|
|
 أغنية البنات ...مقاربات ومفارقات
|
في يوم ما ، في احد صفحات رزنامته، تعرض كمال الجزولي لأغنية البنات ضمن سياق حديثه عن ثقافة المستعرب المسلم السوداني ، حيث قال (لا يخفى المشترك بين أغنية "البنات" وأغنية "الجاز" من حيث الإطار النفسي ، وطلاقة الميلودية،وعمق الإيقاع، وجرأة الأداء، ومفارقة منطق التركيب البنائي لكلمات الأغنية التقليدية)
***
لو قرأت رباح الصادق هذا الاقتباس لأراحها من عناء السؤال الذي طرحته ضمن ورقتها عن أغنية "سنتر الخرطوم" الموسومة بـ"الم في الهرج"،رباح تتساءل: (لماذا يختار بعض السودانيين -الآن- أن يبعثوا أسباب الامهم المحكية في أغنية سنتر الخرطوم في الأعراس ومناسبات البهجة ثم ينخرطوا في هذا الرقص المحموم) ، الجزولي يرد عليها –أو هكذا نفترض- (انه الإطار النفسي المشترك بين أغنية "البنات" وأغنية "الجاز" ) ، والرجل محق إذا استبعدنا إلحاح السؤال عن أن أي "نفاج" من "نفاجات" الجاز يعني؟ ، الجزولي يفترض أن المشترك بين الاثنين لا يخفي علي أحد ، لكن دعنا نأمن هذا الجانب أولا ونناقشه ونقارب ما يمكن مقاربته إلي أغنية البنات لاعتبار أن الأمر خافيا والعكس ليس صحيح .
***
الجاز هو الموسيقا الأمريكية الشعبية ، ظهر هذا الاسم لأول مرة في أوائل القرن العشرين "1910" واصلها زنوج "نيو اورليانز"، ثم مارسه البيض بعد ذلك ، وهو مصطلح يطلق علي الموسيقي الراقصة بجميع أنواعها – ومن هنا وجه التشابه بينه وبين أغنية "البنات" فكلاهما راقص من حيث الشكل- ، والكلاسيكيين الأمريكان يقصرون الاسم علي الموسيقي الراقصة التي تقوم علي الارتجال "improvisation"، وتتميز موسيقا الجاز بتشديد النبرات وتأخيرها – أو ما يعرف بالـ"syncopation"- فوق إيقاع متكرر ، ومن هنا يجانب الجزولي الصواب في المقارنة لان أغنية البنات تتبع الإيقاع المتكرر حافر بحافر دون تأخير أو إبطاء ، ويسقط تلقائيا وصف أغنية البنات بـ"عمق إيقاعها".
***
هناك عامل حاسم في موسيقا الجاز وهو اعتمادها بشكل رئيس علي الارتجال –كما يقول كلاسيكي الموسيقا وهم علي حق- ، هذا الشرط منعدم بأغنية البنات لأنها أغنيات معدة سلفا ، وان كان "المجادعة"تحمل جزء من صفة الارتجال ، إلا إن الارتجال المقصود هنا ارتجال "ساعة العرض" أي "ارتجالي وقتي". ومن أهم خصائص موسيقا الجاز –أيضا- أنها تعتمد بشكل أساسي علي الات وترية بالنبر"pizz" مع الات نفخ مكتومة وأنغام "خاصة" تؤديها عائلة الساكسفون ، ومن هنا يسقط مشترك آخر اجترحه الجزولي موسوم بـ"جرأة الأداء".
***
بقي من مشتركات الجزولي بين الجاز وأغنية البنات ..."طلاقة الميلودية"، وهي بدورها لا تصلح كمشترك بين الاثنين ، لكون أغنية البنات في معظمها ليست طلقة إذا كان المقصود بالطلاقة هو احتواها علي مجموعة أفكار لحنية ، لان اللحن الطلق يتبع إستراتيجية تعرف في الموسيقا بالـ"تنمية development"، مثلا:يبدأ اللحن بفكرة (A) وينمو إلي (B) ثم إلي (C)...وهكذا ثم يعود –أو لا يعود-إلي (A) بحسب الخطة اللحنية والخيال الذي يؤسسها . أغنية البنات لا تتصف –بالضرورة- بهذا ، بل هي حلقة من الاجترارات كما أغنية الحقيبة . والجاز –ولان الارتجال طبعه- حاز هذه الصفة بامتياز (نعني الطلاقة).
***
بقي أيضا من مشتركات الجزولي : "مفارقة منطق التركيب البنائي لكلمات الأغنية التقليدية "و"الإطار النفسي". والأمرين مفهومين من ناحية وجودية وناحية تاريخية ، لكنهما غير واردتين علي طاولة تحليل "رباح الصادق" فهي تقول متسائلة في ورقتها سابقة الذكر ما يلي : (والحقيقة أن عقدي الإنقاذ إلا قليلا ، حولت مناسبات الاحتفال إلي مناسبات للميوعة والودار الفني والذوقي والهستريا الجمعية ) ، رباح بهذا القول تُخرج الموضوع عن سياقه ، وتمضي لتقول (صحيح انه شاع في قبائل مختلفة في مجتمعنا السوداني مصاحبة الرقص والغناء لكل المناسبات المفرحة والمبكية ...لكن لماذا يختار السودانيون الآن أن يبعثوا...الخ)، وفات عليها الإطار النفسي لتخلق الأغنيات أو بالاحري كلمات الأغنيات وان الامر ليس علي علاقة بالقبيلة بل هو سؤال الوجود.
***
لأغنية البنات رصيفات ضمن تيار مدرسة الجاز وخارجه ، هناك تقاطعات ومشتركات واضحة بينها وبين أسلوب "الهيب هوب" الأمريكي ، الذي ظهر للوجود في أوائل سبعينيات القرن الماضي ، يطلق لفظ هيب هوب علي أغاني "الراب" حيث يحكي المغني قصص نابعة من حياته الخاصة – مع بعض الخيال- في أغاني ذات إيقاع سريع ومتميز ، ويعتمد علي بعض التقنيات الخاصة ذات سجع أو قافية ، كما يصاحبه الرقص المميز له . بهذا الشرح المبسط للهيب هوب : يبدو واضحا وجه الشبه ، ألا تحكي أغنيات البنات تجارب خاصة ، اليس لها رقص يميزها، اليست سريعة الإيقاع، اليس لها تقنياتها الخاصة ؟.
***
هناك مقاربتين ضروريتين ، الأولي تتعلق بالـ"ragtime" أو موسيقى "الصعاليك" أو "الشوارع" ، وهو مصطلح أمريكي –في موسيقا الجاز القديمة- يطلق عل نوع من الموسيقا الشعبية يؤدي فيها البيانو دورا أساسيا – لاحظ التشابه بين البيانو وبين الاورغ في الحفلات-، واهم خصائص الـ"ragtime" هي تأخير النبر –كعادة الجاز- والنبرات الخشنة ،والضوضاء-لاحظ هذا المشترك أيضا-.ويطلق لفظ "rag"علي أي مقطوعة من هذا النوع. كان الطلاب قديما يعزفون هذا الأسلوب لجمع التبرعات –وهذا مشترك آخر- ، أصل اللفظ "ragged time" تعني (الإيقاع الأشعث)...على كل حال ، يبدو جليا قُرب هذا النوع من الموسيقا بأغنية البنات مستبعدين بالطبع أخلاقية دلالة الاسم . المقاربة الثانية : هي الـ"swing" وهو نوع من أنواع الجاز (الصاخب) أيضا لكنه يعتمد علي اوركسترا كبير.
***
تبقي أن نشير إلي أن المصطلح نفسه "أغنية البنات" يقع مع أُخر ضمن مجانية وعبثية وفوضي المصطلحات كما يسميها "محمد عثمان مكي" ويقع أيضا ضمن ثنائية ذكر/أنثى ،وكما أشار الجزولي في استعراضه لمزاج المستعرب المسلم السوداني حين قال (الشريط النيلي من الوسط إلي الشمال ، ينحو لاعتبار الصرامة والجفاف دليلا علي الجدية والحزم الخليقين بالرجال ، والمرح والطلاقة خفة قمينة بالنساء والعبيد)...والملفت وبشكل صارخ أن الجاز بشكل خاص والموسيقي بشكل عام ، لم تصنف يوما بحسب النوع الاجتماعي !!!.
***
مفارقات أخيرة : جدير بالذكر أن أغنيات "شرحبيل احمد" تصنف –وفقا للفوضى- ضمن أغنيات الجاز ، فقط لكونها من حيث شكل الفرقة الموسيقية تشبه فرق الجاز . مفارقة ثانية: في معرض تعليق "د.محمد سيف" - وهو محاضر بكلية الموسيقا والدراما وعضواً ضمن طاقم لجنة تحكيم برنامج "نجوم الغد"- على أداء احد المتسابقات ، قال (اختاري غنا بنات ، لانو طريقة أداء غنا الرجال ما بتناسبك)!!!.
مفارقة ثالثة : يقول "الطيب محمد الطيب" -نقلا عن "الم في الهرج"- : (إذا وقعت حبة خردل تجد صداها في غناء البنات) ... مقلوب هذا النص أن أغنية الرجال تحلق هناك مع التجريد جناح بجناح ليست آبهة!!!.
-------------
اجراس الحرية-27/5/2008م-ملف "تعارف"الثقافي
|
|
 
|
|
|
|
معتز تروتسكى
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست