بقلم بقلم اندرو ناتسيوس (المبعوث الأمريكي السابق إلى السودان)
ترجمة محمد المكي ابراهيم
نقلا عن منبر الشاهد لم تستحوذ قضية دولية على اهتمام الشعب الأمريكي كما فعلت الفظائع التي حدثت في دارفور فقد قادت الحكومة السودانية وحركة الاستعلاء العرقي المعروفة باسم الجنجويد حركة تطهير عرقي مرعبة ضد القبائل الإفريقية دمرت فيها 2700 قرية ونتيجة للعنف الذي أطلقته والمجاعات والإمراض التي تسببت فيها لقي حتفهم قرابة ربع مليون سوداني معظمهم في عامي 2003 و2004 كما هرب مليوني شخص إلى معسكرات اللجوء. وقد اعتبرت إدارة بوش تلك الفظاعات إبادة للجنس البشري ونظمت المؤسسات الدينية ومنظمات حقوق الإنسان والطلاب الأمريكيين حملات وطنية لضمان اهتمام واشنطن بالأزمة. وحاليا تأتي دارفور في طليعة أجندة السياسة الخارجية لمرشحي الرئاسة عن الحزب الديمقراطي والجمهوري وبينما تـنضج هذه الأزمة على نار هادئة تتفاقم أزمة أخرى اكبر وأخطر حول بقاء السودان نفسه فهنالك تيارات أخرى أشد خطورة من المجزرة الدار فورية يمكن أن تقود البلد قريبا إلى مزيد من إراقة الدماء.وهنالك توترات قديمة بين عرب وادي النيل الذين انفردوا بالسلطة على مدى قرن كامل وبين الجماعات المهمشة على أطراف البلاد وهي توترات تنذر بالتحول من جديد إلى أزمة قومية. ويحدق الخطر أيضا بالاتفاق الهش الموقع سنة 2005 لإنهاء الحرب الأهلية بين عرب الشمال والمسيحيين والأرواحييين في الجنوب إذ أن التوترات الجديدة بين تلك الجماعات كادت تنفجر في قتال شامل قريبا من نهاية العام الماضي وقد أصبح مستحيلا حل تلك الأزمة أو أزمة دارفور دون أخذ الاثنين معا في الاعتبار.وبالإضافة لكل ذلك كان الشعب النوبي في وادي النيل على شفا التمرد بسبب مشروع خزان يهدد بتدمير موطنهم. كما كانت اتفاقية 2006 مع البجا والرشايدة في شرق البلاد على حافة الانهيار.وقد يكون العام القادم هو الأهم في تاريخ ما بعد الاستقلال السوداني فإما أن يجري السودان انتخابات تعددية حرة ونزيهة ويضع نهاية لعقدين من الحكم الاتوقراطي أو يتناثر إلى أجزاء ويدخل منطقته القابلة للتفجير في واحدة من أضرى أزماتها.
لا زال بمقدور إدارة بوش الحئوول دون وقوع الكارثة فقد لعبت دورا مركزيا في التوصل إلى اتفاق السلام الشامل التي أنهى الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في 2005 حيث قامت بتسهيل التفاوض بين الأطراف ثم تعهدت بأن تكون احد ضامني الاتفاق.وعندما عينني الرئيس بوش مبعوثا خاصا إلى السودان في أكتوبر 2006 كلفني أيضا بمراقبة تنفيذ الاتفاق وبالإضافة لذلك أسست الولايات المتحدة للعون الإنساني الدولي وصارت تتكفل بستين بالمائة من الأموال المستخدمة في إدارة معسكرات النازحين واللاجئين.إلا أن جهود واشنطن غير متساوقة مع أكثر مشاكل السودان إلحاحا وذلك لأن واشنطن تصرف قسما كبيرا من ميزانياتها على أزمة دارفور وليس على دعم اتفاق السلام الشامل ولابد من إزالة عدم التوازن ذاك وبسرعة لان السلام لن يستتب في دارفور ما لم يتأسس بين الشمال والجنوب وأفضل ما تستطيع واشنطن ان تفعله ليس مواجهة الخرطوم وإنما التعامل معها وكسبها إلى صفها حتى بوجه اعتراض الحركات المناصرة لدارفور.ومهما بلغ استهجاننا للنظام السوداني لما قام به من الفظائع فان السخط الأخلاقي ليس بديلا للسياسات العملية التي تستهدف إنقاذ الأرواح وتعزيز الاستقرار.
بوابات الجحيم
كان جنوب السودان من أكثر مناطق العالم فقرا وذلك بالرغم من ثرواته النفطية والمعدنية وإمكانياته الزراعية ونتيجة لذلك وللتهميش الذي عاناه من قبل الحكومة المركزية في الخرطوم فان قبائل جنوب السودان التي تدين بالمسيحية أو الارواحية ظلت في حالة من الثورة ضد العرب الذين يقطنون وادي النيل الشمالي والمنطقة التي تعرف باسم المثلث العربي وغطت ثوراتهم معظم الوقت الذي انقضى منذ استقلال البلاد عن بريطانيا عام 1956.وقد توصل الطرفان إلى اتفاق سلام عام 1972ولكن بسبب التأخير في تطبيقه هبت ثورة جديدة عام 1983هذه المرة بقيادة جون قرانق الزعيم الكاريزمي والعقيد السابق في الجيش الحكومي وحامل درجة الدكتوراه من جامعة ولاية أيوا.وطيلة العقدين التاليين تكبد الشمال خسائر جمة ولكن ما يقدر بمليونين ونصف من الجنوبيين لاقوا حتفهم وتحول 4،6 مليونا منهم إلى لاجئين.وفي مطالع عام 2003 أصاب الإرهاق طرفي الحرب فبدأت محادثات السلام بين حزب المؤتمر الوطني بالخرطوم وحركة تحرير السودان تعطي بعض البشائر ولكن عند تلك النقطة بدأت ثورة جديدة في دارفور يقودها تحالف بين قبائل الفور والمساليت والزغاوة.وكان التصحر والانفجار السكاني في المنطقة قد جعل الأعراب البدو من رعاة الإبل ينافسون المزارعين الأفارقة على الأراضي الخصبة وهي بدورها قلتلية ومتناقصة وتعقدت الأمور بسبب الاضطهاد الذي تمارسه الخرطوم ومحاولاتها لإضعاف قبيلة الفور ذات الغلبة في المنطقة مما عقد الأمور أكثر فأكثر.وفي عام 2003 شجع قرانق ثوار دارفور على ممارسة مزيد من الضغط على الخرطوم بمطالبتها باتفاقية لاقتسام السلطة على غرار الاتفاقية التي كان يفاوض عليها.وفي محاولتهم جذب انتباه المؤتمر الوطني إلى مطالبهم قام الثوار بهجمات مدمرة على قواعد عسكرية ومراكز شرطة في دارفور ولكن تلك الإستراتيجية أتت بنتائج عكسية ففي خشيته من أن تمتد تلك النشاطات إلى مناطق أخرى قام المؤتمر الوطني بحملات تطهير عرقي في كل قرى الإقليم المتمرد. وقد وصف المتخصص في الشئون الأفريقية اليكس دي وال تلك الفظائع بأنها "إستراتيجية لمكافحة التمرد بأرخص الأسعار."
أثناء ذلك كانت الخرطوم تواصل التفاوض مع قرانق وكان الجنوب قد أصبح قويا من الناحية العسكرية وغدت حقول بتروله رابحة كما كان عبء الحرب باهظا بما جعل الخرطوم لا تغامر بترك مائدة التفاوض.وفي يناير 2005 وبعد وساطة من تحالف أوروبي/ أفريقي تقوده الولايات المتحدة وقع الأطراف على اتفاق السلام الشامل وبذلك تأسس نظام كونفدرالي خلق في الخرطوم حكومة الوحدة الوطنية وهي حكومة ائتلافية يقودها المؤتمر الوطني وتشمل الحركة الشعبية لتحرير السودان وفي جوبا أقيم حكم شبه ذاتي لجنوب السودان تسيطر عليه الحركة الشعبية. ونص الاتفاق على أن تنال حكومة الجنوب نصف ريع النفط المستخرج من الجنوب كما نصت على قيام انتخابات تعددية عام 2009 وإجراء استفتاء عام 2011 ليقرر الجنوبيون هل ينفصلون عن بقية البلد.
لقد كانت اتفاقية السلام الشامل نجاحا جزئيا،فقد أقيمت الحكومتان الجديدتان وجرى تحويل ثلاثة مليارات من ريع النفط لصالح خزينة الجنوب وأخذ اقتصاد الجنوب بالازدهار وأهم من ذلك أن الحرب توقفت وبدأ ملايين النازحين في العودة ولكن العديد من الجنوبيين لا زالوا يشيرون إلى أن عناصر التغيير في الاتفاقية والتي تتهدد قبضة المؤتمر الوطني على السلطة لم يتم تنفيذها والواقع أن الطرفين كادا يستأنفان القتال بسبب تلك العناصر نفسها ففي مارس من العام الماضي أوقفت الخرطوم مؤقتا دفعيات النفط التي تعتمد عليها حكومة الجنوب لتمويل الجيش والخدمة المدنية.وفي يونيو من نفس العام ألغى الرئيس عمر البشير الأوامر القاضية بسحب قادة الجيش الشمالي الميدانيين من الجنوب رغم أن الاتفاقية نصت على سحبهم في مطلع يوليو 2007(ملحوظة تم إخلاء القوات الشمالية من الجنوب بحلول يناير 2008) وبعد ذلك رفضت الخرطوم مقترحات الجنوب السخية لإنهاء مشكلة ابيي وهي منطقة متنازعة غنية بالنفط كما أنها الوطن التاريخي لأقوى قبيلة في الجنوب. وكان المؤتمر الوطني يجرجر قدميه فيما يختص بصياغة فانون انتخابي جديد وإجراء تعداد سكاني عام 2009 .وردا على ذلك سحب سلفا كير ميارديت( رئيس حكومة الجنوب وقائد الجنوبيين بعد موت جون قرانق في منتصف 2005 ) حزبه من حكومة الوحدة الوطنية في سبتمبر الماضي.وبحلول أكتوبر اقتربت الأزمة من المواجهة العسكرية بسبب آراء المتطرفين على الجانبين ومبالغاتهم حول قواهم العسكرية مع التقليل من شأن قوة الخصم..وعلى ذلك تمركزت قوات كبيرة من الجيشين على مناطق الحدود المتنازع عليها ووقعت ثلاث مناوشات راح ضحيتها عشرة جنود وهنالك أعلن البشير التعبئة في صفوف المليشيات العربية التي قتلت آلاف الجنوبيين في الثمانينات. وفي النهاية تم حسم الخلافات على الورق وعاد سلفا كير وقادة آخرون إلى الحكومة المركزية في نهاية عام 2007 إلا أن عظمة النزاع وهي قضية آبيي ظلت على حالها وسيطرة القيادة في الجيشين تعتبر ضعيفة على أحسن الفروض.وهكذا يظل واردا أن يقوم قائد محلي بتفجير القتال من جديد بما يمكن أن يتطور إلى حرب شاملة. ومع ذلك فهنالك أشياء أهم من اتفاقية السلام تتعرض للخطر على رأسها مستقبل الدولة السودانية ففي حين يتوجب على الشمال والجنوب أن يتعاونا في تنفيذ اتفاقية السلام فأنهما يتحفزان للتنافس في الانتخابات المقررة .ومثل هذه التوترات لو حدثت في ديمقراطية مستقرة لكانت مدعاة للمرارة والمواجهة والتآمر ولكنها في بلد كالسودان يمكن أن تقود إلى الحرب.وكما قال لي دبلوماسي محترم في أكتوبر الماضي:"لو عاد الشمال والجنوب إلى القتال فان ذلك سيفتح أبواب الجحيم."
تعتبر سياسات المؤتمر الوطني معينا لا ينضب لعدم الاستقرار في السودان وهو سليل للجبهة القومية الإسلامية التي كانت بدورها تنادي بالإسلام السياسي وهي الحزب الذي انقلب على آخر حكومة منتخبة ديمقراطيا في عام 1989 بمساعدة من البشير الذي كان وقتها جنرالا في القوات المسلحة.ومنذ ذلك التاريخ تخلى المؤتمر الوطني عن الخط الأساسي للجبهة القومية الإسلامية في نشر الإسلام في أفريقيا واستبدله بهدف أكثر بساطة هو البقاء في الحكم.وفي 1998 استبعدوا حسن الترابي زعيم الجبهة القومية ومنظرها الرئيسي الذي دعا بن لادن إلى السودان. وفي ابتعاده عن رؤى الترابي ركز الزعيم الجديد حسن البشير على تطوير ثروة البلاد النفطية حديثة الاكتشاف وهي خطوة ساعدتهم على البقاء في السلطة ولكنهم خلال ذلك ارتكبوا جرائم كثيرة وسرقوا أموال النفط وفقدوا ولاء طوائف عديدة فتقلص تأييدهم بشكل حاد حتى في مناطق نفوذهم التقليدية في المثلث العربي..ورغم حاسة البقاء بينهم فان زعماء المؤتمر الوطني يفتقرون إلى النظر الاستراتيجي فهم منظمون بشكل قوي حين يأتي أوان التكتيك الدفاعي قصير المدى وما عدا اتفاقية السلام الشامل فإنهم لم يطوروا استراتيجيات بعيدة المدى للتعامل مع مشاكل السودان الكبرى فهم يحذقون ردود الأفعال وكسب الوقت بإطالة أمد التفاوض وأسلوب "فرق تسد" ولكنهم لم يبحثوا عن مخرج من المأزق الذي أدخلوا أنفسهم فيه.وهم على استعداد لقتل أي شخص وإحداث ما لا يحصى من الخسائر في صفوف المدنيين وانتهاك كل مبادئ حقوق الإنسان لكي يظلوا في السلطة دون أي اعتبار للضغط الدولي لأنهم يخشون ( محقين) من الانتقام المحلي والملاحقة الدولية عن محاكمات جرائم الحرب.
يعتقد الكثير من قادة المؤتمر الوطني أن الغرب –خاصة الولايات المتحدة وأوروبا والأمم المتحدة التي يعتبرونها واجهة للغرب-يريد نزع السلطة منهم وصولا لتفكيك السودان.ويرون في قوة حفظ السلام المشتركة بين الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي قناعا لتحقيق تلك الإستراتيجية ويخشون أن تقوم تلك القوات بجمع الإثباتات للفظائع التي وقعت عامي 2003 و2004تمهيدا لمحاكمات بجرائم الحرب أمام محكمة لاهاي الجنائية. ويرون أن قوات الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 3000والتي تعمل على الحدود التشادية /السودانية هي طليعة للغزو وذلك أيضا من الأسباب التي جعلت المؤتمر الوطني يسعى للإطاحة بالرئيس التشادي إدريس دبي في مطالع عام 2008.والواقع انه كلما تزايد ضغط المجتمع الدولي لعقد محاكمات جرائم الحرب وكلما تزايد نشاط المنظمات الغربية من اجل دارفور كلما ازدادت شراسة المؤتمر الوطني في مقاومة قوات الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وسوف تزداد حتى لوتم نشر تلك القوات بالكامل.وعموما
يقف الدخل النفطي المتزايد للسودان وراء قدرة المؤتمر الوطني على مواجهة الضغط الدولي المتزايد فتلك الأموال تمكن المؤتمر من شراء المعارضين في الداخل كما تضمن استمرار النمو الاقتصادي المتراوح بين 12 إلى 14 بالمائة سنويا ويساعد في رفاهية سكان المثلث العربي وتدعم جهاز أمنهم الضخم وبذلك تقوم بتحصين المؤتمر ضد الضغوط الدولية فقد ثلمت على سبيل المثال شفرة العقوبات الاقتصادية التي فرضتها إدارة كلينتون عام 1997 والتي قام بتوسيعها وتمديد سريانها الرئيس بوش العام الماضي وهي عقوبات ألحقت الضر ر بالعمل المصرفي والمالي في السودان وجعلت رجال الأعمال يطالبون الحكومة بتطبيع العلاقات مع العالم الخارجي إلا أن الضغط لم يكن كافيا لتحقيق الانعطاف السياسي المبتغى فالعقوبات مضرة ولكنها لا تتهدد بقائية المؤتمر الوطني.أما تشديد العقوبات فليس خيارا وكذلك الحال مع خيار إغلاق الشريان النفطي للبلاد لان ذلك سيحرم الجنوب من الريع الذي تعتمد عليه بقاء واستقرار الجنوب.ولقد قال لي قادة جنوبيون أنهم سيعتبرون قطع الأموال النفطية عن الجنوب كعمل من أعمال الحرب.
اللعب الخشن
من أسباب عدم الاستقرار التكتيكات المتشددة التي مارستها الحركة الشعبية مؤخرا نحو العرب الشماليين نتيجة إحساسها بالإحباط من فشل الدبلوماسية العالمية والضغط الدولي في إجبار الخرطوم على تنفيذ اتفاق السلام.ففي الخريف الماضي انسحب القادة الجنوبيون من الحكومة القومية وذلك قبيل بدء المفاوضات بين الحكومة وثوار دارفور في سرت بليبيا وكان مقصودا بتلك الخطوة الضغط على المؤتمر الوطني وعلى حين كان المؤتمر يأمل في التوصل إلى حل تفاوضي لقضية دارفور كان قادة الجنوب يكذبون دعواها في تمثيل الحكومة الوطنية بكاملها. وكان دبلوماسي غربي رفيع قد قال لي إن المؤتمر الوطني غير معتاد على رؤية الجنوبيين يلجأون الى اللعب الخشن وذلك بالضبط ما يمارسونه الآن. وحاليا يتحقق أبشع كوابيس المؤتمر الوطني فالكثير من خصومه على أطراف البلاد بدأوا يتحالفون ضده تحت لواء الحركة الشعبية وأثناء محادثات سرت للسلام قام الجنوبيون بمجهود كبير لتوحيد 27 من حركات دارفور ولم يكن هدفهم فقط تسهيل عملية السلام في دارفور التي أصابها الشلل جراء التقاتل بين فصائلها بل أيضا خلق تحالف عسكري بين كل المجموعات المهمشة التي تعارض المؤتمر.ومضت الحركة الشعبية ابعد قليلا حين أتت إلى جوبا بالشيخ موسى هلال قائد الجنجويد الشهير والذي يقول البعض أنه سيواجه تهمة جرائم الحرب.وكان هلال قد ضاق ذرعا بالمؤتمر الوطني الذي أوكل لقبيلته تنفيذ الأعمال القذرة ولم يكن مستبعدا أن يقوموا بتسليمه للمحكمة الجنائية إنقاذا لأنفسهم.وكان رد فعل المؤتمر على البادرة الجنوبية مشوشا ومتعجلا إذ عرضوا على هلال منصبا رفيعا في الحكومة القومية فقبله.والواقع أن تحالفا عريضا بدأ يتشكل في جامعات البلاد وكلياتها التي كانت دائما طليعة الرأي في البلاد.
ويتجلى التغيير في موازين القوي في تطور القوى العسكرية لكل من الطرفين فان المؤتمر الوطني لم يتملك احتكارا مطلقا لاستخدامات العنف في البلاد على عكس الدكتاتوريات الشمولية لكيم أيل سونغ في كوريا الشمالية وصدام حسين في العراق.ويتمتع جيش الحركة الشعبية بخبرة عقدين من حرب العصابات وفي منتصف التسعينات كانت له اليد العليا على وحدات قوات الحكومة النظامية وبحلول عام 2001 كان يتهدد سيطرة الخرطوم على حقول النفط الرئيسية وقد ظلت الاستخبارات الغربية تقلل من شأن تلك القوات وتبالغ في أهمية الضغط الدولي على المؤتمر الوطني فيما يتعلق بالبدء في التفاوض لإنهاء النزاع بين الشمال والجنوب عام 2002 .والواقع أن الخرطوم كانت قد أخذت تخسر الحرب فقد كان النزاع يستنفد خزينتها وكان الثوار الجنوبيون يتهددون حقول النفط ويقال إن تكلفة الحرب فاقت حصة الدخل النفطي الذي يرسله الشمال حاليا إلى الجنوب ولذلك وجد المؤتمر الوطني أن توقيع اتفاق سلام سيزيد من فرصه للبقاء.
منذ ذلك التاريخ تدخلت ثلاثة عوامل لتضعف المؤتمر الوطني وقواته المسلحة أولها أن أكثر من ألف ضابط من الذين تلقوا تدريبهم في الغرب او ذوي القدرات القيادية قد تم إجبارهم على التقاعد الباكر في عامي 2005 و2006 باعتبارهم مجموعة يمكن أن تقود انقلابا على المؤتمر الوطني وبذلك تم تنظيف الجيش من العناصر الخطرة وبنفس الوقت جرى إخلاؤه من القيادات القديرة. وثاني تلك العوامل هو رفض عشرات الألوف من الجنود ذوي الأصول الدار فورية الذين رفضوا القتال ضد أهلهم فتم استبعادهم واحتل مكانهم خيالة الجنجويد المرعبين وغير المؤهلين.والعامل الثالث هو فقدان الروح المعنوي للقوات اثر هزائمها المتلاحقة .وفي أغسطس 2006 أمر البشير بهجوم شامل للقضاء على ثوار دارفور مرة واحدة وذلك على عكس نصيحة قواده وقد تحول الهجوم إلى إحراج للحكومة ففي كل موقعة كان الجيش الحكومي يخرج مهزوما رغم ان طيران الحكومي المتواضع كان مسيطرا على الأجواء بالكامل ورغم أن الدروع التابعة للجيش الشمالي كانت اقوي من دروع القوات الجنوبية.وإذا كان نابليون محقا في قوله إن الروح المعنوي هو ثلاثة أرباع القوة العسكرية فان قوى الخرطوم كانت جد محدودة وحسب ما قالت منظمة هيومان رايتس ووتش وفصلية جين لشئون الدفاع فان المؤتمر الوطني حاول أن يعوض بالتفوق التقني ما كان يفتقر إليه في الأفراد فاشترى ببلايين الدولارات أسلحة وأنظمة جديدة من الصين وإيران ودول الاتحاد السوفيتي السابق وكان ذلك إستراتيجية يائسة لن تعطي قوات الشمال التفوق على جيش الحركة الشعبية الذي يتحلى بروح معنوي لا يضاهى وتزداد قدرته على الدفاع عن أراضيه بفضل مساعدات الحكومة الأمريكية. أبعد من دارفور(2)
للمؤتمر الوطني أسباب أخرى تجعله يستشعر الاستهداف فان عرب السودان النيلي يمثلون 5% من مجموع السكان ويخشون أن يكون المثلث العربي كله مهددا بأن يستولي عليه الجنوبيون الذين هاجروا إلى الشمال هربا من الحرب الأهلية .وقياسا بما شاهدته عند زيارتي الأولى للخرطوم عام 1989 يمكنني القول إن المدينة كانت عربية الملامح وقتئذ ولكنها تبدو الآن افريقية بشكل واضح وقد قال لي الرئيس البشير على انفراد انه ربما أصبح آخر رئيس عربي للسودان.وحتى العرب المعارضين للنظام يقرون بعدم اطمئنانهم إلى مستقبل البلاد. وحتى الآن عاد 1،6 مليون من النازحين الجنوبيين إلى مواطنهم ولكن مليونين آخرين فضلوا البقاء في الشمال رغم الضغط العربي الذي يريدهم أن يتوجهوا جنوبا.وحاليا تفيض شوارع الخرطوم بخليط من الخوف والغضب (الخوف مما قد يحدث إذا استؤنفت الحرب والغضب من مؤامرات مزعومة ووعود منكوثة). وعندما توفي قرانق في حادث المروحية في يوليو 2005 قام كثير من الجنوبيين بأعمال شغب وقتلوا العرب وأحرقوا ونهبوا المحال التجارية لاعتقادهم انه قد اغتيل. ولا زال العرب يتحدثون عن تلك الأحداث وتستشعر قيادة المؤتمر الوطني الخوف والرهبة وتقوم الحكومة بتفتيش دوري عن السلاح من بيت إلى بيت .وأثناء المراحل الأولى لأزمة دارفور نشر المؤتمر الوطني روايات تقول إن هنالك مؤامرة في الخرطوم تفرخ وسط طلاب دارفور الجامعيين المنتمين لإحدى القبائل الثائرة وتم إلقاء القبض على المعنيين لاستجوابهم ومنذ ذلك الوقت اختفوا في دهاليز نظام السجون السوداني. ويشير بعض قادة المؤتمر إلى الجنوبيين بوصفهم سرطانا يسري في البلاد وأنهم سيرحبون بانفصال الجنوب ولم يكن مثل ذلك الشعور متوقعا قبل سنة حين كان المؤتمر يردد بلا انقطاع أن القوى الغربية لم تكن تبذل أي جهد للحفاظ على وحدة البلاد
إن الموقف متفجر وقد يرغب المتشددون في الجنوب في إثارة مواجهة مع الشمال على أساس الاعتقاد بأن جيشهم يمكنه أن يتفوق في ميادين القتال. ويعارض بعضهم محاولة التراضي حول ابيي ويطالبون بالحدود القصوى وإزاء ذلك يحشد المؤتمر الميلشيات العربية التي ارتكبت فظائع ضد الجنوبيين في الحرب الأهلية نتيجة توجس المؤتمر من غزو جنوبي وقد ظل هذا الأخير يحاول تعميق الخلافات بين أجنحة الحركة الشعبية (بين الصقور والحمائم وبين الدينكا المسيطرين والقبائل الصغيرة وبين المتنفذين والمحرومين في جوبا حيث ينتشر الفساد وتشح الخدمات). ونظرا لتناقص استعدادات الشمال الحربية وتنامي المعارضة للنظام في الشمال وخوف القيادات من فقدان السيطرة على الأمور فانه قد نشأت لدى عرب وادي النيل عقلية الحصار التي سوف تعقد أي محاولة لحل الأزمة السودانية.
الطريق الخطأ
إذا استمر الشمال في عرقلة تطبيق اتفاق السلام الشامل فانه من المؤكد أن يلجا الجنوبيون إلى القتال ومتى استؤنف القتال فانه لن يكون بوسع الخرطوم حصر رقعته الجغرافية كما فعلت في الماضي. ومع توافر مقر دائم في جوبا مسنود بجيش كبير فان الحرب ستأتي بسرعة إلى الخرطوم ومن المتوقع أن تتسبب للجانبين في خسائر عالية في الأرواح وتتسبب أيضا في عنف ثأري كبير.
إن انهيار السودان يعني أكثر من أزمة إنسانية واسعة الإبعاد إذ أنه يعني أيضا كارثة أمنية واقتصادية ومن شأن تفكك السودان أن يزعزع الاستقرار في البلدان التسعة المجاورة له بما فيها تشاد الغنية بالبترول وليبيا وحلفاء الولايات المتحدة في مصر وإثيوبيا وذلك بقذف كتل من اللاجئين عبر الحدود واجتذاب جماعات خطرة إلى داخلية البلاد.وقد كان بن لادن متمركزا في السودان في أوائل التسعينات وفي عام 2007 هددت القاعدة بإرسال المجاهدين إلى السودان لمنازلة قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في حالة نشرها في دارفور.وبالمثل ستكون العواقب الاقتصادية لانهيار السودان فادحة الخطورة فالنفط السوداني يمثل الآن حصة صغيرة ولكنها متزايدة من الإمداد العالمي ويقول بعض المهندسين إن الاحتياطي السوداني ربما كان الأكبر بين مصادر العالم غير المكتشفة وإذا توقف الإمداد فجأة عن الصين والهند وماليزيا وغيرهم من عملاء السودان النفطيين فإنها ستبحث عن النفط في أماكن أخرى فترفع بذلك أسعاره العالمية وأيضا سعره داخل الولايات المتحدة . وأمام تلك الرهانات العالية فانه ينبغي أن يكون هدف الولايات المتحدة الاستراتيجي الأكبر في السودان هو تخفيف سرعة قوى التفكيك فبل فوات الأوان .وحتى الآن كان العائق الأكبر أمام السياسة الأمريكية في السودان هو التناوب بين الحملة الإيديولوجية لتخليص السودان من المؤتمر الوطني وبين التوجه البراغماتي الذي يدعو إلى الإصلاح التدريجي. وقد سعت واشنطن في تغيير النظام حتى عام 1990 فواجهت الخرطوم وسعت في عزلها ولكن البراغماتية هي التي قادت إلى المحادثات الأخيرة التي تمخضت عنها اتفاقية السلام الشامل.
لقد أفرزت المقاربة القائمة على تغيير النظام عدة صعوبات والحقيقة أن ضغوط واشنطن القوية (العقوبات الاقتصادية وتصنيف البلد كراع للإرهاب والهبوط بمستوى التمثيل الدبلوماسي)أجبرت الخرطوم على طرد بن لادن في منتصف التسعينات ولكن إذا تذكرنا أن المؤتمر الوطني لازال في السلطة فان ذلك يعني فشل تلك السياسة. وليست الولايات المتحدة حاذقة بوجه خاص في تغيير النظم وفي السودان بالذات يبدو ذلك مهمة صعبة فالسودان اكبر وأكثر تعقيدا من أفغانستان والعراق وليس بمقدور ذلك التغيير التصدي للتحديات التي طالما كررها على مسمعي جون قرانق وهي كيفية التخلص من أنصار المؤتمر إذا تمت إزاحته من السلطة.وكان من رأي قرنق انه لو قدر لحركته استلام السلطة في البلاد فان مشكلتها ستكون كيفية التعامل مع مليون أو مليوني سوداني كانوا يسيطرون على كل مستويات الدولة في البلاد على مدى عقدين من الزمان فالمؤتمر يحكم ليس فقط عن طريق مجلسه بل أيضا عن طريق عضوية حزبه الممتدة والخدمة المدنية التي استولوا عليها وابعدوا عنها المحترفين إلى جانب مئات الألوف من العملاء والمخبرين في أجهزة الأمن والاستخبارات..
إن البنية التحتية للمؤتمر ضخمة ومعقدة ولا تقف عند حد ولن تختفي من الوجود إذ ليس لها مكان تذهب إليه.وقياسا على التجارب الأخيرة في دول البلقان والكونغو وهايتي والعراق وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق فان النظام السوداني لن يذهب في هدوء إذا انغلقت أمامه كل السبل.وإذا أطيح بحكم المؤتمر فانه سيعيد تشكيل نفسه تحت الأرض على هيئة مليشيات قبلية أو مافيا إجرامية.وما لم يتم تمثيل مصالح العرب النيليين في حكم ائتلافي أو بإجراءات دستورية فان بقايا النظام سوف تتسلل إلى النظام الجديد أو تزعزع استقراره.وقد هدد عدد من قادة المؤتمر في مجالس خاصة بأنهم سيجعلون البلد غير قابلة للحكم في حالة إزاحتهم من السلطة. وبسبب الكراهية القبلية التي خلقها واستغلها النظام عبر السنين فانه من الممكن أن تندلع الفوضى وأعمال الثأر على نطاق واسع وسيكون الجميع في خطر خاصة في الخرطوم الكبرى.
وليس هذا كله سوى سبب واحد من الأسباب التي جعلت سياسة المواجهة الغربية(التي كنت في احد الأيام من مؤيديها) تعجز عن حل مشكلة دارفور أو مشكلة السودان.وقد كان مؤيدو الولايات المتحدة وموظفوها يأملون أن يؤدي الضغط المتوالي إلى إزاحة المؤتمر الوطني ولكنه يبدو جليا الآن أن تلك السياسة ودون أن تقصد جعلت الحكم يمعن في التحدي ويلجأ إلى مزيد من العنف. ويبدو من الملاحظة المتأنية لسلوك المؤتمر انه يصبح متوحشا وغير مسئول حين يشعر بالخطر سواء جاء الخطر من داخل السودان أو من المجتمع الدولي ومع تزايد الضغوط الدولية في السنوات القليلة الماضية تدعمت علاقات الحكم باحمدي نجاد في إيران وأوغو شافيز في فنزويلا.وفي العام الماضي أجاز الكونجرس الأمريكي قانونا يحمي حكومات الولايات والبلديات والجامعات والشركات من الدعاوى المدنية التي يقيمها ضدها المساهمون متى سمحت ببيع أسهمها لشركات تنشط في السودان وبعد شهر واحد حاولت الحكومة السودانية الإطاحة بالحكم في تشاد وقصفت أهدافا في دارفور وشنت هجمات أرضية على قوات الأمم المتحدة في دارفور.
أنقذوا السودان
سياسة الترغيب هي الآن السياسة الوحيدة التي يمكن أن تحقق النجاح فبعد آن أوضحت التجارب أن المؤتمر يمكن أن يقاوم الضغط الخارجي نظرا لتزايد ثروته النفطية فهنالك فرص أوسع أمام سياسة تعرض المكافآت مقابل التعاون بدلا من سياسة تتأسس على معاقبة العناد.وعلى واشنطن أن تمنح الخرطوم فرصة لتطبيع العلاقات بطريقة متصاعدة مقابل قيامها بخطوات لحل مشكلة دارفور وتنفيذ خطوات التحول (الديمقراطي) المنصوص عليها في اتفاق السلام.ويولي المؤتمر اهتماما خاصا لرفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب مما يهني رفع العقوبات وإتاحة الحصول على التقنيات الأمريكية في مجال تصفية النفط ويقول الخبراء النفطيون أن ذلك من شأنه رفع عائدات النفط بمقدار 40%.وتحاول إدارة بوش الآن اتخاذ سياسة براغماتية تسمح بتلك التدابير ولكن تحول دون ذلك المعارضة داخل الكونجرس وفي صفوف مؤيدي دارفور.وسيكون ذلك من سوء الحظ لأن الترغيب جاء بنتائج طيبة في الماضي فقد نشأت عنه اتفاقية السلام الشامل وهي الخطوة المتقدمة الوحيدة التي اتخذتها حكومة البشير حتى اليوم. وبالمقابل يجب على إدارة بوش أن تكون في طليعة الساعين لتطبيق تلك الاتفاقية وان تمضي مع مبادرات الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي لإيجاد حل تفاوضي لمشكلة دارفور وفي تطبيقه من كلا المنظمتين وذلك انه لا يمكن إنقاذ دارفور إذا لم ننقذ السودان وإنقاذ السودان يتوقف على إنفاذ وتطبيق الاتفاق. والمشاهد الآن إن الإعداد للانتخابات يمضي بخطوات سلحفائية لان المؤتمر يعلم أن فرص الفوز بها ضئيلة ويتخوف كثير من السودانيون أن تتخذ الحكومة من انعدام الأمن في دارفور ذريعة لإلغائها الأمر الذي سيكون كارثيا لأن إلغاء الانتخابات أو سرقتها عن طريق التزوير أو تأجيل استفتاء عام 2011 سيقود إلى الحرب.وخير وسيلة لإقناع المؤتمر بالتخلي عن التكتيكات التسويفية هي عرض مزيد من الحوافز مع تفادي السلبيات.ومن الممكن أن يسمح قادته بإجراء الانتخابات ويتقبلوا وجود قوات حفظ السلام في دارفور لو وجدوا تطمينا بأنهم لن يتعرضوا للمحاسبة لو خسروا الانتخابات ولن يحاكموا أمام المحكمة الجنائية الدولية.وكانت واشنطن قد وافقت على التعاون مع المحكمة(التي عارضت إنشاءها في البداية) تحت ضغط بعض الدوائر الأمريكية التي كانت تطالب بمعاقبة المؤتمر عن فظائع عامي 2003- 2004الا أن التهديد بالمحاكمة يهدد فرص السلام ويلاحظ أن اتفاقية السلام الشامل لم تقل كلمة واحدة عن معاقبة مرتكبي جرائم الحرب أو تعويض الضحايا إذ أن قرانق أدرك أثناء المفاوضات انه إذا طالب بذلك فلن يتحقق السلام بين الشمال والجنوب(وكان يعرف أيضا أن الجنوبيين قد قاموا بنصيبهم من الفظائع) وبدلا من محاكمات جرائم الحرب يمكن إتباع نموذج جنوب أفريقيا في لجان الحقيقة والتسوية.
ولاشك أن ترغيب الخرطوم سيكون له انعكاسات موجبة على عملية السلام بين الشمال والجنوب فواشنطن وحدها لا تستطيع إنقاذ السودان. والسودانيون- السودانيون وحدهم –هم الذين يستطيعون ذلك ولكن واشنطن تستطيع دعم القوى الشمالية و الجنوبية التي تريد أن تختط طريقا نحو السلام .ولذلك يجب أن تكون بؤرة اهتمام سياستنا الخارجية منع العودة للقتال مع تطوير معادلات لاقتسام الثروة وإيجاد تسوية لمشكلة أبيي وهي نقطة هامة فإذا قدر للحرب أن تعاود الاشتعال فان ابيي ستكون شرارتها الأولى. وفي ذلك الصدد يمكن أن تساعد كل من السعودية والصين لما يكنه السودان لقادتها من الاحترام وقد سبق لهما أن اقنعا الرئيس البشير بقبول قوات الأمم المتحدة في دارفور وبنفس الروح يتوجب على واشنطن الضغط على الفرقاء (بما فيهم أحزاب السودان التقليدية)لكي يخططوا منذ الآن لما قد يسفر عنه استفتاء عام 2011 في حالة مضي الجنوبيين مع خيار الانفصال وهو الاحتمال المرجح.كما يجب على الإدارة إتباع خريطة طريق لتحسين العلاقات مع السودان وذلك مقابل تسوية سياسية في دارفور وتنفيذ اتفاق السلام بالكامل. ومن شأن تحسن العلاقات إقناع الرئيس البشير بالتخلي عن الخط المتشدد للمؤتمر الوطني والتعاون مع المعتدلين فيه ورعاية التحول السلمي إلى الديمقراطية التعددية أو على الأقل إلى مجتمع خال من الإقصاء.وقد استخدمت واشنطن مقاربة مشابهة وبنجاح تام في جنوب إفريقيا في مطلع التسعينات وكذلك في بوروندي في نهاية القرن.ويتخوف قادة المؤتمر من تغير السياسة الأمريكية إلى غير صالحهم في عهد الرئيس الأمريكي الجديد وبذلك لن يكون أمامهم من وقت ابعد من نهاية العام الحالي لترتيب علاقاتهم مع واشنطن وهذه نقطة شددت عليها في محادثاتي معهم.ومن أسف أن التقارب سيواجه مقاومة معتبرة في الولايات المتحدة بسبب الاعتقاد الخاطئ بأن القتل (بمئات الألوف) لا زال مستمرا في دارفور مما ينتج عنه انحياز شرس لجانب دارفور في الكونجرس.وظني أن التفاهم مع الخرطوم سيعني التخلي عن خيار التدخل العسكري الأرعن فليس منظورا أن تقوم أي حكومة في العالم بغزو السودان أو محاصرة موانئه على البحر الأحمر لان تلك الخطوات تمثل عملا عدائيا يقود إلى الحرب ويمثل مخاطر جسيمة .وفي كل الأحوال ربما كان استخدام القوة الجوية ضد السودان أمرا مبررا اثنيا أو سياسيا في حالتين فقط كأن تشن الخرطوم هجوما غير مبرر على الجنوب أو إذا حاولت إغلاق معسكرات اللجوء في دارفور بالقوة وذبح أو إعادة سكانها إلى مواطنهم بالقوة.والواقع إن أي استخدام للقوة من جانبنا يعني تهديدا للجهد الإنساني الذي يبقي على حياة مليونين من نزلائها. وحاليا تناقصت حالات الموت في دارفور عن مستوى عامي 2003 و2004 ومع التأكيد على قيمة كل نفس بشرية إلا أن التدخل العسكري يمكن أن يقود إلى ضحايا اكبر عددا من معدلات الخسائر الحالية وذلك أن الوقت المناسب للعمل العسكري قد فات ولو كان هنالك وقت لذلك فهو في حين اشتداد المذابح عامي 2003/4 حيث سقط 96بالمائة من إجمالي الضحايا.ومن ناحية فقدت الخرطوم سيطرتها على تلك المناطق وليس سهلا استعادتها ورغم اعتقاد الجنوبيين بأن الهجوم الشمالي أمر متوقع إلا أنني اعتقد انه ليس احتمالا بسبب الضعف العسكري للنظام وفي ضوء ميل المؤتمر لحماية نفسه بأي ثمن من الدبلوماسية الدولية فقد تكون الضغوط المحلية الداخلية الوسيلة المتاحة لضمان تعاونهم.ويمكن لواشنطن أن تزيد من دعمها للحركة الشعبية وتساعد الجنوب على تطوير قوة عسكرية ذات وزن وقد كان ذلك مبادرة وجهني بتشجيعها كل من الرئيس بوش وكوندوليزا رايس وان أتعامل معها كأولوية عامي 2006-7..ومع ذلك فان ميول الجنوبيين إلى سياسة الاقترب من الحافة كادت تفجر حربا في الخريف الماضي ولكنها أفلحت في حمل الخرطوم على الاستجابة –مؤقتا- لمطالبهم. وتتقدم واشنطن في ذلك المسعى بحرص شديد بحيث لا تشجع الحركة الشعبية أكثر من اللازم ولكنه ينبغي عليها تفعيل ذلك المسعى حتى تردع الخرطوم من العدوان وبنفس الوقت تضغط على المؤتمر لتحقيق بعض الإصلاح ويقتضي ذلك في البدء تقليص حجم القوات الجنوبية التي تمثل حاليا استنزافا كبيرا لقدرات حكومتها كما يقتضي إخضاع القوات لسلطة مدنية وضمان أن يكون هدفها الأساسي هدفا دفاعيا وكل ذلك مع تزويدها بالتدريب التكتيكي وتقوية قبضة القيادة للحئول دون قيام حرب نتيجة لحادث عارض وبشكل عام تشديد قبضة الزبط والربط في كل مستوياتها. وعلى الحكومة الأمريكية أيضا أن لا تزود الجنوبيين بأنظمة تسليح يمكن استخدامها لأغراض هجومية إذ أن المتشددون يمكن أن يستخدموها لإثارة الخرطوم ولكن الحكومة الأمريكية يجب أن تهرع لمساعدة الجنوب وتزود الجنوب بدفاعات جوية لردع أي هجوم جوي يقوم به الشمال والواقع إن بناء جنوب قوي عسكريا وسياسيا واقتصاديا هو أفضل بوليصة تأمين بوجه مساعي الشمال لقفل الباب أمام الإصلاح أو لزعزعة استقرار الجنوب. وقد خصص الكونجرس 167 مليون في ميزانية 2007 لإعادة تعمير الجنوب وهي غير كافية لتأمين السلام ويجب تخصيص المزيد من الاعتمادات.وفي العام الماضي حين لا زلت مبعوثا خاصا للسودان طلب مكتبي 600 مليون لبرنامج لإعادة التعمير تشرف عليه وكالة التنمية الدولية ولكننا استلمنا مبلغ120 مليونا فقط وينبغي الآن اعتماد الجزء المتبقي.
على واضعي السياسة الأمريكية أن لا ينسوا أبدا ما حدث في دارفور عامي 2003/2004 إلا أن التركيز على الماضي قد يضر بمستقبل البلد كله وخلال العام المقبل (وهو عام ذو أهمية قصوى ) ينبغي أن تمارس واشنطن سياسة ترغيب حكيمة متعددة الظلال وبذات الوقت جريئة أي سياسة جيدة وصحيحة.وعلى واشنطن أن تتذكر أيضا انه ليس مضمونا النجاح حتى للسياسات الجيدة والصحيحة . وقد يكون المؤتمر عصابيا وميالا لاختلاق العقبات وقد تكون الحركة الشعبية متوجسة من الخرطوم وقدرات واشنطن محدودة ولا تستطيع اتخاذ خطوات فعالة للحيلولة دون تفكك السودان ولكن بالنظر إلى إمكانية وقوع كارثة إنسانية مرعبة فان العواقب الإستراتيجية لانهيار البلد والتكلفة العالية لإعادة تعميرها لا تترك أمام واشنطون أي خيار سوى الاستمرار في المحاولة.
Quote: ي عن التكتيكات التسويفية هي عرض مزيد من الحوافز مع تفادي السلبيات.ومن الممكن أن يسمح قادته بإجراء الانتخابات ويتقبلوا وجود قوات حفظ السلام في دارفور لو وجدوا تطمينا بأنهم لن يتعرضوا للمحاسبة لو خسروا الانتخابات ولن يحاكموا أمام المحكمة الجنائية الدولية
الكلام دا قولوا للمحقق اوكامبو...موضوع لاهاي دا مافيهو نقاش دا غير القصاص البي الرصاص.....من قبل الشعب الغاضب
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة