|
كونديرا .. الاستبداد .. والثقافة العربية
|
حـيـــن يـكـــون الادب لاأخـــلاقـيـــاً
يوسف حاتم
غالباً ما أدت تجارب الانظمة الاستبدادية الى سقوط رؤوسها سقوطاً مريعاً ومدوياً. تذهب الرؤوس لكن الاجساد تبقى شاهداً جماعياً على التشوّه. بين الادب والسياسة خيط دقيق يرى فيه ميلان كونديرا ان الرواية التي لا تكشف الجوانب المجهولة من الحياة تكون رواية لاأخلاقية. وقد يكون ممكناً تطبيق هذه الرؤية على السياسة نفسها. هذا المقال يقترح علينا مقاربة كهذه في ضوء ما تعيشه بعض المجتمعات العربية.
تبهرنا افكار ميلان كونديرا الروائية التفكيكية. التفكيك عنده لا يطاول الفكر والممارسة السياسية في الدول الشيوعية الاستبدادية (السابقة) فحسب، بل يذهب عميقاً في الاتجاهات كافة فلا يسلم منه اي شيء: التراث الديني والعلاقات الانسانية والحب والفن والثقافة.
لا ندري ماذا كان كتب كونديرا لو كان عربياً. والاحرى ان نسأل: لماذا ليس هناك كونديرا او اشباهه في العالم العربي ليقوم بتفكيك الاستبداد المعشش في السلطات والمؤسسات والجماعات والافراد والبيوت والتقاليد والعقول والاخلاق والدين؟! ليس السؤال تحاملا على الآخرين، فاذا عقدنا مقارنة بين الاستبداد الشيوعي في اوروبا الشرقية والاستبداد العربي، قد يجد بعضنا ان هذا الاخير اكثر قسوة ورعباً، لكن غلاة العروبة القومية هم في الحيرة بل في مشهد المتفرج الصامت والمتواطىء.
الثقافة المحكومة بالموت
ربما علينا قراءة المسار السياسي والثقافي والاجتماعي في الدول العربية من وجهة نظر كونديرية لتبيّن الجوانب المعتمة. فاذا كان كونديرا عمل على اساس ان الرواية التي لا تكتشف جزءا مجهولا من الحياة، هي رواية لاأخلاقية، يمكن القول ان الجزء الاكبر من الرواية والشعر والمطارحات الثقافية العربية هي لاأخلاقية.
هناك مئات الروايات وألوف القصائد العربية تمجد الشهداء والموت، وليس هناك رواية عربية حقيقية عن الاستبداد السياسي او الاستبداد الاجتماعي والديني. لا يحب الكتّاب الشهداء بقدر ما يجدون فيهم نوعا من الكيتش الايديولوجي للترويج لانفسهم، والافدح منهم الشعراء في قصائدهم الدموية والتعبوية التي تروّج بشكل مضمر او معلن للنزوات الاستبدادية.هل نقول ان الجزء الاكبر من مشهد الثقافة العربية محكوم بالعقل المتصلب وهو نهاية المعرفة او موتها؟ هل نقول انه على الرغم من سقوط صدام، ما زال البعض من اهل الثقافة والخردة الكلامية ينادي بأنه سيقاتل حتى آخر نقطة دم. لا ندري لو لم يُسقط الاميركيون صدام كيف كانت صورته ستكون الآن؟ الارجح ان بعض المثقفين كانوا سيعزلونه عن بشاعاته وجرائمه ومقابره ويحمّلون صورته زخماً حنينياً (النوستالجيا) مثل صورة ابنائهم واجدادهم.
لكم كان كونديرا محقاً حين قدّم في روايته "خفة الكائن التي لا تحتمل" وجهة نظر مرعبة في الفكر السياسي والتاريخ الحديث. هذا النوع من الحنين العربي يذكّر بهتلر معزولا عن محارقه. يلاحظ احد النقاد ان كونديرا ربما ينبغي له ان يقترح عودة هتلر الى العالم لمرات عديدة، كي يعي العالم حقيقة النازية.
هل علينا ان نقترح عودة صدام لمرات عديدة كي نعي حقيقة البعث والنظام الابوي العربي والقومية العربية والفكر العربي الواحد والزعيم العربي الواحد والشاعر العربي الواحد؟
حرص الصدام بعقله المتصلب على ان يجعل من العراق جسداً واحداً، فأحاله ركاماً. الصدام ليس وحده في هذا المجال، فثقافة الجسد الواحد عمرها عقود في العالم العربي. كان الطهطاوي يقول: "ان الوطن كالجسد"، ويروى ان الحاج امين الحسيني برر رفضه تقسيم فلسطين عام 1947 بأسطورة سليمان التي تقول بأن اثنتين من الامهات احتكمتا اليه لبتّ بنوة طفل تدّعي كل منهما انها امه فقضى بتقسيم الطفل مناصفة بينهما فرفضت احداهما التقسيم. وهكذا عرف سليمان انها ام الطفل الحقيقية فأعاد اليها الطفل كاملا. بهذه الذهنية التقليدية ضيّعت قيادة امين الحسيني قرار التقسيم الاممي فانتصرت الذهنية التقليدية على العقل العقلاني، وخسر الفلسطينيون فلسطين. ويبدو اليوم ان من السهل ان يتحسر بعض المثقفين على قرار التقسيم ويلقون اللائمة على الحسيني، لكن ما مضى قد مضى، والذي حصد قد حصد.
اما العبرة من ايراد رفض الحسيني فتتمثل في محنة تغلغل ثقافة التحسر في القرارات السياسية. يستعيد العرب التبريرات من الميتولوجيات والتراث لتكون سندا لقراراتهم السياسية (اللاسياسية) بل انهم يحيلون هزائمهم ويتعاملون مع الحدث كما لو ان ما حصل كارثة طبيعية. استعملوا مفردة "النكبة" بدل الهزيمة، وهي تضمر غياب المسؤولية لدى العرب. كان الامر نفسه قد حصل في ايام حملة بونابرت على مصر، اذ اكتفى اصحاب الشأن بالقول "لا حول ولا قوة". على ان الثقافة العربية روجت مفردة اغتصاب فلسطين بدل احتلالها، والايماء بالاغتصاب يراد منه تشبيه القضية بالعرض والشرف، وهذا في حد ذاته الغاء للسياسة ودفنها تحت سندان التقاليد والقرابات والمحارم او بالتالي جعل الدولة جسد امرأة.
جاء قيام دولة اسرائيل واحتدام الصراع ليساند مفهوم التأزم في كل شيء: في الثقافة واللغة والسياسة والغناء والشعر والتفكير، فلم يعد توطيد الاوطان مطلوبا بل غدا المطلوب اقحامها في الصراع ضد اسرائيل. فالوطن في هذا المعنى لا يتوطد الا حين يدخل في حلقة الصراع بما يؤدي مليا الى تفككه وضياعه.
هذا الميل الوطني انتج ثقافة كاملة. ثقافة هي في مضمارها ضد الثقافة وضد الخلق، بقدر ما تذهب في التصنيم وبناء العقل المتصلب.
خرجت الناصرية من رحم هزيمة ،1948 لكن الثورة لم تكن حصيلة تراكمات ثقافية او سياسية تبحث عن التغيير. فالضباط الاحرار ما كانوا يملكون الاطر الحقيقية للتغيير، وفي الميدان العسكري صار عبد الناصر يبحث عن فلسفته في الحكم، فروّج لفلسفة تخلو من اي بعد فلسفي، وبالغ في خطبه الرنانة وتعابيره الكيتشوية (الشعبوية)، طالباً لنفسه ان يكون الزعيم الاوحد على الشعب العربي الواحد.
سحر الكثيرون من غلاة الثقافة العربية بالزعيم الاوحد، على نحو ما سحر آخرون بستالين في الثلاثينات والاربعينات. فجعلهم السحر يغضون النظر عن كل شيء ويتواطأون في كل شيء.
ظهر من خلال الوقائع ان عروبة ناصر كانت تريد تمصير العالم العربي. ولم تكن النتيجة سوى فظاعات ومآثر مفجعة. لا ندري اذا كان العرب يشعرون بها، ام انهم لا يزالون يغرقون في الحنين الى ناصر.
حلم الصدام بـ"تعريق" العالم العربي ايضا، هذا بعدما جعل العراق قبيلة، فقطفنا من الاحلام ما قطفنا، اثماناً باهظة بالطبع. وحاول النظام البعثي في سوريا سورنة او بعثنة اجزاء من محيطه تبعاً لمخطاطاته "الامبراطورية" فحصدنا النتيجة في لبنان. وهي كما تعلمون. كل دولة تسعى الى اضفاء عروبة تخصها وتتناسب مع تطلعاتها، وبالتالي جعل محيطها على صورتها.
ندرك كم انتج اصحاب الاحلام تشويها في مجتمعاتنا، اذ جعلوها بلا كينونة وبلا حضور. لم تثمر الاموال النفطية مثلا غير الشيخ اسامة ونزعته العدمية وطموحه في جعل العالم رماداً ليكون له فردوسه السماوي.
ثمة فكرة بديعة قالها سبينوزا: "اذا بادرنا ببساطة الى قطع الرأس الاستبدادي للجسد الاجتماعي فإننا سنبقى مع الجثة المشوهة للمجتمع". ما نحن في حاجة اليه هو ايجاد جسد اجتماعي جديد. لا نستطيع القول ان عبد الناصر كان استبداديا الى الحد الستاليني لكنه مارس دور الاب الساحر. ادت هزيمة 1967 الى قتل الاب الساحر (او الرأس الاستبدادي) بعدما تحدث انور السادات عن عبد الناصر في سيرته الذاتية واعتبره "جثة حية". في معنى آخر لم تكن هزيمة مصر في العام 1967 الا نهاية للمد الثوري مما اضاف جرحا على حضارة جريحة. ذهب الرأس وبقينا مع الجثة المشوهة للمجتمع، التي كان بديهيا ان تتنامى داخلها التيارات الاصولية الراديكالية او الثورية المتطرفة، لانها تبحث عن شكل جديد للمجتمع. وزاد السادات تنامي الحركات الاسلامية، فهو كان يريد لعب دور الفرعون الجديد فمارس سياسة "فرّق تسد" لكنه وقع ضحيتها.
سيتكرر مشهد الجثة المشوهة للمجتمع في لبنان في سنوات الحروب المتمادية. لم يكن ذا رأس واحد بقدر ما كان جماعات وطوائف واحزاباً مما استدعى تقطيع الرؤوس المدبّرة لسياسته الداخلية وابقاء جسمه جثثاً مشوهة.
لم تكن نهاية عبد الناصر الا بداية حكم البعث العمودي الاستبدادي في العراق وسوريا. في العراق انفق الفكر الايديولوجي الصدامي البعثي الاستبدادي على التسلح والتجييش والبولسة والقمع وعلى البذخ في القصور والقتل، باهمال شبه كامل لمشروعات التنمية البشرية، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. لكنه سقط في الحرب.
وهنا ينطبق قول سبينوزا بشكل جذري: سقط النظام الاستبدادي ورأسه وبقينا مع الجثة المشوهة للمجتمع.
الطريق الى الخراب
يلاحظ ادونيس ان الفكر الايديولوجي "الموحد" في العالم العربي كله، سواء منه ما وصل الى الحكم او لم يصل، قادنا في القرن العشرين المنصرم الى مستوى من التوهم والضياع والخراب فأصبحنا لا نعرف من نحن، وما المعنى الذي ينبغي لنا ان نضفيه على حياتنا ووجودنا. اصبحنا لا ننظر الى العالم وعلاقاتنا معه الا عبر توهماتنا وخرافاتنا. سقط صدام ولم يترك وراءه شيئاً .
ان العودة الى الرموز الدينية لا تجد تفسيرا في المذهب الديني في حد ذاته وفي التعاليم الاسلامية والقرآنية الا بدرجة قليلة جدا. الحنين الى الماضي، كقوة اجتماعية، موجود في كل المجتمعات، فهي دائما ما تصل الى حد تشعر فيه بأنها فقدت سيطرتها على الواقع ثم تشرع في تذكر الماضي المشرق.
غالبا ما يصف بعض الكتبة والكاتبين والمتكلمين دمشق بأنها قلب العروبة النابض. هذه المقولة من ضمن الاستعارات التي اعتدنا عليها في الثقافة العربية العروبية، وهي ما برحت تتكرر من عقد الى آخر. لنقل ان القومية لا تزال تجري عميقا في شرايين العاصمة الاموية العتيقة، فقد كانت دمشق بالفعل رائدة، بدءا من حكم الامويين ولقرون طويلة، ويقال انها اقدم حاضرة في العالم. ان التاريخ القديم الذي فيها يشكل فردوسا للسياح، لكن الاميركيين يرون انه ليس في دمشق مقهى ستاربكس او مطعم ماكدونالدز.
يتشبث السوريون بالصمود والتصدي وهم احرار في ذلك، لكن عليهم ان يدركوا معنى الجثة المشوهة للمجتمع، والامر نفسه في فلسطين. فالخطأ المميت كان في جعل ياسر عرفات في دائرة التأبيد والقداسة وعدم المحاسبة. وضعه يذكّر الجميع جيدا بأن ياسر عرفات رفض عام 2000 مقترحات كلينتون من اجل السلام، لكنه عاد بعد 22 شهرا وقبلها وناشد المجتمع الدولي اجبار اسرائيل على قبولها، انما بعد رحيل المقترحات مع رحيل نزيل البيت الابيض.
الارجح ان عرفات كان يعتقد ان بوش الصغير اكثر سخاء من ادارة كلينتون. كان فشل المفاوضات اساسيا في تنامي الحركات الراديكالية كـ"حماس" و"الجهاد الاسلامي" والقافلة التي اختارت العمليات الانتحارية لـ"تحرير فلسطين حتى آخر ذرة تراب واعادتها وقفا على جميع المسلمين في العالم" كما يقول قانون "حماس" الاساسي! لكن العمليات الانتحارية التي تستعمل فيها الاجساد البشرية، ساهمت في جعل المجتمع الفلسطيني جثة مشوهة، وهي الاوكسيجين الذي تتنفس به حكومة شارون لحشد الرأي العام الاسرائيلي والاميركي.
علينا ان نقول ان العرب جميعا، خلال نصف القرن الماضي اهدروا ما يكفي من الامكانات المادية والبشرية لكنهم فشلوا دولا ومجتمعات في تحقيق التغيير الاجتماعي واقامة الدولة الحديثة والمجتمع الديموقراطي. بقي الاستبداد والعقل المتصلب يتحكمان بكل شيء، في السياسة والعلاقات الانسانية واللغة وغير ذلك.
نقلا عن منتدي اشرعة
|
|
|
|
|
|
|
|
كونديرا (Re: خالد عويس)
|
الاخ خالد روايات كونديرا ذهبت عميقا فى الحفر فى الاجتماعى والدينى والثقافى لبنية القهر فى مجتمعات اوربا الشرقية باسلوب فنى مدهش عن غياب مثل هذه الكتابات فى الرواية العربية الا ترى معى ان هناك استثناء مثال رواية اللجنة لصنع الله ابراهيم ومدن الملح لعبد
الرحمن منيف
| |
|
|
|
|
|
|
|