة، الشكل الثاني تضمن هجوما حول مصادمة الفكرة لتقاليد وإرث العالم العربي. وقد ردت جمانة على منتقديها ومهاجميها بما تعتقده من أفكارها التي تنادي بها. على أن سؤالنا الملتهب لا يزال قائما مستمرا .. كيف سيستقبل الشارع العربي جسد الشاعرة جمانة سلوم حداد.. سنرى.
الفهــرســــت الموضوع........................................................................................الصفحة الإهـــــــــــــــــــداء............................................................... إضاءة: بقلم الأستاذ إبراهيم إسحق إبراهيم{رئيس إتحاد الكتاب السودانيين}.............................. مقدمة: بقلم المؤلف...................................................................................... الفصل الأول:{شذور متفرقة حول ثلاثة شعراء سودانيين}................................ 1- {الشاعر محمد سعيد العباسي}............................................................ أ- المدن السودانية في شعر العباسي..................................................................... ب- مصر في شعر العباسي............................................................................... 2- {الشاعر الطيب العباسي}................................................... أ- الشاعر الطيب العباسي هدية الأدب للقانون............................................................ ب- ما بين الشاعر الطيب العباسي والأديبة اللبنانية ليلى بعلبكي.......................................... 3- {الشاعر محمد الواثق}..................................................................... أ- محمد الواثق وهجاء المدن السودانية.................................................................. ب- الفارس الأعزل: قراءة قبل الطبع..................................................................... ج- الصور الغزلية في ديوان (أم درمان تحتضر)......................................................... الفصل الثاني:{شذور دراسية حول الأدب}............................................. الرمز في الإبداع الشعري المعاصر...................................................................... قراءة في نفسية الادب.................................................................................. دراسة حول الأدب الشعبي السوداني (الدوبيت).......................................................... الفصل الثالث:{شذور حول الأدب العالمي}............................................................ مقتطفات من الأدب الفارسي وتاريخه................................................................................................ مقتطفات من الأدب الياباني وتاريخه.................................................................... تولستوي وفن الرسائل.................................................................................. مقتطفات عن علاقة الجنوح والإبداع عند الأديب الفرنسي جان جينيه................................... الفصل الرابع:{شذور متفرقة ما بين الموروث القصصي والشعر}..... الشموس تمشي في الدماء جهارا....................................................................... رجال يحبسون وأعناق تدق وشعراء يأسون............................................................ ماء المآقي في قوافي العاشقين......................................................................... جبر الدار شاعر بين سديم المنافي وشموس القوافي.................................................... روزمين الصياد: بلبل اليوم وشاعرة الغد............................................................... كيف سينظر الشارع العربي لجسد الشاعرة جمانة حداد................................................ المصادر والمراجع............................................................................................ الفهرست............................................................
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: munswor almophtah)
|
Quote: الفهــرســــت الموضوع........................................................................................الصفحة الإهـــــــــــــــــــداء............................................................... إضاءة: بقلم الأستاذ إبراهيم إسحق إبراهيم{رئيس إتحاد الكتاب السودانيين}.............................. مقدمة: بقلم المؤلف...................................................................................... الفصل الأول:{شذور متفرقة حول ثلاثة شعراء سودانيين}................................ 1- {الشاعر محمد سعيد العباسي}............................................................ أ- المدن السودانية في شعر العباسي..................................................................... ب- مصر في شعر العباسي............................................................................... 2- {الشاعر الطيب العباسي}................................................... أ- الشاعر الطيب العباسي هدية الأدب للقانون............................................................ ب- ما بين الشاعر الطيب العباسي والأديبة اللبنانية ليلى بعلبكي.......................................... 3- {الشاعر محمد الواثق}..................................................................... أ- محمد الواثق وهجاء المدن السودانية.................................................................. ب- الفارس الأعزل: قراءة قبل الطبع..................................................................... ج- الصور الغزلية في ديوان (أم درمان تحتضر)......................................................... الفصل الثاني:{شذور دراسية حول الأدب}............................................. الرمز في الإبداع الشعري المعاصر...................................................................... قراءة في نفسية الادب.................................................................................. دراسة حول الأدب الشعبي السوداني (الدوبيت).......................................................... الفصل الثالث:{شذور حول الأدب العالمي}............................................................ مقتطفات من الأدب الفارسي وتاريخه................................................................................................ مقتطفات من الأدب الياباني وتاريخه.................................................................... تولستوي وفن الرسائل.................................................................................. مقتطفات عن علاقة الجنوح والإبداع عند الأديب الفرنسي جان جينيه................................... الفصل الرابع:{شذور متفرقة ما بين الموروث القصصي والشعر}..... الشموس تمشي في الدماء جهارا....................................................................... رجال يحبسون وأعناق تدق وشعراء يأسون............................................................ ماء المآقي في قوافي العاشقين......................................................................... جبر الدار شاعر بين سديم المنافي وشموس القوافي.................................................... روزمين الصياد: بلبل اليوم وشاعرة الغد............................................................... كيف سينظر الشارع العربي لجسد الشاعرة جمانة حداد................................................ المصادر والمراجع............................................................................................ الفهرست......... |
الأديب الأستاذ: العباسي أولا : مبارك مبارك هذا الأنجاز الأدبى الفخيم وأمنياتى لك بالتوفيق والسداد تفرحنى جدا أخبار نجاحات من أحببتهم وقرأتهم , وأيضا من لم أعرف يسعدنى أنه وبخطه ولو سطرا فى عالم الجمال أو الفن بكل ضروبه فقد تطهر وأغتسل من كل الأدران التى لا تفتأ الحياة تلحقها بأثواب أرواحنا . ثانيا: سامحك الله يا سيدى الفاضل فقد أجحفت قليلا بحق تلك الأسماء المتلألئة فى سماوات الأدب بوضعك أسمى المتواضع بين زمرة أسماء كلما قرأت لها حمدت خالقى على نعمة خلقه لكل هذا الجمال وأن أعطانى نعمة الحياة والنظر والعقل لأنعم وأبصر وأتنفس خلال حروفهم الوضاءة ثالثا : شاكرة لك يا سيدى ثوب الفخار الذى البستنى أياه ومجاورتى لكل الشموس التى بثت فى عوالمنا وقلوبنا دفئا وفرحا ونورا وأيمانا . عاجزة عن الشكر يا عزيزى وجزاك الله عنى كل خير أن سطرنى يراعك وخلدنى فى سفر الخالدين ...
الأستاذ والأديب منصور :
Quote: لا بل أبى ذلكم الأسعد إلا وأن يختار من بيننا فكان خير الإختيار روزمين الشاعره الجاهره بصوت يعرف النمل والنحل منتحاه فينحون إليه ولا ينتحون عنه لما فيه من شفاء وأى شفاء يضاهى ما فى العسل إلا ذلكم الذى فى الكى (وكيا فوق قديم الكى ضبحنى حلال) |
كف تواضعا يا أستاذى وسيدى الفاضل ما أنا الا تلميذة صغيرة ورغم عبء حمل حقيبتها الصغيرة المتروسة ببعض علمكم وأدبكم ما زالت تنكفىء لتلتقط ما تناثر من أثر خطوكم وبعض نوركم وما زالت تمشى على سراط مددتم لها أياديكم الخضراء لتعينها على العبور خلاله وتقيم عثرتها وتجنبها السقوط فى جهنم القبح
لكم من الشكر أجزله ولكم جميعا أصدقائى فى سوادنيز محبتى وأحترامى وكل القراء
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: munswor almophtah)
|
شكرا لك العزيز المفتاح على (انزال) الكتاب كاملا.. فهو بحق ثمرة سنين طويلة من اعتراك الأدب والفنون.. صديقنا العزيز المشترك اسعد العباسي.. من القلائل الذين اتحفني الدهر بهم فهو انسان محب مخلص وهو رجل طريف ظريف وهو فنان مرهف ومفكر جاد وعميق وذو أصالة.. في الفترة الآخيرة توطدت علاقتنا وسعدت بانه أمي في ما يخص التكنلوجيا فقمت بكتابة هذه المخطوطة الرائعة بالنيابة عنه ولهذا فإنني أشعر بأجر المشاركة تحيتي ومودتي
ملحوظة: حاولت انزال صفحة الغلاف ولكني لم أستطع لكبر حجمها أو لعطل في الموقع
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: قصي مجدي سليم)
|
الأخ قصى مجدى سليم
السلام والرحمه فإن كنت من أعان أسعد على طباعة ذلك السفر
فإن لك من الصبر ما لأيوب فيا عزيزى إن إنزاله هنا فى هذا
المنبر ذبحنى ذبح غرائب الإبل وفقدت كل ما كتبته عنه مرتين
فيا عزيزى أنت أحد أعمدة الإخراج التقنى والذى يستحق الإشارة
فى الكتاب ضمن كل من أسهم معه فى جمع معلوماته أو قدم له
عارضا لمادته الهامه لا بل لك أجرا عدا نقدا نلزم به أسعد
والناشر بأن ياتيك حلالا لا تشوبه أى شائبة رغم متانة علاقتك
بأسعد الذى لا (يهمه المال أكان كتر أو راح) ولك خالص السلام
منصور
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: rosemen osman)
|
الأخت روزمين تحياتي
صوبنا الخطأ المتعلق بتاريخ التخرج وأجرينا التعديل رغم أن الكتاب بيد الناشر وذهب للمطبعة سنتسلم نسخة نهائية للمراجعة قبل صدور الكتاب في يوم 30الجاري وأهيب بزملائي في هذا المنبر أن يرسلوا لي ملاحظاتهم حول الكتاب قبل صدوره في التاريخ المذكور تفادياً لأي خطأ أوزلل وذلك عبر إيميلي [email protected] أونفس العنوان على الـ hotmail والشكر لكم جميعاً أخوتي وزملائي في المنبر وشكر خاص لروزا وقصي ومنصور المفتاح الذي فاجأني بهذا البوست الرائع وأدعوا لي أن يوفقني الله في خدمة الأدب والقانون بجهودي المتواضعة.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: Asaad Alabbasi)
|
ولدت روزمين عندما كنت وأسعد طلابا فى الجامعه وحسبى
أن أسعد من آكلى مرارة السمايا وشاربا عليها من كتال
الدى السلاف فلماذا يؤرخ لتخريجها فى القرن الماضى
وهى بنت الآن والحين آخذة من عيسى قوة الخطاب وقدرة
الإسهاب والإطناب والإفحام تلكم التى كتبت بلغة تخيف
الرجال ولا يقوون على ما توحى به لأنهم لا يدرون التأويل
ولا يفقهون غير المباشره وغير ما يحرك الغرائز فى العوالم
السفلى ولا يرتقى منهم إلا الراقى الإنسان الذى يسمو فوق سماوات
المثل والأرواح بعيدا عن تلك عوالم الأشباح..................
منصور
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: munswor almophtah)
|
الأستاذه الشاعره روزمين لا تدرى كم هو صعب أن يختارك الأستاذ أسعد لتعرض دسم مائدته لعلماء فى الطهى وأنا الذى لم يقك حرف المطاله قط فترددت كثيرا عندما وجدت الدكتور إبراهيم إسحاق الأديب الذى تنتظرنا عنه ثورة سيفجرها العالم وستكون أكبر من تلك التى كان موضوعها الطيب صالح عارضا للكتاب بتؤدة الباحث وتأنى العالم الجليل فتلبستنى حالة من الرهبه وشكلت أرجل كى بوردى وأسقطت عنه بعض الصفحات أو أنزلتها فى غير مكانها فنسألك العفو فذلكم عمل شاق ومسئولية جسيمه لا ولن أستطع عبء تحملها فيا عزيزتى إن كنتى قد إستوقفتى أسعد بما تكتبين فهو من الثقات الأمناء وهو واصل ببذه وبذله وموصول بتقدير جهد الغير فلك وله السلام..................................
منصور
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: munswor almophtah)
|
أن تقدم للقارئ وعلى طبق من ذهب أروع مأدبة لجوعى القراءه الجاده الشاعر محمد سعيد العباسى يقدم لأول مره من أقرب الناس إليه تقديما يوضح جوانبا غابت عن كل من قدمه فى السابق ومن منا كان يعرف أسماء مهراته وأسماء نوقه وكلاب صيده ونسب كل من ذلك بتفاصيل تفنن فيها كاتبنا أسعد العباسى لابل أن يكون لجانب العباسى إبنه الأديب والشاعر الجهير الطيب محمد سعيد العباسى الذى إستطاع كاتبنا أن يحوى كل جوانبه فى الكتابة عنه عارضا لأشعاره وذاكرا لمواقفه وموضحا لعلائقه وموثقا لإنسانياته وفى ذات المأدبه يأتينا الكاتب بخشاف الشعر وكشافه الشاعر الملهم العبقرى محمد الواثق صاحب المفرده ذات الجرس الفريد وذات الإيحاء الهلامى الذى ينتقل بقارئه لعوالم من القص فى الشعر وكانه ملخصا لقصص الأنبياء فى قصائده المعبره والمتقنه فى بنيانها وبيانها لا بل عكف كاتبنا فى تدوين نمازج للأدب العالمى موضحا للونياته ومعددا لخصائصه وعارضا لجمالياته لا بل يتحفنا الكاتب بحلاوة الشععر الشعبى ويعرفنا به تعريفا لا غموض فيه موضحا لنا أنواعه وألوانه ومن ثم مقدما لأنموذج فريد أحد الشعراء الشباب الشاعر جبر الدار لا بل يقدم مسك الختام لشاعرة ولدت ناطقه وناظمه الشاعره عضوة البورد روزمين والتى أثارت كتاباتها حفيظة الكل فرأينا بحر الإعجاب الذى أقبل إليها مباركا ورأينا فصيلا أدبر عنها قبل أن يتدبر معانيها فحركت ساكنا وسكنت فى قلوب كثر فكتابة مثل هذه تضرب لقراءتها كباد الإبل لله در كاتبها....................................
منصور
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: Asaad Alabbasi)
|
هذا الموضوع للدكتور محمد وقيع الله منقول من سودانايل لإرتباط موضوعه بأحد شعراء الكتاب الدكتور الواثق............
منصور
في عوالم محمد الواثق الشعرية
الانفصام والشكوى والسخرية والسخط والهجاء
(1من2) د. محمد وقيع الله [email protected] عند الشاعر السوداني الكبير محمد الواثق من مثالب الشخصية السودانية المثقفة أبرز تلك المثالب، حيث يكثر الشاعر من الشكوى والتململ، والضجيج من أحوال المكابدة في الوطن، ويمعن في السخرية من المدن، والزراية بقطانها.
ولكنه يبعث هذه العواطف في بيان شعري بليغ، ملؤه الفكاهة العبقرية التي تحفل بها روحه، كما كانت تحفل بها روح شيخه العظيم عبد الله الطيب، رحمه الله. وثمة أسباب قد لا يكون من مهمة الناقد الأدبي أن يبحث فيها، تكمن وراء عيش الشاعر في حالة الملل، وإدمانه لعادة التململ والشكوى. ومع أنا لا نحب لنقاد الأدب أن يتمحَّلوا البحث في علم النفس كما كان أنور المعداوي يجنح إلى تفسير الأدب بنظريته المشكوك في أصالتها عن (الأداء النفسي في الشعر)، إلا أنا نحتاج، لا محالة، إلى مادة (إضافية) خارج مادة الشعر، تعطينا خلفية الشاعر، وتفسر لنا بعض نوازع قِلاه للمدن وقسوته في هجائها.
لماذا يكره الشاعر المدن؟
ولد الشاعر بقرية (النية) بشمال الخرطوم، لوالد من طبقة الأفندية، كان قد ترك الدراسة بكلية غردون التذكاري، بعد انخراطه في عمل مقاوم للسلطات الإنجليزية في 1931م، وعمل بمصلحة البريد، وتنقل حسب ظروف العمل في انحاء مختلفة من شرق وشمال ووسط السودان، وتنقل معه الطفل محمد ودرس مراحل التعليم العام بتلك الأنحاء، حيث انطبعت طفولته بمؤثراتها المتباينة. لكن أكثر ما شكل شخصيته وذائقته الفنية مشاهد الطبيعة بقريته القديمة. وفي ذلك يقول في حديث له للمحررة النابهة إشراقة الفاتح: إن قرية النية القديمة قبل أن يهلكها طوفان 1946م كان لها أكبر الأثر في تلوين الذات .. كانت تمتد أمام القرية غابة ضخمة تتكون من أشجار الاراك والتنضب وشيء من السدر. إذا تجاوزت الغابة امتدت الفلاة التي تناثر فيها البدو والحيوان الوحشي: الظباء وبنات آوى والضباع وطيور الفلاة. على الجانب الآخر تمتد (النية) على شاطئ النيل تخفي أكواخها ضخامة أشجار الطلح والأسل والحراز. وعلى الأشجار تشكيل من القمري والدباس وطير الجنة وأم دلولو حتى إذا ظهر (السمبر) آذن يقدوم الخريف الذي أضفى على الفلاة وعلى الغابة والقرية أنماطاً من الألوان والأريج والثمار البرية مما كون الوجدان الداخلي للطفل .. كل ذلك انتهى بعد (الطوفان): الزراعة الحديثة التي قضت على شجر الأراك، ومن ثم طير الجنة والقمري وهرب الحيوان الوحشي، وعند مجيء الكهرباء والأسفلت (والاستقلال) تداخلت الاشياء، وتهدمت العلائق التي بنيت عليها القيم السابقة، وصارت النية القديمة أخدوداً في الذاكرة لم يندفن، وما زالت تعمر هذا الأخدود أطلال الوجدان القديم.
التحق محمد الواثق بقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الخرطوم، وتخرج برجة تفوق، واختير مساعدا للتدريس بالكلية، ثم ابتعث لتلقي تعليمه فوق الجامعي بأوروبا، فتزوج هناك، وفتن بحياة الريف الإنجليزي والفرنسي، واستعاد به ذكريات طفولته الريفية الأولى.
وفي استئنافه لحديثه مع المحررة الأستاذة إشراقة الفاتح قال الواثق عن تلك التجربة: مكثت فترة في بريطانيا واسترعاني الريف الانجليزي (كمبردج) والريف الاسكتلندي (قرينوك) على وجه الخصوص. بعد إعمال فكر متمهل راعني أن الريف الاسكتلندي يخالف شكلا ويطابق جوهرا قرية النية القديمة، وصار هذا قناعة أن الريف في شتى اصقاع العالم ( بعد تجربتي في فرنسا أيضاً في قرية فالنس) يربطه جوهر واحد وإن اختلفت اللغة والارث. يخفي هذا على الذين افتتنوا بالبهرج الحضاري في لندن وباريس (وأم درمان؟). دوروثي ميللر الزوجة الأولى تنحدر من ريف اسكتلندا، حيث شجر الأراك وطير الجنة وألحان الرعاة تتخذ شكلاً مختلفاً لكن الجوهر لا يتغير. قس على هذا أن الريفية أم الحسن أو دوروثي لا تختلفان في الجوهر وتختلفان مضمونا عن (نساء أم درمان) فكان الزواج من دوروثي فيه السلاسة أو التعقيد كما لو كان من ريفية النية القديمة مع الفارق في الشكل في حالتي فإن مقولة الزواج بالانجليزية يخفي حقيقة الأمر إذ أنني لم انتقل من بيئة وجدانية تغاير بيئتي.
فالارتباط الصميمي بحياة الريف كما يصوره محمد الواثق في هذه الإفادة القيمة قد يفسر لنا أسباب نفوره من حياة المدن، وضجره من أهلها، وميله إلى التعبير الساخر العابث في هجاء هذه المدن.
المدن ليست كلها سواء:
وقد نشر الواثق أول مجموعاته الشعرية وأشهرها بعنوان (أم درمان تحتضر) وذلك في أوائل سبعينيات القرن الميلادي المنصرم، وفيه أبدى بعُرام شديد خصامه مع ما يسميه بشبه التحضر أو البهرج الحضاري المصطنع.
لقد افتتح محمد الواثق حياته الشعرية بهجاء المدن وعرف به من بعد، وربما أغراه ذلك بالإغراق في الاستخفاف بالحواضر، والسخرية منها، والتنديد بها. ثم غلا في ذلك حتى غدا يظن أن كراهيته للمدن إنما هي فرع من الإرادة الإلهية العليا التي قصفت ببعض المدن أو قصمتها.
واسمع إليه يقول في ذلك:" يتسق شعري هنا مع التراث العربي الاسلامي والتوراتي، يتعلق الأمر هنا بالمدينة التي فسدت بعد مهلة إنذارها تجتاحها الأعاصير التي تتواصل أياماً حسوماً فلا ترى لها من باقية. قلبت مدينة صالح أعاليها أسافلها. وقد ترسل الطير تحمل حجارة السجيل كما في أمر مكة، وأضف إلى هذا قوم عاد وثمود وأصحاب الرس.. الأمر لا يختلف كثيراً في الإرث التوراتي.. شطت سدوم في مفاسدها فانطلقت البراكين والزلازل بل تعرض أهلها للمسخ.. أتذكر ما حل بمدينة الأصنام في الجزائر؟ في هذا الإرث الإسلامي التوراتي تكون الأعاصير والبراكين عنصر تطهير يستأنف الحياة بعدها على نمط الطاهرة المرجوة وإلا عادوت الأعاصير فعلها.. إن مثل هذا الشعر سلك في عمق التراث العربي التوراتي واتخذ الرمز منه". فهذا شطح فظيع مريع، إذ ليست كل المدن سواء، ولا كل المدن أخوات ونظائر لمدن عاد وثمود وأصحاب الرس قوم أبرهة. وليس للمدن السودانية التي هجاها الواثق أي نسب قريب أو بعيد مع تلك المدن التي جاءت بخبر بوارها كتب التنزيل. فبعض هذه المدن السودانية التي هجاها أرسى بنيانها أئمة من شيوخ الملة الصالحين وعمروها، وقد كان لأهلها في مختلف أطوار التاريخ، وفي الحاضر، في فعل الخير نصيب أي نصيب.
الانسياق مع البديع:
وهذه المبالغة تطعن بلا ريب في مصداقية مشاعر الشاعر إزاء هذه المدن. وهذا أمر تعززه وجهة الشاعر لاتخاذ الحلى الصناعية اللفظية الكثيرة التي يدثر بها معانيه الغزيرة، وأحيانا تأتي هذه المعاني المتكاثرة كمجرد استجابات لأغراض البديع. وخير مثال لذلك (هل نقول شر مثال؟) هي كلمته التي هجا بها مدينة كوستي. حيث كثرت فيها الصناعة اللفظية التي يعيبها المعاصرون، وحيث انساق الشاعر وراء البديع الطريف كلما أعياه أن يجد الحقائق الصلبة الصريحة التي يمكن أن يدين بها أهل المدينة محل الهجاء: سميت باسم غريب الدار نازحها ما كان كوستي على قدر من الشرف أورثتها من طباع الروم ألونة من الفساد تراءت داخل الغرف فصار باخوس رب الخمر ربهم ما بين منهمك منهم ومرتشف حتى كأن أذان الفجر يبلغهم حي على الشرب في حانوت منحرف قوم من الطيش لا ترجى عقولهم كأنما العقل فيهم صيغ من خزف إن الإمام الذي عادوا جزيرته قد كان يخشى عليهم غصة الأسف أما تراني شددت الرحل منصرفاً أحاذر الناس في حِلي ومنصرفي لا أقرب الدار تستعلي النساء بها ولا أقيم بدار اللهث واللهف كوستي الرديف ترى بانت نصيحتنا لكل رادفة فيها ومردتف!
فهذه اتهامات جزافية عبثية، جارى فيها الشاعر زخرف القول، وساق فيها من الزور ما يؤخذ به الشاعر ولا ريب. وليس معنى ذلك أنا نشجع أخذ الشاعر إلى قسم الشرطة الذي أخذه إليه بعض المتعجلين، ولكنا نعني مؤاخذة من نوع آخر، مؤاخذة أقسى، أمام قيم الحق والعدل والقسط، فليس حقا ولا عدلا ولا قسطا أن تساق اتهامات التعميم الذميم هكذا بحق أناس أكثرهم أفاضل وقليل منهم فاسقون!
في عوالم محمد الواثق الشعرية
الانفصام والشكوى والسخرية والسخط والهجاء
محمد وقيع الله
(2من2)
تعددت آرء النقاد الذين تناولوا شعر الواثق بالتحليل والفحص، وتباينت تقديراتهم للدواعي التي حفزته إلى هجاء المدن وأهلها. فمنهم من ذهب إلى أنه شاعر ثائر على الواقع الاجتماعي الحضري السوداني يبغي هدمه من أساسه ويدعو إلى بديل أفضل منه. ومنهم من قال إنه شاعر عابث، وذكر أن هذا العبث كثير في طوائف قَالةِ الشعر قديمه وحديثه.
ومنهم من وصم الشاعر بقلة الديانة والصيانة، وهو الأستاذ السماني الشيخ الحفيان الذي نعت ديوان (أم درمان تحتضر) بأنه :" لم يكن يفضي الى غاية وضيئة وهدف نبيل، ولا يعدو في نظري أن يكون قاموساً يضم صنوفا من الإقذاع والبذاء، لا يشتغل بها إلا سفيه قليل الديانة"!
وذكر الأستاذ الدكتور أسعد العباسي أن هذه المدن التي هجاها الواثق ربما كانت رموزا لأشياء أخرى، فأم درمان ربما لم تكن:" سوى فتاة هام بها الشاعر ذات يوم، أو أنها رمز لحاكم متجبّر أو سلطة باغية. وأن كوستي، وتوتي، وكسلا، ووادي حلفا، ومدني، ليست نصوصاً تعبر عن مواقف من هذه المدن آمن بها الشاعر، واستدعى لها وجدانا قديما كوجدان الشاعر النجاشي الحارثي، في موقفه من مدينة الكوفة، أو وجداناً حديثا كوجدان الشاعر أدونيس في موقفه من مدينة بيروت".
ومع تقديرنا لهذه الآراء جميعا، إلا أنا نرى أن حالة شديدة من الانفصام تعتري الشاعر الواثق، وتنقص عليه حياته، وتبث فيها حزنا وشجنا كمن بفؤاده ولصق بطواياه. وغدا لذلك يستعذب الشكوى، والسخرية، والسخط، والهجاء، عسى أن ينفس عليه ذلك شيئا من كربه، أويسري عنه هونا ما.
والانفصام، بالمعنى العلمي، حالة مرضية نفسية خطيرة، يتحدث عنها أطباء النفس، ولا نعنيها هنا، وإنما نشير إلى حالة عامة من الانفصام، تعتور بعض المتعلمين الطلائعيين الأذكياء المرهفين، الذين زاروا الغرب وأولعوا به وارتبطوا بأنماط حياته، وبعض بناته، وعافوا لذلك أنماط حياة بلادهم. وهذا الشعور السلبي يتلبس بشاعرنا الواثق، ولا يكاد يدعه يذكر خيرا أو جانبا مضيئا في الحياة.
الشعور الإيجابي عند الواثق:
وقلما يعثر قارئ شعر الواثق على شيئ حسن، إلا إذا كان في ذكر الغادة التي تسبح في أضوائها، وهي (مونيك) التي يتخلل ذكرها بعض قصائده القديمة. ومنها قوله:
متى أمر على باريس منطلقا حيث الأنيس وحيث العيشة الرغد قد كنت ألقى بها مونيك يُعجبني جمالُها الغضُّ من لين ومن أَود مجاورٌ ثغرُها البسامُ بعضُ فمي وعاقدٌ خصلةً من شعرها بيدي وكنتُ إذا ما دعاني الزهو آونة أمشي العرِضْنَةَ في أثوابي الجُدُد!
ومنها قوله الذي لا يخلو من هجو لأم درمان:
مونيك ما اقتربت أنثي تُكلمني إلا مثَلْتِ بطيفٍ واضح الصُّور شتان بين مَصِيفِ الإلبِ يجمعنا وبين أخربةِ أم درمان والحفر ماذا لقيتُ من أمدرمان بعدك يا مونيك غير الأسى والهم والكدر فهل أرانا ـ كما كنا ـ ومجلسُنا في روضةٍ قد حباها ساكبُ المطر؟!
وذلك عهد قد تقضى، وانقضت أوطاره وفنيت، كما فنيت أكثر أوطار القلوب، وهيهات أن ينقلب به الدهر أو يعود.
رثاء أم شكوى؟
وفيما خلا حديث فيه ذكر حديث مونيك العذب، فليس إلا رَجْع الشاعر لبث شكاياته التي لا حد لها ولا انتهاء. فذلك إدمان لا يبرأ منه الشاعر، وقد طبعه بميسم لا يكاد ينفك منه. وما كان مرجوا من الشاعر الكبير محمد الواثق أن يشكو وهو يرثي أباه، ولكنه فعل.
ففي قصيدة (مثاب) الرائعة التي رثى بها أباه الرجل الصالح يوسف مصطفى، الذي كان قد تلقى نعيه وهو مغترب عن وطنه، حيث كان يعمل بإحدى البلاد الليبية، ما أن وصف أباه وصفا عجلا في مطلع القصيدة، حتى لج مليا في غرض في غرض الشكوى.
جأر في القصيدة بالشكاية من جدب الوطه، وعقم رياحه، ويبوسة أرضه، مما ساقه بعيداً عنه ليبحث عن مورد رزق حلال أغنى، ولكنه وهو هناك في المغترب انطلق يغني غناء عذبا بنهر النيل ونباته وطميه وخمائله وقماريه، وأبدى أسفه وندمه على مفارقة الوطن مهما كان حاله من القحولة والجرد.
ثم عاد ليذكر ما كان يعتريه من القلق والأرق والاخفاق في المغترب وعاد لذكر النيل وطيره الصداح، ثم ليخرج من ذلك كله إلى غرضه الأول، وهو الرثاء ، فتخيلَ راكبا منطلقا إلى الوطن، وحمله رسالة عاطرة إلى نهر النيل، ولقريته (النية) على ضفته اليمنى، ورسالة سلام إلى قبر أبيه، وصعَّد دعوات حرى إلى الله تعالى، أن يتولاه بالرحمات العظام، ويتقبله في الصالحين الكرام، وقد أدى الشاعر تلك المعاني كلها بجزالة رائعة، وبيان فني فخم خلاب، ولكنا كنا نود أن تخلو القصيدة مع ذلك من الشكوى. وهذه هي بعض الأبيات المشحونة بهذا المعنى:
لو كان في السودان فضلة مورد تكفي حُشاشة شارب أو طاعم
ما كنت أعتسفُ اللياليَ أتقى بردََ الشتاء وحرَََّ لفح سمائم
ما كان يجفوني الكرى فرشي على جمر الغَضا يقظانَ ليل النائم
أرتادُ أسبابَ الغنى فتُحيلني ضيفا على لمع السراب الواهم
أتركتَ نهر النيل يصدحُ طيرُه وشريتَ تغريدا ببخسِ دراهم
فإذا الدراهمُ مِنةً لا تنقضي من آمر أو زاجر أو شاتم
أتركتَ نهر النيل آزرَ نبتَه طمىٌ طما من موجه المتلاطم
كم أطربتني في خمائل شطِّه قمريةٌ سجعت لشدو حمائم
كم قد تهادت في الأصائل دونه حورٌ تُرجرِجُ بَضَ جسمٍ ناعم
فإذا ندمتَ على فراق أليفه ووريفِه ماكنتَ أول نادم
ترك البلاد منقباً عن رزقه في أرض عُربٍ لايَنِي وأعاجم!
تلكم هي الحياة، يا محمد الواثق، وما سواها من حياة، لأن بني آدم خلقوا جميعا، كما أنبأ خالقهم، في كبد. ولا راحة لامرئ إلا مع وضع قدمه اليمنى في مدخل جنات عدن.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: munswor almophtah)
|
في عوالم محمد الواثق الشعرية الانفصام والشكوى والسخرية والسخط والهجاء محمد وقيع الله (2من2) تعددت آرء النقاد الذين تناولوا شعر الواثق بالتحليل والفحص، وتباينت تقديراتهم للدواعي التي حفزته إلى هجاء المدن وأهلها. فمنهم من ذهب إلى أنه شاعر ثائر على الواقع الاجتماعي الحضري السوداني يبغي هدمه من أساسه ويدعو إلى بديل أفضل منه. ومنهم من قال إنه شاعر عابث، وذكر أن هذا العبث كثير في طوائف قَالةِ الشعر قديمه وحديثه. ومنهم من وصم الشاعر بقلة الديانة والصيانة، وهو الأستاذ السماني الشيخ الحفيان الذي نعت ديوان (أم درمان تحتضر) بأنه :" لم يكن يفضي الى غاية وضيئة وهدف نبيل، ولا يعدو في نظري أن يكون قاموساً يضم صنوفا من الإقذاع والبذاء، لا يشتغل بها إلا سفيه قليل الديانة"! وذكر الأستاذ الدكتور أسعد العباسي أن هذه المدن التي هجاها الواثق ربما كانت رموزا لأشياء أخرى، فأم درمان ربما لم تكن:" سوى فتاة هام بها الشاعر ذات يوم، أو أنها رمز لحاكم متجبّر أو سلطة باغية. وأن كوستي، وتوتي، وكسلا، ووادي حلفا، ومدني، ليست نصوصاً تعبر عن مواقف من هذه المدن آمن بها الشاعر، واستدعى لها وجدانا قديما كوجدان الشاعر النجاشي الحارثي، في موقفه من مدينة الكوفة، أو وجداناً حديثا كوجدان الشاعر أدونيس في موقفه من مدينة بيروت". ومع تقديرنا لهذه الآراء جميعا، إلا أنا نرى أن حالة شديدة من الانفصام تعتري الشاعر الواثق، وتنقص عليه حياته، وتبث فيها حزنا وشجنا كمن بفؤاده ولصق بطواياه. وغدا لذلك يستعذب الشكوى، والسخرية، والسخط، والهجاء، عسى أن ينفس عليه ذلك شيئا من كربه، أويسري عنه هونا ما. والانفصام، بالمعنى العلمي، حالة مرضية نفسية خطيرة، يتحدث عنها أطباء النفس، ولا نعنيها هنا، وإنما نشير إلى حالة عامة من الانفصام، تعتور بعض المتعلمين الطلائعيين الأذكياء المرهفين، الذين زاروا الغرب وأولعوا به وارتبطوا بأنماط حياته، وبعض بناته، وعافوا لذلك أنماط حياة بلادهم. وهذا الشعور السلبي يتلبس بشاعرنا الواثق، ولا يكاد يدعه يذكر خيرا أو جانبا مضيئا في الحياة. الشعور الإيجابي عند الواثق: وقلما يعثر قارئ شعر الواثق على شيئ حسن، إلا إذا كان في ذكر الغادة التي تسبح في أضوائها، وهي (مونيك) التي يتخلل ذكرها بعض قصائده القديمة. ومنها قوله: متى أمر على باريس منطلقا حيث الأنيس وحيث العيشة الرغد قد كنت ألقى بها مونيك يُعجبني جمالُها الغضُّ من لين ومن أَود مجاورٌ ثغرُها البسامُ بعضُ فمي وعاقدٌ خصلةً من شعرها بيدي وكنتُ إذا ما دعاني الزهو آونة أمشي العرِضْنَةَ في أثوابي الجُدُد! ومنها قوله الذي لا يخلو من هجو لأم درمان: مونيك ما اقتربت أنثي تُكلمني إلا مثَلْتِ بطيفٍ واضح الصُّور شتان بين مَصِيفِ الإلبِ يجمعنا وبين أخربةِ أم درمان والحفر ماذا لقيتُ من أمدرمان بعدك يا مونيك غير الأسى والهم والكدر فهل أرانا ـ كما كنا ـ ومجلسُنا في روضةٍ قد حباها ساكبُ المطر؟! وذلك عهد قد تقضى، وانقضت أوطاره وفنيت، كما فنيت أكثر أوطار القلوب، وهيهات أن ينقلب به الدهر أو يعود.
رثاء أم شكوى؟ وفيما خلا حديث فيه ذكر حديث مونيك العذب، فليس إلا رَجْع الشاعر لبث شكاياته التي لا حد لها ولا انتهاء. فذلك إدمان لا يبرأ منه الشاعر، وقد طبعه بميسم لا يكاد ينفك منه. وما كان مرجوا من الشاعر الكبير محمد الواثق أن يشكو وهو يرثي أباه، ولكنه فعل. ففي قصيدة (مثاب) الرائعة التي رثى بها أباه الرجل الصالح يوسف مصطفى، الذي كان قد تلقى نعيه وهو مغترب عن وطنه، حيث كان يعمل بإحدى البلاد الليبية، ما أن وصف أباه وصفا عجلا في مطلع القصيدة، حتى لج مليا في غرض في غرض الشكوى. جأر في القصيدة بالشكاية من جدب الوطه، وعقم رياحه، ويبوسة أرضه، مما ساقه بعيداً عنه ليبحث عن مورد رزق حلال أغنى، ولكنه وهو هناك في المغترب انطلق يغني غناء عذبا بنهر النيل ونباته وطميه وخمائله وقماريه، وأبدى أسفه وندمه على مفارقة الوطن مهما كان حاله من القحولة والجرد. ثم عاد ليذكر ما كان يعتريه من القلق والأرق والاخفاق في المغترب وعاد لذكر النيل وطيره الصداح، ثم ليخرج من ذلك كله إلى غرضه الأول، وهو الرثاء ، فتخيلَ راكبا منطلقا إلى الوطن، وحمله رسالة عاطرة إلى نهر النيل، ولقريته (النية) على ضفته اليمنى، ورسالة سلام إلى قبر أبيه، وصعَّد دعوات حرى إلى الله تعالى، أن يتولاه بالرحمات العظام، ويتقبله في الصالحين الكرام، وقد أدى الشاعر تلك المعاني كلها بجزالة رائعة، وبيان فني فخم خلاب، ولكنا كنا نود أن تخلو القصيدة مع ذلك من الشكوى. وهذه هي بعض الأبيات المشحونة بهذا المعنى: لو كان في السودان فضلة مورد تكفي حُشاشة شارب أو طاعم ما كنت أعتسفُ اللياليَ أتقى بردََ الشتاء وحرَََّ لفح سمائم ما كان يجفوني الكرى فرشي على جمر الغَضا يقظانَ ليل النائم أرتادُ أسبابَ الغنى فتُحيلني ضيفا على لمع السراب الواهم أتركتَ نهر النيل يصدحُ طيرُه وشريتَ تغريدا ببخسِ دراهم فإذا الدراهمُ مِنةً لا تنقضي من آمر أو زاجر أو شاتم أتركتَ نهر النيل آزرَ نبتَه طمىٌ طما من موجه المتلاطم كم أطربتني في خمائل شطِّه قمريةٌ سجعت لشدو حمائم كم قد تهادت في الأصائل دونه حورٌ تُرجرِجُ بَضَ جسمٍ ناعم فإذا ندمتَ على فراق أليفه ووريفِه ماكنتَ أول نادم ترك البلاد منقباً عن رزقه في أرض عُربٍ لايَنِي وأعاجم! تلكم هي الحياة، يا محمد الواثق، وما سواها من حياة، لأن بني آدم خلقوا جميعا، كما أنبأ خالقهم، في كبد. ولا راحة لامرئ إلا مع وضع قدمه اليمنى في مدخل جنات عدن.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: munswor almophtah)
|
Quote: الصور الغزلية في ديوان أم درمان تحتضر إن ديوان {أمدرمان تحتضر} للشاعر محمد الواثق ـ الذي جاء في موضوع واحد هو {أمدرمان} واختار الشاعر لقصائده فيه ـ من آلته العروضية الجبارة ـ بحراً واحداً عالي الرنين هو بحر البسيط ـ حُظِيَ بكثيرٍ من الدراسات العلمية والبحوث الأدبية والنقدية الجادة. إلا أنني لم أقع على أيٍّ منها وهى تتطرقُ لومضات الحنين وصور النسيب والغزل التي وثبت متلألأة بين قوافيه هنا وهناك بل وجدتها منشغلةً عنها بموضوعه الرئيسي الذي يتحدث عنه. المدهش أن قصائد الديوان والتي جاءت في مجملها لبعض الناظرين هجاءً مُرَّاً لأمدرمان إختلطت فيها أبيات الحنين والغزل بأبيات الذم والهجاء فوقعت كمزيج رائع وهجين بديع لم ينتقص من غرض الديوان ولم تظهر به نتواءات أو شوائب على شكل القصائد أو موضوعها إنما أخذها إلى آفاق عالية في مدارج الجمال والإجادة، فلننظر إلى صاحب الديوان الذي يحسن التخلص وفنه وهو يقول في القصيدة التي جاء الديوان على إسمها غزلاً لم يخرج به عن لحمة القصيدة وسداها ولم ينحرف به عن موضوعها: سألتُك الله ربَّ العرشِ في حُرَقٍ ** إني ابتأستُ وإني مسَّنِى الضَرَرُ
هل تُبْلِغَنِّى حقولَ الرونِ ناجيةٌ ** تطوى الفضاء ولا يُلْفَى لها أثرُ
قربَ الجبالِ الألب دَسْكَرةٌ ** قد خصها الريفُ، لا همٌ ولا كَدَرُ
تلقاكَ مونيكُ في أفيائِها عَرَضاً ** غضُّ الإهابِ ووجهٌ باغِمٌ نَضِرُ
مِن صُبحِ غُرَّتِها حِيكَ الضياءُ لنا ** ومِسكُ دَارينَ من أردانِها عَطِرُ
مونيكُ إني وما حجَّ الحجيجُ له ** لم يُلْهِنى عنكمُ صَحْوٌ ولا سَكَرُ
وعهدُكِ الغُرِّ في أغوارِ ُحْتَمِلٍ ** إنـي لذاكرهُ ما أورقَ الشجرُ
كيف اللقاءُ وقد عزَّ الرحيلُ وما ** يثني عناني سوى ما خطَّهُ القدرُ
راحـلتي هِمتي لا تبتغي وطَـناً ** لكن يُقيــدها الإشفاقُ والحَذرُ
مونيكُ كانت لنا أم درمانُ مَقْبرةً فيها قَبَرْتُ شبابي كالأُلَى غَبَروا
ولننظر إليه أيضاً وهو يمزج مزجاً عجيباً بين هجائه العنيف لأمدرمان وبين غزله الرقيق لمعشوقة صغره فيها قبل أن يتحرر منها و يرتاد آفاقاً أخرى، فقد أخذ يخاطب أم درمان واصفاً إياها بطالبة الملذات وأن نسلها مخنوق بآثامها وأن معشوقته كانت ضحية لهذا النزق ولا سبيل للتطهير إلا بالنار: ما دَامَ عُمْرُكِ باللذاتِ مُرْتَهناً ** يَظَلُّ نَسْلُكِ في الآثامِ يَخْتَنِق
فقد عَشِقْتُ فتاةَ الحىِّ في صِغَري ** يَشِعُّ من خَدِّها ما لَوَّنَ الشَفَقُ
في ساحَةِ الحيِّ تَلهو بينَ جِيرَتِها ** براءةُ الطِفْلِ في عَيْنَيْهَا تَأتَلِقُ
حتى إذا اكْتَمَلَتْ أودى بِزَهْرَتِهَا ** ما دسَّهُ العِرقُ أو ما أورثَ الخُلْقُ
من ماءِ نَسْلِكِ يا ام درمانُ قدْ خُلِقَتْ ** بين الترائبِ والأصلابِ يَنْدَفِقُ
يا مُوقِدَ النارِ هل أضرَمْتَها بِهِمُ ** عسى الخطايا مع الأجْسادِ تَحْتَرِقُ
ويصير الأمر أكثر وضوحاً وأقل حدة وأوقع لطفاً إذا ما تملينا تلك الديباجة الجزلة التي ابتدر بها الشاعر قصيدته{لكنما أنت يا ام درمان} والتي حوت مفردات ضاجة تنبئ عن الهجر المر ولا تشي قعقعاتها بيأس ولا خنوع، يقول: وَدِّعْ لميسَ وداعَ الواثِق الخالي ** قد كنت من أمرِها في أيِّ بَلْبَالِ
قد كان حُبَّكِ أوجاعاً أكَتِّمُها ** وأزجرُ الدمعَ لايَهمِي بتهمالِ
ما كنتُ أحسَبَني أني تُخَلْخِلني ** بعد التجاريبِ مني ذاتُ خَلْخَالي
غادرتني مُثْقَلاً أرعى النجومَ ضَنَىً ** لا أستَقِرُّ من البلوى على حَالِ
من بعدِ ما كنتُ مثل الفجرِ منشراً ** أجرُّ فوق أديم الأرضِ أذيالي
فلا رجعتِ ولا عادتْ مؤنثةٌ ** تُثبِّطُ العزمَ مني قدرَ مثقال
غير أن القارئ للديوان يدرك بغير عناء أن الشاعر جعل من مونيك رمزاً لأحلام عشقه الدفين، التي كبلتها أمدرمان، ولا يكاد يخلو موضعاً من مواضع غزله إلا وحطت عليه هذه الباريسية كفراشة ناعسة على أزهار حنينه فتحس بها وقد ولجت قلبه وملكت عليه كيانه وبرزت في أحلامه بروزاً لا يمكن أن ندرك حقيقته العميقة وأثره الغائر إلا عندما نسمعه يقول: متى حللتُ فنهرُ الرونِ يُشْعِرُني ** بأنني بشرٌ من طينةِ البشرِ
فإن بدتْ قريةُ مُونيكُ أبْصِرُهَا ** فما النساءُ وما امدرمانُ يا بصري؟
ما زال مسعايَ في دنيايَ رؤيتُها ** في شطِّهِ ساعةً تشدو بلا وترَِ
والشعرُ منسدلٌ حيناً يبعثِرَهُ ** مرُّ النسيمِ الذي يلهو مع الشجرِ
مونيكُ ما اقتربت أنثى تُكلمني ** الا مثلتِ بطيفٍ واضحِ الصورِ
شتان بين مصيفِ الألبِ يجمعنا ** وبينِ أخرِبةِ أمردمانَ والحفرِِ
ماذا لقيتُ من أمدرمانَ بعدك يا ** مونيكُ غيرَ الأسى والهمِ والكدرِ
فهل أرانا-كما كنا- ومجْلِسُنا ** في روضةٍ قد حباها ساكبُ المطرِ
ومحمد الواثق يستحيل الى رقة متناهية تناهض تلك الشراسة التي هاجم بها امدرمان إذا ما أصابه في جوف خاطر مباغت شيء من مونيك: مونيكُ قد عشتُ في أمدرمانَ مُعْتَكِفاَ ** أعالجُ اليأسَ طولَ الليلِ بالراحِ
هل نسمةٌ جابتِ الآفاقَ تُنْعِشُني ** بعاطرٍ من شذا باريسَ فواحِ
بل هل أنا في حقولِ الرونِ يُطْرِبُني ** ترنيمُ ساجعةٍ أو شَدْوُ فلاحِ
إن كنتَ تَعْشَقُ في باريسَ أغْيَدَها ** وقد ثَمِلْتَ بِأقْدَاحٍ وأقْداحِ
فما مُقَامُكَ وام درمانُ قد مُلِئَتْ ** بِكُلِّ قَزْمٍ كبيرِ الصوتِ نَبَّاحِ
وعندما يدرك أنه يقبع في ام درمان كالوتدِ ـ التعبير له ـ تهتاج قلبه أشواق بعيدة لباريس وساكنها جميلته مونيك، حيث كان الهوى، وكانت اللقيا، وكان الوصال،فيلتمس إلتماس المتمني أن تعود به أيامه إلى مدينة النور. يقول: متى أمرُّ على باريسَ مُنطلقاً ** حيثُ الأنيسِ وحيث العيشةِ الرغِدِ
قد كنتُ ألقى بها مونيكَ يُعْجِبُني ** جَمالُها الغَضُّ من لينٍ ومن أوَدِ
مُجَاوِرٌ ثَغْرَهَا البَسَّامَ بعضُ فَمي ** وعاقِدٌ خُصْلَةً من شَعْرِهَا بيدي
وكُنتُ إذ ما دَعاني الزهْوُ آوِنَةً ** أمشي العِرَضْنَةَ في أثوابيَ الجُدُدِ
ويقول عندما تشتد في أعماقه أشواقها لمظِنة هواه البعيدة و تؤاتيه رؤى ذاك الجمال النائي: لا شيئَ يُلْهي سِوى باريسَ نَذْكُرَها ** يَحْلُو شَذَاهَا وتَسقي أرضََها الدِيمهْ وقد رأيـتُ بِها مونيكَ تُعْجِبُنِي ** الجِسْمُ مُعْتــَدِ لٌ والخَطْوُ تَرْنيمَهْ وعندما تثقل قلب شاعرنا هموم اللقيا، وتمزق الرياح آمال وصاله، وقد عصفت بها شرزمة الطغام وأرضهم المعادية، يطلب الخمر والخمار ليرى منطلقه في خيال سكره ،فقد أضحى واقعه مستبداً، ورؤاه غائمة كما تغيم سحابة سوداء، ويقول: باخوسُ أنت إلهُ الخمرِ هاتِ لنا ** من خمرِ تكريتَ أو من خمرِ جيرونِ
سُلافةً عُتِّقَتْ في دَنِّها حٍقَباً ** من عهدِ قارونَ أو من قبلِ قارونِ
حتى أرى في خيالِ السُكْرِ مُنْطَلقي ** في قلبِ باريسَ أو في ضَفَةِ السينِ
وهل شتيتٌ من الغِزْلانِ أرْقُبُهُ ** أم تلك طائفةٌ من حورِها العِينِ
وهل سنا بارِقٍ أم رابَنِي بَصَري ** أم وجْهُ مُونيك ذاتِ الحاجبِ النوني
تحولُ دونَكِ يا مُونيكُ شِرذمةٌ ** من الطـَّغَامِ وأرْضٌ كَمْ تُعَادِينِي
لم تكن مونيك الباريسية محل هجرٍ أوعتاب عند الشاعر مثلما كانت لميس ـ لعلها أم درمانية..!ـ فإذا تحدث عن مونيك تحدث بوجدانيات بادية تخفو لديها الحسيات التي تطفو إذا تحدث عن غيرها، يقول: هبتْ تُنَشِّطَني للهوِِ آنِسةٌ ** تَطْيابُها ما تَمَنَتْه البساتينُ
تُزْجي الحَدِيثَ بهمسِ القولِ تُسْقِطهُ ** عفواً فعرْبَدَ في الأعماقِ تِنينُ
الراحُ من راحَتيها والشفاهُ كَطعمِ ** الراحِ والجسمُ بَضٌ صاغهُ اللينُ
راحتْ تَثَني بِعَطـْفََيْهَا لتَسْحَرَني ** مَفْتُونَةٌ شَاقْهَا للَّهوِ مَفْتُونُ
وفي قلب المحنة ومن قلب المأساة يتذكر الشاعر محبوبته مونيك في إيماءة تذكرنا بقول الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد: ولقد ْ ذَكَرتُكِ والرِماحُ نواهِلٌ مني ** وبيض الهند تقطُرُ من دَمي
فوددتُ تقبيل السيوف لأنها ** لمعتْ كبارقِ ثغركِ المتبسمِِ
إلا أن شاعرنا الواثق أضاف إلى هذه الإيماءة سبب نجاته من الهلاك وهو سبب كمن وراء حبه لمونيك فالحب نورٌ بنور القدس يتصل، وهي نجاةٌ ستكون ثمرتها الرائعة والمشتهاة إرتحاله لثرى مونيك: وإذا تَبدَّى دُخَانٌ يَرْتَدي ظُلُمَاً ** في جَوفهِ حُمَمُ في رأسه شُعَلُ
ذَكَرْتُ مُونيكَ إذ حاقَ العذابُ بهم ** وكان يضْحَكُ من بَلْوائِهم هُبَلُ
فـَحُبُّ مُونيكَ ما تَنْجُو النفوسُ به ** والحُبُّ نورٌ بنورِ القُدْسِ يَتَصِلُ
فإنْ نَجَوتُ وطُهْرُ الحُبُّ يَشْفَعُ لي ** فإني لثرى مُونيكَ أرْتَحِلُ
إن مايقع على الوجدان عندما تنداحُ عليه هذه الصور الشعرية الفخيمة من إثراء هو ما ينبغي أن يفعله الشعر الحقيقي والأصيل في النفس وهو الشعر الذي يخرجنا من هذا الأرخبيل المظلم بخفافيشه الشعرية المتطايرة إذ لم نقرأ مؤخراً ـ إلا فيما ندر ـ شِعراً كهذا يرج وجداننا فكل ما هناك وجباتٌ ذهب مذاقها وخاب هواؤها وجف ماؤها |
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: Asaad Alabbasi)
|
أخي منصور عندما نشر لي الملحق الثقافي بصحيفة الصحافة قبل سنوات مقالي{الصور الغزلية في ديوان أم درمان تحتضر} وهو المقال محل الإقتباس في مداخلتي السابقة أشاد به الشاعر محمد الواثق وقال جملة أعتز بها ما حييت فقد قال أن ما قرأه هو أفضل ماكتب عن أم درمان تحتضر. أحذرك يا منصور من القول{ دلاكتا شكارتا..!}.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: Asaad Alabbasi)
|
الأخ منصور لك وللسادة القراء تصديري {كتابي شذور متفرقة حول الأدب}الذي سقط من النسخة الجزئية التي أودعتها المنبر أرجو أن تكون موفقة على ما بها من قسوة.
تصدير الطبعة الأولى بقلم: المؤلف إن ضرب الكتابة الأدبية والنقد الأدبي له أبطاله الذين يعرفون سهوبه وسهوله ونهادة ووهاده، وتلك قامات تقصر قامتي دونها وأولئك بنوا سقوفاً يتدنى سقفي عنها، بيد أن المساهمة في بناء عمارة الأدب ولو بقدر يسير يريح النفس ويرضي الروح، فعندما إكتملت لدي مخطوطة هذا الكتاب ـ الذي جمعته من أشتاتي الماضية أو أنشأته مع إلهام الحاضرـ إنتابني شعور ذلك الشخص الذي غزت أحاسيسه مشاعر الأبوة للمرة الأولى. لاشك أن مكانة الأدب قد تراجعت في نفوس جيلنا الحالي، وهي مكانة قمينة بالإسترداد، ليعود الأدب إلى مراقيه السامية التي تليق بطبيعته ودوره وحقيقته، ولا أزعم بأنني كفؤاً للنهوض بهذه المهمة. فالأمر من العسر بمكان، ولا يتحقق إلا إذا ما توحدت الجهود، وطال نزيف الأقلام الجادة الصحائف، وعلت الأصوات المنابر وهي تدعوا للأدب ببصيرة وإبتكار. هذه دعوة لثورة على وضع غير طبيعي. فقد إبتعد قارئ اليوم عن قراءة الأدب، وربما كان للأدب هامش صغير في إهتماماته. ولكنا رأيناه وقد ابتعد بوجه خاص عن قراءة الشعر الحقيقي، ورأينا الهوة تزداد بينه وبين قراءة الشعر إتساعاً يوماً بعد يوم. إنها مأساة حقيقية. لأنه بدون الدربة العالية على قراءة الشعر وإبتكار طرق جديدة لإضاءته وتحليله لن نرى العالم رؤية شعرية، وسيظل المجتمع قاصراً في مناطق حيوية من حياته، وسيفقد الطاقة المتخيلة والفاعلة، وسيظل أسير الواقع يضغط عليه بمنطقه القاسي فارضاً عليه توفير إجابات لمتطلبات الحياة. أزعم برأي يكاد أن يبلغ درجة اليقين، أنه وبإستثناء فئة قليلة لانجد في قارئ اليوم من يعتد بقراءة الشعر الحقيقي، غير أننا نجد هناك من يمرون على صفحات دواوينه ملتقطين بيتاً أو مقطعاً شعرياً يرددونه بأخطاء ودون دوافع شعرية، ودون أن يفعل الذي إلتقطوه شيئاً مما ينبغي للشعر أن يفعله في النفس، مشكلين بذلك خطراً على الشعر وعلى أذهان الناس. فنحن لسنا بحاجة لهؤلاء، ولا لأولئك الذين يقتنون دواوين الشعر لتزين دورهم وليس لتشكل وجدانهم وتزين عقولهم، ويصطحبون أهل الشعر ويحضرون جلساته مباهاة وفخرا وتعوزهم المقاصد الشعرية، إنما نحن بحاجة لمن يعتقد في قيمة الشعر إعتقاداً مبنياً على المعرفة والقدرة على قراءته وتحليله. وتحقيقاً لذلك نعكف على تقديم وجبات متتالية غير عسيرة الهضم، ولن ننحو بها مناحي التعقيد وإستعراض الثقافة الأدبية بمقاصد يحتوشها الفخر والإعتداد بالذات وتفتقر إلى الأهداف التعليمية والتثقيفية. هدف آخر نسعى إليه في كتابنا هذا وهو تحقيق فكرة الإلتزام، إلتزام الكاتب بالتعبير عن محيطه الخاص وإبراز تاريخ وتراث وقضايا وطنه وموروثاته المحلية والقومية. وفكرة الإلتزام لا تصطدم بما يسمي بالأدب العالمي ، إذ إن الكتابة في المحليات ما هي إلا رقعة في ثوب الأدب العالمي ، لا تأتلق فيه وحسب إنما تغنيه بالمزيد من المقتبسات ، والبنيات ، والمعارف الجديدة . فاتحة بذلك تنافذاً أدبياً ، وتناطحاً فكرياً بين الأمم الشعوب . وهذا ما دعانا لتخصيص الفصل الثالث من هذا الكتاب للأدب العالمي. لم أتقيد في موضوعات هذا الكتاب بوقائع متصلة، وإنما حرصت على أن تنسجم موضوعات كل فصل فيه مع بعضها دون أن تتعكر بالإندماج، وأن يتصل كل فصل بالآخر في معنى الأدب دون إتحاد. وهذا في رأيي سيوفر للقارئ عناء الربط الدقيق الذي يرهق ذاكرته إذا لم يتابع القراءة في وقت محدود، وهي معاناة قد يجدها عند قراءة رواية متصلة الوقائع والأحداث منذ بدايتها حتى نهايتها، أو عندما يوافي دراسة علمية تطول وتتشابك حلقاتها وينفصل عن قراءتها لأي سبب من الأسباب. وهذا ما دعا أن تجيء دراساتنا الواردة بالفصل الثاني من هذا الكتاب كوحدات مستقلة ومتنوعة وإن كانت في إطار الأدب.عليه يمكن لقارئ هذا الكتاب أن يقرأ أي فصل فيه أو أي قسم من أقسام فصوله دون أن يتأثر حينما يتوقف عن القراءة. ولو شاء لقرأ أقسامه أوفصوله دون ترتيب أو تقيد بما سبق أو بما لحق بها مما يعطيه فرصة أفضل للتوسع في قراءاته وخياراته. هذا الكتاب يستهدف الأدب بأنواعه وأقانيمه الإبداعية المختلفة، دون جهوية أو إقليمية، ودون أيدلوجية عقائدية أو دينينة معينة يفهم منها أن الكاتب نصيرها أو مدافعاً عن أطروحاتها. فعندما نتحدث عن دموع العاشقين فلن ننحاز لعاشق أو عاشقة. وعندما نتحدث عن أسى الشعراء وقوافيهم الدامعة عندما يغيب لهم السجن أو الموت عزيزاً، فليس من أهدافنا أن نناصرهم إن كان عزيزهم ملحداً أومؤمناً مسيحياً كان أم مسلماً. إنما في كل هذا ننحاز لإبداع النص ولحظة الأسى المعبر عنها بالقافية ونصطادها. وهذا ما سيجده القارئ الكريم في الباب الثالث من هذا الكتاب. وقد كان حريٌّ بنا أن نخصص الفصل الأول من هذا الكتاب ـ الذي يحمل في مجمله أربعة فصول ـ لثلاثة شعراء سودانيين، قطعاً سيجد القارئ الكريم في جزالة أشعارهم ورصانتها ما ينفي عني تهمة الشهادة المجروحة، فهم دمي وعترتي. كنت شديد الحرص على أن أسرف في ثبت المراجع والمصادر، لا للأمانة الأدبية والعلمية فحسب، وإنما ليستزيد القارئ ويستوثق. وبذات الحرص على الإسراف كانت خطتي مع الحواشي والهوامش، فهي مفاتيح معرفية هامة، ومداخل ضرورية للشرح والإيضاح. كلي أمل أن يزرع هذا المجهود المتواضع معرفة ولو قليلة في عقل القارئ، وإبتسامة ولو واحدة على وجهه، وأثراً ولو طفيفاً في وجدانه. كما يحدوني ذات الأمل أن ينبهني القارئ لأي بثور قد تظهر على وجه هذا الكتاب وأن يصلح ما اعوج فيه ليتسني لى أن أتفادى بقدر الإمكان أي عيب في الطبعة التالية. والله نسأله سداد الخطى إنه نعم المولى ونعم النصير أسعد الطيب العباسي أمدرمان نوفمبر2008
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: munswor almophtah)
|
Quote: الأخ منصور تحياتي وأشواقي ولك الشكر لما تبذله من جهد وأنت تحاول أن تعرف الناس بكاتب مغمور إسمه أسعد |
الأخ العزيز / أسعد العباسي أعجب كيف ينثني من مساقطه سيلك الذي أثني عليه الواثق وإبراهيم إسحاق ذينك اللذان أتخذنا من تأوهنا وإنابتنا لما يكتبان خلة ما خلا منها الخاطر كيف ينثني بكل تواضعٍ ذلك الهادر الزاخر بمزن آل العباسي ، إلى درك فكرنا الراكد الآسن ويخضه خضًا !؟ لعمري ولوكان در عجوفٍ ، لجاد لك بالزبد ... غفر الله لك وأنت تحملنا عبء تبعات دخول مضمارٍ لم نعد له عدة ولاعتاد ولا نستطيع حياله قوة ولا رباط كل يوم وليلة وكلي وقوف بباب الشذور أتبتل منذ الفجر وحتى الضحى وأمامي يستطيل العوز مدىً وأفقًا لما يليق أن أستفتح به بين يدي شذرة من تلك الشذور التي زينت بها صدر الأدب فعذرًا لركاب تحمل النفائس ان أبطأ صوتي الخفيت عن بلوغ صدى صوت حاديها وعذرًا ان أتيتك مباركة لك لا أحمل وردًا ...
وكل عام وأنت من نجاح إلى فلاح .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: سمية الحسن طلحة)
|
الأخ العزيز / أسعد العباسي أعجب كيف ينثني من مساقطه سيلك الذي أثني عليه الواثق وإبراهيم إسحاق ذينك اللذان أتخذنا من تأوهنا وإنابتنا لما يكتبان خلة ما خلا منها الخاطر كيف ينثني بكل تواضعٍ ذلك الهادر الزاخر بمزن آل العباسي ، إلى درك فكرنا الراكد الآسن ويخضه خضًا !؟ لعمري ولوكان در عجوفٍ ، لجاد لك بالزبد ... غفر الله لك وأنت تحملنا عبء تبعات دخول مضمارٍ لم نعد له عدة ولاعتاد ولا نستطيع حياله قوة ولا رباط كل يوم وليلة وكلي وقوف بباب الشذور أتبتل منذ الفجر وحتى الضحى وأمامي يستطيل العوز مدىً وأفقًا لما يليق أن أستفتح به بين يدي شذرة من تلك الشذور التي زينت بها صدر الأدب فعذرًا لركاب تحمل النفائس ان أبطأ صوتي الخفيت عن بلوغ صدى صوت حاديها وعذرًا ان أتيتك مباركة لك لا أحمل وردًا ...
وكل عام وأنت من نجاح إلى فلاح . سمية الحسن طلحة
عذراً أختي سمية لا أستطيع أن أرد على مداخلتك فقد نبتت في حلقي غصة وعبرة.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: قصي مجدي سليم)
|
Quote: عذراً أختي سمية لا أستطيع أن أرد على مداخلتك فقد نبتت في حلقي غصة وعبرة. |
لابأس عليك أخي أسعد ... لإن لم تستطع الرد هنا فقد أتتني كتبك من قبل
"وما شــرب العشــاق إلا بقـيتـى * ولا وردوا فـى الحـب إلا عـلـى وردى"
يكفيني ردك على مداخلتي قي بوست : ( محمد الواثق وهجاء المدن ..)
Quote: الأخت سمية عذراً فقد نقلت قول أسعد في مداخلتي السابقة وبالفعل كان أسعد في غاية التأثر وهو يحكي لي عن مشاعره بعد أن قرأ مداخلتك |
الأخ قصي لك التحية ونهنئكم وأسعد على هذا التصميم الشامل الواسع الجامع وندعو الأخت روزمبن بشدة للعودة للكتابة في المنبر
عيدكم مبارك وكل عام وأنتم بألف خير .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: سمية الحسن طلحة)
|
الأخت الأديبة الأريبة الملكة بنت الملوك سمية الحسن طلحة كل سنة وأنت طيبة يا عز القبيلة ولك الشكر أجزله وأنت تزيديني في كل يوم إطراء حتى توهمت أن الناس يحسنون الظن بي!! أضم صوتي إلى صوتك ليرتفع بمناداة روزمين للعودة للبورد وروزمين وصلت بالأمس للخرطوم لتتلقى العزاء في وفاة المغفور لها بإذن الله جدتها وقد قامت مشكورة بالإتصال بي فور وصولها وقد أعددنا خطة إعلامية للإحتفاء بروزمين عقب أدائها لواجب العزاء بمدينة سنار هناك مقال سيصدر عنها بعدد الجمعة لصحيفة السوداني وسنكون هي وأنا ضيفين على برنامج مساء جديد يوم السبت 20/12/2008الذي سيبث على الهواء مباشرة إبتداءً من الساعةالسادسة والثلث مساءً كما رتبنا لروزمين لقاءات صحفية في صحف حكايات والصحافة والرائد وبإذاعة البيت السوداني"تفتكري يا سمية بعد دا كان قنا ليها أرجعي البورد ما بترجع!!".
| |
|
|
|
|
|
|
| |