سيد احمد الحردلو ضيفاً على الرزمانة ....ما أجمله من أسبوع

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-09-2024, 09:26 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثاني للعام 2008م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-06-2008, 10:19 PM

AnwarKing
<aAnwarKing
تاريخ التسجيل: 02-05-2003
مجموع المشاركات: 11481

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
سيد احمد الحردلو ضيفاً على الرزمانة ....ما أجمله من أسبوع

    نقلاً عن سودانيل:
    http://www.sudaneseonline.com/


    هُوَّ البِيْه مِنْ فِيْنْ؟!

    (أَحَاجِي فِي انتِظَارِ .. جُودُو)!

    ضيف على الرزنامة

    سيد احمد الحردلو

    الإثنين

    ظل أخي الحبيب الشاعر والناثر والقانوني الضليع كمال الجزولي يدعوني، كلما هاتفته أو هاتفني، ويلحُّ (إلحاحاً)، على قول عادل إمام، كي أحلَّ ضيفاً على (الرزنامة) مثلما فعلت أوان كانت تصدر بجريدة (الصحافة) أواخر التسعينات. لكنني ظللت أحاول (التملص) بحُجتين، رغم يقيني بأنهما خائبتان! أقول في الأولى:

    ـ "ولكن من أين لي يا كمال .. فهل غادرت الأدواء من متردم في هذا الجسد النَّاحل، وهذه الذاكرة التي شاخت قبل أوانها، وهذا الشيب الذي اجتاحني مثل (تسونامي) جنوب شرقي آسيا"؟!

    ثم أضيف لأقوِّي حجتي:

    ـ "لكنها إرادة الله، جلت قدرته، فنحن مجرد (عارية) في هذه الفانية"!

    وعندما أجد صديقي لا يقنعه شئ من هذه الحُجة الأولى، أتوكل على الله وأرمي إليه بالثانية:

    ـ "وكمان أنت يا كمال صعدت بالرزنامة إلى قمَّة الهملايا، بلغتك الصافية كنعنعة الماء، وتوثيقاتك المثبتة بالزمان والمكان، تسوح بنا عبر الرياح الأربعة، بثقافة موسوعيَّة لا تترك شاردة ولا واردة، حتى صارت قراءتك كالعشق المرهق والمحبب معاً"!

    على أن هذه أيضاً لا تقنعك يا صديقي! ولأنني ليست لديَّ ثالثة، فما عساي أفعل سوى أن أفوِّض أمري إلى الله، وأمتثل، طائعاًً، مختاراً، ومحتشداً لك وبك، بعد إصرارك الواعد (بالوعيد) الجميل! فإن لك عليَّ حق صداقة عذبة جمعتنا، منذ منتصف الستينات، في وطن كان هنا، وها نحن ما نزال ننبش بالأظافر كي نجده هنا أيضاً .. أوَلسنا نحنُ حُداته ودُعاته ورُعاته وحُفاته .. نسعى فيه برءوس طائرة أحياناً .. وبلا سيقان أحياناً أخرى؟! فعليه، إذن، وعليك السلام، ولكما، ولأصدقائنا المشتركين، ولعموم بنات وأبناء السودان، محبتي ووفائي!

    الثلاثاء

    هذا أحد الأيام العجيبة، أيام (التعدَاد)! وقد ظللنا ننتظر (جودو)، أعني العدَّادين، طوال الأسبوع الماضي، بلا جدوى! وها نحن ننتظرهم، اليوم أيضاً، منذ الصباح الباكر، وكلما طرق الباب تسابق أبنائي لفتحه، فإذا بالطارق ليس (جودو)! ونحن، منذ الثامنة من صباح البارحة، بدون كهرباء، حتى عادت (المحروسة) في الرابعة والنصف عصراً، ثم ما لبثت أن ذهبت في الثالثة صباحاً، بسبب الريح والغيث، ولم تعُد حتى اللحظة، وما زلنا في انتظار .. جودو! ترى هل طويلٌ طريقنا أم يطول؟!

    ومن باب ضرب السأم بالسأم أحجيكم بما حدث لي البارحة. حملت أوجاع الرقبة والساق اليسرى، ودَرَعت الياقة الطبية، وتوكأت على عصاي، وركبت السيارة بمساعدة إبني سامح. دخلنا، وأنا بهذا المظهر، إلى حوش (المحلية) في تمام الثامنة والنصف صباحاً. وجدنا مستخدميها لائذين من سخونة مكاتبهم بظل حائطٍ في الحوش، والسبب انقطاع الكهرباء! نهض ضابط وتقدمنا إلى مكتب أمام بابه حجران من هرم خوفو! صعدت عليهما متوكئاً على كتف سامح، ودخلت المكتب. ناولت الضابط خطاباً من محكمة شئون الأسرة بالخرطوم لرئيس (اللجنة الشعبية) و(المحلية) ليضعا ختميهما عليه. كان رئيس (اللجنة) قد وضع ختمها، وجاء دور (المحلية). قرأ الخطاب، ونادى على موظف وأسرَّ إليه بشئ ما. عاد (المسرور) بعد دقائق، ليقول:

    ـ "لم يدفع عوايد 2007م و2008م"!

    إندهشت، فنحن ما زلنا في أبريل 2008م! سألت الضابط عن المطلوب، قال:

    ـ "251 جنيهاً".

    فدفعتها فوراً لكي يضع الختم وأخلص! لكنه قال:

    ـ "نريد صورة من هذا الخطاب".

    ـ "صوِّروه"!

    ـ "ليس لدينا جهاز تصوير"!

    ـ "اللهم طوِّلك يا روح .. لماذا تريدون الاحتفاظ بخطابٍ لا شأن لكم به سوى دفع العوائد، وقد دفعتها؟! المطلوب فقط أن تكتبوا عليه (خالي طرف من العوايد)، وقد جعلتموني أدفع عوائد عام ما زلنا في ثلثه الأول"؟!

    ـ "هذا هو القانون"!

    قلت وأنا أجالد الصبر:

    ـ "لا يوجد هكذا قانون، فالتحصيل يكون في نهاية العام"!

    وذهبنا نبحث عن محل تصوير فيه كهرباء. بعد لأي وجدنا محلاً به (جنريتر)، فصوَّرنا الخطاب، وأعطينا الضابط نسخته. هل يختم؟! لا وحياتكم، عاد يبرطم:

    ـ "هذا الخطاب غير معنون (للمحلية) بل (للجنة الشعبية) .. نريد خطاباً معنوناً لنا"!

    قلت وأنا أحاول لجم غضبي:

    ـ "إن (اللجنة) جزء منكم، وأنا سددت عوايدي، والمطلوب فقط إعطائي شهادة خلو طرف"!

    فأرسل يستفتي أحدهم. سألته:

    ـ "هل من تستفتي هو رئيس المحلية"؟!

    ـ "لا .. إنه موظف"!

    مع ذلك، ما أن جاء رد (المفتي) برفض إعطائي شهادة خلو الطرف، حتى خرج الضابط، فخرجت. وجلسنا تحت ظل ذلك الحائط. سألت ضابطاً يجلس بجانبي يداعب هاتفه الخلوي:

    ـ "وما العمل"؟!

    وجاء الرد الصاعق الذي سمعه كل من حولنا:

    ـ "أدفع واحد وخمسين جنيهاً وأنا أحرر لك الشهادة فوراً"!

    نظرت إليه مندهشاً، فرأيت وجهه كما الجدار الذي خلفه! سألته عن المسئول الأول في (المحلية)، فأخطرني بأنها (فلانة). سألته:

    ـ "وأين هي الآن"؟!

    ـ "لم تأت بعد"!

    ـ "ومتى تأتي"؟!

    ـ "لا أعرف"!

    كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة والنصف! قلت له:

    ـ "إتصل بها الآن لأن إبني مواعيد محاضرته في الحادية عشرة، والحضور بعد المواعيد فيه حساب وعقاب"!

    فتح تلفونه، وبدأ يتكلم مع مديرته!

    في تلك اللحظة أوقف د. أبو زيد عطا المنان سيارته أمامنا، وتقدَّم وسلم عليَّ، ثم ذهب ناحية أحد المكاتب. حاول الضابط إنهاء مكالمته مع المديرة، فطلبت منه ألا يفعل، وأن يعطيني التلفون لأتكلم معها، ففعل، لكنني لم أجد أحداً في الجانب الآخر! أعطيته جوَّالي وطلبت منه أن يتصل لي برقمها، ففعل، فرويت لها ما حدث، وأن (المفتي الحاكم بأمره) رفض منحي شهادة خلو الطرف! فقالت:

    ـ "دعني أكلمه"!

    فقلت لها:

    ـ "لن أذهب إليه، وسأرسل له جوَّالي مع إبني، فكوني على الخط"!

    فجأة خطف أحد الضباط هاتفي وركض به إلى (المفتي) وإبني وراءه! بعد قليل عاد د. أبو زيد إلى سيارته، وخاطب الجالسين بصوتٍ قوي:

    ـ "شرف كبير أن يجيئكم سيد أحمد الحردلو، لكن مؤسف جداً أن يلقى منكم مثل هذه المعاملة"!

    ثم أدار سيارته ومضى. وقالت سيدة تجلس ورائي:

    ـ "ياخوي ما تفوِّر دمَّك .. ديل أصلهم كده"!

    كان ثمة ضابطان، أحدهما من السقاي قرب دويم ود حاج، والآخر من الزومة، وأحدهما هو مَن خطف جوَّالي وهرع به إلى (المفتي)! الشاهد أنهما عادا من عنده ومعهما سامح. لكن، على حين دلف كلاهما إلى مكتب مجاور، جاء سامح، خالي الوفاض، إلى حيث أجلس. فنهضت وقلت له:

    ـ "أنا ما عايز خلو طرف ولا يحزنون، هيا بنا، فجامعتك أهم من هذه الخرابة .. بل أفضل منها حوش الحمير في سوق تنقاسي"!

    ضحك الجالسون بينما مضيت إلى السيارة، لكن الضابطين جاءا يهرولان ومعهما، أخيراً، ورقة بخط اليد عليها الختم، واعتذرا عما جرى لنا طوال ساعتين ونصف!

    لم تكن تلك تجربتي المريرة الأولى مع خرابة هؤلاء الطغاة الصغار .. بل الثالثة! وعقب كل مرة كنت أزور طبيباً، وأجري فحوصات، وأشتري أدوية! وتقول لي يا عزيزي كمال .. أكتب رزنامة؟! بربك هل هذا هو الوطن الذي كنت تحلم وأحلم به؟!

    .............................

    .............................

    معذرة .. (حجيتكم) بسيرة الهم والغم، لكن اليوم انقضى أيضاً، ولم يصل جودو بعد!



    الأربعاء

    أقول دائماً إن مَن لم يعِش في (قاهرة الستينات) لا يعرف (القاهرة)! كان كل شئ في أوج عنفوانه. سياسياً كان عبد الناصر هناك. ثقافياً كان الفكر والأدب والشعر والرواية والقصة القصيرة والنقد والمسرح والسينما والتشكيل والغناء في قمة التوهج. سودانياً كان هناك محي الدين صابر وفارس وتاج وجيلي، وكان الطيب زروق أحد نجوم القصة القصيرة أثناء دراسته للطب، أما الفيتوري فكان قد عاد للسودان، في الخمسينات، وعمل، أولاً، في صحيفة النيل، ثم ترأس تحرير مجلة (هنا أم درمان) أيام عبود.

    كان جيلي يعمل في جريدة (المساء)، وفارس يدرس في (دار العلوم)، وتاج في (الأزهر). وثمة من النقاد من يرى أن قصيدة التفعيلة اكتشافٌ سودانيٌّ ابتدعه جيلي وتاج، ثم فارس والفيتوري، قبل العراقيين، نازك والسياب والبياتي.

    كنت أزور جيلي في (المساء)، وألتقي بفارس في ندوات (دار السودان)، أما تاج فكنت ألتقي به دائماً في مقهي في (باب اللوق)، وقد كتب مقدمة جيدة لديواني الأول (غداً نلتقي)، وغادر إلى موسكو قبل صدوره عن دار الكاملابي. كنت وتاج على علاقة طيبة بثريا جودت في إذاعة (ركن السودان) التي كنا نسميها (البقرة الحلوب)! كانت ثريا مُحِبَّة للسودان والسودانيين، وتحتفي بالمبدعين في الشعر والغناء. كنا، تاج وشخصي، كلما ضَرَبَنا الفَلَس، نجلس في ذلك المقهى ويكتب كل منا قصيدة، ثم نذهب إلى إذاعة (ركن السودان) القريبة من المقهى، فتهش ثريا وتبش لرؤيتنا، وتدخلنا إلى الاستديو، مباشرة، فنسجّل قصيدتينا، ثم تذهب بنا إلى مكتبها، وبينما نحتسي القهوة (عَ الريحة)، تكون قد ذهبت للصراف وعادت لكل منا بأربعة جنيهات، بعد خصم الجنيه الخامس للضرائب!

    سافر تاج، وظللت أتردد على ثريا، لكن لا كما كان الأمر أيام تاج. وكانت تعاتبني على ذلك. وذات يوم كتب الشاعر صالح جودت مقالاً هاجم فيه التجاني يوسف بشير، وطالب بسحب قصائده من مقرر الثانوي. أخذت المقال وذهبت لجيلي، غاضباً، فحرضني على الرد بمقال عنيف نشره في اليوم التالي، وكان بعنوان (وثقي علائق الأدب الباقي ولا تحفلي بأشياء أخرى)! وما أن دخلت على جيلي، يوم نشر المقال، حتى وجدته، والقاص فاروق منيب، يكادان ينفجران بالضحك، وعيون الصالة كلها ناحيتنا! وجلست وأنا في غاية الدهشة، ففاجأني جيلي قائلاً:

    ـ "حتقابل ثريا جودت إزاي بعد كده"؟!

    ـ "وما العلاقة"؟!

    ـ "إزاي .. إنت مَتعرفش إن صالح جودت ده يبقى عمها"؟!

    وأسقط في يدي، خصوصاً عندما أضاف فاروق راثياً لحالي:

    ـ "جيلي شرَّبك مقلب العمر يا ولداه"!

    إنقطعت عن (ركن السودان) دهراً! لكن ثريا العظيمة ظلت تسأل عني زوارها من السودانيين والمصريين كالشاعر محمد ابراهيم ابو سنة. فذهبت إليها، فاستقبلتني بحفاوتها المعهودة، وأهديتها نسخة من ديواني (غداً نلتقي). فتصفحته وهي تردد (هايل هايل). ثم قالت لي:

    ـ "خلص فنجان القهوة ويلا على الاستديو .. حتسجل خَمَس قصائد لغيابك خَمَس شهور"!

    قبضت العشرين جنيهاً، وأخذت تاكسي إلى (جريدة المساء)، وهناك جلست ألوِّح بالفلوس لصديقيَّ جيلي وفاروق، وهما يقولان بصوتٍ لوَّنته المفاجأة:

    ـ "يا ابن الإيييييه! من أين لك هذا"؟!

    ـ "من ثريا جودت"!

    فإذا بهما يقولان معاً، بطريقة كورالية:

    ـ "آآآآه! ما هيه أصلو ما قرتش المقاااال"!

    .............................

    .............................

    و .. ها هو يوم آخر انتهى .. ولم يأت جودو!



    الخميس

    إعتاد الإمام الحبيب، السيد الصادق المهدي، كرماً منه ونبلاً، أن يدعوني إلى تناول الفطور معه أول كل شهر طوال عام 1996م. كان يرسل لي أخي فاروق إسماعيل، محافظ الجزيرة قبل الإنقاذ، عليه رضوان الله. وكان فاروق ينبهني في نهاية كل شهر إلى أنه سيمر عليَّ في الثامنة من صباح اليوم التالي ليأخذني إلى دارة السيد الصادق، حيث كانت التوجيهات ألا أذهب بسيارتي!

    كان اللقاء الأول في تلك (القطية) الوسيمة، فسألت الإمام:

    ـ "من المهندس الفنان الذي شيَّدها"؟!

    ولدهشتي قال:

    ـ "سارة"!

    ولم أكن أعرف أن لها تلك الشفافية الفنية المدهشة! أوَلم أقل يوم رحيلها إن "السيدة المشكورة باغتنا يوم شكرها كتراجيديا إغريقية"؟! عليها رضوان الله ورحمته مع الصديقين والشهداء.

    كنا نتحدث في أمور شتى، من السياسة إلى الفكر إلى ضروب الإبداع الأخرى. وكان يشجعني على التأليف، فهو الذي يبقى! كان يجلس معنا على المائدة، لكنه لا يأكل، فمن عاداته، في ما يبدو، أن يفطر مبكراً. لكنه كان، طوال الوقت، يعزم عليَّ بمودة: "كل من هذه .. ومن تلك"! وحين أنهض لغسيل يدي يمشي معي إلى باب (القطية)، حيث الإبريق وإناء الغسل. واندهشت، أول مرة، حين حمل الإبريق ليصب لي الماء، فقلت: "هذا لا يجوز"! فقال: "بل يجوز"! وبعد ممانعة، امتثلت، وغسل لي يدي، وظل ذلك المشهد يتكرر في كل مرة، إذ كانت معظم لقاءتنا تتم في (قطية) الملازمين، إلا القليل منها الذي تم في دارته بود نوباوي. وكنت دائماً ما أقول لنفسي، على طريقة صلاح جاهين، ضاحكاً: "زعيم في قامة الصادق يغسل يدي سفير من ضحايا الصالح العام .. عجبي"!

    والصادق، كما عرفته عن قرب، مفكر موسوعي، وسياسي مهموم بالديموقراطية وحقوق الإنسان، ومثقف مترع بحب الآداب والفنون، وهو، بعد، إنسان على درجة عالية من التهذيب ودماثة الخلق. ويوم أقام سرادق عزاء للراحلة بنازير بوتو، عليها رضوان الله، لم أندهش، فهي تحمل الكثير من سجاياه .. الحسن والإحسان والحسنى.

    تلك مقدمة لا بد منها، وإن اتخذت شكل الانطباعات الشخصيَّة، نحو إشادة لازمة عرضها السماوات والأرض بتلك الزيارة التاريخية التي قام بها السيد الصادق، مؤخراً، إلى الجارة تشاد، لرأب الصدع، وإيقاف نزيف الدم بين البلدين الشقيقين، توطئة لحل سوداني مطلوب لأزمة دارفور. كانت تلك مبادرة غير مسبوقة من زعيم حزب سوداني خارج السلطة، وليت زعماء الأحزاب الأخرى يفعلون الشيء نفسه، بل ليت الدولة تشجِّع مثل هذه المبادرات، وتقدم الدعم المادي والمعنوي لأحزابنا حتى تتبارى في هذا المضمار.

    سيدي الإمام، إنك بما فعلت، خرجت بنا من (دار حزب الأمة) إلى (ديار الأمة جمعاء)، فشكراً لك نيابة عن السودان، الوطن التاريخ والجغرافيا والمجتمع والحلم.

    .............................

    .............................

    وانتهى اليوم أيضاً، لكن (جودو) لم يصل بعد!



    الجمعة

    طلب مني الراحل المقيم بشير محمد سعيد، رئيس تحرير (الأيام) في الستينات، أن أراسل الصحيفة من القاهرة بصفحة أسبوعية تغطي المناشط الثقافية والصحفية والفنية هناك. فبدأت أحرر تلك الصفحة بعنوان (نافذة على القاهرة)، حيث أجريت حوارات مع أدباء وفنانيين وصحفيين كبار، منهم إحسان عبد القدوس وتحية كاريوكا والأخوان مصطفى وعلي أمين وآخرون. كما قمت بتغطية المشهد المسرحي، من الكلاسيكي إلى اللامعقول الذي أنشئ له في الجزيرة مسرح متوسط خاص بالنخب الثقافية عرضت فيه مسرحيات مترجمة من الانجليزية والفرنسية لبريخت وبيكت وغيرهما، إلى جانب متابعة الندوات والمعارك النقدية التي كانت أعنفها تلك التي دارت بين محمد مندور (الأدب للحياة) ورشاد رشدي (الأدب للفن). وكان جليل البنداري، الناقد الفني الكبير عليه رضوان الله، قلماً نقدياً يحسب الفنانون له ألف حساب. وكان لسانه طويلاً مثل صديقته اللدودة تحية كاريوكا! وكنت أزوره مساء كل جمعة بمكتبه (بأخبار اليوم)، حيث كان يحرر صفحة أسبوعية إسمها (ليلة السبت). وكان كلما زرته يسألني: "قهوتك إيه"؟! إلا تلك الأمسية، إذ وجدته يدخن كمدخنة مصنع بحلوان، دون أن يسألني سؤاله المعتاد! فسألته أنا:

    ـ "إيه الحكاية"!

    ـ "عندي خبر بمليون جنيه! عبد الوهاب حيلحن أغنية للست، وده أول لقاء بينهما، وأنا ليا ساعة بفتش على عنوان بحجم الخبر .. مش لاقي"!

    ـ "طب ما تسميه لقاء القمة"!

    ـ "ما ينفعش .. ده فيه سياسة .. أنا عايز عنوان شاعري يا شاعر"!

    ـ "طب سميه لقاء السحاب"!

    فقفز من كرسيه، رغم بدانته المفرطة، صائحاً:

    ـ "يابن الإيه، هوَّ ده .. هوَّ ده"!

    كان الخبر جاهزاً، فوضع عليه العنوان، ثم التفت إليَّ يسألني:

    ـ "عايز مكافأة إيه"؟!

    فقلت، وأنا أضع أمامه أسئلة حوار مع تحية كاريوكا:

    ـ "عايز موعد معاها"!

    قرأ الأسئلة، وأشاد بها، لكنه أضاف قائلاً:

    ـ "بعد السؤال الخمستاشر اسألها: إنتي ليه بتحبي القطط أكتر من الكلاب، مع إنو القطط غدارين"؟!

    ساورني شك! لكنني كتبت السؤال. فرفع هو السماعة وبدأ يشتم ضاحكاً، ثم طلب موعداً لي مع الجانب الآخر .. تحية كاريوكا. كانت تقدم، أيامها، مسرحيتها (قهوة التونة) على مسرح الأزبكية. فذهبت إليها هناك في الموعد المحدد، حيث وجدت الممثلين في حديقة المسرح، وبينهم مشاهير كتوفيق الدقن، وزوجها المخرج فايز حلاوة الذي يذكرك (بفتوَّات) شارع محمد علي، (يتضرع) الواحد منهم في مشيته ولسان حاله ينادي: "أوديكي فين يا عافية"! وعندما عرَّفته بنفسي قال: "الست في انتظارك"، وقادني إليها. هي أيضاً ممتلئة في وسامة، ترتدي قميصاً وبنطالاً و(كَرْكَبْ). رحبت بي بمودة، وجاء فايز بالكازوزة، وبدأ الحوار هادئاً تتخلله قفشاتها اللطيفة، إلى أن جاء دور ذلك السؤال الكارثة:

    ـ "إنتي ليه بتحبي القطط أكتر من الكلاب، مع إنو القطط غدارين"؟!

    وتعال شوف! إنتفضت، فجأة، واقفة وهي تصرخ كالملدوغة:

    ـ "انت جليل مسلطك عليَّ؟! يا إبن الـ (...)، إلحقني يا فايز"!

    وخلعت (الكَرْكَبْ) مندفعة نحوي، فخطفت أوراقي وقفزت من الشباك راكضاً حتى شارع فؤاد، ومن هناك إلى دار (أخبار اليوم) وأنا في غاية الحيرة والغضب! فرأيت جليل البنداري يتدحرج من الضحك ومعه عدد من المحررين على مسطبة المدخل! وما أن أبصرني حتى نهض وجاءني يقول ملاطفاً:

    ـ "حقك عليَّ، تعال المكتب واشرب لك لَمُون وروّق، وأنا أحكيلك كل حاجة"!

    وسحبني من يدي، وأنا أقاومه من شدة غضبي، وهو يقول:

    ـ "تعال بس يا سيّد .. تعال"!

    وحين دخلنا مكتبه قال، وهو لا يكاد يكف عن الضحك:

    ـ "أصل الحكاية إن تحية كانت متجوِّزة محرم فؤاد وطلقته، فغنَّى لها أغنية (غدارين)! معليش يا سيّد .. تحية اتصلت بيا وشتمتني، بس أنا حأصالحكم وحتكملوا الحوار"!

    ـ "بشرط"!

    ـ "أشرط"!

    ـ "ما يكونش في مسرح الأزبكية"!

    وقد كان، حيث تصالحنا وأكملنا الحوار في شقتها المطلة على النيل، وكانت ليلة جميلة، وكانت تحية و(الفتوَّة) كذلك في غاية الجمال!

    .............................

    .............................

    وما زلنا في انتظار .. (جودو)!

    السبت

    مدين أنا لأهل (ناوا) فرداً فرداً. ولكنني مدين بوجه خاص للجنة تكريمي برئاسة أخي عوض الكريم محمد أحمد ورفاقه الكبار الكرام. أما الجنود المجهولون من الشباب فإليهم يعود الفضل في إنجاح تلك الليلة بالنادي النوبي العتيد. بداية الحفل كانت في الثامنة، لكن الأحباب الذين أصروا على المشاركة مشكورين جعلوا الساعة تدق الحادية عشرة قبل انتهاء البرنامج.

    قبل أشهر من التنفيذ، شرفني على الفطور أحباب مبدعون كبار: محجوب شريف وحميد ومهدي بشرى ومؤمن الغالي والزبير سعيد ومصعب الصاوي، وانضمت إليهم، لاحقاً، إبنتي المبدعة مريم شريف، وجاء أيضاً عادل عشيري ومحمد محي الدين وأحمد عبد الحفيظ، وتحوَّل الفطور إلى ورشة عمل لإعداد احتفالية التكريم البهيجة التي يلزمني أن أخلع عمامتي عرفاناً لكل من ساهم في إحيائها بالمشاركة أو الحضور أو المهاتفة، شعراء، ونقاد، وفنانيين، وسياسيين بألوان مختلفات، وسفراء سودانيين وغير سودانيين، وأخصُّ بالذكر صديقي السفير اليمني هزاع الدالي، وكذلك رموز قبيلة الإعلام المقروء والمرئي والمسموع، يحفُّ بهم أهلي الكرام شيباً وشباباً، من (ناوا)، و(تنقاسي)، وعموم (منحنى النيل)، وجمهور غفير من شتى أصقاع هذا البلد الطيب. وليت المساحة المتاحة تكفي لذكرهم وتحيتهم فرداً فرداً.

    فأما بعد، أو، بالأحرى، فأما قبل، لا أضع القلم دون أن أقول بالنوبية القديمة: "ناوي نري كو"، أي "أسد أهل ناوا" .. وهل غير (تهارقا) أو (تهراقا) أو (ترهاقا) يكون .. أسد؟!

    .............................

    .............................

    ومع ذلك لم يأت (جودو) حتى الآن!



    الأحد

    خلال سنوات انقطاعي للدراسة بجامعة القاهرة الأم كنت أسكن في شارع الفريق إبراهيم عبود. وكان يشاركني السكن أحمد الخليفة بركات. وكان يسكن إلى جوارنا العميد معاش أمن حسن صالح بيومي. وكان ثمة مقهى في شارع شاهين القريب أسماه الطلاب السودانيون والعرب (مقهى الحردلو) لكثرة ترددي عليه، خاصة في الليل طلباً لفنجان قهوة. فقد كنت أقرأ كثيراً في الليل تعويضاً لتجوالي النهاري!

    وأذكر أن عبد الناصر وبورقيبة كانا على طرفي نقيض. وحدث أن زار بورقيبة مصر فاحتفل به عبد الناصر، وأصدر الطرفان بياناً مشتركاً متوازناً، غادر بورقيبة، في إثره، إلى بيروت ثم إلى أريحا. وهناك ألقى خطاباً طالب فيه العرب بقبول فلسطين بحدود 1948م! وقامت القيامة في أجهزة الإعلام المصرية تلعن (خاش) بورقيبة!

    هبطت، ذلك المساء، من شقتي، كالعادة، طلباً لفنجان قهوة في ذلك المقهى. كان أحمد سعيد (يُلَعلع) من راديو صوت العرب في هجاء بورقيبة. وجلس بالقرب مني رجل من البسطاء (أظنه كان في ستينياته). طلبت له فنجان قهوة، فقال يخاطبني بصوت خفيض:

    ـ "شوف الراجل المفتري ده، سكناه في الهلتون، ووكلناه فراخ، وجبنالو الستِّ غنتلو، يقوم يروح أريحا يشتمنا"؟!

    حاولت أن أقول له إن لكل مقام مقال، فهو في القاهرة كان يخاطب مصر، لكنه في أريحا كان يخاطب العرب والعالم. ويبدو أنني، أثناء كلامي، قلت عرضاً:

    ـ "وعندنا في السودان .."!

    ولم أكمل، لأن الرجل انتفض، فجأة، واضعاً فنجانه بعنف على الطاولة، وهو يكاد يصرخ:

    ـ "هوَّ البيه من فين"؟!

    فقلت بهدوء:

    ـ "من السودان"!

    فارتفعت وتيرة صوته حتى تلفت المقهى كله نحونا:

    ـ "وبقالك أدي إيه كده عندنا أهو"؟!

    فقلت:

    ـ "يعني .. حوالي سنتين"!

    فصرخ:

    ـ "وبتتكلم عربي كده أهو؟ ينصرك يا مصر .. تنطقي الحجر"!

    صرفت وجهي عنه. لكن صاحب المقهى انطلق مهرولاً نحونا:

    ـ "إيه اللي بتقول فيه ده يا حمار؟! ده السودانيين بيتكلمو عربي أحسن مني ومنك، والجدع ده شاعر .. عارف يعني إيه شاعر يا بغل؟! يلا لم عزالك وإياك تهوِّب ناحية القهوة دي تاني مرة"!

    ثم التفت نحوي وهو يقول:

    ـ "حقك عليَّ يا احمد بيه .. ما تزعلش"!

    صعدت إلى شقتي، لكنني لم أنقطع عن ذلك المقهى حتى تخرجت!

    .............................

    .............................

    ولم يصل (جودو) بعد!

                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de