|
|
 أعمال القلم (3) ** الغربة نعمة ام نقمة على الوطن ؟ **
|
كنا سبعة .. فتقلصنا الي خمسة .. فثلاثة ..
أربعة منا إبتلعهم تيار الإغتراب المبكر قبل أن يكملوا دراستهم ..
الحق .. كانوا يمتلكون عقولا تشف العلم شفا ..
فأسرتهم مظاهر الإغتراب.. وعجلت بآجال مراحلهم الدراسية ..
كان الإغتراب يمثل أقصر الطرق لتحسين أوضاع الأسرة ..
وتكملة مراسم النصف الآخر ..
كان مظهر العائدين للوطن بعد غياب طويل فاتنا الي حد الدهشة ..
لولاهم لما وقعت أبصارنا منذ الطفولة علي نظارات البيرسول ..
والساعات الرومر .. والمسجلات .. وحقائب الزنك الضخمة .. وأشكال الذهب والمجوهرات ..
وعمائم التوتل .. وجلاليب التيترون الناصعة .. الخ..
الحق كانت في جملتها مظاهر محرضة ..
والعجيب أن ثلاثتنا أيضا جرفهم التيار فيما بعد وإن إختلفت المبررات ..
حين أذكر ذلك القول المأثور:
( سافر ففي الأسفار خمس فوائد )..
ينتابني إحساس بأن من ذاقوا معانات الغربة ومراراتها..
وجدوا في هذا القول المأثور ما يشجى إنهزام إراتهم في مواجهة معاناتهم في الداخل ..
وحيث كان الإغتراب بالنسبة للسودانين – خاصة الأجيال الأولي –
لا يتعدى غايات تحسين اوضاع الأسرة الممتدة وتكملة مراسم الزواج ..
ظل سقف طموحاتهم بسيطا ومتواضعا ..
لو قدر لجهة ما إستبيانه..
فلن تعثر علي أحد كانت همته منصرفة لإصابة الثروة ..
حتى العينات القليلة التي تحقق لها الثراء ..
لم يكن الثراء في ذاته المقصود ..
يقيني أن الإغتراب والهجرة بعضها ضروري وواجب ..
وبعضها مستحب ..
وبعضها غير مجد ومضر بالوطن ..
فالدولة التي تعاني من الإنفجار السكاني مع شح الموارد ..
الهجرة منها ضرورية لمن أصابته خصاصة ..
والدولة التي لا تعاني من غزارة سكانية غير أن موارها شحيحة ..
الهجرة او الإغتراب عنها مستحب ..
أما الدولة التي تتمتع بنسبة سكانية معقولة ..
وتملك موارد جيدة فإن الهجرة او الإغتراب عنها غير مستحب ..
إثنان من أقاربي – احدهم عمى – هربا من الوطن وأعمارهما لم تبلغ العشرين ..
إلتحق عمي بشرطة الهجانة المصرية .. وإشترك في الحرب العالمية .. ثم عاد للوطن ..
وغادره مرة أخري للملكة السعودية ..
عاد منها بعد أن تجاوز عمره الستين ..
عاد مريضا وصرف كل مابجعبته في العلاج ..
حاول بما تبقى لدية تعمير أرضه الموروثة التي ظلت بورا طوال هذه السنوات ..
صحيح أنه ملأها بشتول النخل ..
ولكن غادرها الي الدار الآخرة دون أن يذوق ثمارها ..
الآخر عمل بحارا بسفينة بريطانية ..
قضي حياته متجولا في البحار والمحيطات بين الموانئ ..
واقتني منزلا بإنجلترا ثم باعه عندما أحيل للمعاش وعاد للوطن ..
عاد بمفرده وحيدا وقد بلغ السبعين ..
لم تشأ له الأسرة أن يظل وحيدا في هذا العمر فزوجوه ..
أنجب طفلين وقبل أن يدركا من هو والدهما رحل الي مثواه الأخير ..
هذه أمثلة قد نجدها متكررة بيننا ..
بسببها خسرت أجيالنا الكثير ..
منها تأخر سن الزواج .. قلة الإنجاب .. توقف النشاط التعميري للأرض ..
تقلص الرقعة الزراعية .. تجميد زيادة الثروة الحيوانية ..
والأخطر من ذلك كله ..
ما ترتب عليه من نقص في نسبة السكان في مناطق وأقاليم كانت تعج بالسكان ..
وإرتفاع نسب البطالة المقنعة الناتجة عن مزاولة مهن غير منتجة ..
مثل السمسرة .. تجارة الشنطة .. إلخ ..
حتي إستثمارات من تحققت لهم ثروة لم تتجاوز مجال الإستثمار الجبان ..
العقارات .. تجارة العملة .. الخ ..
ولعل السؤال الذي يظل مؤرقا ..
ماهي الأسباب الكامنة وراء إغتراب وهجرة السودانيين المبكرة ؟
علي لرغم من ثراء مواردهم وتنوعها ..
فضلا عن تمتع بلادهم بنسبة سكانية معقوله ..
تقلل من إستهلاك او إرهاق الموارد المتاحة ..
وتزيد من نسب نمو الدخل القومي ..
فهل كانت العلة سياسية ؟
هل كانت بسبب التخبط وسوء التخطيط للتنمية الإقتصادية ؟
هل كانت بسبب السياسات التعليمية وقصور مناهجها ؟
أم هي كل تلك الأسباب مجتمعة ؟
لعل إسهام العلل السياسية والإقتصادية غير منكور ..
فقد لعب غياب الإستقرار السياسي دورا لا يمكن إغفاله ..
وشكل نسبة عالية لدوافع الإغتراب والهجرة خاصة في العقدين الأخيرين ..
فضلا عن ضريبة الحرب في الجنوب ..
أتت علي جل عائد فائض الإنتاج ..
وأصابت موارد الإقتصاد التقليدية بالكساح ..
وأعاقت بصورة مباشرة فرص التنمية في العقدين الأخيرين ..
اما التخبط وسوء التخطيط الإقتصادي ..
كان جليا في تركيز الدولة علي المشاريع الزراعية والصناعية القائمة في وسط البلاد ..
وإهمال بقية السودان ..
دفع ذلك لنوعين من النزوح ..
محلي من الريف للمدن ومناطق الوسط ..
وخارجي لبلاد مختلفه في العالم ..
وقد لا تجد دولة في العالم اليوم لم يدخلها سوداني بهدف الهجرة إليها او العمل ..
فقد وصل بعضنا المناطق القطبية ..
لسنوات عديدة أهملت الدولة عنايتها بالقري الحضرية والمدن الريفية ..
بإستثنا مدن مدني وعطبرة والأبيض وبورسودان ..
لذا ظلت جل مؤشرات النزوح في إتجاه المدن المذكورة فضلا عن العاصمة المثلثة ..
ويلاحظ أن ظاهرة النزوح بين سكان دارفور حديثة نسبيا إذا ما قورنت بالشمال ..
ولعلها تلت موجات الجفاف الذي ضرب مناطق واسعة في الغرب الإفريقي الأدنى ..
ودفعت بالعديدين من سكان دارفور للهجرة اوالإغتراب للجماهيرية ..
ونزوح بعضهم الي مناطق الوسط والشمال داخل الوطن ..
كان هذا قبل إشتعال الحرب بعد فتنة الإنقاذ ..
السياسات التعليمية والمناهج أسهمت بدورها في تفاقم الظاهرة ..
فالبطء الذي صحب إنتشار التعليم منذ الإستقلال ..
وقصور المناهج التعليمية والتأهيلية وعدم ملاءمتهما لظروف التنمية في البلاد ..
لعبت في مجملها دورا في إستشراء الظاهرة ..
الخريجون علي قلتهم كان تأهيلهم لا يناسب غير العمل الوظيفي في دواوين الدولة ..
اما الكوادر المهنية التي تحتاجها برامج التنمية في الدولة ..
فقد كانت أعدادهم قلية ..
الآن تسهم الظروف السياسية والإقتصادية بعد وصول الإنقاذ للحكم ..
في زيادة مهولة لنسب النازحين والمهاجرين عن الوطن والمغتربين ..
فضلا عن اللاجئين لأسباب سياسية أمنية ..
ولو تجاوزنا ما أصاب الإقتصاد الوطني من خسائر ..
فإن خسارة الوطن - خاصة في الآونة الأخيرة - لأعداد مقدرة من الخريجين وذوي الخبرة لا يقدر بثمن..
إذ نتج عن ذلك إنقطاع تبادل الخبرة وإنتقالها بين الأجيال ..
بدى ذلك جليا ومحسوسا في الأداء الوظيفي للدواوين ..
حيث إنفرط عقد الإنضباط ..
وضعف الإحساس بالمسؤولية ..
وإستشرى الفساد ..
صحيح أن مدخول الغربة يفك الإختناق المادي ..
وقد يمكّن المرء من تجاوز أزمته المالية الخاصة..
غير أنه تجاوز لا يسهم بالقدر المظنون في زيادة نسبة الدخل القومي ..
وحيث غدت الغربة والهجرة ظاهرتان إجتماعيتان ..
تعين الوقوف عندهما وتمحيصهما لا مجرد الإحتفاء بهما وتشجيعهما ..
ولعل تناول آثارهما من كافة الجنوانب الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والثقافية ..
يتطلب إجراء دراسة وافية توصلنا لإجابة علمية ..
للسؤال الحار ..
الغربة نعمة ام نقمة على الوطن ؟
|
|
 
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: أعمال القلم (3) ** الغربة نعمة ام نقمة على الوطن ؟ ** (Re: محمد على طه الملك)
|
الغربة نعمة ام نقمة على الوطن ؟
قال الإمام الشافعي صاحب الأبيات المأثورة :
تغرب عن الأوطان في طلب العلا
وسافر ففي الاسفار خمس فوائد
*****
تفريج هم وكتسـاب معيشـة
وعلم وآداب وصحبـة ماجـد
*****
فإن قيل في الاسفار ذل وغربة
وقطع فياف وارتكاب الشـدائد
*****
فموت الفتى خير له من حياته
بدار هوان بين واش وحاسـد
فقال القاضي الطرطوشي:
تخلف عن الاسفار إن كنت طالبا
نجاة ففي الاسـفار سبع عوائق
*****
تنكر إخـوان وفقـد أحبـة
وتشتيت أموال وخيفة سارق
*****
وكثرة إيحـاش وقلة مؤنـس
واعظمها ياصاح سكنى الفنادق
*****
فإن قيل في الاسفار كسب معيشة
وعـلم وآداب وصحبـة فائـق
*****
فقـل ذاك دهـر تقـادم عهـده
واعقبـه دهـر كثير العوائـق
*****
هذا مقـالي والسـلام مؤبـد
وجرب ففي التجريب علم الحقائق
ــ
الأبيات منقولة من ملتقي أهل الحديث
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: أعمال القلم (3) ** الغربة نعمة ام نقمة على الوطن ؟ ** (Re: مهتدي الخليفة محمد نور)
|
أخي العزيز محمد
سلام على روحك الطيبة
ليس غريب أن نسمع أن إبناً عقّ أمه رغم إستهجاننا .. وكذلك بالمقابل ليس مألوفاً أن تجحد الأم فلذاتها أو تقسو عليهم.. هكذا حال الأوطان في زمانات العولمة تلفظ فلذاتها في شتى المنافي والأصقاع .. لعمري هذه القسوة هي الأمَرْ لأنها خروج عن المألوف... كما تعلم أخي الحبيب أنه لا تعلو أمة وقلوب بنيها شتى، نحن لحم أيبسه الصقيع يا أخي، إن تحقيق آمال الأوطان بالضرورة عبر سواعد بينيه؛ ولكنه استبيح ولم تراع حرمة أهله دماً وعرضاً ومالاً.. حتى أن (بلادي وإن جارت علي) أصبح بيت شعرٍ مستهلك لشد ما فعل بنو الأوطان ببني جلدتهم !!
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: أعمال القلم (3) ** الغربة نعمة ام نقمة على الوطن ؟ ** (Re: ابوبكر يوسف إبراهيم)
|
| Quote: نحن لحم أيبسه الصقيع يا أخي، إن تحقيق آمال الأوطان بالضرورة عبر سواعد بينيه؛ ولكنه استبيح ولم تراع حرمة أهله دماً وعرضاً ومالاً.. حتى أن (بلادي وإن جارت علي) أصبح بيت شعرٍ مستهلك لشد ما فعل بنو الأوطان ببني جلدتهم !! |
صدقت أخي الدكتور ابوبكر يوسف ..
فكلما جثم علي صدر الوطن آبق بعثر إصطفافه ..
نحن شعب موسوم بالصبر ياصديقي ..
حمال بلايا لا يعاجل من يعاجله ولا يشد إزار من يعالجه ..
شكرا علي المرور المضيئ .
| |
|
|
|
|
|
|
| |
محمد على طه الملك
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست