النوبة مرة أخرى يفشلون فى أبيى!

النوبة مرة أخرى يفشلون فى أبيى!

جنوب كردفان- جبال النوبة كولاية وأقليم ظلت تراوح مكانها على مدار التأريخ الحديث وظلت تخرج من كل الحروب الأهلية أو تلك التى دارت ضد المستعمر، فى أحسن الأحوال، بالكفاف. يحدثنا الـتأريخ أن النوبة من الشعوب العظيمة التى ربما كانت تسكن مناطق واسعة من شمال كردفان ولكنهم تراجعوا بفعل تمدد قبائل ومجموعات أثنية أخرى، مثل الداجو الذين أتوا من غرب أفريقيا والقرامانت أو القراميت الذين أتوا من جنوب ليبيا ، مناطق فزان الحالية (راجع كتاب ماكمايكل عن: قبائل شمال ووسط كردفان)، ثم أخيراً أكتمل تراجع النوبة إلى جبالهم الحصينة تحت تأثير الهجرات العربية إلى بلاد الكوشين، الذين يعتبر النوبة ضمن منظمومتهم الواسعة. ويعتبر تراجع النوبة من أرض كوش - أرض الممالك النوبية القديمة – له أكبر الأثر فى ضياع قبضة النوبة على زمام الأمور فى السودان أجمع – يقارب ذلك فقد المسلمين للاندلس الذى أفقدهم السيادة على أوروبا القصيرية - وأصبح تراث الممالك الكوشية ذكرى وأشعار حماسية تعطر سماء المناسبات التراثية والروحية وتؤجج حمية الفروسية التليدة. اليوم، يقدم النوبة تنازلاً جديداً فى أرض أبيى ومن قبلها أصبحت مناطق مثل كاكا التجارية فى شرق الجبال ومناطق جبل الداير فى الشمال الشرقى، كلها مناطق خارج الخارطة النوبية الجغرافية الحديثة.

هل هذا التأريخ يمكن قراءته بأنه تأريخ إنهزامى للنوبة؟ أم الكيانات الأخرى تداعت عليهم كما تتداعى الأكلة على قصعتها؟ أم أن هناك نوايا نوباوية (مبيته) على وزن ما قالت به السياسية الأستاذة نور تاور كافى زعيمة الحزب اللبرالى، عقب توقيع نيفاشا أن: "هذا البركان قابل للاشتعال مرة أخرى!". قناعاتى الشخصية ومن خلال معرفتى اللصيقة بالنوبة وكأحد أبناء جنوب كردفان، إن النوبة لم يهزموا قط، سواء تأريخياً أو اليوم. إن روح النضال وجذوته وأشواق النوبة للإرث الكوشى ظلت متقدة لم تتراجع قيد أنمله، فهم لم يهزموا يوماً كما أنهزم اليابانيون أو كما أنهزمت ألمانيا النازية، أو لم يدخلوا بيوتهم ويغلقوا أبواب النضال على حد قول النملة لأخواتها (أدخلوا بيوتكم حتى لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون)، ليس هناك أى (سليمان) يرغم النوبة على دخول بيوتهم وسوف لن يكن. فقد ظلت الثورات النوباوية تأتى تتراً على مر التأريخ ولم تنهى اليوم، ما لم تحل القضية الأساسية التى توجج تلك الثورات وهى حقوق النوبة المهضومة تأريخاً. إن ثورات النوبة، مثل ثورتهم بقيادة المك عجبنا ضد المستعمر 1908م، وحركة الجهاد الأسلامى التى قادها النوبة أبان الثورة المهدية بقيادة الفكى على الميراوى، ثم الأنقلابات المتكررة التى قادوها بقيادة المرحوم الأب فيليب عباس غبوش، وثورة أستاذى المرحوم يوسف كوه مكى فى أوائل الثمنيات، كلها تؤكد عمق وتمكن الفكر والنهج الثورى فى صدور أجيال متتالية من أبناء النوبة. تلك الأستمرارية الثورية هى فى حد ذاتها معين ثورى إلهامى دائم ومتجدد فى ذات الوقت. إن تلك الروح الثورية هى التى قادت أبناء النوبة - بعد فشل نيفاشا فى جلب حقوقهم - لأبتدار طرق أخرى للنضال كتأسيس تنظيم الهامش أو تأسيس حركات مقاتلة وتنظيمات جديدة تواصل مسيرة النضال بعد أن فقدوا الأمل فى نيفاشا كحل لقضايا المنطقة الملحة.

هناك أسئلة مهمة وملحة يجب أن تطرح وتأخذ نصيبها من النقاش والحوار وهى: هل يظل النوبة يتراجعون عن أرضهم يوماً بعد يوم وإلى متى؟ هل يظل النوبة فى ثورة إلى أبد الدهر؟ ما هى الأسباب المتكررة لفشل ثورات النوبة طيلة ما يزيد على قرن من الزمان، إن أسسنا لبداية تأريخ النضال النوباوى بثورة المك عجبنا فى عام 1908م؟ كيف نحن أبناء الاقليم جميعنا – نوبة وغير نوبة - أن ندفع بعجلة النضال النوباوى نحو تحقيق أهداق الأقليم ؟

تلك الأسئلة هى مفتاح لطلاسم كثيرة وأهمها مصير جنوب كردفان نفسه، كأرض وشعب وليس النوبة وحدهم. يرتبط مصير جنوب كردفان إرتباطاً عضوياً بحركة ونضال النوبة. يعتبر فهم هذه النقطة وتقديرها حق قدرها شيئ أساسى لمستقبل المنطقة، فالنوبة هم الركيزه الأساسية فى جنوب كردفان - وبالتالى ألتفاف الاثنيات الأخرى حول القضايا الاساسية للنوبة قد يهيئ مخرج للاقليم من أزماته المتراكمة. ولكن السؤال الأخر ما هى أولويات النوبة؟ يعتبر موضوع الهوية، التراث الكوشى، التنمية (قسمة السلطة والثروة)، ثم الأرض هى أهم أولويات الأجندة النوباوية. وقد يتفاجأ البعض إن رتب موضوع الأرض أخر أولويات النوبة علماً أن النوبة يتمهظرون أن الأرض النوباوية هى أولى أولوياتهم. القراءة التأريخية لسيرة محافظة النوبة على الأرض تنفى زعم النوبة على أولوية الحفاظ على أرض الجدود. تراجع النوبة من بلاد كوش وكردفان ثم عن أبيى اليوم يؤكد تماماً أن هناك نمط متواتر فى مقايضة النوبة للأرض بشيئ أخر! والشيئ الأخر لا يجب أن تخطئه عين: هو الهوية والحفاظ على نقاء الدم النوباوى بعيداً عن شوائب دماء المجموعات الوافده إليهم.

إن مبرر الحفاظ على نقاء الدم النوباوى – والذى لم يعد نقياً إطلاقاً لأختلاطه بدماء المجموعات الأخرى الوافدة للمنطقة – هو الذى جعل هذا الشعب العملاق يفقد أراضيه يوماً بعد يوم، بحجة التراجع والأستعداد لأنقضاضه وحش كاسر يعيد ما فقد من عرينه. لم تحصل تلك النقلة النوعية فى أسترجاع ما فقد النوبة تأريخياً من أرض ويظل هذا الأتجاه فى النهج النوباوي محل خلاف كبير حول التحقق من جدواه – على الأقل فى وجهة نظرى المتواضعة. لقد فقد النوبة أرض جنوبى كردفانية اليوم - أرض أبيى الغنية بالموارد الطبيعية المتجدده والغير متجدده - لصالح الجنوبين ولم أر أن مبرر أشتراكهم فى الحرب الجنوبية يخول للجنوبين أو حتى النوبة التنازل من مكتسباتهم الطبيعية فى الارض والموراد. لم يعد فقد النوبة لأبيى موضوع جدال، فهم خارج أى موازنات سياسية وليس لهم أى دور سواء أيجابى أو سلبى فى تلك المنطقة. أيضاً ليس هناك ما يبرر الصمت النوباوى الشعبى. إن الأشكالية الكبرى، لنا جميعاً فى الأقليم، هى أن الأجزاء الجنوبية من جنوب كردفان وليس أبيى وحدها، تقع تحت قبضة جيش الحركة الشعبية بحجة إنها مناطق محررة. تلك المناطق (المحررة زوراً) هى فى حقيقتها حزام أمنى للجنوب Buffer zone تحرسة أرواح ودماء أبناء جنوب كردفان، التى تم بيعها رخيصة بالمشورة الشعبية وفقدان أبيى وكاكا التجارية ناهيك عن خسارة أبناء المنطقة فى الأرواح التى راحت سدى أثناء الحروب التى خاضوها بجسارة حتى تحرر الجنوب والأهمال المزرى الذى تعانية تلك المناطق التى تسمى بالمناطق المحررة.

إن إستعادت أراضى جنوب كردفان - التى تم ويتم فقدها للمؤسسة التجارية الرأسمالية فى شكل مشاريع ضخمة وتصاديق لأراضى شاسعة لا يعود نفعها لابناء المنطقة أو تلك التى تم أحتلالها – ليس هى مسئولية أبناء النوبة وحدهم. إن حزام التماس الذى يمتد من النيل الأبيض شرقاً حتى بحيرة تشاد غرباً والذى يغطى كل مناطق النوبة يعتبر، أيضاً، وطن قبائل البقارة. وقد أطلق البريطانيون عليه إسم وطن البقارة Baggara Country نتيجة للدور التأريخى، الأجتماعى، الثقافى، والجيوسياسى الذى لعبه البقارة عبر حقب تأريخية قديمة، هذا القول يذكرنى بما كتبته الكاتبه ديبرا أسكروجنس Deborah Scroggins فى كتابها: حروب أيما، والتى تقول فيه: (أن السودان يشبه الكتاب الطبى المصور على ورق السيليوفين الشفاف، كلما قلبت صفحة تجد تحتها تفاصيل مختلفة لنفس الصورة). تطابق حزام البقارة مع الحزام النوبى، يعنى أكثر من وجود تلك المجموعات وجوداً مادياً، إنه يحتم تضافر الجهود من أجل دفع أجندة الطريفين (وقد كتبت بأستفاضه عن كيفية تعايش القضايا المصيرية). نفس الشيئ عن البقارة يمكن قوله عن قبائل ما يسميه النوبة بال BBF – البرقو والبرنو والفلاته – هذه المجموعات سكنت المنطقة منذ أزمان قديمة وتعتبر ذات ثقل سكانى مقدر ورصيد أقتصادى ومهنى للاقليم لا يمكن تجاهله، هذه المجموعات يجب أن تشترك شراكة فاعلة فى مصير الأقليم أرضاً وشعباً.

وكما إن تراجع النوبة عن أرض الجدود قد أثبته تواتر الأحداث – ليس القول أو (الريديريك) - فإن نفس القول يمكن قوله فى فشل محاولات النوبة نحو فجر أفضل للأقليم وتوحيد شعوبه حول القضايا المصيرية المهمة. فقد أثبتت التجربة أن النوبة على خلاف أثنى شبه دائم مع المجموعات التى تسكن معهم المنطقة، مما قلل فرص إنجاح أى محاولاتهم المتكرره. الخلاف الأثنى تتعزز مظاهره فى رؤية النوبة الأحادية للمنطقة، فهى بالنسبة لهم حق طبيعى وما سواهم مستضاف. هذه النظرة وصلت لمرحلة أن ممثلى أنباء النوبة فى البرلمان أو الحكومات الأقليمية يمثلون النوبة وليس أبناء المنطقة. هذه النظرة تتعزى على ذات الخليفة التى جعلت النوبة يتراجعون يوماً بعد يوم أمام ما يسمونهم بالغزاة أو الوافدين فى أحسن الأحوال، للحفاظ على النقا
ء النوباوى الذى يحتم جعل مساحة معتبره بينهم والأخرين تسمح لهم بالتميز الهوياتى، أخيراً فى مؤتمر كاودا الأخير فتح النوبة كوة ضوء فى جدار عزلتهم التأريخية بالأعتراف بالبقارة والفلاته والبرقو كضمن سكان المنطقة دون أن يتبع ذلك الأعتراف أى عمل أيجابى يفضى إلى قيادة كل المنطقة وليس قيادة النوبة وحدهم. لقد أثبت التأريخ والعلم سوياً أن المجموعات التى عاشت مع النوبة هى التى فقدت دماءها النقية. يقول بروفسر بيومى فى أحد دراساته الجينية، أن الجينات تنتقل من الشق النوباوى تجاه القبائل التى تسكن معهم أكثر من أنتقالها من القبائل الأخرى تجاه النوبة – بحسب اللغة الدارجة أن الدم النوباوى أقوى من الدم العربى أو الفلاتى فى المنطقة ويمكنه أن يغير التركيبة الأثنية لصالحه طال الزمن أو قصر. نحن البقارة لا غضاضة لنا البته فى أى أتجاه تصير إليه المنطقة من ناحية التلاقح الثقافى والأثنى ولكن ما يهمنا - أن جاز لى أن أتحدث بضمير الجمع - أن نكن شعباً واحداً جنوب كردفانياً. فإن إستعادت أراضى أبيى إلى حظيرة الولاية والمناطق الأخرى مرهونة بتحقيق أرادة قومية جنوب كردفانية.

خلاصة قولى أن الحل والربط فى المنطقة بيد النوبة – كما يقول الجنوبيون أن الوحدة الجاذبة بيد الشمال، فإن على النوبة الأنعتاق من قيود الماضى والنظر إلى كل شعوب الأقليم بنظرة واحدة، إن شعوب الأقليم ترجوا منهم الكثير، على الأقل فى محور قضية أبيى، فهل يفعلون؟

بريمة محمد أدم
من أبناء جنوب كردفان

(عدل بواسطة Biraima M Adam on 05-20-2008, 03:07 AM)