|
!! خطاب فوضوي الى السيد بوش
|
جريدة الحقائق اللندنية /26 مارس 2003م خطاب فوضوي الى السيد بوش !
خــالد عــويس *
لعلها مهمة صعبة وموّترة بعض الشيء أن يوجه انسان مثلي ، ينتمي الي دولة تقبع في قعر العالم ، من شاكلة الدول التي يعتبرها سدنة البيت الأبيض ، لا تعدل شيئا في موازين القوة ، خطابا الي رئيس أقوي دولة في العالم . غير أنني استجمعت قواي لكتابة هكذا خطاب بعد تيقني من أن "القوة" التي أعطيتمونا نماذج متتالية عنها لا تعدل شيئا . والحقيقة _ فخامة الرئيس _ أنني وجدت نفسي فخورا بوطني اذ خلّف أسلافنا علي عهد الامام الثائر محمد أحمد المهدي في نفوسنا ، مشاعر كالتي تمور في نفوس العراقيين حاليا وأنت تقود جيوش الامبراطورية التي أسلمت قيادها اليك من خلال انتخابات "مشكوك فيها" لحرب غير متكافئة ، قابلها العراقيون ببسالة نادرة وشجاعة أجبرتكم علي الاعتراف بأن أمد هذه الحرب لن يكون كما كان متوقعا ، وجدت نفسي فخورا _ فخامة الرئيس _ لأنني أدركت أن القوة ليست كما كنت أراها علي الدوام . فالقوة تكمن في الارادة والصلابة الكافيتين لادارة الأمور علي نحو يرضي الأخلاق و يعزز الشعور بأن الحياة علي هذا الكوكب لا تقوم علي أساس غلبة القوي واخضاعه الضعيف بشتي السبل ، بل واحساسه بالفخر لأنه حاز القوة المادية فحسب ، وانما تستمر باضفاء قدر من الروح الأبدية الساعية الي العدل والتواضع والفضيلة . فخامة الرئيس ، لن أخوض في سعيّكم الدؤوب علي مدي سبعة أشهر لانتزاع قرار "مشروع" يقضي بشن حرب علي العراق ، والتفافكم علي المشروعية الدولية وذهابكم الي الحرب من دون الحصول علي ذلك القرار الذي جندتم له كل الوسائل _ غير المشروعة _ من خلال الضغط علي دول بعينها وتقديم رشاوي لأخري ، وتفضيلكم الانصات لصدي رغباتكم عوضا عن الامتثال للآراء القاطعة التي قدمها من بعثتموهم للتحقيق بشأن أسلحة الدمار الشامل لدي بغداد والذين كانت افاداتهم متقاطعة تماما مع الخلاصة التي قدمتموها لشعبكم قبيل ضرب العراق بيومين . لن أجادل كثيرا _ فخامة الرئيس _ في أمر امتلاك اسرائيل أسلحة يمكن أن تفتك بالمنطقة كلها ، وحرصكم البالغ علي ابعاد المفتشين تماما عن مفاعل "ديمونة" غير الخاضع للرقابة الدولية كما هو حال كل صناعات اسرائيل السرية في ما يتعلق بأسلحتها المدمرة ، لأن مناقشة الأمر تبدو من قبيل اضاعة الوقت ، وحججكم الجاهزة عن "ديمقراطية شارون" قد تبطل حججي . أتفق معك _ فخامة الرئيس _ أن صديقكم أرييل شارون يتمتع بعقلانية تحول دون وقوع كارثة في الشرق الأوسط علي عكس خصمكم صدام الذي تسعون لدمغه بامتلاك أسلحة دمار شامل لم يتيقن العالم كله من امتلاكه لها بعد ، فالأول _ فخامة الرئيس _ لم يجلب الارهاب _ من خلال ممارساته _ الي داخل بلدكم الآمن كما فعل الثاني ، والأول لا يعكر صفو المنطقة باستمرار "تحت حمايتكم ودعمكم " ولا يرتكب أية جرائم عدّها الأحرار في العالم كله _ ما عداكم _ جرائم حرب ، ولا يؤذي الأطفال والنساء ، ولم يسبق له أن قام بسحق مئات البشر في بيروت ، ولم ترتكب قواته جريمة قتل بشعة بحق مواطنتكم "راشيل كوري" وكانت جريمتها _ أي مواطنتكم فخامة الرئيس _ أنها حاولت منع جرافات شارون من هدم منازل مواطنين آمنين في أرضهم . أدرك _ فخامة الرئيس _ أن محنة الشعب الفلسطيني لا تهمكم في شيء ، طالما أن الفلسطينيين لا يمثلون ثقلا انتخابيا في بلدكم ، وليسوا قادرين علي تمويل حملاتكم الانتخابية ، ولا هم أيضا يتحكمون في المصير الأمريكي من خلال تحكمهم في علاقات "النفط المعقدة" ، اذن ستوافقني الرأي علي تجاوز هذه المسألة ، فبراغماتية الديمقراطية الامريكية تملي علينا تخطي بعض النقاط "غير المهمة" ، لكن يجدر بنا _ فخامة الرئيس _ أن نفطن الي أن هذا العالم قرية صغيرة بعد أن صيّرته الاتصالات والتفاعلات الاقتصادية والسياسية والثقافية هكذا ، وأن هذه المعطيات تؤكد أن ما يحدث في أيّ مكان في العالم سيؤثر حتما في أماكن بعيدة جدا حتي لو كانت محصنة بمحيطات وبحار ، ولا زلت _ فخامة الرئيس _ أري في 11 أيلول سبتمبر انعكاسا مباشرا لسياساتكم ، وثق _ فخامة الرئيس _ من أنني متعاطف مع ضحايا 11 أيلول الي أقصي حد ليس لأنني أنتفض رعبا من آلتكم العسكرية ، كما أنني لست مجبرا علي ادعاء تعاطف لا يعتمل في صدري فعلا ، انما يكمن السبب في أنني لا أقيس هذا العالم بالشكل المادي الفج الذي تقيسه به ، والمسألة عندي ليست حسابات ربح اصيبه بابداء التعاطف أو خسارة أمني بها في حال اظهاري الشماتة ، الأمر مختلف تماما ، هو نفس الامر الذي أعتراني حين شاهدت دموع والدة واحد من أسراكم لدي العراقيين ، كان المشهد معبرا _ فخامة الرئيس _ عن قلب أم مفطور علي ابنها ، لكنني بذات القدر تأسيت كثيرا علي الجثث المتفحمة التي تخلفت عن قصفكم المدن العراقية . ألم تر _ فخامة الرئيس _ ذلك الطفل العراقي المذعور وهو مربوط الرأس بشاش طبي في احدي مستشفيات بغداد والدموع تتقطر علي وجنتيه ، ألم تشاهد _ في منتجعك في كامب ديفيد _ حجم المأساة التي خلفتها قاذفاتكم في العراق ؟! الواقع _ فخامة الرئيس _ أن كل خطواتكم بعد 11 أيلول سبتمبر تدفعنا قدما في اتجاه الاعتقاد بأنكم تتركون اينما حللتم انطباعا سيئا عن الديمقراطية وكرامة الانسان وحريته ، والحقيقة أن هناك شعور ترسّخ بأن تلك "الشعارات" التي تبشرون بها الشعوب انما تعنون بها رفاهية المواطن الأميركي وكرامته وحقوقه علي حساب الشعوب الأخري ، فكل الذي حصل عليه الأفغان هو بضعة مئات من الدولارات كتعويض عن قتلكم خطأ بضعة عشرات منهم ، وكل الذي حصل عليه العدل الدولي وحقوق الانسان والمواثيق الدولية هو فضيحة من الوزن الثقيل في " غوانتنامو" . ولئن تخلص الفرنسيون من شبح "الباستيل" ، فان التاريخ لن يبيّض صفحاتكم في هذا الصدد . وسيتصدي عدد كبير من أحرار هذا العالم لفضح زيف شعاراتكم واسقاط ورقة التوت عن عورتكم المسماة بالديمقراطية . فالديمقراطية التي تدعون لها ، لطالما أخفت وجها بشعا يصعب تصديقه . ولعلنا نأخذ بالاعتبار نماذج أخري من الاخلاق الديمقراطية الرفيعة قدمها رجال علي شاكلة نيلسون مانديلا ومهاتما غاندي وباتريس لومببا من خلال كفاح طويل ومضن من أجل ترسيخ مباديء عدلية حقيقية لا تتدثر بثوب التقوي مخفية "روح الشر والدمار" . وكم هو مؤسف أن كل هؤلاء الرجال وغيرهم ممن أناروا بصيرة البشرية وأرشدوها لسلك دروب أخلاقية وعدلية في استخلاص الحقوق والسمو فوق الهموم الذاتية و"المصالح الشخصية" ، تعرضوا لشتي صنوف الأذي والتعسف من قبل حكوماتكم المتعاقبة ، فهل تري _ فخامة الرئيس _ أن عاقلا واحدا علي ظهر هذا الكوكب سينخدع بالشعارات التي ترفعونها ، وهل يجدر بكم الانزلاق لترديد مقولات سخيفة عن اسداء "خدمات حضارية" لشعب كالشعب العراقي ، الم يوحي اليك أحد مساعديك أبدا بأن الحضارة الانسانية تأسست انطلاقا من هنا ، وكيف تروّج لدعاية تقوم أساسا علي تعليم شعب عمر حضارته آلاف السنوات الحضارة ؟! اننا نتفهم _ فخامة الرئيس _ رغباتكم في ارساء قيّم أمريكية في طول العالم وعرضه كما تزعمون ، لكن هل بدا لكم ولو للحظة أن تأليه الانسان الامريكي والرزاية بالآخرين ستكون المعطي الاساس الذي يحول دون " أمركة" العالم ، حين يسقط النموذج في الوحل ، ويضحي الانسان الأمريكي نفسه ضحية لطموحات "غير مشروعة" ، ألم يسأل المواطنون الأمريكيون أنفسهم يوما ، لماذا هم وحدهم مستهدفون ، لماذا هم وحدهم من تطلب منهم سفارات بلادهم في الخارج اتخاذ تدابير احترازية وتضع قيود علي حركتهم بين الفينة والأخري ، اليس من حق الانسان الامريكي أن يكون حرا وآمنا وقادرا علي التفاعل مع الشعوب الأخري من دون وجل أو خوف من انفجار عبوة أو رصاص قناص ، لماذا هو الامريكي " الذي يراد لنموذجه أن يعم العالم " مذعورا ومتوجسا و"مسجونا" في محيطه ؟ فخامة الرئيس ، ان الذين يؤمنون بالديمقراطية في العالم لا يثقون كثيرا بديمقراطيتكم التي كبدّت المشروعية الدولية خسارة فادحة وأجازت اجتراح الحروب وقتل الشعوب دونما الحاجة لغطاء دولي ، والذين يؤمنون بالحرية والفضيلة لا يعدون مثالكم علي الحرية يحتذي به ، اذ يكرّس همجية لا نظير لها ، وبربرية سيندي لها جبين البشرية لوقت طويل ، ووحشية دعت الأطفال في مدن كثيرة في العالم يغالبون الثلج والمطر ليهتفون ضد حكمك القاسي علي أطفال العراق الذين حرمتهم حكوماتكم المتعاقبة من قطرة الحليب ودفتر الدراسة طيلة اثني عشر عاما ، ولم يقتصر الأمر علي تجويعهم وقذف الرعب في قلوبهم ، اذ زرعت قواتكم اليورانيوم المستنفد في أجسادهم الغضة ليكمل السرطان الحصار حولهم ، فأيّ سلاح للدمار الشامل ترغبون في ازالته ولمّا تزال بعد آثار اليورانيوم المستنفد الذي استخدمته قواتكم في 1991م ؟! فخامة الرئيس ، ان الفضائل التي تتحدثون عنها ، ليست حكرا عليكم ، فمئات الملايين من البشر في هذا الكوكب يدركون جيدا ما تعني تلك المباديء الانسانية التي تصون كرامتهم وتمنحهم حقوقهم ، لكن ليس من ضمنها بالطبع عرض صور لأسري _ مثلا _ والاساءة لكرامتهم ، والاحتجاج علي عرض صور أسري آخرين حين يتعلق الامر "بنا" ، وليس من ضمنها بالطبع زيادة الهوة بين فقراء العالم وأغنيائه من خلال وضع اليد علي الثروات النفطية ، وليس من ضمنها بالطبع تدمير البيئة ، أو امتلاك مخزونات ضخمة من أسلحة تهدد الحياة علي هذا الكوكب ، وليس من ضمنها بالطبع الدعوة الي اقامة دولة ديمقراطية هنا وغض الطرف عن حكومات كثيرة حول العالم تنتهك حقوق مواطنيها وتنكل بهم وتعبث بكل القيم الانسانية ، تضمن البقاء فقط لأنها حليفة ل" القوي العظمي" . فخامة الرئيس ، كان خليق بكم أن تعدلوا صورة في غاية السوء راسخة في الأذهان عن بلادكم ، غير أن ما يجري منذ وقوع الهجمات المؤسفة علي نيويورك وواشنطن يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنكم ستزيدون الأمر سوء ، والصورة الوحيدة التي ستنجح في تركها _ فخامة الرئيس _ حال مغادرتكم البيت الأبيض هي صورة أكثر قتامة وبشاعة عن الولايات المتحدة . وعليّ أن أعود _ فخامة الرئيس _ الي مبتدأ المقال حيث الاشارة الي القوة ، الواضح أن هجماتكم البربرية علي شعب العراق أسفرت عن نتيجة غير متوقعة ، فالارادة التي يمتلكها العراقيون تضاعفت ، وعزيمتهم علي الزود عن بلادهم بأي ثمن بلغت حدا لا يمكن الاستهانة به . ومع هذا ، فان الأمر لا يتعلق البتة بصدام حسين ، انه متعلق بصعوبة قبول شعب يمتلك ذرة من كرامة تدخل آخرين لتحريره ورفع أعلامهم علي أرضه .
_ كاتب وصحفي سوداني مقيم في الرياض [email protected]
|
|
|
|
|
|