العلمانية واحترام الاديان:حجب جائزة مستحقة عن مسلم لرفضه مصافحة سيدة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-12-2024, 10:22 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثاني للعام 2008م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-24-2008, 01:01 PM

Waeil Elsayid Awad
<aWaeil Elsayid Awad
تاريخ التسجيل: 12-12-2004
مجموع المشاركات: 2843

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
العلمانية واحترام الاديان:حجب جائزة مستحقة عن مسلم لرفضه مصافحة سيدة

    http://moheet.com/show_news.aspx?nid=138985&pg=1

    حجب جائزة مستحقة عن مسلم لرفضه مصافحة سيدة







    لندن: منع لاجئ صومالي مسلم في أيرلندا من الحصول على جائزة مستحقة، بعد أن رفض مصافحة السيدة التي تقدم الجائزة مستندا إلى آراء فقهية تحرم مصافحة المرأة الأجنبية، بحسب صحيفة" صنداي تايمز" البريطانية.

    وقالت بنديكتا أتوه عضو اللجنة الاستشارية الوطنية لمكافحة العنصرية وتعزيز الحوار بين الثقافات، والتي رفض اللاجئ الصومالي علي نور أحمد شيخ مصافحتها: إن "المحكمين قرروا منح الجائرة لشخص آخر؛ بسبب رفض شيخ مصافحتي".وكان المركز الإفريقي في دبلن قد اختار "شيخ" مؤخرا؛ لنيل جائرة عن إسهاماته بشأن رفع التبرعات المقدمة لمنظمة العفو الدولية.

    وقبيل بدء الاحتفال بهذه المناسبة طلب "شيخ" من منظمي الحفل عدم مصافحة مقدمة الجائزة؛ لكونها سيدة وهو لا يصافح النساء، وفي هذا السياق قال شيخ: إن منظمي الحفل وافقوا في البداية على تلبية طلبه "لكن قبل 5 دقائق من الإعلان عن الجائزة تم إسقاط اسمه، لتذهب الجائزة إلى متطوع آخر".

    ومن جهتها قالت "أتوه" مقدمة الجائزة: "لم أقدم له الجائزة؛ لأنه لم يصافحني لكوني امرأة".ووفقا لإحصاء رسمي أجري عام 2006، يعيش في أيرلندا نحو 33 ألف مسلم يشكلون 1% من إجمالي عدد السكان.
                  

06-24-2008, 02:40 PM

Waeil Elsayid Awad
<aWaeil Elsayid Awad
تاريخ التسجيل: 12-12-2004
مجموع المشاركات: 2843

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
حصاد العلمانية (Re: Waeil Elsayid Awad)

    الجزء الأول

    كلام خارج الظل

    هي شجرة غريبة، جلبوها من أحراش الغرب الفكرية، وغرسوها في تربة ليست بتربتها.. لم تنبت كما أرادوا، فراحوا يعملون في أشجار هذه التربة تقطيعاً وتحريقاً؛ لاستنبات الشجرة الغريبة.. قالوا: إن هذه الشجرة لا تنبت وسط أشجار من غير فصيلتها، حرثوا الأرض لها، اقتلعوا كل ما عداها، ثم راحوا يجففون المنابع عن كل ما سواها؛ لتوفير التربة المناسبة والمناخ الملائم.. شجرة مدللة محمية !..

    وعَدُونا بقطف ثمارها عندما تينع باسقة، ووعَدُونا بالراحة في ظل رخائها، ووعدُونا بالتمتع بشمس الحرية وبالتنعم بنور العلم اللذين حُرمنا منهما عندما حجبتها الأشجار المقتلَعة.. هكذا وعدُونا وهكذا زعموا!.

    استوت الشجرة الغريبة الغربية وأينعت، فإذا بنا نطعم ثمارها حنظلاً، وإذا بظل رخائها يُتخم بطوننا فقرًا وفسادًا، وإذا بشمس حريتها تُلهب ظهورنا قمعاً وقهرًا، وإذا بنور علمها يغشى بصيرتنا وهمًا وسرابًا.. !.

    قالوا: صبراً ! فلا بد من دفع ضريبة التقدم، ولا بد من تحمل مشاق الطريق.. فمَن زرع حصد، ومَن جدَّ وجد.. صَبَرْنا وصَبَرنا وتحملنا، نعم.. هم حصدوا وهم وحدهم وجدوا، أما نحن فوجدنا أنفسنا نجلس في العراء لنشاهد تساقط أوراق شجرتهـم غير مأســوف عليها.. عنـدهـا قالوا: إن ما ذقتموه ليس حنظلاً؛ بل هو شهد مصفَّى، والعيب في ذائقتكم، وإن تساقُط أوراق الشجرة ليس علامة مرض واحتضار، بل علامة صحة وتجديد، والعيب في بصيرتكم.. عليكم بتجرع المزيد..!

    تلكم هذه قصة العلمانية في بلادنا..

    فحتى متى المخادعة؟ وإلى متى نستمرئ الدجل؟ متى نقتلع هذه الشجرة من أرضنا المباركة ونتخلص من سمومها وحنظلها؟

    إلى الذين ما زالوا يشكُّون في هذه المخادعة، ويترددون تجاه هذا الدجل، ويتحيرون في الموقف من العلمانية والعلمانيين.. نقدم هذا الملف: ليس تصيُّداً لأوراقهم المتساقطة؛ فتساقط الأوراق لم يبق من شجرتهم الخبيثة إلا عصا هراوة.. وليس جمعاً لكل حصاد العلمانية، فحنظلهم علا وطمَّ..

    وهذا الملف للعلمانية أقل من جرد حساب لكامل التجربة العلمانية، وأكثر من مجرد هجاء لها؛ فهو يكشف نقطة من بحر.. عفواً: نقطة في مستنقع.. مستنقع آسن تُرفع على حدوده لافتة تقول: ممنوع دخول الطهر والمتطهرين.. محمية محظورة!

    http://www.albayan-magazine.com/files/almaniah/index.HTM
                  

06-24-2008, 02:42 PM

Waeil Elsayid Awad
<aWaeil Elsayid Awad
تاريخ التسجيل: 12-12-2004
مجموع المشاركات: 2843

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
العلمانية في قفص الاتهامة (Re: Waeil Elsayid Awad)

    لمحامي/ صبحي صالح موسى

    تعد التشريعات القانونية مرآة تعكس حقيقة المجتمعات؛ فمن خلالها نستطيع التعرف على النمط السياسي والاقتصادي والاجتماعي لأي مجتمع لا سيما المجتمعات ذات الاتجاهات الأيديولوجية التي تحكمها تشريعات تصدر عن هذه الاتجاهات وتصب فيما يحقق الفلسفة الفكرية للاتجاه السائد.

    ولما كانت الشريعة الإسلامية نظاماً كاملاً شاملاً (وضمن ذلك جانبها التشريعي القانوني) يستند إلى أساس عقدي، وتصدر عن أصل مقدس قائم على الكتاب والسنة، وهما أصلا الاستدلال عند المسلمين؛ فإنها تتميز بلون وسمت مميز ومختلف تماماً عن كافة النظم القانونية الأخرى السائدة في العالم كله {صٌبًغّةّ پلَّهٌ $ّمّنً أّّحًسّنٍ مٌنّ پلَّهٌ صٌبًغّةْ $ّنّحًنٍ لّهٍ عّابٌدٍون}.

    [البقرة: 138].

    ومن السهل تمييز المجتمعات المحكومة بنظام الإسلام من أي مظهر من مظاهر هذه المجتمعات سواء كان هذا المظهر عقدياً أو أخلاقياً، فكرياً أو سلوكياً، فردياً أو مجتمعياً.

    وقد ظلت المجتمعات الإسلامية جميعها محكومة بنظام الشريعة الإسلامية منذ ظهور الإسلام، وفي النكبة الأخيرة التي كان أبرز مظاهرها سقوط الخلافة العثمانية (في تركيا) سنة 1924م على يد مصطفي كمال أتاتورك، وما تبع ذلك من انهيارات مدوية في البلاد الإسلامية إلا ما رحم ربك، ولم يكن ذلك فجأة ولا من فراغ، وإنما تم ذلك بعد هجوم ضار منظم تمثل في حملات عسكرية متتابعة يتزامن معها وعلى المحاور نفسها حملات غزو فكرى وثقافي أشد ضراوة وأكثر تنظيماً.

    وإذا كانت الأمور قد انتهت باحتلال عسكري أجنبي (صليبي) في معظم البلاد الإسلامية؛ فإن الأشد فداحة هو وصول الأمر إلى أبعد غاية ممكنة، تمثلت في احتلال عقول وقلوب ـ ومن ثم: سلوك وعادات ـ كثير من أهالي هذه البلدان.

    وعلى الرغم من حصول هذه البلدان على الاستقلال السياسي، وجلاء القوات العسكرية الأجنبية عن أراضيها على مدار سني القرن العشرين؛ ومع ذلك وبعد مرور قرن بأكمله فإنه لا يستطيع أحد أن ينكر أن عقول وقلوب وعادات وسلوكيات أبناء هذه البلاد ـ لا سيما كثيرًا من النخب السياسية الحاكمة فيها ـ ما زالت محتلة احتلالاً أجنبياً، وأبرز صور هذا الاحتلال وضوحاً وأبلغها أثراً: هذا الاحتلال الفكري والثقافي والاجتماعي المسيطر على كثير من مناحي التشريعات القانونية لبلدان العالم الإسلامي؛ فما زالت أحكام الشريعة الإسلامية مهمشة ومبعدة عن دفة الأمور ومنصة الأحكام عن عمد وإصرار، بل الأشد من ذلك والأنكى: أن هذا الاحتلال أصبح قوياً وممكناً إلى درجة اعتبار الدعوة إلى الاستقلال التشريعي، والمطالبة بالتحرر القانوني، والعودة إلى التشريعات الأصلية لهذه البلدان والتي تنبع من عقيدتها، والمطالبة من ثم بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية أصبح ذلك جريمة شائنة تعامل بأشد صور المعاملة القانونية قسوة وبشاعة، وتطبق عليها أشد العقوبات صرامة وضراوة، وتحكمها عادةً إجراءات استثنائية وأحكام عرفية غير مسبوقة في التاريخ.

    ولكن قبل استعراضنا لدراسة الحالة التي نمثل لها يحسن بنا تقديم عرض تمهيدي موجز لفكرة سيادة القانون في التشريعات العلمانية مقارنة بالشريعة.

    أولاً: فكرة (سيادة القانون) بين الإسلام والعلمانية:

    تعد فكرة سيادة القانون عند المفكرين القانونيين قمة التطور الإنساني في مجال كرامة المواطن وحقوق الإنسان، كما أنها تمثل قمة الديمقراطية؛ فهي النموذج المحتذى والمثل المقتدى في الدول الحرة والمتقدمة، وهذه الفكرة تتمثل في سيادة القانون وتدرُّجه؛ بحيث يكون الدستور هو القانون الأعلى والأسمى للبلاد، وهي فكرة تحقق توازن الحقوق والواجبات بين الحاكم والمحكوم، كما أنها تحقق مبدأ الفصل بين سلطات الدولة، بما يضمن عدم تعدي سلطة على أخرى أو انفـراد إحداها بالسلطة بما يتيح المناخ للظلم والقهر والتسلط والدكتاتورية.

    ونظراً لما تتسم به المجتمعات العلمانية من قصر نظرٍ مرجعه عدم الإيمان بالغيب، فضلاً عن سطحية في التصور ـ مرجعها عبادة العقل والتمرد على الوحي ـ فإن فكرة المشروعية الدستورية وسيادة القانون هي بالنسبة لهم غاية المرتجى ونهاية المجد.

    لكن في الشريعة الإسلامية تبدو هذه الفكرة أشبه بآلهة التمر التي كان يصنعها كفار مكة قبل الإسلام، فإذا جاع أحدهم أكل الإله أو بعضه، ثم أعاضوا له ما أكلوه منه، ثم خرُّوا له ساجدين.

    وبيان ذلك يتضح من هذا الفرق الجوهري والخطير بين المشروعية الدستورية العليا عند العلمانيين والمشروعية الإسلامية العليا عند علماء الشريعة الإسلامية؛ إذ إن الدستور الوضعي ـ وهو أسمى القوانين؛ بحسبانه القانون الأعلى للدولة ـ إنما يضعه البشر (نواب عن الأمة)، بينما القانون الأسمى والأعلى عند المسلمين هو وحي الله المنزل (كتابه العزيز ـ وصحيح السنة النبوية المطهرة) والفرق بين الاثنين واضح، والأثر المترتب على ذلك أوضح:

    فالوحي مقدس قداسة منزله ـ عز وجل ـ، وباق بقاء منزله ـ سبحانه ـ، ومن ثم فهو يستعصي على الإلغاء أو التعديل لقوله ـ عز وجل ـ: {مّا يّكٍونٍ لٌي أّنً أٍبّدٌَلّهٍ مٌن تٌلًقّاءٌ نّفًسٌي} [يونس: 15].

    كما أن كون الوحي منزلاً مـن عند الله فإنه ينفـي وجود أي درجة أو امتياز لأحد على أحد؛ فكل الناس عباد لله الواحد المعبود، وهو بهذه المثابة عال، ومقدس، ومنزه، وباق، وعادل، وهذه صفات مطلقة لله عز وجل، ووحي الله صفة من صفات الله تعالى، والصفات تابعة للذات.

    أما أن فكرة سيادة القانون عند العلمانيين لا تحظى بهذه الصفات التي تتميز بها الفكرة نفسها في الشريعة الإسلامية؛ فذلك لأن الدستور يضعه بشر (أياً كانت صفتهم)، وأن الجهة التي تصدر الدستور تملك تعديله، كما تملك أيضاً تبديله، ولا يستبعد وجود الأهواء والشهوات والمصالح الشخصية أو النظرات القاصرة في هذا التعديل والتبديل؛ إذ إن ذلك من طبائع البشر، والواقع خير شاهد ودليل، وهذا الأمر يستحيل حدوثه أو حتى تصوره في الشريعة الإسلامية ولا يملكه ولا يقدر عليه أحد كائناً من كان.

    فالدستور إذن من صنع أيدي هؤلاء ونتاج عقلهم القاصر وثقافتهم المحدودة؛ فهو لمن أصدروه مثلما كانت آلهة التمر لكفار مكة؛ إذ إن القاعدة أن الصانع سيد المصنوع، فإذا كان الدستور من صنع البشر فإن البشر هم سادة الدستور، وهذا الذي لا يستطيع أحد أن يدعيه على الشريعة الإسلامية قط، وهذا أيضاً وجه من وجوه إعجازها.

    ثانياً: القانون والإسلام:

    ويلاحظ كثير من المؤرخين وفقهاء القانون أن الصلة بين الدين الإسلامي خاصة والشريعة صلة تقوم على التغذية المتبادلة دائماً؛ فالشريعة انتشرت حيث انتشرت العقيدة الإسلامية، وبالعكس فإن العقيدة الإسلامية بدأت تنحسر وتضعف حيث تقلص نفوذ الشريعة وتقلص دورها في المجتمعات التي أحلَّت القوانين الوضعية محل أحكام الشرع.

    هذه العلاقة بين الدين والقانون توجد في جميع المجتمعات غير الإسلامية من الديانات المختلفة، ولكنها بالنسبة للإسلام خاصة تتخذ رباطاً وثيقاً للغاية؛ لأن الصلة بين الدين والقانون في الإسلام صلة ارتكان.

    ثالثاً: الشريعة والتجديد:

    ونظراً لكثرة الكلام حول وجوب التجديد في الشريعة يتعين الإشارة إلى أنه عند الحديث عن التجديد والمجددين في الإسلام ينبغي ملاحظة الفارق المهم بين الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي.

    1- فالشــريعــة هـــي الأحـكام التـي أنزلهـا الله ـ سبحانه وتعالى ـ لعباده، ومصادرها الرئيسية هي القرآن وسنة النبي #.

    2 - بينما الفقه هو معرفة الأحكام الشرعية التي تتعلق بأفعال العباد بأدلتها التفصيلية عن طريق الاستدلال والاستنباط والاجتهاد في فهم نصوص الشريعة الإسلامية؛ فالشريعة ذاتها أصل ووضع إلهــي لا يتغير، بينما الفقه ـ وهو فهم البشر للنصوص وتطبيقه على أوضاع مجتمعاتهم وظروفهم ـ ذو وضع بشري يَرِد عليه الخطأ والصواب، ويَرِد عليه التجدد وإعادة النظر.

    ولكن تتبقى نقطة بالنسبة للتجديــد وهـي أننــي لا أظن أن أحداً أو كثيرين لا يؤمنون بأهمية تجديد الفقه والفكر الإسلامي، ولا نجد خلافاً حقيقياً في هذه النقطة، وإنما المشكلة الأساسية هنا هي: كيف يمكن أن نمارس التجديد في الفقه الإسلامي الآخذ عن الشريعة ونحن مستنفذو القوى في معركة فكرية أخطر، وهي: تثبيت الشريعة أو تعطيلها؟

    هذه هي المشكلة الحقيقية! المشكلة أن الشريعة تجد هجوماً شديداً عليها وتجتث أصولها من المجتمع، مما يجعلنا نسائل أنفسنا: ما الذي ننصرف إليه؟ ننصرف إلى الاجتهاد في الفروع؟ أم نهتم بتثبيت الأصول؟

    هذه هي المشكلة، وهذه هي النقطة التي تحتاج منا إلى صياغات جيدة؛ فهل نستطيع أن نقوم بالعملين معاً بغير تضارب بينهما وبحيث لا يطغى أحدهما على الآخر؟

    - لا بد من تثبيت الأصول، هذه نقطة.

    - النقطة الثانية: لا بد من التجديد في فروع الشريعة الإسلامية وفي الفقه.

    - والتلاؤم وعملية المزاوجة بين هذين الأمرين تحتاج من الكافة إلى جهد كبير.

    رابعاً: الشريعة والجماعة السياسية:

    إن التشريع المأخوذ عن الشريعة الإسلامية يشكل أساساً حيوياً وجوهرياً لتوحيد ما يمكن توحيده من أقطار العرب والمسلمين، وقد قام بدوره التوحيدي هذا من قبل، ومما له دلالته أن تفتت أمتنا العربية والإسلامية أقطاراً جاء متواكباً مع العدول عن التشريع الإسلامي، وأن التقنين الوضعي واختلاف مدارسه صار أحد معوقات إمكان التوحيد بين شعوبنا؛ إذ بينما يخضع المصري والشامي للتشريعات اللاتينية كان يخضع السوداني للتشريع الأنجلو سكسوني.. وهكذا(1).

    الغزو العلماني للتشريعات القانونية المصرية:

    ونظراً لما تتمتع به مصر من مكانة تاريخية وجغرافية على مدار التاريخ الإسلامي كله منذ الفتح الإسلامي لمصر إبان خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله تعالى عنه ـ، ودورها الرائد في حماية الإسلام والذود عن المسلمين، والذي تجلى في أعظم صوره في مواجهة التتار ودحر عدوانهم فضلاً عن صمودها وجهادها وتضحياتها في مواجهة الحملات الصليبية المتكررة على مدار حركة الصراع التاريخي كله، ونظراً لأثرها في العالم الإسلامي، فقد ركز عليها الغرب ضرباته واستهدفها بمؤامراته، مما رشحها بقوة لتكون نموذجاً لـ (دراسة حالة) لموضوع هذا المقال.

    ولبحث مدى اتفاق أو افتراق القوانين المصرية مع الشريعة الإسلامية، وإلى أي مدى كان الاحتلال الأجنبي (العلماني) للأحكام القانونية المصرية في مختلف المجالات نعرض أولاً للنشأة والتطور التشريعي تاريخياً.

    التطور التاريخي للتشريعات الحاكمة في مصر منذ الفتح الإسلامي وحتى اليوم:

    أولاً: المحاكم الشرعية منذ نشأتها حتى إلغائها:

    1 - نشأت مصر نشأة إسلامية تحكم بالشريعة، حيث كان فقهاء الصحابة والتابعين من بعدهم يرجعون في قضائهم وفتاويهم إلى الكتاب العزيز والسنة المطهرة وأدلة الاجتهاد.

    2 - وفي العصور اللاحقة تداول منصب القضاء في مصر فقهاء من مذاهب إسلامية مختلفة.

    3 - إلى أن فتح الأتراك العثمانيون القطر المصري، فجعلوا قاضي القضاة حنفياً، وفي كل هذه العهود كان المرجع في القضاء متون كتب الفقه المتعددة، والشروح والحواشي، وكتب الفتاوى الكثيرة، بدون أن يتقيدوا بقانون مصاغ على نمط القوانين الحديثة.

    4 - وفي أوائل حكم محمد على باشا والي مصر صدر له من الدولة العثمانية فرمان شاهاني يتضمن تخصيص القضاء والإفتاء بمذهب أبي حنيفة، كما صدرت له في آخر حكمه إرادة سَنِية تؤكد العمل بذلك الفرمان، وجرى العمل من ذلك الحين طبقاً لما تضمنه هذا الفرمان وتلك الإرادة، وتقرر هذا التخصيص بشكل واضح فيما صدر من القوانين للمحاكم الشرعية.

    والجدير بالذكر أنه لما جاء النفوذ الأجنبي أزاح ذلك كله وأقام نظاماً جديداً قوامه القانون الغربي في مختلف مسائل الأسرة والمجتمع والتجارة والمعاملة؛ فأحدث ذلك اضطراباً شديداً، وقد دعم النفوذ الأجنبي سلطانه السياسـي والاجتماعـي والاقتصادي بأن أقام معاهــد الحقوق والتجارة لتدريس النظم الأجنبية القائمة على إباحة الربا والزنا والخمر والميسر في المجتمع الإسلامي، وكان قانون العقوبات من أخطر هذه القوانين التي أباحت جرائم الزنا وهتك الأعراض وأخرجت المجتمع الإسلامي من ضوابطه وقيمه، وكان الأمر كذلك في دائرة المعاملات حيث فرضت القوانين التي تبيح الربا وتجعله أساس جميع وجوه التعامل في البيع والشراء والإجازة وغيرها.

    5 - وقد جاء هذا التحول الخطير في أعقاب الأزمة الاقتصادية التي وقعت فيها مصر نتيجة لاستدانة إسماعيل باشا من المصارف الأجنبية، تلك المبالغ التي جلبت معها نفوذ الدائنين وسيطرتهم على الاقتصاد المصري، ثم سيطرتها على الحكومة نفسها، مما شجعهم على المطالبة بنظام غربي جديد يمكنهم من فرض سلطانهم على الاقتصاد، وما يتبع ذلك من تغييرات قانونية واجتماعية، وقد جرى ذلك في دائرة الامتيازات الأجنبية التي مكنت الأجانب من إقامة محاكم قنصلية خاصة لهم للفصل بين رعاياهم وبين أهل البلاد (بلغت سبعة عشر محكمة)، وقد صدر عن هذه المحاكم أحكام بتعويضات باهظة حتى تجاه الحكومة المصرية نفسها بلغت في أربع سنوات نحو ثلاثة ملايين من الجنيهات، وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت.

    6 - ورأى القائمون على الأمر وقتها أن المخرج من هذا المأزق هو إنشاء المحاكم المختلطة لتكون بديلاً عن القضاء القنصلي، وقد قامت هذه المحاكم 1875م واشتركت فيها أغلب الدول الأوروبية واستدعت إنشاء قوانين غربية المصدر، منها: القانون المدني والقانون التجاري والقانون البحري وقانون العقوبات وقانون تحقيق الجنايات وقانون المرافعات.

    7 - وكانت هذه القوانين هي الأساس الذي قامت عليه من بعد نظم المحاكم الأهلية، وبذلك سيطرت القوانين الأجنبية على مختلف شؤون المجتمع المصري بديلاً للشريعة الإسلامية التي انحسر نفوذها في دائرة الأحوال الشخصية، وهي مجموعة القواعد التي تحدد العلاقة بين الفرد وأسرته، وهكذا حجب القانون الفرنسي الشريعة الإسلامية عام 1885م في مؤامرة واسعة النطاق، اشترك فيها الخديوي مع الحكومة والاحتلال الأجنبي، واستمر العمل بهذه القوانين في المجال المدني والتجاري والاجتماعي حتى الآن مع تعديلات يسيرة أدخلت خلال تلك المدة الطويلة التي قاربت قرناً من الزمان.

    8 - وظلت المحاكم الشرعية تتولى منازعات الأحوال الشخصية فقط، وبالرغم من أن الإصلاح بالمحاكم الشرعية قد تناول أكثر النواحي فإنه لم يتناول القانون الوضعي إلا ابتداءاً من سنة 1925م، ولم يتناول إلا بعض مسائل خاصة صدر بها القانون رقم 25 لسنة 1920م، والقانون رقم 25 لسنة 1929م.

    وقد صدرت عدة لوائح بمصر في أزمنة مختلفة ترتب المحاكم الشرعية وتقلص ظلها ـ بعد إنشاء المحاكم المختلطة في سنة 1875م والمحاكم الأهلية في سنة 1883م ـ وحصر اختصاصها في مسائل الأحوال الشخصية بالنسبة للرعايا المصريين المسلمين بصفة عامة، بعد أن كانت المحاكم الشرعية هي صاحبة الولاية العامة وهي الجهة القضائية المختصة بالنظر في جميع المسائل من مدنية وجنائية وأحوال شخصية.

    9 - وفي سياق هذا الإصلاح ألَّف محمد قدري باشا كتاب: (مرشد الحيران في معرفة أحوال الإنسان) في المعاملات المدنية على غرار القوانين الوضعية في مواد اشتملـت علـى 914 مـادة، وكـل أحكام الكتاب المـذكـور مأخوذة من مذهب الإمام أبي حنيفة، وقررت نظارة المعارف بتاريخ 15 سبتمبر سنة 1895م طبع الكتاب على نفقتها مع جدول يبين مآخذ كل مادة من كتب فقه الحنفية مع تعيين الصفحات.

    - وألَّف أيضاً كتاب: (قانون العدل والإنصاف في مشكلات الأوقاف)، حيث اشتمل على 646مادة، وقد بين مآخذ كل مادة من كتب فقه الحنفية، وصدر قرار من ناظر المعارف في 17 سبتمبر سنة 1893م بطبعه على نفقة نظارة المعارف.

    - وألَّف كتاب: (الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية) واشتمل على 647مادة، والأحكام التي تضمنها مأخوذة أيضاً من مذهب الإمام أبى حنيفة، وقد تناول الكتاب أحكام: الهبة، والحجر، والإيصاء، والوصية، والميراث. وسائر مسائل الأحوال الشخصية.

    10 - وفي سنة 1915م ألفت لجنة من كبار العلماء برئاسة وزير الحقانية (العدل)؛ لوضع قانون لمسائل الأحوال الشخصية، فأعدت اللجنة مشروع قانون للزواج والطلاق والمسائل المتعلقة بهما، واستمدت أحكامه من المذاهب الأربعة، وطبع المشروع في سنة 1916م، وأعيد طبعه بعد تنقيحه في سنة 1917م، ولكن المشروع لم يأخذ طريقه إلى التنفيذ، ولا يزال مهملاً ومتروكاً في زوايا النسيان حتى الآن.

    11 - وصدر المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1925م، والمرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929م، وقد عدل فيهما عن مذهب الحنفية المعمول به أمام المحاكم الشرعية وأخذ بما في المذاهب الإسلامية الأخرى في بعض المسائل المتعلقة بالنفقة، والعدة، والطلاق، والفرقة بين الزوجين للإعـسار وعـدم الإنفــاق أو لغيبـة الـزوج أو للإضرار بالزوجة بما لا يستطاع معه دوام العشرة.

    12 - وفي سنة 1936م ألفت وزارة العدل لجنة من كبار العلماء برئاسة شيخ الجامع الأزهر في ذلك الوقت للنظر في أحكام الأحوال الشخصية.

    فأتمت اللجنة المذكورة إعداد مشروعات قوانين للمواريث والوصية والوقف، فعرضت الحكومة تلك المشروعات على البرلمان، وتمت الموافقة عليها بعد إدخال تعديلات في بعض موادها، وصدر بها القانون رقم 77 لسنة 1943م بأحكام المواريث، والقانون رقم 48 لسنة 1946م بأحكام الوقف، والقانون رقم 71 لسنة 1946م بأحكام الوصية.

    وقد خولف في تلك القوانين مذهب الحنفية وعدل عنه في كثير من المسائل، وأخذ بما في المذاهب الأخرى بدون أن يتقيد برأي إمام معين من الأئمة المجتهدين ولا بمذهب دون مذهب؛ تحقيقاً للعدالة والمصلحة العامة ورفعاً للمشقة ودفعاً للحرج الذي كان يلحق الناس من إلزام المحاكم الشرعية التقيد بمذهب واحد ـ وهو مذهب الحنفية ـ والتزام أحكامه الفقهية في القضاء بين الناس والفصل في الخصومات والمنازعات، فما استحدث في تلك القوانين من تعديل، وخولف فيها مذهب الحنفية، وروعي في ذلك الأخذ بأيسر الأحكام الفقهية من المذاهب الإسلامية الأخرى وأقربها إلى ما تنطوي عليه الشريعة الإسلامية السمحة من يسر على الناس يرفع الحرج والعسر عنهم.

    13 - وصدر القانون رقم 185 لسنة 1952م الخاص بإلغاء نظام الوقف على غير الخيرات، والقانون رقم 247 لسنة 1953م الخاص بالنظر على الأوقاف الخيرية وتعديل مصارفها.

    14 - وأخيراً صدر القانون رقم 462 سنة 1955م بإلغاء المحاكم الشرعية والمحاكم الملِّيَّه، وأصبحت بذلك جميع المحاكم في مصر بمختلف درجاتها محاكم علمانية تصدر أحكامها وفق الترتيب الوارد بنص المادة الأولى فقرة [2] من القانون المدني المصري، والتي تنص على أنه: (إذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه: حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية، فإذا لم توجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة).

    وهكذا صار موقع الشريعة الإسلامية على خريطة تشريعات مجمل النظام القانوني وهيكل السلطة القضائية في الدرجة الثالثة، بعد التشريع الوضعي، وبعد العرف.

    فما هي ظروف ميلاد هذه التشريعات العلمانية وكيفية نشأتها، واختراقها لنظم المجتمع؟

    ثانياً: اختراق القوانين الوضعية للمجتمع:

    في محاولة للبحث في ظروف ميلاد تلك القوانين ونشأتها فإن المدخل لذلك ينحصر في الإجابة عن السؤال الآتي: هل استُولدت أحكام هذه القوانين من القواعد العامة للشريعة الإسلامية بطريق صحيح مشروع، حتى يمكن نسبتها إلى الشريعة الإسلامية بنسب شرعي صحيح، أو أن العكس هو الصحيح؟

    وقبل الإجابة عن هذا السؤال نعرض لكل من المجموعتين الأساسيتين للتشريعات (المجموعة الجنائية، والمجموعة المدنية) حيث تجدر الإشارة إلى أن ظروف نشأتها التاريخية تشير إلى أنها ولدت على يد محام فرنسي غير مسلم في أواخر القرن الماضي، وذلك على الإيجاز الآتي:

    أولاً: التشريعات المدنية:

    1 - في الثامن والعشرين من يونية سنة 1875م صدر التقنين المدني المختلط، وقد قام بوضعه المحامي الفرنسي مانوري ـ الذي اتخذه الوزير الأرمني نوبار باشا أمين سر له ـ ثم عينه بعد ذلك أمين سر اللجنة الدولية التي كانت تدرس مشروع إنشاء المحاكم المختلطة آنذاك(1).

    2 - وقد اقتُبس التقنين المدني المختلط من التقنين المدني الفرنسي، ونقل بعض المسائل عن القضاء الفرنسي، وعن التقنين المدني الإيطالي القديم الذي صدر في سنة 1866م، ويقول أحد كبار رجال الفقه الوضعي في مصر وهو الدكتور عبد الرزاق السنهوري: «إن مانوري لم يغفل الشريعة الإسلامية، فنقل عنها بعض الأحكام»(2).

    ويقول د. السعيد مصطفى السعيد (أستاذ القانون الجنائي)(3): «وبالطبع فقد تم وضع القانون باللغة الفرنسية، ثم شكلت لجنة تكفلت بعد ذلك بترجمته وسائر القوانين المختلطة إلى اللغة العربية».

    من الناحية الرسمية كانت الشريعة الإسلامية هي القانون الوطني السائد في البلاد حتى ذلك التاريخ(4)، ثم ما لبثت حكومة ذلك العهد بعد استقرار المحاكم المختلطة أن تطلعت إلى تغريب القضاء الوطني بتنظيمه على غرار القضاء المختلط(5).

    3 - فتألفت في أواخر سنة 1880م لجنة لوضع لائحة لمحاكم وطنية نظامية، كان من بين أعضائها رجل يدعى (موريوندو) ـ وهو محام إيطالي عين قاضياً في محكمة الإسكندرية المختلطة في سنة 1875م ـ وقامت هذه اللجنة بوضع لائحة لترتيب المحاكم الوطنية الجديدة (صدرت في 17 من نوفمبر سنة 1881م) وقام أعضاء اللجنة في الوقت ذاته بوضع تقنينات لهذه المحاكم صيغت كلها على مثال التقنينات المختلطة، وكان أن وضع موريوندو التقنين المدني الوطني فنقله ـ على حد تعبير السنهوري ـ نقلاً يكاد يكون حرفياً من التقنين المدني المختلط.

    4 - وفي 14 من يونية سنة 1883م صدرت لائحة المحاكم الوطنية، ثم صدر التقنين المدني الوطني في 28 من أكتوبر سنة 1883م، فالتقنينات الخمسة الأخرى في 13 من نوفمبر سنة 1883م، وقد وضعت هذه التقنينات الوطنيـة كلها باللغـة الفرنسية، ثم ترجمـت إلى اللغـة العربيـة.

    5 - وفي سنة 1936م ظهرت الحاجة إلى تعديل هذه التقنينات، فشكلت لجنتان: إحداهما لتعديل التقنين المدني والتقنين التجاري وتقنين المرافعات، والأخرى لتعديل التقنين الجنائي وتقنين الإجراءات الجنائية، وكان ضمن أعضاء اللجنة الأولى كل من: صليب سامي، ومسيو لينان دابلفون، ومتر مري جراهام، ومسيو موريس دي فيه، ومسيو ألفريد، وإسكولي.

    6 - ثم تشكلت لجنة ثانية كان من أعضائها: شيفاليه أنطونيونيتا، ومسيو ليون باسار، ومسيو فان أكر، وفي يونيو سنة 1938م تشكلت اللجنة الثالثة والأخيرة مكونة من إدوار لامبير ـ وهو من أكبر رجال القانون في فرنســا فـي ذلك الوقـت ـ ومـن الدكتــور عبد الـرزاق السنهوري وذلك لوضـع المشروع التمهـيدي للقانون المدني، وقد قام لامبير وحده بوضع نصوص الباب التمهيدي ونصوص عقد المقاولة والتزام المرافق العامة والعمل والتأمين، كما عاون اللجنة القاضيان: إستونيت، وساس، اللذان كانا قاضيين بالمحاكم المختلطة، فوضع الأول المشروع الابتدائي للباب الخاص بإثبات الالتزام والفصل الخاص بعقد الشركة، وعاون الثاني في وضع النصوص الخاصة بتنازع القوانين من حيث المكان، كما عاون في عمل اللجنة كذلك الدكتور سليمان مرقص الذي وضع المشروع الابتدائي للنصوص الخاصة بتقسيم الأشياء، وعقود القرض، والعارية، والوديعة.

    7 - وفي 15 من أكتوبر سنة 1949م بدأ العمل بالقانون المدني الجديد الذي ولد من رحم القانون المدني القديم تهذيباً وتقنيناً لما استقر من المبادئ في أحكام القضاء الحالي.

    وهذا الأخير لم يولد من رحم الشريعة الإسلامية أصلاً، ولم ينتسب لها بأي نسب.

    ثانياً: مجموعة القوانين الجنائية:

    وهي: المجموعة الصادرة في سنة 1883م، فقد لحقها التعديل أيضاً بسلسلة من القوانين، جاء بعضها معدلاً لنصوص سابقة وبعضها متضمناً لأحكام جديدة:

    1 - ففي سنة 1904م صدر قانونان جديدان للعقوبات وتحقيق الجنايات، يقول د. السعيد مصطفى: «إن المشرع لم يتقيد عند تعديلهما بالتشريع الفرنسي فاتخذ أساسه قانون سنة 1883م، ولجأ إلى قوانين أخرى، وهي: القانون الهندي، والبلجيكي، والإيطالي، فاستمد منها ما رآه علاجاً للنقص والعيوب التي شوهدت في القانون القديم وما وجد أكثر ملاءمة لأحوال البلاد، وقد ساعد على ذلك: أن القائمين بالتعديل كانوا من مشرعي الإنجليز.

    2 - وفي سنة 1973م صدر قانون العقوبات الجديد، وهو لا يختلف كثيراً عن قانون العقوبات الأهلي الصادر سنة 1904م؛ فقد اتخذ هذا الأخير أساساً له مع تعديل وإضافـة جزأين، وهذا هـو القانون المعمول به الآن(1).

    بعض مظاهر الغزو العلماني للتشريعات القانونية المصرية، وشيء من أثرها على المجتمع:

    المطلب الأول: التشريعات الجنائية:

    تعد التشريعات الجنائية يد السلطة وسطوة القانون ووسيلته في ضبط المجتمع وتحقيق الأمن والاستقرار وحماية قيم المجتمع ـ أو ما يسمى قانوناً: النظام العام والآداب ـ وتؤدي العقوبات الجنائية في المجتمع وظيفة معاقبة الجاني الخارج على القانون والنظم، والمعتدي على الآداب العامة وقيم المجتمع، كما تؤدي أيضاً وظيفة الردع العام لكل من تسول له نفسه الخروج على المجتمع وقيمه ونظامه.

    وبناءاً على ذلك وتفريعاً عليه تتفاوت العقوبات الجنائية بحسب جسامتها وشدتها بما يتفق وقيمة المصلحة المشمولة بالحماية الجنائية وقدرها عند المجتمع؛ فكلما عظمت المصلحة غلظت العقوبة، كما أن العدوان على أي قيمة عند المجتمع يجب أن تعتبر جريمة معاقباً عليها قانوناً، ويقابل ذلك في الشريعة الإسلامية ما يمكن أن نسميه: (انطباق دائرة التحريم مع دائرة التجريم) بمعنى أن كل ما هو حرام شرعاً يجب أن يكون مجرَّماً قانوناً، وعليه: فإن كل تصرف أو سلوك غير مؤثَّم قانوناً فهو بالضرورة مباح ـ غير معاقب عليه ـ وهو ما اصطلح عليه بالقاعدة الدستورية: (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص).

    بناءاً على ذلك نستعرض بعض نصوص قانون العقوبات المصري في محاولة لبحث مظاهر علمنة التشريع الذي يعمل على ترسيخ القيم العلمانية، ومدى الفجوة بين هذا التشريع وقيم ومبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية، مما يترك أثراً سلبياً كبيراً لا شك فيه على المجتمع.

    أولاً: مكانة الدين والعقيدة في القانون:

    1 - الحماية الجنائية المقررة للدين:

    - أورد قانون العقوبات باباً كاملاً تحت عنوان: الباب الحادي عشر: الجنح المتعلقة بالأديان، في المادتين رقم 160، 161، وتنص المادة 160 عقوبات المعدلة بالقانون رقم 29 لسنة 1982م على أنه:

    (يعاقب بالحبس، وبغرامة لا تقل عـن مائة جنيه ولا تزيد على خمسمائة جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين:

    أولاً: كل من شوَّش على إقامة شعائر ملة أو احتفال ديني خاص بها أو عطلها بالعنف أو التهديد.

    ثانياً: كل من خـرَّب أو كسر أو أتلف أو دنس مباني معدة لإقامة شعائر ديـن أو رمـوزاً أو أشـياء أخرى لها حرمة عند أبناء ملة أو فريق من الناس.

    ثالثاً: كـل مـن انتهك حرمة القبـور أو الجبانـات أو دنسها، وتكون العقوبة السجن الذي لا تزيد مدته على خمس سنوات إذا ارتكبت أي من الجرائم المنصوص عليها تنفيذاً لغرض إرهابي).

    بينما تنص المادة 161 عقوبات على أنه:

    (يعاقب بتلك العقوبات على كل تعد يقع بإحدى الطرق المبينة بالمادة 171 علـى أحـد الأديان التي تؤدى شعائرها علناً، ويقع تحت أحكام هذه المادة:

    أولاً: طبع أو نشر كتاب مقدس في نظر أهل دين من الأديان التي تؤدى شعائرها علناً إذا حرف عمداً نص هذا الكتاب تحريفاً يغير من معناه.

    ثانياً: تقليد احتفال ديني في مكان عمومي أو مجتمع عمومي بقصد السخرية به أو ليتفرج عليه الحضور).

    وهاتان المادتان هما كل الباب، ومن ثم: فهما جميع الحماية الجنائية المقررة للأديان في قانون العقوبات، وواضح أن الإسلام يتساوى في هاتين المادتين مع أي دين آخر أيّاً كان هذا الدين، وواضح أيضاً مدى هزالة العقوبة التي قد تصل إلى غرامة مائة جنيه، مما يعكس مدى الإهمال وعـدم الاكتراث بحماية العقيدة والدين، بل مما يُهوِّن على الملحدين والمارقين الاجتراء على الاعتداء علـى الديـن ومقدساته، وهـذا أمر يعكـس إلى أي مدى بلغت علمانية التشريع في استخفافها بالدين، وهذا أمر بدهي وفق تصورات العلمانيين ومعتقداتهم.

    2 - مقارنة مدى الحماية الجنائية لمقدسات العقيدة مع غيرها لحماية بعض الشخصيات:

    بينما تنص مواد قانون العقوبات أرقام 179، 181، 182، 184، 185، 186 على معاقبة كل من أهان أو عاب رئيس الجمهورية، أو مَلِك دولة أجنبية أو رئيسها، أو ممثلاً لدولة أجنبية معتمداً، أو مجلس الشعب أو الشورى أو غيره، أو موظفاً عاماً أو شخصاً بصفة نيابية أو خلافه.

    ومن ذلك: المادة 179 عقوبات التي تنص على أنه: (يعاقب بالحبس كل من أهان رئيس الجمهورية بواسطة إحدى الطرق المتقدم ذكرها)، والمادة 181 عقوبات التي تنص على أنه: (يعاقب بالحبس كل من عاب بإحدى الطرق المتقدم ذكرها في حق مَلِك أو رئيس دولة أجنبية).

    وهكذا باقي المواد سالفة الذكر، نجد أن جميع نصوص قانون العقوبات جاءت خلواً من عقوبة جنائية لمن سبَّ الله أو رسول الله أو دين الله أو كتاب الله أو كل ما هو مقدس عقائدياً، وذلك ما قد يعطي معنى فقدان القداسة لهذه العقائد (وذلك لب الفلسفة العلمانية).

    3 - على الجانب الآخر (التشريعات المقيدة للدين):

    فهناك جملة من التشريعات الفضفاضة التي تهدف إلى تقييد قيام الدين بدوره الإصلاحي الطبيعي في المجتمع، وإليك النصوص القانونية الآتية :

    أ - تنص المادة 201 عقوبات المضافة للقانون رقم 29 لسنة 1982م على أنه:

    (كل شخص ولو كان من رجال الدين أثناء تأدية وظيفته ألقى في أحد أماكن العبادة أو في محفل ديني مقالة تضمنت قدحاً أو ذماً في الحكومة أو في قانون أو في مرسوم أو قرار جمهوري أو في عمل من أعمال جهات الإدارة العمومية أو أذاع أو نشر بصفة نصائح أو تعليمات دينية رسالة مشتملة على شيء من ذلك يعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تزيد على خمسمائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، فإذا استعملت القوة أو العنف أو التهديد تكون العقوبة السجن)، وهو ما يعني مصادرة وتجريم فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

    ب - كما تنص المادة 98 (و) المضافة أيضاً بالقانون رقم 29 لسنة 1982م على أنه: «يعاقب بالحبس مـــدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تجاوز خمس سنوات أو بغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تتجاوز ألف جنيه كل من يستغل الدين في الترويج أو التحبيذ بالقول أو بالكتابة أو بأية وسيلة أخرى لأفكار متطرفة بقصد إثارة الفتنة أو تحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعي».

    ج - وتقضي المادة 102 عقوبات المعدلة بالقانون رقم 29 لسنة 1982م بأن: «كل من جهر بالصياح أو الغناء لإثارة الفتن يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بغرامة لا تزيد على مائتي جنيه»، ويدخل في ذلك أيضاً الأناشيد.

    د - والأشد من ذلك والأنكى والأمرّ ما أوردته المادة 88 مكرر ( ج ) من أنه: «لا يجوز تطبيق أحكام المادة 17 من هذا القانون عند الحكم بالإدانة في جريمة من الجرائم المنصوص عليها في هذا القسم (قضايا أمن الدولة) عدا الأحوال التي يقرر فيها القانون عقوبة الإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة، فيجوز النزول بعقوبة الإعدام إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، والنزول بعقوبة الأشغال المؤبدة إلى الأشغال الشاقة المؤقتة التي لا تقل عن عشر سنوات».

    ملحوظة: تنص المادة 17 بأنه (يجوز في مواد الجنايات إذا اقتضت أحوال الجريمة المقامة من أجلها الدعوى العمومية رأفة القضاة تبديل العقوبة.. ) وهو ما يسمى قانوناً باستعمال الرأفة مع المتهم.

    قارن ذلك مع العقوبات المقررة للمعتدي على الأديان حيث يجوز استعمال الرأفة معه، بينما لا يجوز استعمالها مع المتدين المتهم باستغلال الدين لأغراض سياسية (أمن الدولة)، وهي قضايا فضفاضة مطاطة تتسع وتضيق حسب الظروف والأحوال السياسية.

    ثانياً: حماية القيم والأخلاق:

    1 - في مجال شرب الخمور:

    لقد وقف المشرع الجنائي المصري ـ جرياً على نهج رائده الفرنسي ـ من جريمة الشرب موقف الإغفال التام، فخلت نصوص قانون العقوبات من أية إشارة إلى تأثيمه وعقابه؛ مما يعني أن المشرع الوضعي لا يعتد بتحريم الله ـ تعالى ـ لفعل الشرب ولا يعاقب عليه بالجلد حداً، أي أن شرب الخمر حرام عند الله حلال في القانون الوضعي.

    ولم يكتف المشرع المصري بذلك، بل عمد إلى تلك الأماكن التي يتعاطى الناس فيها الخمر فأسبغ عليها بعض أوجه الحماية، من ذلك: ما نصت عليه المادة الحادية عشرة المكررة من قانون الأسلحة 394 لسنة 1954م، من أنه: (لا يجوز حمل الأسلحة في المحال العامة التي يسمح فيها بتقديم الخمور ولا في الأمكنة التي يسمح فيها بلعب الميسر)، وبموجب هذا النص أسبغ القانون رعايته على محال تعاطي الخمور وأمكنة لعب الميسر، حين نزع سلاح الناس فيها توفيراً لأكبر قدر من الأمان لروادها.

    2 - في مجال حماية الأعراض:

    المفهوم القانوني لجريمة الزنا:

    في بيان المصلحة التي يحميها قانون العقوبات في مجال حماية الأعراض يقول شراح القانون الجنائي: (رأى المشرع أن المصلحة الاجتماعية عدم تجريم كافة أفعال المساس بها [أي: بالأعراض] وإنما فقط الأفعال التي تمثل اعتداءاً على الحرية الجنسية للفرد، فضمان هذه الحرية أمر لازم لوجود الناس في المجتمع وحفظ النظام الطبيعي للحياة)؛ لذا: عاقب القانون على (المساس بالحرية الجنسية) المشكّلة في:

    أ - حالة استعمال الإكراه، ويتحقق ذلك في جريمة اغتصاب الإناث وهتك العرض بالقوة أو التهديد؛ حيث تنص المادة 267 على أنه: (من واقع أنثى بغير رضاها يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة).

    كما تنص أيضا المادة 268 على أنه: (كل من هتك عرض إنسان بالقوة أو بالتهديد أو شرع في ذلك يعاقب بالأشغال الشاقة من ثلاث سنين إلى سبع).

    ب - حالة التغرير بصغير السن أو حديث الخبرة، ويتحقق ذلك في جريمة هتك العرض بغير قوة أو تهديد، (أما ممارسة الحرية الجنسية في غير الحدود التي لا ينهى عنها القانون كهتك العرض بالرضا لمن بلغ ثمانية عشر عاماً فهو لا يعاقب عليه القانون)(1).

    ويتضح من هذا الشرح الذي يكشف عن منهج المشرع الوضعي وسياسته الجنائية فيما يتعلق بحماية العرض: أن المصلحة المعتبرة في الحماية هنا هي (الحرية الجنسية) وليست طبيعة العلاقة الجنسية وشكلها، فليس للقانـون أن يتدخل إلا عندما يشكل فعل الجاني اعتداءاً على حق الحرية الجنسية؛ فهو لا يحمي شرف المجني عليه ولا اعتباره ولا حياءه، وإنما هو يحمي حريته في ألا يمارس الوطء الجنسي إلا بإرادته، فإذا مارسه بهذه الإرادة ـ في أي شكل ـ فليس ثمة مصلحة معتبرة متطلبة للحماية.

    وقد عَرَضَ القانون المصري لجرائم العِرْض في الباب الرابع من قانون العقوبات تحت عنوان: (هتك العرض وإفساد الأخلاق)، وذلك في المواد (267 حتى 279) وهي من المواد التي يمكن وصفها بأنها ترجمة شبه حرفية لمثيلاتها الفرنسية.

    وفيما يتعلق بتحديد (كنه الفعل المؤثم) فقد بان أنه ليس الزنا، وإنما هو شيء آخر يتمثل في الاعتداء على حق الإنسان في ألا يزني إلا بإرادته، أما الزنا وفق تعريفه في شرع الله ـ تعالى ـ فليس مما يُشكِّل ـ في عرف القانون الوضعي الفرنسي والمصري ـ جريمة تستحق العقاب.

    ولذلك فحين تعرض المادة (273) وما بعدها من قانون العقوبات لزنا الأزواج، فإنها لا تعاقب أيّاً منهـمــا بسبب إتيانه لفاحشة من الكبائر التي نهـى الله ـ تعالى ـ عنها، وإنما هي تؤثم اعتداء الجاني على الرابطة الزوجية، ولذلك يجري نص المادة (273) من قانون العقوبات على أنه: (لا تجوز محاكمة الزانية إلا بناءاً على دعوى زوجها، إلا أنه إذا زنى الزوج في المسكن المقيم فيه مع زوجته لا تسمع دعواه عليها).

    ومن ذلك: أن الزوج هو صاحب الحق الوحيد في تحريك العقوبة في مواجهة زوجته، فإن عفا عنها بعد بلوغ الأمر للسلطة ـ ولو بعد صدور الحكم ـ سقطت عنها العقوبة، حيث تقضي المادة 274 بأن: (المرأة المتزوجة التي ثبت زناها يحكم عليها بالحبس مــــدة لا تزيد على سنتين، لكن لزوجها أن يوقف تنفيذ هذا الحكم برضائه معاشرتها له كما كانت).

    هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن الزوج الزاني في مسكن الزوجية لا يستطيع أن يحرك الدعوى في مواجهة زوجته الزانية؛ إذ إنه باعتدائه على الرابطة الزوجية يكون قد أسقط حقه في طلب العقاب على اعتدائها على ذات الرابطة.

    ومـن ناحيـة ثالثة ـ جديـرة بالعجب ـ فإن الرجـل الزوج لا يعاقب على الزنا إلا إذا كان زناه في منزل الزوجية وثبت عليه هذا الأمر بدعوى الزوجة، وفقاً لنص المادة (277) من قانون العقوبات التي تنص على أن: (كل زوج زنى في منزل الزوجية وثبت عليه هذا الأمر بدعوى الزوجة يجازى بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر) وأعظِم بها من عقوبة!

    العقوبات الجنائية المقدرة للزنا:

    أ - عقوبة الزوجة الزانية: سبق أن ذكرنا نص المادة (274) من قانون العقوبات التي تقول: (المرأة المتزوجة التي ثبت زناهـا يحكم عليها بالحبــس مــدة لا تزيد عن سنتين، لكن لزوجها أن يوقف تنفيذ هذا الحكم برضائه معاشرتها له كما كانت).

    وينزل حكم هذا النص (الفرنسي) المصري بعقوبة الزنا للمحصن من القتل (الإعدام) رمياً بالحجارة وفقاً لما هو مقرر في شريعة الإسلام كحد لله ـ تعالى ـ لا يملك الإمام تخفيفه أو العفو عنه، إلى عقوبة الحبس اليسير لمدة سنتين قابلتين للإلغاء برضاء الزوج معاشرة زوجته.

    ب - عقوبة الزوج الزاني: كما حددت المادة 277 عقوبة الزاني بأن (كل زوج زنى في منزل الزوجية وثبت عليه هذا الأمر بدعوى الزوجة يجازى بالحبس مدة لا تزيد عن ستة أشهر).

    ومما هو جدير بالملاحظـــة هنا أن المشرع الفرنسي ـ ومن بعده مقلده المصري ـ يجعل من الزنا بمعناه الشرعي (أي الإيلاج الكامل) ـ في حالة المادتين (274- 277) ـ جنحة لا تزيد مدة الحبس فيها عن سنتين، بينما يعاقب على أي استطالة لجسم المجني عليه بعقوبة الجناية التي يمكن أن تصل إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، اعتداداً بالمصلحة المعتبرة فيها (وهي حق الحرية الجنسية)، وراجع المواد 267 وما بعدها حتى 279 من قانون العقوبات.

    وأما ممارسة الفجور والدعارة على وجه الاعتياد فقد عاقب عليها ما يسمى بقانون مكافحة الدعارة (القانون رقم (10) لسنة 1961م ) في مادته التاسعة: بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر ولا تزيد على ثلاث سنوات، أو الغرامة التي لا تقل عن خمسة وعشرين جنيهاً ولا تزيد على ثلاثمائة جنيهاً، أو كليهما.

    وفي مقابل هذا التساهل مع جريمة الزنا التي حرمها الله ـ عز وجل ـ، نجد تضييقاً وتصعيباً لحق تعدد الزوجات الذي أباحه الله تعالى، وهو ما سنعرض له بعد قليل عند مناقشة تشريعات الأسرة.

    ولا شك في أثر ذلك على أخلاق المجتمع عندما تفتح لأفراده أبواب العلاقات المحرمة بإباحة الزنا طالما كان بالإرادة الحرة المحضة وبتهوين عقوبته، وتوصد في الوقت نفسه أبواب العلاقات المباحة بالتضييق على الزواج الشرعي، بل عندما يعاقب عليه أحياناً ـ كما رأينا في بعض البلاد (الإسلامية) الأخرى ـ أو عندما تهدم الأسرة بإعطاء الزوجة حق طلب الطلاق عند حدوث التعدد.

    3 ـ حماية الأموال (جريمة السرقة):

    نص قانون العقوبات المصري على السرقة والجرائم الملحقة بها في الباب الثامن من الكتاب الثالث تحت عنوان: (السرقة والاغتصاب)، حيث تنص المواد من (311) إلى (327) في أولاها على أن (كل من اختلس منقولاً مملوكاً لغيره فهو سارق).

    ولا يستحق هذا التعريف للسرقة كثير نقاش في الفقه الجنائي المقارن بين الشريعة والقانون؛ إذ المفهومان مشتركان من حيث إن كلاً منهما يُخرِج من معنى السرقة صوراً متعددة من وسائل الاستيلاء على مال الغير، ويعنـي ذلك ـ بصــورة جزئيــة ـ أن أركان جريمة السرقة في القانون الوضعي المصري قريبة الشبه بأركانها في الشريعة الإسلامية وفقاً لشروطها المتفق عليها، وهي: أن تقع السرقة على مال الغير، وأن تقع على مال لم يكن قد ائتمن عليه، وتأتي بعد ذلك أمور محل خلاف في الفقه الإسلامي، مثل: السرقة من حرز، ونصاب المسروق، ونوع بعض الأموال المسروقة.

    عقوبة السرقة:

    يعاقب على السرقة في شريعة الإسلام بعقوبة الحد المقـدرة في قــول الله ـ تعالى ـ: {$ّالسَّارٌقٍ $ّالسَّارٌقّةٍ فّاقًطّعٍوا أّيًدٌيّهٍمّا جّزّاءْ بٌمّا كّسّبّا نّكّالاْ مٌَنّ پلَّهٌ $اللَّهٍ عّزٌيزِ حّكٌيمِ} [المائدة: 38]، وهو نص عام خصصته السُّنَّة بأحاديث متعددة، وتقطع اليد اليمنى من مفصل الكف وهو الكوع(1)، فإن سرق مرة ثانية بعد قطعه قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب، وهو قول أبي بكر وعمر، وقد روي عن أبي هريرة عن النبي # قوله في السارق: «إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله»(2)، وهو قول علي والحسن والشعبي والزهري وحماد والثوري وغيرهم، فإن سرق ثالثة فلا قطع وإنما يحبس تعزيراً.

    بينما في قانون العقوبات المصري: الأصل في السرقة أنها جنحة يعاقب عليها بالحبس مع الشغل مدة لا تتجاوز سنتين؛ حيث تنص المادة 321 على أنه (إذا كانت السرقة في حالة الشروع فيعاقب عليها بالحبس مدة لا تتجاوز نصف الحد الأقصى المقرر في القانون للجريمة التامة أو بغرامة لا تزيد على عشرين جنيهاً مصرياً).

    وإذا كان هذا هو الأصل العام في العقوبة المقدرة للسرقة فإن هذه الجريمة قد تقترن بظروف مخففة أو أخرى مشددة، قد تصل بالعقوبة إلى الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة.

    ويعني ذلك بشكل واضح أن المشرع المصري في حذوه حذو رائده الفرنسي قد أسقط حد القطع بوصفها عقوبة مقدرة للسرقة، ولا يعنى هذا الإسقاط في الحقيقة غير الانسلاخ من كنف الشريعة؛ فالحد في الشرع هو (عقوبة مقدرة واجبة حقاً لله تعالى عز شأنه)، والمقصود بكونها (مقدرة) أن الشارع العزيز حدد كمَّها وكيفها سلفاً بخلاف التعزير، والمقصود بكونها (حقاً لله) الاحتراز عن القصاص الذي هو حق للعباد في غالب عناصره، ومن ثم: ليس للعباد حق التبديل في هذه الحدود أو العفو عنها؛ لقول رسول الله #: «إن الله حد حدوداً فلا تعتدوها»(3)، فالحـــد حـــق الله، نسب إليه ـ تعالى ـ لعظم خطره وشمول نفعه.

    المطلب الثاني: تشريعات الأسرة:

    تعد تشريعات الأسرة من أخطر مجالات الغزو العلماني على الإطلاق؛ نظراً لحساسيتها وخصوصيتها وخطورة شأنها وأثرها، ولذلك كانت آخر المجالات المغزوة من حيث الترتيب الزمني على النحو المبين سابقاً؛ بيد أن حملة الغزو العلماني لهذا المجال بات مجنوناً محموماً متسارعاً في الآونة الأخيرة، إلى أن فقد مجال الأسرة حصانته أمام تلك الحملات المحمومة التي تتبناها كافة شراذم العلمانيين في مؤسسات التشريع أو الإعلام أو منابر الثقافة ومعاهد التعليم، وهو مجال يستحق بحثه بإفراده ببحث خاص، ولكن على سبيل المثال نذكر بعض الوقائع والتشريعات الآتية:

    1 - الحملة الشرسة التي لم تتوقف رغم صدور القانون 46 لسنة 1955م بإلغاء القضاء الشرعي بل تواصلت حتى تُوِّجت بإصدار الرئيس الراحل السادات قراراً بقانون رقم 44 لسنة 79 (والمشهور عند عامة المصريين بقانون جيهان) والذي ظل معمولاً به حتى قضت المحكمة الدستورية العليا بإلغائه.

    2 - ورغم اغتيال السادات وإلغاء قانون جيهان الشهير على يد المحكمة الدستورية العليا إلا أن الحملة لم تتوقف، حتى صدر القانون رقم 100 لسنة 1985م الذي تضمن جل ما كان يهدف إليه القانون سالف الذكر، ويوضح ذلك: أن المذكرة الإيضاحية المقدم بها هذا القانون كانت هي ذاتها المذكرة التي قدم بها القرار بقانون 44 لسنة 79، كذلك ما نص عليه من إعماله بأثر رجعي من تاريخ حكم المحكمة الدستورية العليا، بما مفاده استمرار ذات النظام القانوني نفسه منذ 1979م وحتى الآن.. رغم حكم المحكمة الدستورية العليا.

    أما من حيث أهم الأحكام التي يستحدثها هذا القانون باعتبارها أثراً من آثار الغزو العلماني لمجال الأسرة فتشمل: حق الزوجة في طلب التطليق إذا تزوج زوجها بأخرى، وكذلك تقرير نفقة متعة واجبة للزوجة المطلقة بغير رضاها تعادل نفقة عامين حدّاً أدنى ودون حد أقصى، واستقلال الزوجة الحاضنة بمسكن الزوجية، ورفع سن حضانة الصغير قبل انتقاله إلى الحضانة.

    3 - صدور القانون رقم 3 لسنة 1996م بشأن تنظيم إجراءات مباشرة دعوى الحسبة في مسائل الأحوال الشخصية، والذي تنص المادة الأولى منه على أن:

    (تختص النيابة العامة وحدها دون غيرها برفع الدعوى في مسائل الأحوال الشخصية على وجه الحسبة، وعلى من يطلب رفع الدعوى أن يتقدم ببلاغ إلى النيابة العامة المختصة يبين فيه موضوع طلبه والأسباب التي يستند إليها مشفوعة بالمستندات التي تؤيده، وعلى النيابة العامة بعد سماع أقوال أطراف البلاغ وإجراء التحقيقات اللازمة أن تصدر قراراً برفع الدعوى أمام المحكمة الابتدائية المختصة أو بحفظ البلاغ، ويصدر قرار النيابة العامة المشار إليه مسبباً من محام عام، وعليها إعلان هذا القرار لذوي الشأن خلال ثلاثة أيام من تاريخ صدوره).

    - كما تنص المادة الثانية على أن: (للنائب العام إلغاء القرار الصادر برفع الدعوى أو بالحفظ خلال ثلاثين يوماً من تاريخ صدوره، وله في هذه الحالة أن يستكمل ما يراه من تحقيقات والتصرف فيها، إما برفع الدعوى أمام المحكمة الابتدائية المختصة أو بحفظ البلاغ، ويكون قراره في هذا الشأن نهائياً).

    أما المادة الثالثة فقد قررت أنه: (إذا قررت النيابة العامة رفع الدعوى على النحو المشار إليه في المادتين السابقتين تكون النيابة العامة هي المدعية فيها، ويكون لها ما للمدعي من حقوق وواجبات).

    - وصادرت المادة الرابعة من القانون المذكور أي حق من حقوق الحسبة الشرعية لأي شخص كان، حتى ولو كان هذا الشخص هو شيخ الجامع الأزهر أو مفتي الديار المصرية أو وزير الأوقاف أو رئيس جامعة الأزهر أو رئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية أو أي شخص آخر؛ حيث تنص على أنه: (لا يجوز لمقدم البلاغ التدخل في الدعوى أو الطعن في الحكم الصادر فيها).

    - وتنص المادة الخامسة على أن: (تنظر الدعوى في أول جلسة بحضور ممثل النيابة العامة ولو لم يحضر المدعى عليه فيها).

    - أما المادة السادسة فقد أوجبت على المحاكم أن: (تحيل المحاكم من تلقاء نفسها ودون رسوم ما يكون لديها من دعاوى في مسائل الأحوال الشخصية على وجه الحسبة والتي لم يصدر فيها أي حكم إلى النيابة العامة المختصة ووفقاً لأحكام هذا القانون، وذلك بالحالة التي تكون عليها الدعوى).

    ولعله من المناسب التذكير بسبب صدور هذا القانون؛ فقد صدر عقب حكم التفريق الصادر ضد نصر حامد أبو زيد وزوجته، بعدما قضت محكمة الأحوال الشخصية بردته لآرائه وبذاءاته العلمانية في العقيدة والشريعة والوحي والرسالة، وبعد تأييد هذا الحكم من محكمة النقض وهي أعلى محكمة قضائية في مصر، ومن ثم: يمكن القول: إن هذا القانون صدر لضـمان (الأمان المدني) ـ إن صحت التسمية ـ بعدما ضمن قانون العقوبات (الأمان الجنائي) لكل علماني، مهما بلغت درجة انفلاته وتجرئه.

    4 - ثم صدور القانون رقم [1] لسنة 2000م المسمى بقانون تنظيم إجراءات التقاضي في مسائل الأحوال الشخصية الذي يعد علامة بارزة على السعي الحثيث لعلمنة نظام الأسرة المسلمة، وأهم ما استحدثه هذا القانون ما يلي:

    - إلغاء لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، وإلغاء لائحة إجراءات تنفيذ الأحكام الشرعية، وهما آخر ما تبقى من تشريعات تحمل وصف (الشرعية)، لتبقى كل التشريعات وطنية (علمانية).

    - إلغاء التقويم الهجري بالمادة رقم [1] منه، وهو آخر مجال قانوني كان يتعامل بالتقويم الهجري.

    - ولعل أشهر ما تضمنه هذا القانون: التعديل الوارد بالمادة 20، وهو المسمى (بالخُلع)، حيث أعطى القانون للزوجة حق خلع نفسها من الزوج بالتراضي، فإن أبى الزوج تحكم المحكمة بالتطليق للخلع بعد محاولة الصلح بين الزوجين، وأغرب ما في هذا التعديل ما تضمنه النص بوقوع الخلع في جميع الأحوال طلاقاً بائناً، ويكون الحكم في جميع الأحوال نهائياً غير قابل للطعن عليه بأي طريق من طرق الطعن، وعليه: أصبحت المرأة المتخالعة المتمردة على زوجها الهاربة من منزل الزوجية والتي ليس لديها سبب واحد شرعي أو منطقي يسوِّغ لها الطلاق، أصبحت أحسن حالاً من المرأة التي تطلب الطلاق للضرر الواقع عليها.

    وواضح من مطالعة النصوص أن هذه التعديلات جميعها تتجه إلى إلغاء الدرجة التي قررها الله ـ عز وجل ـ للرجل على المرأة في قوله ـ تعالى ـ: {$ّلٌلرٌَجّالٌ عّلّيًهٌنَّ دّرّجّةِ $ّاللَّهٍ عّزٌيزِ حّكٌيمِ} [البقرة: 228]، وكذلك محاولة التقليد المستميت للنموذج الغربي المقيت.

    المطلب الثالث: تشريعات خاصة:

    - وأهم ما يعنينا في هذا المطلب تلك التشريعات التي يمكن أن نسميها قوانين تأميم الدين، وأهمها:

    1- قانون تأميم المنابر: القانون رقم 238 لسنة 1996م، بتعديل المادة [10] من القانون رقم 272 لسنة 1959م بتنظيم وزارة الأوقاف ولائحة إجراءاتها، ويقضي بالآتي:

    يستبدل بنصي الفقرتين الرابعة والخامسة من المادة [15] من القانون رقم 272 لسنة 1959م بتنظيم وزارة الأوقاف ولائحة إجراءاتها النص الآتي:

    (ويصدر وزير الأوقاف قراراً بالشروط الواجب توافرها في الأشخاص الذين يحق لهم ممارسة إلقاء الخطب أو أداء الدروس الدينية بالمساجد، وبالإجراءات اللازم اتخاذها للحصول على تصريح من وزارة الأوقاف لممارسة ذلك.

    ويعاقب كل من يمارس النشاط المبين بالفقرة السابقة بغير مقتض بالحبس مدة لا تجاوز شهراً وبغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تجاوز ثلاثمائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.

    ولوزير العدل بالاتفاق مع وزير الأوقاف منح صفة الضبطية القضائية لمفتشي المساجد فيما يقع من مخالفات لأحكام هذا القانون).

    وقد مر بنا سابقاً عند الحديث عن التشريعات المقيدة للدين نصوص المواد: 201 عقوبات المضافة للقانون رقم 29 لسنة 1982م، والمادة 98 (و) المضافة أيضاً بالقانون رقم 29 لسنة 1982م، والمادة 102 عقوبات المعدلة بالقانون رقم 29 لسنة 1982م، والتي نرى أنها تصب في اتجاه يمكن أن يطلق عليه البعض: تأميم الدين لصالح النظام السياسي العلماني.

    2- قانون إلغاء معظم المناهج الشرعية (بالمعاهد الأزهرية): حتى الأزهر أعلى وأقدم مرجعية إسلامية في مصر والعالم الإسلامي لم يسلم هو الآخر من الغزو العلماني؛ حيث صدر القانون رقم 164 لسنة 1998م بتعديل بعض أحكام القانون رقم 103 لسنة 1961م بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها، متضمناً اختزال سنوات الدراسة وما يستتبعه ذلك من تقليص المناهج حيث نص على:

    يستبدل بنص الفقرة الأولى من المادة [ 87 ] من القانون رقم 103 لسنة 1961م بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها النص الآتي:

    (مدة الدراسة في المعاهد الثانوية الأزهرية ثلاث سنوات، يعد فيها التلميذ إلى جانب ما يحصل عليه من علوم الدين واللغة للحصول على الشهادة الثانوية العامة بأحد قسميها العلمي والأدبي أو الحصول على الشهادة الثانوية الفنية بأحد أنواعها الصناعي والتجاري والزراعي وغيرها).

    وقد نصت المادة الأولى على الآتي: (يتولى شيخ الأزهر إصدار القرارات اللازمة لتنفيذ هذا القانون، وله بعد موافقة المجلس الأعلى للأزهر أن يصدر من الأحكام المؤقتة ما يقتضيه نظام الدراسة أو الخطط الدراسية أو مناهج الدراسة خلال فترة الانتقال التي يحددها بقرار منه
                  

06-24-2008, 02:43 PM

Waeil Elsayid Awad
<aWaeil Elsayid Awad
تاريخ التسجيل: 12-12-2004
مجموع المشاركات: 2843

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
جذور العلمانية والتغريب في العالم الإسلامي (Re: Waeil Elsayid Awad)

    أشار الكاتب في الحلقة السابقة إلى أن العلمانية هي أحد الانحرافات التي أصابت الأمة الإسلامية، ورأى أنها إحدى الصور الفجة لانفصال السلطان عن القرآن، كما أومأ إلى أن بعض الباحثين يرى أن الشرارة الأولى للغزو الصليبي بالفكر والقيم اتقدت في ذهن لويس التاسع عشر بعد هزيمته وأسره في مدينة المنصورة عام 1250م، ثم طوّف بنا الكاتب في أنحاء شتى من عالمنا الإسلامي ليرصد حركة التغريب، وها هو اليوم يشد بنا الرحال إلى بقاع أخرى لنشهد بعضاً مما أصاب الأمة من أوضار بسبب حركة العلمنة والتغريب. - ^ -

    أما في تونس (1):

    فلم يكن الحال أقل سوءاً؛ فبعد زيارة إلى أوروبا سنة 1846م (1262هـ)، واستقبال حافل في باريس بدأت سياسة التعاون بين أحمد باي(2)وفرنسا، فسمح لهم بإنشاء كاتدرائية في مواجهة مدينة تونس (في المكان الذي قيل إن لويس التاسع مات فيه أثناء الحروب الصليبية)، وعهد إليهم بإنشاء المدارس وتدريب الجيش.

    ورغم عدم وقوع تونس تحت الاحتلال الأجنبي رسمياً إلا أن النفوذ الأجنبي فيها كان كبيراً، كما كان هناك تأثر بحركة التنظيمات التي شهدتها الدولة العثمانية ـ وكانت تونس تابعة لها ـ، ومن ثم: كان طبيعياً أن تشهد تونس أيضاً حركة (إصلاحات) على النسق الأوروبي.

    ففــي عــام 1275هـ (1857م) أصــدر باي تـونــس (محمد باشا) ـ استجابة لرغبة القناصل الأوروبيين ـ القانون الأساسي لتونس، وهو شبه دستور عرف باسم عهد الأمان، وقد صيغ على نمط خط كلخانة العثماني، حيث بناه على قواعد ثلاث: الحرية، والأمان التام، والمساواة التامة بين المسلمين وغير المسلمين أمام القانون.

    وفي عهد الباي محمد الصادق باشا وبفضل جهود الوزير خير الدين باشا (التونسي) تم تعديل عهد الأمان، فصدر أول دستور في العالم الإسلامي على الإطلاق سنة 1861م (1277هـ)، وبحسب هذا الدستور يتولى الباي السلطة التنفيذية ويعاونه وزراء يقوم هو باختيارهم، وهو الذي يقوم أيضاً بإصدار (التشريعات) بمعاونة مجلس تشريعي مكون من (60) عضواً يقوم الباي بتعيينهم من التونسيين والجالية الأجنبية، وقد نصت المواد الثلاثة الأولى من الدستور على المساواة أمام القانون والإدارة والضرائب دون تمييز بين الأجناس والأديان، كما خصصت المواد (9، 10، 11) لتأكيد حقوق الأجانب، ثم بدأ العمل في إصدار قانون مدني وآخر جنائي بعد صدور هذا الدستور، وكان خير الدين «هو العقل المنظم لهذه الحركة ومن له النصيب الأكبر في وضع القوانين لمجلس شورى منتخب»(1)، فقد كان هو الرئيس الفعلي للمجلس التشريعي بجانب توليه لوزارة الحربية.

    وفي عام (1284هـ/1867م) نشر خير الدين كتابه: (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك)، شرح فيه آراءه في الإصلاح والتجديد التي جاءت متأثرة بمشاهداته أثناء رحلته إلى فرنسا (1853م ـ 1857م/ 1269هـ ـ 1273هـ )، حيث يقول في مذكراته: «إن إقامتي الطويلة في فرنسا ورحلاتي العديدة مكنتني من دراسة أسس المدنية الأوروبية وأحوالها، فضلاً عن مؤسسات الدول الكبيرة في أوروبا، فانتهزت فرصة اعتزالي الحياة السياسية ووضعت مؤلفي السياسي الإداري: (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك)»(2)، بل صرح في كتابه هذا «أنه استقى بعض معلوماته وآرائه في (أقوم المسالك) من كتب أوروبية في السياسة والتاريخ والاقتصاد والقانون...»(3)، وقد اهتم فيه بالتدليل على أهمية اللحاق بالغرب في منجزاته ومخترعاته، ولكنه ألحق بذلك أيضاً (تنظيماته) باعتبار أن هذه التنظيمات هي أساس التقدم المادي الذي أحرزه الغرب، كما إنه عدَّ هذه (التنظيمات) الغربية مؤسسة على دعامتي الحرية والعدل (اللذين هما أصلان في شريعتنا)(4)، غافلاً عن اختلاف المصدر ـ ومن ثم: القيم والتشريعات ـ المؤسسة لهاتين الدعامتين في كل من النظام الغربي والنظام الإسلامي.

    ولأجل مواءمة الشريعة (لإصلاحاته) «فقد دعا إلى الاجتهاد في تأويل الشرع حتى من غير التمسك بالمذاهب الفقهية، ما دامت غاية المجتهد أن يخدم الصالح العام»(5)، وعليه: فقد عهد إلى مختصين بدراسة الفقه الحنفي والمالكي وعادات البلاد والقوانين المعمول بها في الدولة العثمانية وفي مصر وفي أوروبا، وأن يستخرجوا منها قانوناً يناسب تونس، ولكنه خرج من الوزارة قبل أن تتم هذه اللجنة عملها(6).

    الهند(7):

    استطاع الإنجليز القضاء على قوة الأمراء الذين لم يدخلوا في طاعتهم، وانتهى الأمر بأن تمكن القائد البريطاني من القضاء على كل سلطان المسلمين في الهند ـ فيما عدا جيوب صغيرة ـ عندما دخل دلهي عام 1803م (1218هـ)، وبذلك انتهى تاريخ سيادة المسلمين على شبه القارة الهندية؛ وأخذ الإنجليز يمحون الطابع الإسلامي في المنطقة، وأفصحوا عن سياستهم المعادية عداءاً صريحاً لكل ما هو إسلامي في الهند.

    ولكن لم يرضَ المسلمون بهذا الواقع، فأصدر شيخ المحدثين مولانا شاه عبد العزيز الدهلوي (1159هـ ـ 1239هـ / 1746م ـ 1823م)في السنة نفسها فتوى تنم عن إحساس عميق بخطورة الوضع ومعرفة دقيقة للفرق بين الإسلام والعلمانية؛ حيث أعلن أن «... في هذه البلد (دلهي) لا يحكم إمام المسلمين إطلاقاً، بينما تسود فيه سلطة الحكام النصارى دون حرج، ونعني بإجراء أحكام الكفر: أن الكفار في وسعهم أن يعملوا بسلطانهم في الحكم، وفي التعامل مع الرعية، وفي جمع ضرائب الأرض والرسوم والمكوس والعشور والدموغ، وفي عقاب قُطَّاع الطرق واللصوص، وفي تسوية النزاعات وعقاب المجرمين، ومع ذلك فإن بعض أحكام الإسلام التي تتعلق بصلاة الجمعة والأعياد والأذان، وذبح البقر، ما زالت نافذة، إلا أن ذلك إنما يرجع إلى أن جوهر هـذه الأمــور لا قيمة له عندهم؛ إذ إنهم يهدمون المساجد دون تورع، ولا يستطيع المسلمون والذمِّيون أن يدخلوا هذه البلد أو ضواحيها إلا بأن يطلبوا منهم الأمان، وإنما لمصلحتهم هم أنهم لا يعرقلون مرور المسافرين والتجار... »(1)، وقد عُدَّت هذه الفتوى بعد ذلك مرجعاً للعلماء والمسلمين عامة في عدم شرعية الوجود البريطاني في الهند، وكانت هي الأساس لكل دعوة إلى محاربة الإنجليز ومقاطعتهم. وعليه: كان المسلمون يعتقدون أن المسلم الصالح ينبغي عليه مقاطعة الإنجليز وعدم التشبه بهم حتى في أدق الأمور كالأكل بالشوكة والسكين، أو ارتداء حذاء برباط...، لأن ذلك من التشبه (بالكفار).

    وفي عام (1274هـ/ 1857م) قامت ثورة كبرى (الاعتصام الكبير) في ولايات عديدة من الهند تزعمها المسلمون وبعض الهندوس الذين نكبهم الإنجليز، واستمرت هذه الثورة حوالي العام حاول فيها المسلمون إعادة تنصيب آخر سلطان مغولي (سراج الدين أبو ظفر شاه)، ولكن الثورة أخفقت وقضى عليها الإنجليز بوحشية وقسوة مع تخصيص المسلمين بالقهر المتعمد، وقبضوا على السلطان سراج الدين ونفوه بعد أن عزلوه وأهانوه إهانة شديدة ثم اضطروه إلى التنازل عن عرشه.

    وبنهاية سلطنة مغول الهند أصبحت الهند كلها مستعمرة بريطانية، وأحس الإنجليز أن مصدر القلق في المسلمين هو موقفهم العدائي من (الكفار)، وأن سبب التمردات والثورات التي تخبو ثم تشتعل من جديد هو فتاوى العلماء التي كانوا يصدرونها بوجوب الجهاد ضد الكفار ومقاطعتهم، فلجأ المستعمر إلى «بعض العلماء يصطنعهم ويستفتيهم في مسألة الجهاد في الهند: هل يجوز أم لا؟ ويصدر هذا البعض الفتاوى بأن الجهاد في حالة عدم التكافؤ بين قوة المسلم وقوة المستعمر عبث ومضيعة للنفس والمال، وأن المستعمر ما دام لا يتدخل في إقامة الصلاة وأداء الفرائض فلا تكون البلاد بلاد حرب...؟ واستجلبوا [أي: الإنجليز] فتاويهم حتى من مكة، كي يقضوا على فكرة الجهاد التي يعتنقها بعض المسلمين في الهند، ويعمل بها المتحمسون..»(2)، وواضح ما في هذه الفتاوى من تراجع عن الوعي والانتباه اللذين بدوا في فتوى شاه عبد العزيز السابقة، وهنا يظهر مرة أخرى أهمية دور العلماء في المعركة ضد التغريب والعلمانية.

    وتوازى مع ذلك الاتجاه: شروع الإنجليز في غزو المسلمين في العمق الفكري والاجتماعي غزواً منظماً، فحاربوا مدارسهم واستبدلوا بها المدارس الإنجليزية الحديثة، ونزعوا الأوقاف الإسلامية التي كانت تنفق على المدارس الإسلامية، وهددوا أو أغروا أغنياء المسلمين حتى يكفوا عن مساعدة هذه المدارس، وساندوا المنصرين بقوة، كما حرصوا على إبعاد المسلمين عن كل الوظائف ذات المسؤولية ووضعوا مكانهم هندوساً وسيخاً.

    وفي الوقت نفسه: أفاق المسلمون بعد انكسارهم في (الاعتصام الكبير) على الواقع الأليم الجديد، فبدأت الهزيمة النفسية تتغلغل إلى نفوس كثير منهم، كما بدؤوا يفكرون كيف يتعايشون مع الواقع الجديد الذي بدا لهم أنه سيكون طويلاً مستمراً؟ ويبحثون عن سبل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ورأوا أنهم ـ بعد فقدانهم سلطانهم السياسي والاجتماعي ـ مهددون بفقدان هويتهم الثقافية وتميزهم الفكري، وانقسموا إزاء مواجهة ذلك فريقين:

    فريقاً يرى الحفاظ على هوية المسلمين بتنمية معارفهم الأصيلة عن طريق إنشاء مدارس يدعمها عامة المسلمين أنفسهم حتى لا تتعرض لضغوط الحكومة الإنجليزية وكل من له صلة بها من الأمراء والأغنياء، وكانت أول مدرسة قامت على هذا الأساس مدرسة (دار العلوم) في ديوبند سنة (1283هـ/1867م)، و «كان الأساس الذي قامت عليه هي وزميلاتها أساساً فكرياً خالصاً، يتمثل في الاحتفاظ بالثقافة الإسلامية ولغتها (اللغة العربية) ومحاربة الثقافة الإنجليزية والحيلولة بينها وبين الغزو الفكري والخلقي للمسلمين في الهند، وقد كوَّن هذا الاتجاه مدرسة فكرية خاصة في الهند كان لها أثرها البعيد المدى في حياة المسلمين الخاصة والعامة هناك»(1).

    أما الفريق الآخر فقد رأى أن اتجاه الفريق الأول يؤدي إلى حرمان المسلمين من المشاركة في خيرات البلاد ووظائفها العامة، فدعا إلى إزالة الفجوة بين الإنجليز والمسلمين، وإلى غرس الثقة المتبادلة بينهم، كما دعا أصحاب هذا الاتجاه المسلمين إلى الإقبال على التعليم المدني الذي أدخله المستعمر للبلاد، ودعوا إلى إنشاء مؤسسة علمية إسلامية يتلقى فيها أبناء المسلمين التعليم الحديث مع تعاليم دينهم في جو مأمون موثوق به، وهكذا ولدت مدرسة (عَليكَرْه) سنة (1293هـ/1875م) التي تحولت فيما بعد إلى (الكلية المحمدية! الإنجليزية).

    وقد تكون بعض المقدمات التي قدمها هذا الفريق صحيحة، ولكن شخصية القائم على هذا الاتجاه، والمسار الذي سلكته المدرسة الممثلة له: يفضحان أن المقصود كان تدجين فكر المسلمين وتذويب التميز العمراني (الحضاري) الذي كانوا يتمتعون به ويحسونه ويفخرون به؛ فقد كان رأس هذه الاتجاه هو سيد أحمد خان (1817م ـ 1898م/ 1232هـ ـ 1316هـ)، الذي كان موظفاً في الحكومة الإنجليزية بمهنة (قاضٍ) في محكمة، والذي عارض ثورة عام (1274هـ/1857م) وأنقذ أثناءها أُسَراً إنجليزية كثيرة وحماها من فتك الثائرين بها، وقد كافأته بريطانيا على مواقفه الموالية لها عندما زارها عام 1869م (1286هـ)، حيث كان ابنه يدرس هناك، فنزل لمدة سبعة عشر شهراً ضيفاً مبجلاً على الأوساط الإنجليزية الراقية، فاحتفل به كبار الإنجليز الرسميين وقابل الملكة وولي العهد والوزراء الكبار، ونال الوسام الملكي ولقب الشرف (سير)، وأثنت عليه الصحافة الإنجليزية، كما هيؤوا له زيارة الجامعات والمعاهد العلمية؛ ليستفيد منها عند إنشاء مدرسته الجديدة،.. في زيارة تذكرنا بالبعثات الباريسية (للمصلحين) العرب!

    كما أن الرجل كانت له آراء فكرية خطيرة تدل على مدى الانحراف الذي يعمل على جر المسلمين إليه، فانحراف المعتزلة القديم في خلق القرآن وفي العلاقة بين العقل والنص تحول على يديه إلى القول بأن القرآن نزل على الرسول # بالمعنى فقط، ثم صاغ الرسول ألفاظه من عنده، وقد تشبع سيد أحمد خان بالمذهب (الطبيعي)، وهو مذهب داروين، وأنكر الجنة والنار والملائكة والجن، وأخذ يشتم الفقهاء ويستهزئ بالمحدِّثين وبالشعائر الإسلامية.

    بل نظر إلى العبادات المحضة النظرة العقلية نفسها فجعلها مجرد رموز، ووصف الإحرام والطواف ورمي الجمرات بأنها عادات باقية من الأديان الأولى في طفولة البشرية، وكان يرى أن الإسلام والهندوكية والنصرانية يجب أن تكون عقائد دينية في نفوس معتنقيها فقط، وهذه العقائد كلها يـجب ألا تـؤثر في الوطنية، وقال: إن الجهاد يكون مشروعاً فقط عند الدفاع عن النفس وبشرط أن يحمل العدو المسلمين على تغيير دينهم صراحة.

    وقد تطورت هذه الآراء على يد تلامذته فأصبحت أكثر تطرفاً ـ أو قل: صراحة ووضوحاً ـ، وذلك كله باسم (تجديد) الدين والإصلاح، وهو في الحقيقة تطويع وتطوير للدين.

    وقفات مع المرحلة:

    وقبل أن ننتقل إلى مرحلة تالية من تاريخ العلمانية والتغريب في العالم الإسلامي نود الوقوف مع أحداث هذه المرحلة ـ والتي قبلها ـ وظواهرها بعض الوقفات؛ لعلنا نضع أيدينا على بعض الحقائق والدروس لنستفيد منها:

    فأولى هذه الوقفات: أن أوضاع العالم الإسلامي في بداية هذه المرحلة وما قبلها مباشرة كانت أوضاعاً في مجملها تحوي كثيراً من المظالم والتخلف، مظالم شاملة لا يوقفها معيار محدد للعدالة إلا القوة والسلطة، وتخلف شامل أيضاً كانت حقيقته التخلف عن الإسلام ذاته، ومظاهره التخلف عن الغرب الذي سبق العالم الإسلامي في العلوم والإدارة والصناعة والتجارة.

    أي إن أوضاع العالم الإسلامي كانت تستحق الثورة وكانت في حاجة إلى الإصلاح، ولكن الثورة من أي منطلق، والإصلاح في أي اتجاه؟ هذا هو ما نختلف مع (الإصلاحيين) والعلمانيين فيه.

    كما يجب أن نشير هنا أيضاً إلى أنه ـ رغم تلك الأوضاع ـ فإن الفجوة بين العالم الإسلامي والغرب في بداية هذه المرحلة كانت غير كبيرة(1)، ومن هنا يمكننا القول: إنه كان من الممكن إذا توفرت الجهود المخلصة للإصلاح، ولم تتكالب قوى الغرب للإجهاز على العالم الإسلامي قبل إفاقته.. كان يمكن تدارك هذه الفجوة واللحاق بهم فيما تقدموا فيه من علوم مادية من غير تفريط في قيمنا ومبادئنا و(ديننا)، ولكن ما حدث في الواقع هو العكس؛ إذ اتجهت الأنظار إلى قيم الغرب ومبادئه زاعمة أن هذا هو سر تقدم الغرب وحقيقة عمرانه (حضارته)، ودارت الدعايات والترويج لهذه القيم والمبادئ، بينما كان النشاط في اقتباس علوم الغرب وأسرارها ضئيلاً وسطحياً.

    ثانياً: من المعلوم أن «العلمنة بمعناها الشامل فلسفة تنطوي على (محاولة لإدراك معنى العالم المادي بوصفه معقولاً... وعلى إمكانية إدراكه، وبالتالي تغييره دون حاجة للقوى الفوقية والسماوية والدينية)»، وتتفق المذاهب العلمانية الكبرى في المعنى النظري للعلمنة «الذي يتضمن (تَمْدِين الدولة والمجتمع والمؤسسات والقوانين وسائر الشؤون العامة، وإبعادها عن أي مؤثرات دينية)» ولذلك فإن العلمنة تعني صراحة: «إبعاد الدين عن ميدان تنظيم المجتمع الإنساني وشؤونه السياسية والاقتصادية والاجتماعية»(2)، ومن خلال تأمل مجريات المراحل السابقة للعلمانية والتغريب في العالم الإسلامي نستطيع بلورة ملامح الغزو العلماني التغريبي التي استمرت أيضاً ـ ولكن بصورة أوضح ـ في المراحل اللاحقة، لتصب في اتجاه تحقيق معنى العلمنة السابق ذكره، ومن أهم هذه الملامح:

    1 - إيجاد مرجعية فكرية جديدة بديلة عن المرجعية السائدة في المجتمع، وهي التي كانت في أصلها مرجعية إسلامية.

    2 - وضع الأفكار (القديمة) الشائعة بين أفراد المجتمع موضع الشك، ومن ثم: بحثها ودراستها مرة أخرى في ضوء المرجعية الفكرية الجديدة، مما يؤدي إلى استبدال هذه الأفكار (القديمة).

    3 - ربط المجتمع الإسلامي بمنظومة عالمية في الفكر والاجتماع والسياسة والاقتصاد والقانون، وإحلال هذه المنظومة في المجتمع بحيث تمثل صبغة جديدة له.

    4 - استبدال ولاءات جزئية قائمة على قيم أرضية (مادية) ـ عنصرية أو مصلحية ـ بقاعدة ولاء المجتمع المسلم، المتمثلة في الولاء لله ورسوله وللمؤمنين، ثم إعادة ترتيب هذه الولاءات الجزئية في منظومات وتحالفات أكبر قائمة على الأساس المادي ذاته.

    5 - ولتحقيق هذا الهدف كان ينبغي تحطيم أدوات وحدة فكر هذه الأمة وعاطفتها القومية الإسلامية، وذلك بالقضاء على ـ أو على الأقل إضعاف ـ حضور اللغة العربية الفصحى (لغة القرآن)، وعلى مفهوم العمران (الحضارة) الإسلامي، باعتباره عمراناً متصلاً خرج من معين واحد، مع تشويهه والحط منه؛ لإيقاف عاطفة الفخر القومي الإسلامي الناشئ من هذا الاعتبار.

    6 - كما ينبغي ـ لبلوغ هذا الهدف ـ تفتيت تماسك المجتمع، وذلك بغزو نواته الأولية المتمثلة في الأسرة، وذلك عن طريق استهداف المرأة، وإشاعة صور التفلت والانحلال الخلقي بين أفراد المجتمع.

    وإذا كانت هذه الملامح بدت باهتة في المراحل السابقة فإننا سنلحظها واضحة كل الوضوح في هذه المرحلة.

    ثالثاً: باستعراض الخطوات التي أدت إلى العلمانية والتغريب في الأقطار التي تعرضنا لها، نلحظ أن آلية هذه الخطوات تتشابه ـ إن لم تتطابق ـ في كيفية تسللها، وأن الغرب استفاد من تجاربه العديدة مع المسلمين في شتى البقاع وعلى مر العصور، وهي تبدأ بإظهار الفارق العمراني (الحضاري) بين الغرب الغازي والبلدان الإسلامية، والتأكيد على تفوق هذا الغرب، يتبع ذلك إحساس المسلمين بالانكسار والهزيمة النفسية التي تولد عندهم إعجاباً بهذا المتفوق، ثم العمل على محاولة مسايرته واللحاق به، فيفتح لهذا الغرب الباب لتعليم وتدريب من يُعَدُّون لقيادة البلاد، ويفتح الباب أيضاً لتسنم بعض هؤلاء المعلَّمين مراكز حساسة في البلاد، وفي الوقت نفسه: تُرسل البعثات من أبناء المسلمين النابهين وقياداتهم للاطلاع على هذا الغرب وأخذ العمران و(الحضارة) من منبعهما الأصيل!، فتتلقاهم هناك أيادي المستشرقين والمبشرين، ويغوصون في أوحال هذا المجتمع ويرتوون من مستنقعاته، ثم يعودون إلى بلدانهم ليكونوا (حزب الغرب) فيها.

    وبعد ذلك تفـتـح أبـواب البلاد ـ المعجبـة بالغربيـين والمهيأة لهم ـ لامتيازات الدول الأجنبية وأفرادها، فتبدأ سياسة (التغلغل السلمي)، فيمتلكون الأراضي والعقارات، وينشئون المزارع والمصانع، ويديرون شركات البنية الأساسية، فتكون هذه الامتيازات ذريعة للتدخل السياسي والاقتصادي ثم العسكري؛ للحفاظ على حقوق رعاياهم وأعوانهم، فيصعب على البلاد بعد ذلك الخلاص منهم، وفي الوقت نفسه: يبدؤون باللعب على وتر حقوق الأقليات فتبرز الوطنية أو القومية أو الطائفية، ثم يطالبون بنظام قضائي (حضاري) وتعليم (معاصر) واقتصاد حر.. ويفتح الباب على مصراعيه للعلمنة والتغريب.

    رابعاً: ولتمرير نهج التغريب والعلمنة فقد حرص المنفذون في هذه المرحلة على مراعاة عدة أمور عند التنفيذ، منها:

    - أن يتم تمرير هذا النهج على يد رموز علمية واجتماعية مقبولة من المجتمع المستهدف، وكان أبرز من يقوم بذلك بعض العلماء والساسة اللامعين (أو الملمَّعين) الذين أظهروا ميلاً إلى الوافد الجديد؛ حيث كانت المؤسسة العلمية الدينية وحدها تمثل الحياة الفكرية حينئذ، وكانت المؤسسة السياسية هي أداة التنفيذ الأساس.

    - أن يتم تسويغ الأفكار الجديدة تحت لافتات عديدة مقبولة: كالإصلاح، والتحديث، والنهوض، والأخذ بأسباب القوة والمدنية.. وإظهار أن هذه الأفكار غير متعارضة مع مبادئ الدين وقيم المجتمع.

    - أن يكون التغيير المستهدف شاملاً لجميع نواحي الحياة: فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية، بل أن يصل التغيير بهذه المبادئ إلى الدين نفسه ـ كما سنرى لاحقاً إن شاء الله تعالى ـ.

    - أن يكون هذا التغيير بصورة تدريجية مع اتباع سياسة الصدمات محسوبة الأثر والنتائج إن لزم الأمر.

    خامساً: وكانت الترجمة من أهم طرق نقل الأفكار الغربية إلى العالـم الإسـلامي وأخطرها في ذلك الـوقت ـ وخاصة في مصر وتركيا والشام ـ «فقد مهدت حركة الترجمة بما حققته من انتشار الفكر العلمي والثقافة العلمية ـ في مقابل الفكر والثقافة الدينية ـ مهدت السبيل للأفندية أن يحلوا محل المشايخ في الزعامة الفكرية في مصر في القرن 19»(1).

    سادساً: اختلف شكل الإطار الذي خرجت منه العلمانية والتغريب حسب ظروف منطقة الاحتكاك العمراني (الحضاري) الذي نموَا فيه، ففي حين أن دور رجال السلطة المحلية والمحافل الماسونية كان واضحاً في مصر وتركيا في هذه المرحلة، نجد أن الإرساليات التنصيرية والمستشرقين والنصارى العرب لعبوا دوراً أكبر في الشام، كما نجد أن الاستعمار الصريح: الفرنسي في الجزائر، والبريطاني في الهند كان هو العامل الحاسم في غرس العلمانية والتغريب في هذين البلدين، وهذا الاختلاف في الإطار والظرف العام سيكون له أثره فيما بعد.

    ومع ذلك فيكاد ألا يختلف (أسلوب) تقديم العلمانية إلى العالم الإسلامي رغم اختلاف هذه الظروف وتعدد هذه الأطر؛ فقد تسللت العلمانية والتغريب إلى العالم الإسلامي في بدايتها ـ وما زالت ـ تحت ستار كثيف من التضليل والتلبيس؛ حيث اختلط (أو خُلِّط) الحق بالباطل والصواب بالخطأ في الدعاوى التي رفعها (الإصلاحيون)، كما قُدِّمت العلمانية والتغريب ـ في هذا الخلط ـ على طبق من الدين.

    وفي ذلك يصف الدكتور محمد محمد حسين بدقة دوافع (المصلحَيْن) الطهطاوي وخير الدين التونسي ومنهجهما، فيقول: «فالطهطاوي وخير الدين يبدأ كل منهما كلامه بالنص القرآني وبالحديث وبرأي الصحابة والفقهاء، ونقطة البدء في تفكيرهما هي التماس الوسائل لقوة المجتمع الإسلامي... ولكن التخطيط للنهضة والتماس الحلول للتخلص من عوامل الضعف يبدأ من الإعجاب ببعض ما شاهداه من النظم في المجتمع الغربي والرغبة في نقله إلى وطنيهما...»(1).

    والقوانين التي صدرت باسم (التنظيمات) في الدولة العثمانية كانت تُصدَّر بأنه: «لا يخفى على عموم المسلمين أن دولتنا العلية من مبدأ ظهورها وهي جارية على رعاية الأحكام القرآنية الجليلة والقوانين الشرعية المنيفة.. وقد انعكس الأمر منذ مئة وخمسين سنة بسبب عدم الانقياد والامتثال للشرع الشريف ولا للقوانين المنيفة..»(2)، ثم تُذيَّل بأنه «قد أفتى المفتي بجواز العمل بها شرعاً ومعاقبة من يعارض في إنفاذها»(3).

    وقد كان للصورة التي حاولوا بها (تقنين) الفقه دوره في هذا التلبيس ـ بغض النظر عن نيات من قاموا به ومدى مناسبة هذا التقنين ـ حيث اعتاد الناس هذه الصورة وألِفوها، ومن ثم: لم يستغربوا بعد ذلك أن يُحكموا بقوانين غريبة عن الإسلام على هذه الصورة، لا سيما حين يقال عنها إنها لا تخالف الشريعة الإسلامية، أو إن لها تخريجاً يتفق مع رأي في مذهب فقهي إسلامي.

    هذا الأسلوب وإن بدا في هذه المرحلة المبكرة غير ظاهر والانحراف فيه يسير، إلا أنه استعمل على نطاق واسع في المراحل التالية، كما أن خط الانحراف به اتسع وتأصل فيما بعد.

    سابعاً: تميزت هذه المرحلة بالتركيز على التغلغل في أوساط النخب الثقافية والفكرية وأصحاب التأثير في المجتمع الإسلامي، كما تميزت بالارتكاز على أصحاب السلطة والاحتماء بهم لنشر العلمانية والتغريب، وهذا واضح في البلاد التي تعرضنا لها.

    أما قاعدة المجتمع العريضة فقد كانت تعيش حالة من التحول الاجتماعي ـ أو ما نستطيع أن نطلق عليه: البرزخية الاجتماعية ـ فهي لم تكن تعيش إسلاماً صحيحاً كما أنها لم تكن تعيش علمانية كاملة.

    وفي الوقت نفسه: كان واضحاً سعي ذوي النفوذ في تيار العلمانية والتغريب على صبغ حياة المجتمعات الإسلامية بالقوانين الوضعية في مجالات الحياة المتنوعة؛ لنزع الطابع الديني عن المعاملات اليومية في حياة أفراد هذه المجتمعات وإحلال صبغة علمانية بديلة، إضافة إلى ربطهم بأسس مرجعية جديدة ترتبط بالنظام العالمي الناشئ من المدنية الغربية، كما حرصوا على إشاعة المظاهر التي تدل على هذه الصبغة الجديدة.

    أما بالنسبة إلى العلماء فإنه وإن استُعمِل بعضهم جسراً للعلمانية والتغريب إلا إن آخرين أعلنوا رفضهم لذلك الاتجاه وقاوموه بالوسيلة التي يملكونها: الفتاوى! وفضح أصحاب هذا الاتجاه أمام الأمة؛ ففي تركيا العثمانية «لم يلق الخط الشريف أو الدستور الذي سانده مصطفى رشيد وقلة من المحيطين به ترحيباً أو تأييداً من الرأي العام العثماني المسلم، فأعلن رجال الدين! تكفيرهم لرشيد باشا، واعتبروا الخط الشريف منافياً للقرآن الكريم في مجمله، وبخاصة في مساواته المسيحيين بالمسلمين...»(4).

    وعندما أعلن سيد أحمد خان آراءه «هيج الرأي العام ضده، وزاد في هياج الرأي العام المسلم وتشديد النكير عليه من العلماء ـ حتى حكموا بكفره ـ ما قرره في تفسيره من أن القرآن نزل على رسول الله # بالمعنى فقط...»(5).

    ولكن أصحاب هذه الأصوات المعارضة ضاعت وسط الزخم العلماني والتغريبي المستند على السلطة النافذة والدعم الغربي آنذاك، كما يبدو أن أصحاب هذه الأصوات المعارضة لم يستطيعوا إدراك مدى المخطط البعيد وشموله في هذه المرحلة المبكرة.

    أخطر المراحل وأعقدها (1882م- 1917م):

    بعد أن نمت البذور التغريبية والعلمانية في أرض الإسلام بدأت تضرب بجذورها في هذه الأرض، وبدا واضحاً أن هذه الجذور أخرجت نبتة لها ساق مستوٍ وعود مشتد.

    وقد تميزت هذه المرحلة بحدوث اضطراب شديد وتحولات فكرية وسياسية واجتماعية كبيرة في البلاد الإسلامية، كما أن التداخل في نشاطات وجهود (الرواد) الإصلاحيين وأثر ذلك على الأقطار المتعددة.. كان سمة بارزة في هذه المرحلة.

    ويمكننا في هذا الرصد أن نضع أيدينا على مفاتيح تعيننا على فهم هذه المرحلة التي نحن بصددها، تتمثل في الآتي:

    أولاً: تميزت هذه المرحلة بتكثيف انتقال القيم الغربية والعلمانية من مجال الأفكار إلى الواقع، وبذا انتقلت الهجمة التغريبية العلمانية إلى الضرب في العمق؛ فكراً: بطرق الموضوعات التي تطرحها في صورة أكثر صراحة ووضوحاً وشمولاً، وانتشاراً: بفتح ميدان انتقالها من النخبة المثقفة المحدودة إلى القاعدة الشعبية العامة.

    ثانياً: نتيجة لهذا الضرب المركز في العمق الفكري والاجتماعي تبلور تيار كانت بذوره موجودة في المرحلة السابقة، وكان جل اهتمامه محاولة (التوفيق) بين الإسلام وبين الأفكار والقيم الغربية الوافدة، وقد تعددت (دوافع) هذا التيار و(درجاته) و (صوره)، ولكنه عموماً احتل مساحة واسعة في أنشطة هذه المرحلة، كما كان له أثر كبير فيما بعد.

    ثالثاً: رغم تعدد ميادين الأنشطة العلمانية والتغريبية و (التوفيقية) في هذه المرحلة إلا أن هناك قاسماً مشتركاً يجمع بين هذه الأنشطة بدا وكأنه صرعة العصر التي تنطلق منها، ألا وهو: الحرية بمفهومها الغربي الليبرالي؛ فقد تمثل ذلك في الفكر: بطرح كل المسلَّمات (السابقة) علـى طاولة النقاش، ومن ثم: الرفض أو القبول، وفتح المجال لإدخال أي أفكار والترويج لها باسم حرية الفكر، وفي الإصلاح الديني: بفتح باب الاجتهاد وإعادة تفسير الإسلام بما يتلاءم مع (روح العصر)، مــما أدى لاحــقاً إلى محاولات تطويع الإسلام و (علمنته)، وفي السياسة: بالدعوة إلى الحرية الدستورية، ومقاومة الاستبداد، والتحرر من الروابط السياسية القديمة، وذلك ما أدى فيما بعد إلى رفض الإطار السياسي للخلافة، وإلى استقرار النيابة البرلمانية بوصفها مصدراً للسلطات، وفي الاجتماع: بالدعوة إلى حرية المرأة وانعتاقها من قوامة الرجل وأسر الأسرة والتقاليد وتعاليم الدين، وهو ما أدى إلى التفكك الأسري والانحلال الأخلاقي، وفي الاقتصاد: بوضع أطر الاقتصاد الحر والارتباط بالرأسمالية العالمية واقتصاد السوق، ومن ثم: فتح المجال أمام الأفكار والتصورات الاقتصادية المنابذة للدين التي مثلها الحضور المكثف لرأس المال الغربي بما يحمله من احتكارات واستغلال وربا، وفتح المجال أيضاً لنشاطات اقتصادية منافية للإسـلام أخلاقياً واجتماعياً.

    هذه إجمالاً أهم مفاتيح هذه المرحلة، والآن لنعرض بعض تفاصيل تحولات الفكر والثقافة في هذه المرحلة:

    دخول الفكر العلماني التغريبي الصريح:

    مثلما كان الفكر النصراني هو واسطة نقل الفكر الفلسفي اليوناني إلى الفكر الإسلامي في العصر العباسي عبر حركة ترجمة واسعة آنذاك «كان هذا الفكر مؤهلاً أكثر من غيره لدور الريادة عندما جاءت الموجة (الهيلينية) الجديدة من أوروبا المسيحية ـ العلمانية هذه المرة، ومعها تجربة غير معهودة من قبل في تحديد العلاقة الجدلية بين الدين والعقل، تستند إلى مبدأ الفصل والتمييز والتفريق بينهما»(1)، وهكذا كان النصارى العرب ـ وإن شاركهم غيرهم ـ رأس الحربة في نقل العلمانية الصريحة.

    فبخلاف (المصلحين) المسلمين الذين كانت تؤرقهم محاولات تقديم الأفكار الغربية في صورة لا تتعارض مع الإسلام، مما دفعهم إلى اختيار مسلك التوفيق بينهما... «كان المثقفون المسيحيون يرفضون ربط التطور الاجتماعي بأية عقيدة دينية، ويسعون إلى التحرر من مشكلة الانتماء الديني بالتشديد على النظرة العقلانية إلى الإنســان والمجتمع»(2)، ومـن هـنا: أخـذوا ينهلون ويتبنون ـ بوضوح وبدون حرج أو حساسية ـ أفكار مفكري عصر التنوير الأوروبي.

    وهكذا تمثل التيار العلماني التغريبي الصريح ـ في معظمه ـ في بعض نصارى الشام الذين هاجروا إلى مصر، وأخذوا في بث أفكارهم من خلال عدة طرق، محدثين حركة فكرية ثقافية كبرى داخل قطاعات كبيرة من (المثقفين) استخدمت فيها الصحف والمجلات التي أصدروها على نطاق واسع، مستغلين (حرية النشر) التي كانت توفرها سلطات الاحتلال لمثل تلك الإصدارات، وأيضاً من خلال ترجمة بعض الكتب الأوروبية التي تساير الاتجاه الجديد، وتحقيق وإخراج بعض الكتب الفلسفية والأدبية القديمة التي تخدم توجهاتهم، بإعادة طرح أسئلة كبرى حول الإنسان والكون والحياة، والتي تهدف أيضاً إلى إعادة صياغة العلاقات بين الأفراد والمجتمعات.

    فبعد جيل فرنسيس مراش، وبطرس البستاني، وناصيف اليازجي، وفارس الشدياق، أتى جيل آخر يمثله سليم عنحوري، وأديب إسحاق، وشبلي الشميل، وفرح أنطون، وجورجي زيدان، وبشارة وسليم تقلا، وفارس نمر، ويعقوب صرُّوف... وغيرهم، ولا شك أن بينهم فروقاً فكرية، ولكن يجمعهم أنهـم جميعاً نصـارى ـ على اختلاف مذاهبهم ـ وأنهم ماسونيُّون، كما أن معظمهم درس في الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأمريكية) التي أشرنا إليها سابقاً.

    كانت الصحافة أحد أهم أنشطتهم التي روجوا من خلالها أفكارهم بطرق ملتوية ومخادعة؛ فقد كان بعضهم يتعمد أن يتضمن اسم مطبوعته دلالة رمزية قد تخفى على بعض القراء: ففارس نمر يوضح أنه بعد رفض وزارة الداخلية المصرية الموافقة على إصدار جريدته الجديدة باسم (الإصلاح!) اختار هو وشركاؤه اسم (المقطم)، يقول: «ولما سئلت عن السبب في اختيار هذا الاسم بالذات، قلت: لأنه الجبل الذي بنيت من حجارته الأهرام الثلاثة»(1)، وكذلك جورجي زيدان أطلق على مجلته اسم (الهلال) مستغلاً ما يشاع بين الناس من أن الهلال رمز إسلامي، والحقيقة أنه أحد رموز الماسونية، ومن المعروف أن زيدان كان ماسونياً، كما أن (جامعة) فرح أنطون كانت باسم (الجامعة العثمانية)، وهذا الاسم وإن كان ظاهره يناصر الدولة العثمانية، إلا أنه يطرح بصفته بديلاً عن (الجامعة الإسلامية)، وهذا الطرح كان دعوة لها أنصارها في ذلك الوقت، وهو يعني التجمع حول آصرة الجنسية العثمانية التي تضم أدياناً وأعراقاً شتى، بدل آصرة الإسلام، وهو يعني بمعنى آخر العمل على الدعاية لعلمانية الدولة في الانتماء والولاء.

    وكما عمدوا إلى المداورة والخداع في الأسماء والعناوين عمدوا إليها أيضاً في المحتوى والموضوعات؛ فمجلة المقتطف «إذا أخذنا العدد الصادر [منها] في كانون الثاني 1896م على سبيل المثال، لوجدنا أنه يشتمل على مقالات في الأمراض السارية، والميكروبات في الهواء، والفروق بين الرجال والنساء، وتحليل فلسفي لمركز الإنسان بين الحيوانات... أما مؤسس الهلال... فقد كان ذا تركيب ذهني مختلف، فأعار العلوم الطبيعية في مجلته اهتماماً أقل، موجهاً جل عنايته إلى علم الاجتماع، وأدب النفس، والسياسات العالمية، والجغرافيا والتاريخ، واللغة والأدب، وآثار العرب...»(2)، ويعلق ألبرت حوراني على هذه الموضوعات قائلاً: «قد تبدو المواضيع التي كانت تعالجها هاتان المجلتان عديمة المغزى، خصوصاً وأنهما كانتا تتحاشيان كل ما يتعلق مباشرة بالسياسات المحلية أو بالدين أو بما شأنه أن يثير ضدهما العداء، غير أن وراء هذه المواضيع ووراء غيرها من هذا النوع كانت تكمن بعض الأفكار المعينة الدائرة حول: ما هي الحقيقة؟ وكيفية البحث عنها؟»(3) وبهذه الطريقة أصبحت مجلة كالمقتطف «أهم المجلات التي أخذت تدعو إلى التحلل من الدين»(4).

    وإلى جانب الصحافة ـ التي كانت تعمل على تشكيل الرأي العام ـ سلك طلائع العلمانية مسالك أخرى لتبديل البيئة الفكرية لمثقفي الأمة؛ ففي هذه المرحلة التاريخية نشطت حركة إحياء كتابات فلسفية قديمة، مع اهتمام خاص بفلسفة ابن رشد.

    فعلى سبيل المثال: أصدر فرح أنطون سنة 1901م كتاب (ابن رشد وفلسفته) الذي أحدث جلبة كبيرة أدت إلى سجالات عديدة؛ حيث ادعى أنطون أن الإسلام قضى على الروح الفلسفية واضطهد العلم، وأن حل (النزاع) بين العلم والدين يتم بتحديد الحقل الخاص بكل منهما؛ بحيث لا يتجاوز أحدهما حدود الآخر، مؤكداً أن الأنبياء فلاسفة، وأن الحقيقة واحدة يسربلها الأنبياء بالرموز الدينية من أجل العامة بينما تفقهها النخبة مباشرة(1)؛ فأهمية الكتاب ترجع إلى أنه «لم يستهل المباحث الفلسفية الجديدة في مطلع القرن العشرين وحسب، بل فتح الباب أمام مساجلات فكرية هامة بين أقطاب الفكر في مصر... حول مسائل الخلق والأزلية والسببية، وسواها من القضايا الفلسفية الكبرى»(2).

    وتوازى مع ذلك النشاط حركة ترجمة واسعة لكتب منتقاة تعبر عن الفكر (التنويري) الغربي، وبعد أن كانت حركة الترجمة في المرحلة السابقة تتم برعاية الدولة ومرتبطة بمصالحها وتوجيهاتها الحديثة، نجد أن الترجمة في هذه المرحلة أخذت بعداً جديداً بانتقال معظم نشاطها إلى أفراد أصحاب توجهات تغريبية واضحة ومقصودة، عملوا على تجاوز ترجماتهم تحديث أجهزة الدولة نحو تحديث أفكار المجتمع وثقافته، حيث بدأت حركة نشطة لترجمة أمهات الكتب الفلسفية والاقتصادية والسياسية والأدبية والاجتماعية إلى اللغة العربية.

    فكرتان وشخصيتان:

    ولا يفوتنا في هذا المقام الحديث عن شخصيتين وفكرتين كانتا ذا أثر كبير في الحركة الفكرية في هذه المرحلة، باعتبارهما نموذجين للأفكار والشخصيات التي تمثل هذا الاتجاه في ذلك الوقت، ونعني بالشخصيتين: شبلي الشميل، وفرح أنطون، وأما الفكرتان: فالداروينية والاشتراكية.

    فلقد أعطى تيار العلمانية الصريحة الاشتراكية بعداً هو أقرب إلى حقيقتها، مخالفين النهج التوفيقي الذي سبقهم الأفغاني باستعماله عند حديثه عن الاشتراكية، ففي «أوائل التسعينات من القرن التاسع عشر بدأت صحف اللبنانيين الدورية الصادرة في مصر تتعرض للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والنظريات الأوروبية بشأنها، ومن بينها التعاليم الاشتراكية، وكان يعقوب صرُّوف في مجلته (المقتطف)، وجورجي زيدان في (الهلال)، وفرح أنطون في (الجامعة) من أوائل العارضين والمحللين لتلك التعاليم»(3)، وهكذا «ظلت الأفكار الاشتراكية حتى قبيل الحرب العالمية الأولى محصورة بشكل رئيسي في نطاق العلمانيين المسيحيين، وأصدر سلامة موسى في عام 1913م [1331هـ] كتابه (الاشتراكية)»(4)، وفي العام نفسه نشر المدرس المصري مصطفى حسنين المنصوري كتابه (تاريخ المذاهب الاشتراكية) وضمنه شروحات ميسرة للأفكار الاشتراكية، وهو يعد من أوائل من عرضوا مبادئ الفكر الاشتراكي والماركسي(5).

    وإذا كان يعقوب صرُّوف وجورجي زيدان ظلا في نطاق التحليل الوصفي للاشتراكية دون الالتزام بها سياسيّاً، فإن الشميل وأنطون كانا أول الداعين إليها باعتبارها التزاماً سياسياً اجتماعياً؛ حيث كان الشميل «يؤمن بحتمية الوصول إلى الاشتراكية مهما طال الزمن؛ لأنها ذات نواميس طبيعية تدعو إليها»(6)، بينما ذهب فرح أنطون إلى أبعد من ذلك، فدعا إلى تأميم وسائل الإنتاج وإلغاء الملكية الخاصة، كما «كان يعتقد بأن على المرء ألا يكتفي بالتبشير بالاشتراكية إذا أراد تحقيقها، بل عليه أن يسعى إلى هذا التطبيق ولو بالقوة والثورة، وبالتالي يصبح من الضروري غرس فكر الثورة والعنف في عقول الطلاب منذ الصغر»(7)، وهكذا شقت الاشتراكية طريقها في الفكر العربي المعاصر، لتتمثل بعد ذلك في نظم سياسية تتبناها وتدعو إليها.

    أما الداروينية ـ أو مذهب النشوء والارتقاء كما عُرفت آنذاك ـ فكانت «أحد المجالات الأساسية للصراع ضد العلمانية... فكانت الداروينية في أواخر القرن التاسع عشر من ضروب النظرية التطورية التي شكلت عصب فكر القرن التاسع عشر، ومن المسلَّمات التي أخذ بها الغربيون والشرقيون معاً»(1)وقد أثارت الداروينية موجة قوية من الإلحاد؛ حيث طغى في هذا العصر مذهب المادية «القائل بأن العالم له أساس واحد هو المادة، ولا شيء وراءها، وكل شيء في الحياة مظهر مـن مظاهرها حـتى الفـكر والعاطفــة، والمادة لا تتجــدد ولا تفنى، وقوانينها قديمة أزلية أبدية، وليس في هذا العالم شيء يعتريه الفناء، وإنما تتغير الأشكال، وبناءاً على ذلك: فلا نفس ولا روح ولا دين ولا إله!»(2)، وهكذا خطت (العلمانية) خطوة نوعية كبرى في مهاجمة الدين بمحاولة تحطيم أسسه الأولية.

    شبلي الشميل (1850م ـ 1917م / 1266هـ ـ 1335هـ):

    يرى الدكتور عزيز العظمة أن التيار العلماني الشامل والآخذ بالعلمانية في أسسها المادية ونتائجها الاجتماعية كان «تياراً صغيراً... مثَّله أفضل تمثيل شبلي الشميل ثم سلامة موسى، وكان الاثنان قد أسسا سوية مجلة (المستقبل) في القاهرة عام 1914م، كتب فيها موسى مقالاً (كله فجور إلحادي)، ودعا فيها الشميل إلى المادية والتطورية (دعوة مستقبلية فجة)»(3).

    فقد اعتقد الشميل «بأن العلم هو الدين الجديد للإنسانية جمعاء»(4)؛ حيث اعتبره «أكثر من طريقة لاكتشاف النظام في ترابط الأشياء؛ إذ كان مفتاحاً لحل لغز الكون، لا، بل نوعاً من العبادة»(5)، ويرى الشميل «أن دين العلم هو إعلان حرب على الديانات القديمة»(6)، وعليه: فهو يرى أن: «ليس الحكم الديني والحكم الاستبدادي فاسدين فحسب، بل هما غير طبيعيين وغير صحيحين»(7).

    «وكان الكثيرون من الكتاب العرب المسيحيين من معاصري الشميل يبشرون بتلك الأفكار ويستنتجون منها وجوب وجود وحدة قومية تتعدى الفروق الدينية، لكن الشميل نفسه ذهب أبعد من ذلك في استنتاجه؛ فهو لم يحاول الاستعاضة عن التضامن الديني بالتضامن القومي فحسب، بل راح أيضاً يعلن أن لجميع أنواع التضامن الجزئي خطر التضامن الديني؛ لأنها تجزئ المجتمع البشري، فالتعصب القومي الأعمى لا يقل شراً عـن التعصب الدينــي الأعمـــى، لذلك لا بــد أن تَحـل ـ عاجلاً أو آجلاً ـ الوطنية العالمية محل الولاء للوطن المحدود»(8)، ولعل هذا كان سبباً لأن راقته فكرة الاشتراكية حيث الدعوة إلى الأممية العالمية، فكان «أول من نشر بالعربية فكرة الاشتراكية، وإن لم يكن أول من سماها بهذا الاسم»(9) وهكذا انبثق الولاء للعالمية من الرؤية العلمية العلمانية!

    ولدين الشميل الجديد مستلزمات اجتماعية وسياسية واسعة أيضاً «فالعلوم الطبيعية هي أساس العلوم الإنسانية، ولا تستمد الشرائع إلا من العلوم الإنسانية الصحيحة»(10).

    وعلى رأس العلوم الصحيحة عند الشميل: الداروينية، لذا: كان «أول داعية للأفكار الداروينية والفلسفات المادية في العالم العربي، تحت تأثير فلسفة سبنســـر الذي جعـل من الداروينية مبـدأً فلسفياً لا ينازع»(11)، و«أضاف الشميل بذلك على غيره من العلمانيين نظرة مادية في الدين، وجعل من الداروينية نموذجاً عاماً لقانون تطوري يشمل نشوء وترقي الإنـسان واللغة والشرائع، وقال بالتالي بأن تاريخية المجتمع كتاريخية الطبيعة، وقال أيضاً بنسبية الأخلاق ومفاهيم الخير والشر»(12).

    «ويترتب على نظرية التطور أيضاً أن القوانين السارية في كل مجتمع ليست شرائع أبدية معصومة، بل يجب أن تتطور بالتدرج وفق حاجات الإنسان وقضاياه، وقد تصبح الثورة ضرورية(!) إذا تحجرت تلك الشرائع ومنعت ذلك التطور»(13).

    وهكذا يتضح بجلاء أن العلمانية في صورتها الغائية الصريحة هي منظومة فلسفية كلية، تنبثق منها تصورات شاملة عن الإنسان والكون والحياة، كما تنبثق منها النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تعبر عن هذه التصورات لتحل محل الدين والنظم المنبثقة عنه.

    فرح أنطون ( 1874-1922م / 1291-1340هـ ):

    وبمثل هذا الوضوح والسفور كان فرح أنطون، «ففي الوقت الذي حاول فيه من سبقه التوفيق بين الحضارة الغربية والحضارة العربية، والتمسك بإحياء التراث العربي القديم باعتباره الحل المثالي لتقدم مجتمعهم، كان فرح أنطون يدين بالولاء الكامل للحضارة الغربية وأفكارها، وينقل عنها في مجلته (الجامعة) مذاهبها في الإصلاح الاجتماعي، ويناقش الأفكار الاشتراكية والشيوعية في هذا الوقت المبكر حين كان المجتمع غير مستعد بأي صورة من الصور لتقبل مثل هذه الأفكار»(1)، فكان فرح أنطون «أول من كتب بالعربية عن بوذا وكونفوشيوس، وعرَّف بفلسفة تولستوي وشرائع حامورابي وأفكار روسو وفلسفة أوجست كونت»(2)، وهو يرى أن لا فرق بين الأديان «فإذا تفحصنا مجموعة المبادئ [الجوهرية] وجدنا أنها واحدة في جميع الأديان... كذلك إذا تفحصنا مجموعة الشرائع لوجدنا أن غايتها الوحيدة إنما هي حث الناس على الفضيلة؛ فالثابت فيها هو إذن المبدأ الخلقي الكامن وراءها، ويجب أن نفسرها تفسيراً يسمح لها بالقيام بوظيفتها، حتى لو اقتضى ذلك تأويلها، وبعبارة أخرى: إن جميع الأديان إنما هي دين واحد يعلِّم بعض المبادئ العامة، أما الشرائع الدينية فلا قيمة لها بحــد ذاتها؛ إذ ما هي إلا وسائل لغاية»(3).

    وأنطون يرى من هذا المنطلق أن المفاضلة بين ديـن ودين «مـن القضايا المتحدرة من القــرون الوسطى، التي لا تتصل لا من قريب ولا من بعيد بمفاهيم العلم الحديث»(4)، وبنى على ذلك أيضاً موقع الدين في الحياة، فهو يهدي كتابه عن ابن رشد إلى «النبت الجديد في الشرق» ويعني بهم: «أولئك العقلاء في كل ملة وكل دين في الشرق، الذين عرفوا مضار مزج الدنيا بالدين في عصر كهذا العصر، فصاروا يطلبون وضع أديانهم جانباً في مكان مقدس محترم! ليتمكنوا من الاتحاد اتحاداً حقيقياً ومجاراة التمدن الأوروبي الجديد لمزاحمة أهله، وإلا جرفهم جميعاً وجعلهم مسخرين لغيرهم»(5).

    وهذا الكلام يتضمن نقطتين مهمتين: فصل الدين عن الدولة، وضرورة الاتحاد على أساس المواطنة لا الدين؛ «فالوحدة تتم بخلق الولاء القومي والفصل بين السلطة المدنية والسلطة الدينية، وفي هذا قوله: (فلا مدنية حقيقية ولا تساهل ولا عدل ولا مساواة ولا أمن ولا ألفة ولا حرية ولا علم ولا فلسفة ولا تقدم في الداخل إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية)»(6)، ومن ثم: «أصبحت الدولة الدينيــة (دولة الضعفـاء والجبناء والكسالى في الأمة)»(7)، وعندها «تصبح الاشتراكية إنما هي (دين الإنسانية)، وهي آخذة في الحلول محل الأديان المنزلة»(8).
                  

06-24-2008, 09:31 PM

ismeil abbas
<aismeil abbas
تاريخ التسجيل: 02-17-2007
مجموع المشاركات: 10789

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: العلمانية واحترام الاديان:حجب جائزة مستحقة عن مسلم لرفضه مصافحة سيدة (Re: Waeil Elsayid Awad)

    نور الله عليك
                  

06-24-2008, 09:37 PM

Waeil Elsayid Awad
<aWaeil Elsayid Awad
تاريخ التسجيل: 12-12-2004
مجموع المشاركات: 2843

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: العلمانية واحترام الاديان:حجب جائزة مستحقة عن مسلم لرفضه مصافحة سيدة (Re: ismeil abbas)

    العم اسماعيل
    نور الله علينا و عليك
    و مشكور
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de