|
ابراهيم الكوني : الصحراوي المتقشف
|
اختار الروائي الليبي إبراهيم الكوني مسرحا متقشفا (ظاهريا) يصعب الارتماء على حوافه ناهيك عن مجاراته إلى كنهه والتعاطى معه ، فالصحراء تظل متماهية في أساطيرها وأسرارهاالمغلقة بحيث لا تمكن المبدع من الولوج إلى عالمها . الكوني لا يحفز طاقاته لاختراق الصحراء ، الصحراء هي التي تنفذ إليه وتسيطر على إيقاع قلمه . والإيقاع هو التكرار بالدرجة الأولى كما يفسره "يوجين راسكين" ، وهو تكرار مقصود موّظف لغايات فنية ونفسية حسب الدكتور احمد الزعبى ، يعنى بالأحداث ونسقها وتشكيلها ، ومما لا شك فيه أن عبء فض عذرية الصحراء – ذات البؤر المتقشفة – هو مهمة تستدعى صيد كل حركة تصدر عنها أو إليها وجملة التفاعلات والتقاطعات بين مخلوقاتها وكائناتها وأحجارها وذرات رمالها وأساطيرها للغوص في نسيجها المتلاحم . يتبين ذلك من السطر الأول في (نزيف الحجر) ، حيث تفصح الصحراء الليبية عن محدودية مادية مذهلة ، وتقشف يضطر معه ( أسوف) بطل الرواية لمحاورة الذات وإفساح ذاكرته عن آخرها للتخييل والتأمل – لقلة الشخوص بالطبع - . يزيح الكوني الستار عن قبيلة 0(الطوارق) حيث يعمد للكشف عن تفاصيل شخصية (أسوف) راعى الماعز وصائد (الودّان) .... التيوس الجبلية في وادي "مساك صفت " ، وتدريجيا يرصد الكوني علاقات (أسوف) المعقدة ، الخوف البالغ من البشر لدرجة تشبه العزلة ، فرضتها طقوس الكائنات الصحراوية الذاوية في عوالم منغلقة على صدق إنساني باذخ لدى هذا الكائن الصحراوي الذي لم تبلغه علاقات الإنتاج وما تفضي إليه ، والعلاقة الغامضة بين الإنسان والصحراء ، فهي لا تمتد أمام شبكيته كفراغ لونى لا معنى له ، إنما تتخلق ككائن في غاية الحساسية ، يتوغل فيها ، يأكل من صيدها ، ويحتفظ بمخزون هائل من الأساطير الممزوجة بتقاليد وتعاويذ قبيلة (الهوسا) النيجيرية وهذه نقطة في حد ذاتها تثير تساؤلات إبداعية حول التداخل الثقافي الكبير على تخوم الصحراء الكبرى وفى أعماقها ، (أسوف) ذو العزيمة التي لا تلين يستجليه الكوني وهو يواجه طبيعة قاسية ، كما يقترب منه جدا في تداعياته الإنسانية وحالات خوفه المبهم الممزوج بذاكرة مجللة بالخشية من الفرائس دون سبب طبيعي ، حيث تستدعى ذاكرة الهوسا /الطوارق حادثة مصرع أبيه بقرون (الودّان) الحيوان الذي يبرز كمخلوق في غاية الغموض من جوف التاريخ كما تأمله (أسوف) منحوتا على الجبل إلى جانب كاهن قديم . نحوت الجبل (الكاهن /الودّان) تخلق علاقة واهية بين أسوف وموظفي الآثار والسياح الذين يأتون أحيانا ، وحين تدمدم سياراتهم على بعد مئات الفراسخ ، يكون بمقدور أسوف أن يسمعها ، أنها الصحراء!! برغم قساوة حياته إلا أن أسوف يبدو منسجما مع عالمه الصحراوي ، حريصا على حماية قداسته من شرور الآخرين ، عالمه الصحراوي نسيج محكم هو جزء منه ، إذا انتهكه إنسان غريب فكأنما غدر به ، لذلك فهو يرفض تقديم أية معونة للزائرين الباحثين عن لحم الودان على رغم رغبته العارمة في صرع الودان . ذاكرته تفيض بمشاهد صراعه مع الودان بتركيز حري بالدهشة على ما تنطق به عينا الفريسة من شقاء وحقد ، هي الأخرى تحافظ قدر استطاعتها على خصوصية تاريخية تعنى وجودها على الصحراء وحين تدرك النهاية تختار الانتحار على أن ينال منها أسوف ، ترى هل أدرك الإنسان الصحراوي كنه العلاقات المعقدة بين الصحراء ومخلوقاتها ؟ طرائد وصيادون ، أدوار يتبادلها البشر والحيوانات على رقعة تمتد إلى ما لا نهاية . وفى (عشبة الليل) يتبدى عالم يحيط الجنس بقداسة بالغة ، وهالة من الغموض ، ويبالغ في تكتمه على سرّه الأبدي . عالم درج على التعامل الحازم مع كل من يجرؤ على انتهاك السر إلا أن هذه القاعدة تنكسر أثناء حوار فتاة مع الكاهنة ، لتنطلق الفتاة هائمة في الشوارع تتمتم بعبارات تكسر جدران الصمت الأبدي وتحطم المزاليج عن سر رجلها العجوز الذي يتناول عشبة لا يجاريه بعدها فحل ! ويغوص الكوني في تفكيك عالم آخر ، هو نباتات الصحراء ، وهى بدورها حزمة أساطير ، تدخل في المعتقد الديني ، وشفاء المرضى ، ومنشط جنسي فادح لدرجة تسبب الألم للأنثى . الجنس عند الطيب صالح مثلا متدرج من اللذة المجردة( آن همند /ايزابيلا سيمور) إلى الخصب والرغبة في الخلود ( حسنة بت محمود) إلى الرغبة العارمة في التدمير متجاوزا كل الحدود ، جنس يعبر عن ثورة الإنسان ( قتل جين موريس) ، أما عند الكوني فهو سر أبدى لا يفتضح ، وحين يفتضح ، تعارض – الجماعة – افتضاحه جهرا وتتلذذ به سرا ، بل وتسعى _الأنثى مجملا – لمعرفة سر "عشبة الليل" ! وتدريجيا يضعنا الكوني في مواجهة بطله "وان تيهاى" الكائن الظلامى ، المتلفع بلباس اسود ولثام مسدل على كامل وجهه طول الوقت ، وان تيهاى الذي يختار العزلة ، وينصب خيمته عند وادي "الجن" بعيدا عن مضارب القبيلة ، إنسان صحراوي قح ، محاط بأسرار في تعاطيه للجنس وعلاقته بابنة الجن ، الجنس يمارس في ظل خلفية دموية ، ول"تيهاى" علاقة خاصة بالنبتة السحرية الغامضة المشوقة ، وتتشابك علاقاته بالحيوان والمرأة وعذراء الأبد والصحراء وطقوس السحر بصورة حادة وتقاطعات غامضة تزيد في غموض شخصيته . (المعنى العميق لرواية عشب الليل في أنها عن الإنسان في مواجهة الطبيعة ، الإنسان الغفل ، البدائي ، مخلوق الفطرة ، مع الطبيعة البكر العذراء ، التي لم يسبقها غير العدم ، ونحن هنا لا نجد لحظتين ، إنها لحظة واحدة اقرب إلى لحظة النزول من الفردوس وصرخة الإنسان الأول حين أحس بالضياع وسط طبيعة لا ترحم ) يقول الناقد إبراهيم عبد المجيد أما مجلة كولنر آنزايغر الألمانية فقد كتبت قبل سنوات ( في قلب رواياته المشحونة بفيض شعري غير مألوف ، تنهض تلك العلاقة العاطفية التي تتجاوز كل الحدود بين الإنسان والحيوان ) فيما علّقت مجلة Christian today كالآتي (بالنسبة للكوني تلعب العناصر الدينية دورا استعاريا إزاء سؤال الوجود ) .الناقد الأميركي روجر آلن اكتفى بعبارات مختزلة وعميقة ( يبدى الكوني في رواياته الاهتمام نفسه باستعمال البعيد زمانا ومكانا كوسيلة للتعليق قصصيا على الواقع الراهن بعدم اكتراثه بالسير في نهج القص العربي المعاصر ) ولعل النقطة الأخيرة التي أثارها روجر آلن قبل سنوات حول مغايرة الكوني عن النهج القصصي عند العرب هو ما يسيطر على مجريات النقد إلى الآن من حيث قلة الاكتراث بالكوني إلا فيما ندر برغم أن اللغة عند الكوني تجريب يطرق أبواب الأسئلة الكبرى ، لغة مقتصدة ، شحيحة ، لكنها موفورة المعنى تقوم على دلالات ناضجة وترتكز على معين لغوى وتكنيكات مدهشة واعماله تتجاوز العشرين ( بر الخيتعور) ، ( فتنة الزؤان ) ، (نداء الوقواق) ، (المجوس) ، (شجرة الرتم) وغيرها من أعمال تلمح فيها نضجا فنيا على مستوى بنية العمل ومعالجة الكوني لعلاقات الصحراء ، وفيوضاته اللغوية ، غير دأبه على نسج خيوط جديدة في أجواء الرواية وطقوسها .
|
|
|
|
|
|