سباحة حرة في نهر عطبرة (مصطفي البطل)

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-05-2024, 02:10 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثاني للعام 2008م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-18-2008, 04:26 PM

abubakr
<aabubakr
تاريخ التسجيل: 04-22-2002
مجموع المشاركات: 16044

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
سباحة حرة في نهر عطبرة (مصطفي البطل)

    سباحة حرة في نهر عطبرة (١

    http://www.sacdo.com/web/forum/forum_posts.asp?TID=3585



    مصطفي عبد العزيز البطل

    [email protected]





    أجد لزاما عليّ ان اقف بك وقفة قصيرة عند مقدمة هذه السلسلة لاهمس في اذنيك بكلمات عجلي عسي ان استبق بها أي خاطرة سالبة قد تقفز الي ذهنك ربما تأذت منها صلة الود المتبادل بيننا ايها الصديق الصدوق، كأن يتراءي لك ان كاتب السطور قد استملكه العُجب و تلبسه الوهم فامتطي حصان الغرور و تصور نفسه واحدا من ثلة العظماء الذين ينتظر منهم الناس ان يدونوا وقائع و ذكريات حياتهم في طروس مكتوبة يتداولها القارئون فيتعلمون و يتأملون ثم يستلهمون المعاني، شأنه في ذلك شأن العميد طه حسين ومن لف لفه من أقمار العرب المنيرة. و حتي لا يكون ذلك مما اخشاه فيفسد ما بيننا فانني انبئك في غير ابطاء ان الكتابة عن مدينة عطبرة و بعض صور تاريخها الاجتماعي و السياسي من منتصف الستينات الي منتصف السبعينات لم يجُل لي ببال قط الا بناء علي نصيحة من اخينا عادل الباز الذي أهمّه مُصاب مقالاتي الفادح خلال الاسابيع الماضية، بعد ان حالت بينها و بين وصولها اليك عوارض تعرفها واعرفها. و كان عادل قد اقترح عليّ ساخرا باديء الامر ان اتفادي تلك العوارض و اتخطاها بأن اقلع عن معالجة (القضايا السياسية) جملة واحدة وان أتجه الي الكتابة في (الموضوعات الدينية)! و قد ذكرني مقترحه هذا قصة لطيفة طريفة بطلها الاقتصادي و الصحافي المعروف الاستاذ محجوب عروة، فقد تقدم عروة في بدايات التسعينات و الانقاذ في عنفوانها بطلب لاصدار صحيفة دينية، و كان القانون يحظر اصدار صحف سياسية ويجيز اصدار الصحف المتخصصه من رياضية و فنية و دينية، فسارعت السلطات باجابة طلبه. و ما ان تسلم محجوب التصديق حتي قام باصدار صحيفة باسم (الحوار)، و لكنها خرجت الي الناس في صبغة سياسية شاملة ككل الصحف السياسية تحمل الاخبار و المقالات و الاعمدة التي تتصدي للهم العام، فلما رأت السلطات ما كان سارعت باستدعائه لمواجهته بالمخالفات الجسيمة التي وقع فيها، وهناك كان السؤال: " ما هذا الذي فعلت، اعطيناك تصديقا لصحيفة دينية و لكنك اصدرت صحيفة سياسية"، فرد ( الاسلاموي) المحنك علي مستجوبيه الذين يعرفهم حق المعرفة، كونه تربي معهم في نفس المدرسة الفكرية و التنظيمية: " و لكنكم طالما علمتمونا ان الدين والسياسة لا ينفصلان و ان من يقول بذلك الفصل انما هم العلمانيون و الملحدون و الكفرة، فهل تحولتم الي العلمانية ام تبين لكم ان الدين و السياسة يجوز لهما ان ينفصلا عندما نصل الي السلطة"! و باقي الرواية اصبحت جزءا من تاريخ الصحافة السودانية فقد تم سحب التصديق وايقاف صحيفة ( الحوار) التي خالفت القانون بأن جمعت، جمعا غير محمود، بين الدين و السياسة! و زبدة الكلام و منتهاه ان عادل، الذي تربطه مثلي بمدينة عطبرة صلات واشجة، وقد عاش في عرصاتها أحقابا وريفة فأكل من ( فولها ) وعدسها و بصلها وبقلها و قثائها، و التهم باسطة اسطواتها عبدالفتاح الحلواني و سليمان اباظة المميزة السداسية الاضلاع، عاد فاقترح عليّ ان اخصص بعض الحلقات عن حياتنا في مدينة عطبرة ووعد بان يضيف هو من عنده الي (فول) الحلقات، بعد انجازها ان شاء الله، بعض " التوم" و " الشمار"! فانا اسبح اذن في نهر (العطبرة)، ايها العزيز الاكرم، لا لشئ الا لأن السباحة في نيل (الخرطوم) لم تعد مأمونة العواقب خاصة بعد ان كثرت حوادث ظهور التماسيح علي ضفتيه. و في ذكائك بقية الكلام!



    عاش والدنا المغفور له عبد العزيز البطل في نفس منزل السكة الحديد الحكومي منذ تاريخ زواجه في سن الحادية والعشرين و حتي تاريخ مغادرته عطبرة و هو ينهد صوب الستين. و كان يقال عن منازلنا ( بيوت الموظفين) وعن المنازل الاصغر التي تجاورنا ( بيوت العمال). و عطبرة في البداية و النهاية هي عمال و موظفين و سكة حديد. حياتها تدور حول السكة الحديد وجودا و عدما كما تدور العلة مع المعلول عند علماء اصول الفقه. و قد بدأت التعرف علي شخوص المدينة و قسَماتها في حوالي منتصف الستينات من خلال نافذة بص مدرسة الكمبوني الذي كنت استقله كل صباح بعد ان ارتدي الملابس المدرسية المميزة بعد ان انتظمت في الصف الدراسي الاول مع زمرة من ابناء الموظفين. و هناك رسخت في ذهني صور المدرسات في زيهن الابيض المميز و آلة البيانو الضخمة التي تصدر تلك الموسيقي المنعشة الجميلة عندما تعزف عليها المدرسة-الراهبة، وانواع من البسكويت كانت تمر علينا به الراهبات ذوات البشرة البيضاء الممعنة البياض و نحن منتظمون في مقاعد الدرس. ولكن الله لم يقيض لتلك التجربة المدهشة ان تضطرد وان تصل الي نهاياتها الطبيعية فقد كانت الضغوط تمارس علي الوالد تستحثه علي انتزاعي من تعليم الراهبات الارسالي الخاص و الحاقي بالتعليم الحكومي العام فرضخ اخيرا لتلك الضغوط. عرفت ذلك عندما اظلني صباح اغبر لم ار فيه ملابس الكمبوني الافرنجية معدة لارتدائي كما هي العادة، بل طلب مني ارتداء جلباب ابيض و اصطحاب والدي الي مدرسة اخري، و هكذا وجدت نفسي داخل مبني مدرسة الشمالية الاولية بحي الداخلة. كان الاختلاف بين البيئتين واسعا شاسعا. أكثر ما روعني وزلزل كياني كان منظر معاقبة المدرسين للاطفال بالضرب المبرح علي مؤخراتهم بالسوط و العصا ولم اكن قد رأيت عند الراهبات سوطا او عصا. غير ان اكبر تحدي واجهته في بيئتي الجديدة تلك، و قد ارهق عقلي ارهاقا شديدا، كان هو ذلك التمييز الفاقع بين (اولاد العمال) و ( اولاد الموظفين)، وذلك امر شرحه يطول.



    لامر ما كانت اللغة العربية من اكثر المواد التي اتقنتها مع بداية عهدي بالتعليم المنظم. و مثل كثير من لداتي تطورت القراءة عندي تطورا متدرجا من كتب (حسن البطل ... حسن ولد العرب) و ( احمد القرشي في المستشفي) في مبتدأ المرحلة الاولية، الي مجلات سمير و ميكي للاطفال، ثم الارتقاء النوعي الي مجلة ( العربي) التي كانت تصدر من الكويت، ثم الي كتب مارغريت ميتشل و فيكتور هوغو و البير كامو التي وفرتها مكتبة البلدية و المركز الثقافي الاجتماعي بحي السودنة، واخيرا الكتب و المطبوعات الماركسية التي كان يدلني علي طريقها عبدالله القطي و صلاح حسن في نهاية محاضرات الديالكتيك و ما أشبه و التي كانا يبذلانها لخليتنا الصغيرة من طلاب مدرسة عطبرة الثانوية الحكومية. غير ان المادة الاساسية التي دأبت علي قراءتها بصورة يومية شديدة الانتظام عبر جميع المراحل الدراسية ابتداء من المرحلة الاولية و انتهاء بالثانوية كانت هي ( البولتين) او (نشرة البولتين). و البولتين كلمة انجليزية يمكن ترجمتها هي نفسها ترجمة مباشرة الي كلمة ( نشرة ) العربية. و كانت الكلمة تطلق علي النشرة الورقية التي يصدرها يوميا قسم العلاقات العامة بمصلحة السكة الحديد، وهو قسم كان يشرف عليه شخص اسمه حامد احمد حمداي. واعتقد انها كانت توزع مجانا بدليل انني كنت اشاهد الغالبيه العظمي من الموظفين متوجهين الي منازلهم في نهاية اليوم وهم يحملون في اياديهم نسخة منه.



    في سنواتي الاولي لم اكن اعرف غير البولتين الذي كان يحضره والدي معه عند عودته من العمل بعد ظهر كل يوم بالاضافة الي مجلتي (سمير) و (ميكي) الذين كان يأتي بهما في يوم معلوم من ايام الاسبوع فان تأخرت ركبت دراجتي و اتجهت رأسا الي مكتبة دبورة حيث يتم التحقق من الاشتراك و من ثم تسليمي نسخة من كل واحدة من المجلتين اللتين اخذتا موقعا حيويا في حياتي و لعبتا دورا محوريا في تطوري الثقافي. الا ان الدور الاقوي و الاكثر تأثيرا، كما اسلفت، كان لنشرة البولتين. ولولا الخجل و الخوف من ان ارد بنفسي موارد السخرية لكنت مستعدا لمجاراة مقولة ثيودور ديستوفيسكي الشهيرة: (كلنا خرجنا من معطف غوغول) بالقول أنني خرجت من "بولتين" حامد حمداي! و العجيب ان هذا البولتين كان يخرج يوميا في لغة اقرب الي الركاكة وكانت موادها مكرورة تكرارا مملا الي اقصي حدود الاملال، وتشتمل علي مواد مختلفة تغلب عليها المواد الاجتماعية كأخبار ترقيات الموظفين و بعض رؤساء العمال وتنقلاتهم ووداع المغادرين منهم الي مناطق عمل اخري او الي المعاش. و اخبار زواج الموظفين ونجاح ابنائهم وبناتهم في المدارس وانجابهم للاطفال، بالاضافة للاخبار السيئة كالوفيات ولزوم اسرة المستشفيات و اعلانات شكر للذين تكرموا بالتعزية وحضور ليالي المآتم، ثم اعلانات شكر من بعض المرضي الذين استردوا عافيتهم ينوهون بفضل الاطباء المعالجين والممرضين. و هناك اخبار الرياضة و المناشط الثقافية والفنية و في مقدمتها اخبار " دار الفنون" بحي الفكي مدني، بالاضافة الي اسماء الممثلين و عناوين الافلام المعروضه في دور السينما الثلاث: السينما الوطنية، السينما الجديدة، والسينما الجمهورية. و تجد في البولتين ايضا اعلانات عن بيع انواع من الفواكة من منتجات حدائق السكة الحديد و بصفة خاصة الغريب فروت واليوسفي واسعارها واماكن التوزيع والاستلام. و ذلك فضلا عن مواد اخري كالتنويهات عن معارض الزهور و العروض المجانية لفرقة بوليس السكة الحديد الموسيقية. الي جانب اعلانات بعض المحال التجارية مثل (مخازن سابا) و (مخازن حبيب بسطا) و (محلات فهمي ميخائيل) و ( محلات ابوعركي لتطريز الثياب النسائية) و غيرها عن البضائع والمعروضات الجديدة مشفوعة بعبارات مثل: " شرفونا تجدوا عندنا ما يسركم باسعار لا تقبل المزاحمة"، و قد استغرقت عبارة " لا تقبل المزاحمة" مني زمنا طويلا لاستيعابها و فهمها. و بالطبع لم يكن البولتين ليخلو من انباء الليالي السياسية المبرمجة و اسماء المتحدثين الذين يحضرون خصيصا من الخرطوم لهذه الاغراض، و من هؤلاء بعض الرموز السياسية الساطعة مثل نصر الدين السيد، احمد زين العابدين، عبد الخالق محجوب، الشفيع احمد الشيخ، و احمد سليمان و غيرهم.



    و اذكر انني كنت اقرأ ذلك البولتين بعد ظهر كل يوم سطرا سطرا و كلمة كلمة بالتزام تام كما يقرأ الانصار المخلصون كل ليلة راتب الامام المهدي. وفي سن مبكرة كانت لدي ملاحظات نقدية كثيرة علي اسلوب تحرير تلك النشرة و الاخطاء التي تشوبها. وكنت عند السنة الثالثة ( الابتدائيه) قد اصبحت رئيسا لتحرير الصحيفة الحائطية الخاصة بالفصل و اسمها ( البراعم ) التي كانت تعتبر بشهادة عدد من المعلمين افضل بكثير من ( الجيل الصاعد) صحيفة السنة الرابعة. و لكن صحيفة السنة الرابعة تطورت بعد وصولي اليها، وكانت من اعظم انتصارتي الصحفية اثناء رئاستي لتحريرها ذلك اللقاء الذي اجريته مع نجم نادي المريخ الاشهر ( ماجد) عند زيارته للمدرسة بدعوة من ناظرها الاستاذ حسن سيد احمد بتيك. و قد كان ذلك الارتباط بالصحافة المدرسية من اسباب استطراد اهتمامي بالبولتين و مواده و كيفية تحريره. و الحق ان مسألة الاسلوب و اللغة المستخدمة لم تكن كلها شأنا خاصا بمحرر البولتين فالواقع ان كل المواد المنشورة كانت عبارة عن اعلانات او تنويهات او مواد من شاكلة ما اشرنا يكتبها الموظفون بانفسهم و يسلمونها للمسئول عن التحرير الذي يقوم بدوره بارسالها لمن يتولون طباعتها و ادارتها بعد ذلك علي ورق الرونيو. و كانت هذه المواد تصاغ باسلوب موحد لا يتغير مثل خط السكة الحديد. فعلي سبيل المثال كانت المواد المتعلقة بالوفيات يتصدرها اما ببيت شعري او آية قرآنية، و لم يكن البيت الشعري او الاية يتغيران قط. و قد كانت هذه الاية تكتب بصورة خاطئة لسنوات طويلة حتي قام احد الموظفين بارسال خطاب يصحح الخطأ، اذ كانت ترد هكذا: ( والصابرين الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا اليه راجعون) و صحتها بالطبع ( و بشر الصابرين...). اما البيت الشعري الذي كان يظهر بثبات مضطرد في مقدمة غالبية مواد النعي و الرثاء وكأنه مقرر دراسي رسمي فهو: ( كل ابن انثي وان طالت سلامته / يوما علي آلة حدباء محمول ). والغريب ان هناك بيت شعري اخر كان يظهر في مقدمة المواد المشتملة علي تنويهات و تهانئ ولادة الاطفال كما يظهر في ذات الوقت في مقدمة تنويهات و تهانئ نجاح الابناء في المدارس و انتقالهم بين المراحل، يقول البيت: ( نعم الاله علي العباد كثيرة / و أجلهن نجابة الابناء )، و كنت اري في ذلك امرا مدهشا، ولكن من الواضح ان البعض كان يفهم كلمة ( نجابة ) الواردة في البيت بمعني الانجاب اوالولادة، بينما فهمها الآخرون بمعني التفوق الدراسي! و كانت للتهانئ الخاصة بترقيات الموظفين ايضا اسلوبها شبه الموحد الذي لا يطاله التغيير فكنت في الغالب اقرأ موادا من نوع ( علي ربوة خضراء من ربي الخدمة المدنية تمت ترقية الزميل فلان بقسم المخازن الي الدرجة جي). و الدرجة (جي) درجة مرموقة يشغل صاحبها وظيفة رئيس كتبة و تعلوها الدرجة (اف) و هي مرتبة " باشكاتب "، و تكتسب الدرجة اف اهمية خاصة كون ان من يصلها يكون مستحقا لتصاريح السفر بالدرجة الاولي في قطارات السكة الحديد. اما الترقيات للدرجات القيادية فانها في اكثر الاحوال تتضمن تلك الجملة الشهيرة الكثيرة التكرار ( ان فلانا لا يُهنّأ بالترقية و انما تُهنأ الترقية به). و كانت تنويهات و تهانئ الخطوبه و الزواج تأتي بدورها في صياغات متشابهة من شاكلة: ( تم عقد قران الشاب الوجيه فلان من قسم هندسة السيمافورات علي ربة الصون و العفاف فلانة من قسم الكنترول.)



    من عجائب تصاريف القدر ان ذلك البولتين شكّل في يوم ما دليل الادانة الوحيد ضد نائب مدير عام مصلحة السكة الحديد و تسبب في اعتقاله و فصله من الخدمة و حرمانه من المعاش. و الذي حدث هو ان موظفا ذهب الي المشرف علي تحرير البولتين بقصيدة تعرّض بالرئيس جعفر نميري و تسئ اليه، وذلك بعد انقلاب الرائد هاشم العطا في يوليو ١٩٧١ مباشرة، و لكن المشرف رفض استلامها لان موعد استلام المواد و هو الثانية عشر ظهرا كان قد فات، ولم يعجب الموظف ذلك الموقف فذهب شاكيا الي نائب المدير العام محمد عمر ميرغني ( و كان الاخير في بعض الروايات شيوعيا وثيق الصلة بجناح عبدالخالق محجوب) فكتب نائب المدير العام بخط يده و توقيعه و علي ورق مكتبه الرسمي توجيها بنشر القصيدة فورا، و قد تعطلت طباعة البولتين في ذلك اليوم بعض الوقت نتيجة للتأخير الناجم عن الاصرار علي نشر القصيدة و توجيه نائب المدير العام في هذا الصدد. و لا زلت اذكر البيت الاول من تلك القصيدة بعد مرور سبع و ثلاثين عاما علي نشرها وهو: ( نميري يا نمر الورق / كم مرة حذرناك ). و الذي حدث بعد ذلك من اندحار انقلاب الرائد هاشم العطا و عودة النميري للحكم مما معلوم للكافة بالضرورة. و قد قام المشرف علي تحرير النشرة لاحقا حين وصلت التحقيقات حول المواد المنشورة خلال ايام الانقلاب الي عتبة مكتبه بابراز التوجيه المكتوب من نائب المدير العام، و ما هي الا سويعات حتي صدر قرار عزل النائب و اقتيد مخفورا الي معسكر سلاح المدفعية حيث اودع جميع الشيوعيين الذين تم القبض عليهم بتهمة تأييد الانقلاب. و يبدو لي ان الرئيس السابق جعفر نميري كان يعرف نائب مدير السكة الحديد هذا معرفة شخصية و انه لم ينس موقفه المساند لهاشم العطا ابدا برغم تطاول السنين. و برهان ذلك ما كان منه عندما رُفع اليه التماس باعادة و تسوية و تحسين المعاش الخاص بالرجل. و كان استاذنا حسين صديق الامين العام لمجلس الوزراء في مبتدأ الثمانينات، و الذي تربطه فيما يبدو علاقة ما بنائب مدير السكة الحديد المعزول اذ ينحدر كلاهما من منطقة القولد، قد بادر باعداد مذكرة خاصة يلتمس فيها الاذن بتسوية معاش الرجل ثم رفعها للرئيس نميري علي ظن ان الرئيس لن يتنبه الي الاسم او انه ربما نسي واقعة قصيدة البولتين من اساسها بعد مرور اكثر من عشرة سنوات عليها. و كنت في ذلك الزمان المفتش المسئول عن اعداد ما كان يسمي ب ( صحيفة يوميات رئيس الجمهورية) فأدرجت المذكرة في قعر صحيفة اليوميات وكان الظن الا يتنبه اليها الرئيس و ان يؤشر كالمعتاد بكلمة (علم ) في اعلي الصفحة الاولي دون قراءه المذكرات. ولكن وخلافا للتوقع فقد عادت المذكرة المتضمنة للالتماس و عليها تأشيرة الرئيس مما يدل علي انه فتحها و قرأها، و قد كتب في قلب الصفحة بقلمه الاسود و بخط كبير: ( و لا مليم ) مشفوعة بتوقيعه ( نميري)!
                  

06-18-2008, 04:27 PM

abubakr
<aabubakr
تاريخ التسجيل: 04-22-2002
مجموع المشاركات: 16044

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سباحة حرة في نهر عطبرة (مصطفي البطل) (Re: abubakr)



    سباحة حرة في نهر عطبرة ( 2 )

    http://sacdo.com/web/forum/forum_posts.asp?TID=3626

    مصطفي عبد العزيز البطل

    [email protected]





    عند سن العاشرة تقريبا و انا في السنة الاخيرة من المدرسة الاولية عرفت ان الناس ينقسمون الي شايقية و جعليين و دناقلة و هدندوة و دينكا و فور وغير ذلك، و عرفت علي وجه التحديد انني و اهلي نوبيون. و كان التقليد ان تسافر الاسرة مرة كل عام الي وادي حلفا لقضاء كامل الاجازة المدرسية الصيفية و ذلك تحت الشعار الخالد: ( عشان الاولاد يعرفوا اهلهم و يرتبطوا ببلدهم). و لزمن ما بعد ذلك استقر وجداني علي ان حلفا و الحلفاويون هم اصل الحياة و مركزها و اساس كل شئ و ان بقية الناس و الاشياء تدور حولهم كما تدور الكواكب حول الشمس. و قد انبنت عقيدتي تلك علي شواهد متعددة. واحدة من تلك الشواهد ان الحلفاويون في ذلك العهد لم يكونوا يقبلون تزويج بناتهم لغير الحلفاويين. وكان اذا تزوج احد الحلفاويين من فتاة غير نوبية من القبائل الاخري – و ذلك في حكم النادر الذي لا حكم له - و اراد احدهم الاشارة لذلك الزواج قال: ان فلانا " تزوج سودانية"! و لانني اثناء فترات اقامتي في وادي حلفا كنت اقضي غالب ايامي في منازل اهل والدتي فقد كان من الطبيعي ان يكون ذلك الجانب من الاسرة الممتدة هو اول من اتعرف عليه واكثر من تترسخ علاقتي به. كان جدي عباس افندي محمد ابراهيم من اوائل خريجي المدارس في السودان وقد عمل موظفا اداريا متميزا في مصلحة السكة الحديد حتي وصوله سن التقاعد، و كان يتحدث اللغتين العربية و الانجليزية بطلاقة الي جانب الرطانة النوبية. و اذا كانت الاشارة لاجادة اللغة العربية غير ذات مغزي عند غالبية السودانيين حيث ان العربية لديهم هي " لسان الام" كما يقول الفرنجة ، فان الامر يختلف عند كثير من النوبيين الذين كانوا يتحدثون النوبية كلغة اولي ثم يتعلمون اللغة العربية بعد ذلك في المدارس تماما كما يتعلمون اللغة الانجليزية. وهكذا جازت الاشادة بفلاح من افلح منهم في اجادتها. و مسألة اللغة هذه كانت من أعوص المشكلات التي واجهتني في سنوات طفولتي فقد كان الكل في وادي حلفا يتحدث الرطانة النوبية الي جانب نوع من العربية يشابه في فكرته و مضمونه ما يعرف في جنوب السودان باسم "عربي جوبا" وان كان الاخير اكثر ابانة و فصاحة. و اذكر ان امرأة نوبية عجوز من اهلي ارادت ان تقول لي بالعربية-الحلفاوية انها تعاني من الصداع فقالت وهي تتوجه الي بالكلام: ( راسك بتوجعني). و لم افهم كيف ان رأسي انا يمكن ان "يوجع" شخصا آخر! غير انني مع توالي الايام تمكنت من فك كثير من ألغاز اللغتين، الرطانة و "عربي حلفا"، تماما كما فك شامبليون الغاز اللغة الهيروغلوفية، فأصبحت افهم الرطانة النوبية فهما جيدا وان لم اتقن الحديث بها. و لامر ما ساد اعتقاد داخل العائلة الممتدة انني فشلت في تعلم الرطانة، و قد رأيت ان من مصلحتي ان اترك ذلك الاعتقاد ينمو و يضطرد دون تصحيح، اذ كنت قد لاحظت ان الكبار اذا ارادوا الحديث في موضوعات معينة في حضوري قلبوا من العربية الي الرطانة النوبية علي ظن من الوهم انني لا استوعب ما يقال، فكان ترك هؤلاء "علي عماهم" افضل واكثر فائدة بالنسبة لي من تبصيرهم !



    و مع ان جدي عباس افندي محمد ابراهيم كان من ذوي الكسب المقدر تعليما و توظيفا و مركزا اجتماعيا، الا ان عميد ذلك الفرع من العائلة كان بلا منازع هو ابراهيم احمد ابراهيم شقيق جدتي طاهرة احمد ابراهيم. و ابراهيم احمد هو الذي يرد اسمه في الكتب و المدونات باعتباره رئيس مؤتمر الخريجين و رافع المذكرة الشهيرة التي انهت الي ممثلي المستعمر رغبة المؤتمر في حصول السودان علي استقلاله، وقد تولي وزارة المالية في اول حكومة بعد الاستقلال. و كان ابراهيم هذا رجلا مهابا يتمتع بسلطة معنوية اسطورية في اوساط العائله و بين سائر الحلفاويين و ربما بين كل من عرفه و خبر سيرته من السودانيين، فلا اذكر انني سمعت حديثا عنه قط طيلة حياتي في غير لغة التبجيل والاجلال باستثناء ما سمعته من شخص واحد فقط هو الشيخ حسن الترابي. فقد وردت سيرة ابراهيم احمد عندما كنت اجالس الشيخ في رفقة الصديقين الاستاذين حسين خوجلي و خالد فتح الرحمن في العام ١٩٩٥، فقال الشيخ الترابي عن ابراهيم احمد انه كان متشببا بالانجليز متشبها بهم في هيئته و سلوكه، ثم شرع في نوع من التعبير الحركي الجسدي في محاولة لتمثيل جانب من ذلك التشبه المزعوم، و اتبع ذلك بفاصل قصير من ضحكاته المميزة الساخرة. و لعل هذه فرصة مؤاتية كي انهي اليك، ايها العزيز الاكرم، ان في نيتي ان اكتب سلسلة حلقات عن فترة عملي في جوار عدد من الرؤساء و الوزراء و كبار رجال الدولة ابتداء من العام ١٩٧٩، حيث بدأت حضور جلسات مجلس الوزراء واللجان العليا و الوزارية والاختلاط برجال السلطة في مختلف العهود والتداخل معهم و مرافقتهم في المهام الداخلية و الخارجية وذلك حتي العام ١٩٩٠، او لعلني اقف بها عند ٣٠ يونيو ١٩٨٩ فاتفادي بذلك التطرق الي الاشهر التي قضيتها في خدمة نظام الانقاذ لاسباب تعرفها واعرفها. وسيرد في تلك الحلقات بالضرورة الحديث عن شخصية الشيخ حسن الترابي و ساوافيك عندها بالقرائن والادلة علي ان عشقه الخرافي اللامتناهي للتطفيف من اقدار الاخرين و تقزيمهم و السخرية منهم بدون احتراس او حذر من ناحية، و ضعف حسه الامني واستخفافه بما حوله و من حوله من ناحية اخري، كانا السبب الفعلي والاساسي وراء قرار الرئيس السابق جعفر نميري فض تحالفه مع الاخوان المسلمين و محاصرتهم و اعتقالهم قبيل اسابيع من اندلاع انتفاضة ابريل عام ١٩٨٥، و ليس رغبة و ضغوط الادارة الامريكية ممثلة في نائب الرئيس جورج بوش الذي كان قد زار السودان وقتها كما يشيع في ادبيات الحركة الاسلامية.



    كان لابراهيم احمد اشقاء اخرين جميعهم ذوي مراكز اقتصادية واجتماعية مرموقة في العاصمة و غيرها فضلا عن اصهار ذوي بأس مثل زوج شقيقته القاضي محمد صالح الشنقيطي الذي تولي في مرحلة الاستقلال مناصب دستورية رفيعة. و كانت والدتي اذا نشب شجار بينها و بين والدي ذكرته بان والدها هو عباس افندي و ان خالها هو (الوزير) ابراهيم احمد، لكأنها تلمح من طرف خفي بأن اسرة والدي ليست علي ذات القدر من الرفعة و علو الشأن. و لم يكن والدي يقيم وزنا لذلك الهتر و يقول لنا ان والدتكم ناقصة عقل و دين و انها تهرف بما لا تعرف. و الحق ان والدي كان هو نفسه ذي صفة و مقام و هيئة بمقاييس ذلك الزمان فقد اكمل دراسته بمدرسة حلوان الثانوية في ضواحي القاهرة بمصر قبل ان يأتي الي السودان ليعمل بمصلحة السكة الحديد في اربعينات القرن الماضي. و كان شقيقه الاكبر كامل مهندسا تخرج في جامعة الملك فؤاد ( القاهرة حاليا) و هو من اوائل من هاجروا للعمل في المملكة السعودية حيث تعرف علي محمد بن لادن، والد اسامة بن لادن، و عمل معه و قيل انه شاركه في بعض المشروعات الكبري، و لكن ارادة الله شاءت ان يقضي نحبه في حادثة صعق كهربائي اثناء عمله بارض الحجاز. ثم ان خال والدي مباشرة هو العمدة محمد داؤد عمدة حلفا دغيم، و العمودية راسخة عند اسرة اخوال ابي منذ عهد سحيق. و عمودية دغيم ليست مما يستهان به اذ ان دغيم هي رأس وادي حلفا و عمودها و ذروة سنامها. و يذكر السودانيون هتاف النوبيين الشهير الرافض لاغراق النوبة وتهجير سكانها الي منطقة خشم القربة في بداية الستينات: ( حلفا دغيم و لا باريس). و هناك هتاف آخر منغم و مقفّي كان البعض يهتف به عندما يستبد بهم الغضب فيخرجهم عن طورهم وهو: ( حلفا دغيم و لا برلين / خشم القربة يطلّع د.....). و علاوة علي ذلك كان لوالدي اقرباء اصابوا بعض النجاح و كان هو يعتز بهم و بنجاحهم اكثر من اعتزاز هؤلاء الاقرباء انفسهم بانفسهم، ومن ابرز هؤلاء ابن خالته و صديقه عوض عبد المجيد الذي وصل في النصف الثاني من الستينات الي مرتبة نائب محافظ بنك السودان، و لكن والدي كان اذا تحدث عنه الي الاخرين قال انه " محافظ بنك السودان". وقد حدثت في أمر هذا التجاوز احد اخوالي فرد عليّ بالقول: ( ما اصلو ابوك تربية مصريين)! غير ان عوض، مهما يكن من أمر، لم يخيب لأبي ظنا فقد تولي بالفعل في العام ١٩٧٠ منصب محافظ البنك المركزي ثم زاد عليها فأصبح وزيرا للمالية في العام ١٩٨٥. و مع التسليم بان مقارنة عوض بابرهيم احمد غير واردة بتاتا من الوجهة الموضوعية، فان توليه الوزارة قد حسم - علي الاقل من الزاوية الحسابية المحضة - مسألة التنافس الوزاري بين الفريقين بالتعادل الايجابي: وزير واحد لصالح والدتي مقابل وزير واحد لصالح والدي!



    و برغم اعتزاز والدي الشديد بأصله النوبي وبالنوبيين عموما و برغم ان عطبرة كانت تحفل باعداد كبيرة من هؤلاء فان جميع اصدقائه المقربين في المدينة كانوا من غير النوبيين باستثناء احمد امين احمد المهندس الفني في كبانية عطبرة. و يرجع ذلك بصفة اساسية الي ان المجموعة الصوفية الصغيرة التي ينتمي اليها لم تكن تضم في صفوفها نوبيين اذ كان اغلب هؤلاء قد انخرطوا في صفوف جماعات اخري مثل البرهانية و الاحمدية. و لا اكاد اليوم اذكر اسما لتلك المجموعة التي كان والدي جزءا منها، و ربما لم تكن تلك المجموعة تشكل طريقة صوفية بالمعني المتداول، و لكنها علي اية حال كانت تجتمع يوميا للصلاة و القراءات و التجويد و الدروس الدينية في زاوية الحاج ميرغني مختار ( لعل الاسم الصحيح ميرغني مصطفي) بحي العمال. وكان مرشد هذه الجماعة هو الشيخ ماهر اسماعيل شاهين الذي كان يقيم في مصر و لكنه يحضر في اوقات معلومة من كل عام الي عطبرة حيث يتزايد عدد المحتشدين في الزاوية لسماع دروسه اضعافا مضاعفة اذ كان الكثير من غير اعضاء الجماعة الراتبين يحضرون دروس الشيخ القادم من مصر بانتظام. و كان الشيخ ماهر عند حضوره للعاصمة بعد انتقال والدي اليها عام ١٩٨٠ يقيم و يلقي دروسه بمنزل الوالد الحكومي بحي السكة حديد بموازاة جامع شروني. و من اصدقاء ابي المقربين في عطبرة الي جانب الحاج ميرغني، الحاج محمد صالح كرار، الذي عرفت انه كان عضوا في جماعة الاخوان المسلمين عندما قدموه مرشحا لهم في الانتخابات النيابية في النصف الثاني من الستينات، و كذلك الحاج علي ميرغني، وهم من رؤساء العمال و يطلق علي هؤلاء في ورش السكة الحديد رتبا و مسميات مثل ( ملاحظ ) و ( كمندة). و خارج المجموعة الدينية هذه و اغلبها من العمال كان للوالد اصدقاء من كبار الموظفين مثل الطيب عباس مدير شئون المستخدمين و نائبه كرم الله حامد. و من اصدقائه ايضا صموئيل جورجيوس صاحب "محلات الطير الابيض" في سوق عطبرة. و كانت جميع مستلزمات المنزل تأتي شهريا بكميات كبيرة و بانتظام من محلات الطير الابيض، وقد اعرض الوالد و رفض رفضا باتا الانصياع للضغوط التي مورست عليه من البعض للتحول من الطير الابيض الي جمعية الموظفين التعاونية اذ كان شديد التقدير لصديقه صموئيل و كثيرا ما حكي لنا عن بداياته المتواضعة و كفاحه المثابر و نجاحه المستحق.



    شكلت مرحلة الدراسة الوسطي عندي نقلة نوعية من حيث الاتساع النسبي للوعي العام والانفتاح علي قضايا عليا و قد تطور كل ذلك و تبلور في شكل اهتمامات ذات طابع شمولي. و كثير من الفضل يرجع الي بعض المعلمين الذين كان لديهم يقين مطلق بدور وواجب كل من نال قسطا من التعليم في التصدي لقضايا المجتمع بالفكر والعمل. و كنت شديد الاعجاب و التأثر بهؤلاء المعلمين الذين كان الهم العام و تنمية المجتمع و تقويمه يحتل بؤرة تفكيرهم فكانت حياتهم تنقسم بين التدريس و تلمس واستكشاف ملكات و مهارات الطلاب والاجتهاد في تجليتها و تطويرها، و بين العمل علي قيادة المشروعات والبرامج علي مستويات المدرسة و الحي و المدينة ثم علي النطاق القومي. و من هؤلاء المعلمين الذين رسخت اسماؤهم في ذهني المرحوم الاستاذ حسن محمد احمد الجابري و الاستاذ عبد الرحمن سوار الدهب. كان الاول عضوا في الحزب الشيوعي، و قد كان تعقبي لطريق الجبهة الديمقراطية والحزب الشيوعي بعد ذلك نتاج تلقائي لرغبة عارمة في الاقتداء بنموذجه و تحري نمط حياته الذي بدا لي مكتظا بالحيوية الخلاقة حافلا بالثراء المعنوي. في بداية المرحلة الوسطي و بتشجيع مثابر من استاذي عبد الرحمن سوار الدهب كتبت عددا كبيرا من القصائد الشعرية دونتها في كراسة كاملة و لم اتوقف عن المغامرات الشعرية حتي العام ١٩٧٠ حين كتبت قصيدة بمناسبة وفاة جمال عبد الناصر و بعثت بها الي صحيفة الايام التي قامت بنشر بيتين او ثلاثة منها بعد ادخال عدة تعديلات عليها بواسطة المحرر، و كانت هذه اول مرة اري فيها اسمي مطبوعا علي صفحات جريدة و قد تملكتني بعدها ( حمي النشر) و سيطرت علي احلام اليقظة. اقلعت عن كتابة الشعر بحثا عن الطريق الاقصر الي عالم الصحافة و شرعت في كتابة الموضوعات النثرية و ارسالها بالبريد الي خالي المرحوم فؤاد عباس الذي كان وقتذاك صحافيا مرموقا. و قد نشرت لي جريدة ( الصحافة ) اول مقال بعنوان ( اللغة العربية مصدر فخر وإلهام لنا ) و اظن انني سرقت فكرته من احدي مواد مجلة ( العربي) الكويتية. و تلا ذلك المقال عدة مقالات و مواد صحفية نشرت في كل من ( الصحافة) و ( الرأي العام). و كان يخيل الي في كل مرة تنشر لي فيه احدي الصحيفتين مقالا ان كل الدنيا قد قرأته و اعجبت به، فكنت اذهب الي المدرسة في الصباح الباكر و اتعمد المرور امام مكتب المدرسين مثني و ثلاث و رباع علي امل ان يستدعيني احدهم و يقول لي انه قرأ مقالي. وقد حدث ذلك فعلا في عدد من الحالات و كان الاعجاب والاطراء من المعلمين يجعلني اتيه زهوا و يجعل رأسي ينتفخ حتي ليكاد ينفجر. لم اكن اعرف اي طالب غيري في مرحلتي العمرية او الدراسية يكتب مقالات تنشرها الصحف في مدينة عطبرة كلها. و قد استنمت الي هذه القناعة و ارتحت اليها حتي لاحظت ذات يوم مقالا في صحيفة ( الرأي العام) يحمل توقيع ( عبد الوهاب الافندي - مدرسة بربر الوسطي) فشعرت بشئ من القلق و التوجس. و ظهرت بعد ذلك عدة مقالات بنفس التوقيع، و كانت و الحق يقال عالية المستوي من حيث الموضوعات و الصياغة. ولكن نفسي مع ذلك زينت لي ان التنافس القائم بيني و بين عبد الوهاب الافندي لا بد ان ينتهي لصالحي في اجل قريب، فمن يكون هذا الافندي و ماذا تكون بربر حتي يخرج منها كاتب ينافسني في مجال تفوقي و نبوغي الذي شهد به الاعداء قبل الاصدقاء؟! و لم تكن بربرعندي تعدو كونها قرية كبيرة اقرب الي التخلف علي هوامش مدينة عطبرة. وقد عشت علي هذا التصور آمنا مطمئنا لفترة زمنية غاب خلالها الافندي تماما عن شاشات الرادار التي كانت متيقظة لرصد تحركاته، و استيقنت ان الفتي الريفي لابد ان يكون قد ثاب الي رشده و عرف حدوده فلزمها.



    و لكن النبأ العظيم جاء به من لم نزوّد عند النصف الثاني من العام ١٩٧٧ في نهاية السنة الاولي من المرحلة الجامعية، و كنت اقضي جانبا من العطلة السنوية في مدينة باريس. و أثناء تجوالي في شارع الشانزليزيه الشهير في قلب العاصمة الفرنسية في صحبة الصديق و رفيق الدرب ابوبكر عبدالله محمد، الذي يشغل حاليا وظيفة قيادية في جهاز السودانيين العاملين بالخارج، لفتت انتباهي بعض المجلات العربية متراصة علي شماعة حديدية. و كانت المجلة الاولي في العالم العربي آنذاك هي مجلة ( المستقبل) التي يرأس تحريرها نبيل خوري بعد ان ترك رئاسة تحرير ( الحوادث). اشترينا مجلة ( المستقبل) بعد ان تقاسمنا التكلفة - ابوبكر و انا – مناصفة، وغلاء الاسعار في باريس عبر الازمنة هو من قبيل " العلم القضائي" في لغة المحاكم. و ما ان وقعت عيناي علي صفحة الغلاف حتي كدت اسقط علي الارض مغشيا عليّ من هول الصاعقة التي وقعت علي ام رأسي، فقد رأيت اسم عبد الوهاب الافندي علي غلاف المجلة بحروف بارزة. و بعد ان استجمعت اقطار نفسي شيئا فشيئا و جهدت في التركيز قرأت افتتاحية المجلة بقلم رئيس تحريرها نبيل خوري وفيها كتب ان هيئة تحرير ( المستقبل) قد نظرت في سلسلة مقالات بعث بها اليها عبد الوهاب الافندي ووصلت بالاجماع الي قناعة كاملة مؤداها ان ما حوته تلك المقالات يمثل افضل ما كتب في شأن القضية الفلسطينية و جذورها في السنوات العشر الاخيرة، و لذلك قررت المجلة نشر جميع المقالات علي صفحاتها متسلسلة في عدة حلقات. وتهاويت في صمت الي مقعد احدي المقاهي وقد استغرقني تماما احساس ملاكم ملقي علي الارض بعد ان تلقي لتوه ذلك الشئ الذي يسمونه في مضمار رياضة الملاكمة: الضربة القاضية الفنية!
                  

06-18-2008, 04:29 PM

abubakr
<aabubakr
تاريخ التسجيل: 04-22-2002
مجموع المشاركات: 16044

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سباحة حرة في نهر عطبرة (مصطفي البطل) (Re: abubakr)

    غربا باتجاه الشرق




    سباحة حرة في نهر عطبرة ( 3 )



    مصطفي عبد العزيز البطل

    [email protected]







    تعودت ان اتلقي بصفة راتبة عقب كل مقال عددا مقدرا من الاتصالات الهاتفية و الرسائل الالكترونية تتناول بالمراجعة و التعقيب و التسديد بعضا من الجوانب التي تجوس خلالها مقالاتي. وهكذا فلم تكن الاتصالات و الرسائل التي تلقيتها عقب حلقة الاسبوع الماضي من سلسلة " نهر عطبرة " لتختلف عن غيرها في طبيعتها و محتواها اجمالا، سوي ان بعضا منها ساقتني الي دروب وعرة لم اكن قد تبينت شعابها، و اخذت عليّ مآخذ لم تكن لتخطر لي ببال. فمما أخذه عليّ البعض من بني جلدتي النوبيين، و في طليعتهم صديقنا الدكتور سعد خليل الخبير الاقتصادي بالامانة العامة للتخطيط التنموي بدولة قطر، انني استخدمت عدة مرات تعبير ( الرطانة ) النوبية عوضا عن تعبير ( اللغة) النوبية، و في ذلك تطفيف من قدرها وتجانف للاحترام الواجب للتراث النوبي. و قد ثاب الي سعد و زمرته في ذلك الرأي نفر من غير النوبيين اذكر منهم صديقنا المقدم شرطة (م) لوك داك المقيم باطلانطا بولاية جورجيا و احد الكتاب الصحفيين المتميزين في صحيفة ( سودان تربيون). و قد رأي هؤلاء ان في استخدامي لكلمة ( رطانة ) مسايرة غير محمودة لذلك الفريق من قومنا في الوطن الكبير الذين دأبوا علي تحقير اللغات السودانية غير العربية باطلاق ذلك النعت عليها. و الحق انني لم اكن قد عرفت قط او جال بذهني في يوم من الايام ان للفظة " رطانة " مدلولا سالبا، فقد سمعت النوبيين، تماما كما سمعت سواهم من غير النوبيين، يرددونها في معني اللغة. و الحال كذلك، و تمثلا بهدي القرآن المجيد: ( و أسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون) فقد حملت الامر " صرة في خيط " ووضعته عند عتبة الاخ الاكبر ابو بكر سيد احمد المهندس المعماري بدولة الامارات العربية، ثم حملته من هناك مرة اخري لاضعه عند عتبة استاذنا الدكتور عبدالله علي ابراهيم الاستاذ بجامعة ميسوري، و كلاهما من اهل الذكر في ما نحن بصدده، فأبي بكر من المتخصصين في النوبيات و يعتبر موقعه الالكتروني علي الشبكة الدولية ( ذي نوبيان دوت كوم) مرجعا دوليا في القضايا و الابحاث النوبية، كما ان عبدالله من الثقات في حقل العلوم الاجتماعية و التراث الشعبي و له في مضمار اللغات عدة مؤلفات لعل اشهرها ( الماركسية و مسألة اللغة في السودان).



    قرر ابو بكر ان التطلع الي استخدام تعبير " اللغة النوبية " تطلع مشروع و مسنود من نواح عديدة، و اكد انه هو شخصيا يفضل استخدام تعبير " اللغة" النوبية علي ما عداها. الا انه مع ذلك لا يري بأسا من استخدام لفظة ( رطانة)، فالحساسية الفاشية تجاه الكلمة ربما كان مصدرها الاصل اللغوي العربي، فالرطانة عند العرب هي الكلام غير المفهوم و " الرطن" او " الرطانة" هو صوت الجمل الهائج، و قد اطلق العرب ذلك الوصف علي كل كلام مرتجل غير مكتوب يعجزون عن فهمه كما اطلقوه علي اللهجات المحلية، بل و حتي علي اللغات الحية غير العربية. و استقدام العرب لفظة (رطانة ) من صوت الجمل وتوظيفها لوصف اللغات غير المفهومة لا يعني بالضرورة اضمار الاساءة و الاحتقار فدأب العرب علي استنباط الالفاظ والمصطلحات من بيئاتهم المحلية التي كان " للحيوان" فيها نصيب " الاسد" من مما لا ينتطح فيه "عنزان". و بحسب ابي بكر فان اللغة النوبية كانت موجودة و راسخة كلغة كاملة كتابة و قولا قبل قرون عديدة سبقت الوجود العربي المؤثر في السودان القديم الذي نتج عنه سيطرة اللغة العربية باعتبارها اللغة الغالبة قراءة و كتابة. و علي نحو تدريجي فقدت اللغة النوبية عنصر الكتابة فتحولت الي لغة مرتجلة وبالتالي الي رطانة، اذ ان لفظة " لغة " عند كثير من العلماء لا تطلق الا علي اللغة المكتوبة ذات الحروف الابجدية. و قد نشطت في العقود القليلة الماضية جهود احياء اللغة النوبية و تثبيتها بالبحث عن اصولها المكتوبة علي يد باحثين دولييين ووطنيين. و من ابرز هؤلاء الراحل جيرالد براون الذي توصل الي ان للغة النوبية حروف استنبطت من ابجديات كانت شائعة في ازمان سابقة في اللغات الاغريقية و القبطية. و ان كان هناك من العلماء الاخرين من تمسك بأن ان النوبية المكتوبة كانت ماخوذة فقط من القبطية. و نوّه ابو بكر بجهود مركز الدراسات النوبية و التوثيق بالقاهرة في هذا الصدد المتمثلة في طباعة و نشر كتيبات لتعليم اللغة النوبية بعد ان تم تحقيق حروفها وفقا لابحاث قام بها المرحوم الدكتور محمد مختار كبارة. و اضاف بان الطريق لاحياء اللغة النوبية كلغة كاملة بجعلها لغة كتابة يستلزم جهدا اهليا و رسميا بإقراراستخدامها كلغة عمل و دراسة و التوقف عن تهجير النوبيين من مناطقهم الاصيلة تحت دعاوي بناء سدود تغمر الارض و الارث و التاريخ واللغات.



    اما الدكتور عبد الله علي ابراهيم فقد اختار ان يقف علي يمين المهندس ابي بكر اذ لم يطب نفسا ولم ينشرح صدرا للفظة ( رطانة ) فلم نر عنده استعدادا لمسايرة ابي بكر في ميله لتخفيف خطورة اللفظة و محاولة "التعايش السلمي" معها حتي يكتمل للنوبيين مشروع كتابة لغتهم من جديد. كما لم نلمس عنده هوي الي ترجيح حسن النية الراسخ في اصل التكوين العربي للتعبير، فهو يرفض تصنيف و توصيف اللغات المحلية علي انها رطانات قولا واحدا، و يري في قسمات هذا التوصيف بعض ملامح الترفع و التعالي من قبل المتكلمين بالعربية من الجماعات السودانية علي الناطقين بغيرها. وهو يفصح عن موقفه ذلك بجلاء تام في كتابه الذي سبقت الاشارة اليه ( الماركسية و مسألة اللغة في السودان)، و ذلك حين يناقش افكار الدكتور سعيد محمد احمد و الدكتور سيد حامد حريز حول اللغة القومية فيقول: ( و يقتضينا الامر ان نزداد حذرا من " ود العرب" حين يسمي سعيد محمد احمد اللغات غير العربية في السودان " لهجات " فهذه التسمية تعديل طفيف لكلمة " رطانة " التي يصف بها اي " ود عرب " عادي كلام اي ناطق بغير العربية. وفي الكلمة ظلال هزء و احتقار لا تخفي: " الطين في طينو و العبد في طينو "). و يمضي عبدالله قدما ليحدد لنا الفرق بين اللغة و الرطانة او اللهجة فيقول: ( فاللغة هي ذلك النظام الكامل من الاصوات و النحو و القاموس بينما اللهجة تنويع او آخر في احد عناصر اللغة الثلاث، فالرباطابية لهجة في اللغة العربية كما ان دينكا بور مثلا لهجة في لغة الدينكا. و حين تسمي الدينكا لهجة فلا بد انك قد فرغت من تحديد اللغة التي هي تنويع فيها وهذا ما لا يتطرق اليه سعيد والاخرون). و في اطار نقده لمقولة الدكتورسعيد بأن الذي يعوق اللهجات السودانية المحلية من ان تترقي لتصبح لغات هو انحصارها في اماكن ضيقة وسط عدد قليل من الناس فان عبدالله يصف سعيد بانه ( يعالج مسألة اللغة هنا كمن ينظر في كشف لترقيات الموظفين ). كذلك يتشكك عبدالله في نظرية ضرورة وجود ابجدية مكتوبة كشرط لازم لاكتساب صفة اللغة فيقول بان انشاء ابجدية مكتوبة لم يعد بالامر الخطير او المستغلق علي علم اللغة و الشواهد الناهضة علي ذلك كثيرة منها انه لم تتحقق لبعض اللغات القومية في الاتحاد السوفيتي [ سابقا ] ابجدية مكتوبة الا بعد الثورة بفضل عمليات محو الامية الشاملة، و منها ما كان من امر اختيار الصومال مؤخرا الابجدية الرومانية لكتابة لغتها.



    اما انا و بعد ان استجمعت من زبدة ما تقدم ان التعبير الاسلم و الاحوط هو " اللغة النوبية " فسيكون دأبي بدءا من يومي هذا هو استخدام ( اللغة) كلما دعا داع الاستخدام بدلا عن ( الرطانة)، و لكنني اذا سمعت الاخرين يقولون عنها رطانة فسأنحو منحي ابي بكر في الاسماح و سعة الصدر والتماس المخارج فأتفادي بذلك منطق عبدالله و تعقيداته و ما يمكن ان يجره عليّ من جلبة و غلبة! و نحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات ان سلطتنا التشريعية ممثلة في المجلس الوطني كانت قد اجازت بالاجماع قبل اشهر قلائل ( مشروع قانون مجلس تطوير و ترقية اللغات القومية لسنة ٢٠٠٧ ) الذي اعترف بالرطانات و اعتبرها ( لغات قومية) في مظهر متقدم من مظاهر احتفاء الدولة بالتعددية و التنوع اللغوي، وهو قانون يضع بلادنا في بداية الطريق القويم لسودان جديد متماسك و متجانس و يمثل اساسا راسخا للوحدة الوطنية. وقد سرني ان بعضا من نواب المجلس قد مضوا قدما فطالبوا الحكومة بالشروع في وضع خطط لاقامة اذاعات و تلفزيونات تبث برامجها بكافة اللغات القومية.



    و ربما يصح ان استودعك الله عند هذه النقطة و اتركك في حال سبيلك فقد اكملت مدارسة الامر الذي نهضت اليه ووقفت بك عند خلاصته. ولكنني كما عرفتني – ايها العزيز الاكرم – كثير الكلام، تماما مثل حبيبنا الامام الصادق المهدي الذي قال في شأنه الفريق عمر البشير في بيان الانقلاب رقم واحد الذي شنف به آذاننا صبيحة ٣٠ يونيو ١٩٨٩ أنه ( ضيع وقت البلاد في كثرة الكلام). وقد زادني ذلك البيان الاغر علما اذ لم اكن قد عرفت قبلها قط ان للبلاد ( وقت )! حفظ الله الفريق البشير و نفعنا بعلمه. و كثرة الكلام يستتبعها بالضرورة كثرة الكتابة، و لا استطيع ان اقاوم اغراء موافاتك ببعض ما وقعت عليه و انا اقلب في دروب الرطانة و عقابيلها. و من ذلك كتاب كامل باسم ( الرطانة و احكامها) صدر عن دار ابن الاثير بالرياض عام ١٤٢٧ للهجرة للشيخ خالد بن علي بن محمد الحيان و يتناول الكتاب ستة اتجاهات فقهية في صدد الرطانة، ويضم فصلا كاملا بعنوان ( اسباب الخلاف في تعلم الرطانة) كما يضم فصولا عن الاشكالات الواردة في جواز تعلم الرطانة وقراءة القرآن بالرطانة و الصلاة بها و الكلام بها في المسجد والدعوة الي الله وتفسير القرآن بها، و " حكم التحدث بين اثنين بها مع عدم فهم الثالث لها اسرارا عنه ". و لولا مشاغل الحياة لتقصيت الكتاب في مظانه واقتنيته لاتعرف علي احكام ديني الحنيف في امر لغتي النوبية في حالة رفض البعض لحجج الدكتور عبدالله علي ابراهيم و اصرارهم علي انها رطانة و ليست لغة. ولم تكن هذه هي المرة الاولي التي اقف فيها عند امر الرطانة و الدين فقد جالت هذه الموضوعات برأسي في زمن مضي حين قرأت للمرة الاولي كتاب الراحل جمال محمد احمد ( سرة شرق). فقد اورد جمال في كتابه ان بعض اهله في وادي حلفا كانوا يمارسون شعائرهم الدينية من صلاة و ادعية و غيرها بالرطانة، و مثال ذلك ان الرجل كان يتوضأ و يقف للصلاة فيهتف الله اكبر، ثم يقول (بالرطانة) ما معناه: ( اللهم اني دابتك فافعل بي ما تشاء) ثم يهتف بالتكبير ثم يخر ساجدا و هكذا! و كنت قد تذكرت جمال و سرة شرق عندما قرأت في احد المنتديات الاسلامية التي يديرها فقهاء سعوديون علي الشبكة الدولية سؤالا موجها من سائل يطمح الي التفقه في امور الدين. يقول السؤال: ( نرجو من فضيلتكم القاء الضوء علي احكام الرطانة في الاسلام مع ثبوت ان الامام علي قد رطن و جزاكم الله خيرا). و قد ادهشني السؤال اذ لم اكن علي علم بان في الاسلام احكاما للرطانة، و لم اعرف ان عليا كرم الله وجهه كان يرطن. و قد رد الشيخ الجليل بالقول ان سيدنا عمر رضي الله عنه نهي عن الرطانة مطلقا، كما ان مالك افتي بعدم جواز الاحرام بالرطانة و كذلك الدعاء بها. و اظن، ظن المجتهد الطامح الي الاجرين، ان الامر هنا يتصل بالعرب ممن كانت العربية لغتهم ثم احبوا ان يتحدثوا بغيرها، لا بغير العرب الذين لا يعرفون العربية ابتداءً، اذ كيف ينهي عمر عن الرطانة اطلاقا اذا كان المتحدثون بها لا يعرفون لغة غيرها؟ اما اذا كان علي ابن ابي طالب ( يرطن) بالفعل كما قال السائل فالامر يصبح اكثر تعقيدا. ولكنني اميل الي ان الامر بالنسبة لعلي رضي الله عنه لا يتعلق بالرطانه بالمعني المتداول بقدر ما يتعلق بالإغراب في اللغة اذ ان هناك جرارا من الاحبار دلقت في اقوال وعبارات منسوبة الي عليّ، كرم الله وجهه، و قد تعرض لها الكاتب الكبير عباس محمود العقاد في كتابه ( عبقرية علي) و نفاها عنه علي اساس ان اغلبها منحول و مختلق. و مثال ما هو منسوب الي عليّ من إغراب القول: ( و ما تربعلبنت قط )، اي: و ما شربت اللبن يوم الاربعاء قط. و في بعض الكتب الصفراء صفحات و صفحات في كراهية شرب اللبن يوم الاربعاء. و اري حاجبيك يرتفعان و ينزلان ايها القارئ الاكرم، فانت اذن لا تعرف الكتب الصفراء و اهوالها. وقد كتب مؤلفوها، و ما اكثرهم، احكاما طالما ادهشتني و حيرتني كما ادهشك و حيرك حكم شرب اللبن يوم الاربعاء، و من ذلك: " حكم الرجل الذي قال له آخر يا زاني فرد عليه: انت ازني مني "، و " حكم المرأة التي مكنت نفسها من قرد ". و في " حكم الرجل الذي بال واقفا " تفصيلات ملأت المتون والحواشي، و قد جاء في احدي هذه الكتب الصفراء ان نفرا من الجن قتلوا الصحابي الجليل سعد ابن عبادة و هو في طريقه من المدينة الي الشام لانه بال واقفا، ثم ان الجن بعد ان قتلته ارتجزت ابياتا جاء فيها: ( قد قتلنا سيد الخزرج سعد ابن عبادة / فرميناه بسهمين و لم نخطئ فؤاده )!



    لكن اغرب ما وقعت عليه علي الاطلاق في لهاثي وراء الرطانة جائزة دولية تحمل اسم: ( جائزة الرطانة غير المفهومة). و تمنحها منظمة تسمي " حمْلة اللغة الانجليزية الواضحة " و مقرها لندن و تضم المنظمة في عضويتها عددا كبيرا من الصحافيين و الاذاعيين و رسامي الكاريكاتير، و من ابرز اهداف المنظمة التأكد من توصيل المعلومات العامة من المسئولين الي الجمهور في لغة انجليزية واضحة. و يتم الاعلان عن اسم الشخصية الدولية الفائزة بجائزة الرطانة غير المفهومة مرة كل عام في احتفال كبير بالعاصمه البريطانية، و تمنح الجائزة لاكثر شخصية دولية تدلي بتصريحات صحفية غير مفهومة من الناحية اللغوية. و من ابرز الذين اعلن فوزهم بجائزة الرطانة غير المفهومة دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الامريكي السابق، وقد جاء فوزه عن تصريح ادلي به في معرض الاجابة علي سؤال حول اسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق. و قد وُصف التصريح بانه اكثر التصريحات اثارة للحيرة بين تصريحات الشخصيات العامة. و هذا هو نص التصريح الذي استحق عليه الرجل الجائزة وقد ادلي به رامسفيلد في مؤتمر صحفي بمقر البنتاغون: ( التقارير التي تقول ان شيئا ما لم يحدث هي في الغالب محل اهتمامي، لانه كما نعرف هناك اشياء من المعروف انها معروفة، وهناك اشياء نحن نعرف اننا نعرفها، و نعرف ايضا ان هناك اشياء من المعروف انها غير معروفة بمعني اننا نعرف ان ثمة اشياء لا نعرفها. و لكن هناك ايضا اشياء لا نعرف انها غير معروفة وهي الاشياء التي لا نعرف اننا لا نعرفها ). و قد جاء في نص البيان الصحفي الذي القاه جون ليستر المتحدث الرسمي باسم المنظمة المانحة للجائزة بمناسبة اعلان فوز رامسفيلد: ( اننا في لجنة الجائزة نعتقد باننا نعرف ما يعنيه المستر رامسفيلد و لكننا لا نعرف ما اذا كنا نعرف بالفعل)!



    اقول قولي هذا و استغفر الله لي ولكم، و ساقوم من فوري – يرحمني الله – بمراجعة و تمحيص و تقويم امر هذه السلسلة التي تنكبت الطريق و ضلت عن الهدف فغرقت في بحيرة النوبة من حيث ارادت السباحة في نهر العطبرة!


    عن صحيفة ( الاحداث)
                  

06-18-2008, 08:08 PM

الطيب شيقوق
<aالطيب شيقوق
تاريخ التسجيل: 01-31-2005
مجموع المشاركات: 28804

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سباحة حرة في نهر عطبرة (مصطفي البطل) (Re: abubakr)

    ما عندى طولة بال اقرا كلامكم الكتير ده . جاى اسلم عليك ساااااااى واقول ليك اوع يرجوا المصريين في اراضيكم وتجوا راجعين علينا - مالك ومال عطبرة انت
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de