مذكرات سجين سياسي في معتقلات الجيش الشعبي لتحرير السودان / منقول

دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-13-2024, 01:31 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة عبدالرحيم عبدالله عبدالرحيم درار(ودرملية)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-24-2005, 03:38 PM

ودرملية
<aودرملية
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 3687

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
مذكرات سجين سياسي في معتقلات الجيش الشعبي لتحرير السودان / منقول

    سلامات
    وعوافي
    انقل لكم هذا الكتاب الذي قام بتاليفه الاستاذ امير بابكر عبدالله مسؤول الاعلام في قوات التحالف السودانية (اما سابقا او مازال) حيث قامت بنشره جريدة الشرق القطرية في صفحة (الكتاب) حيث تقوم باستعراض الكتب التي احدثت دويا اعلاميا في مختلف المجالات .. والكتاب يتحدث عن العلاقة بين الحركة الشعبية وفصائل المعارضة الشمالية ومايشوبها من خلافات ويعتبر متفردا في هذا المجال....
    .............................................................................................
    رسالة مطولة إلى رئيس الحركة الشعبية ... مذكرات سجين سياسي في معتقلات الجيش الشعبي لتحرير السودان






    تأليف: أمير بابكر عبدالله :
    وضعت اتفاقية السلام بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية حدا لواحدة من اطول الحروب في القارة الافريقية، واندلع الصراع قبل اكثر من خمسة قرون مع مطلع الاستقلال بتفجر الحرب التي قادها التمرد الاول مطلع الخمسينيات.. هذا الكتاب يمثل سردا توثيقيا لملمح من تلك الصراعات المرة بين السياسيين في الفصائل السياسية المختلفة والمؤيدة للحكومة السودانية ومؤلفه هو الاستاذ أمير بابكر عبدالله مسؤول الاعلام بقوات التحالف السودانية ، ويروي الكتاب فصلاً مهماً لمرحلة ما قبل توقيع اتفاق السلام ودخول قوات الحركة الشعبية الى السودان وبهذا المفهوم يكون مؤلف الكتاب آخر المعتقلين السياسيين لمرحلة ما قبل الانتقال من الثورة الى الدولة.. يوجه المؤلف من خلال هذا الكتاب رسالة الى الرأي العام بوجه عام والى قائد الحركة الشعبية الدكتور جون قرنق بوجه خاص.. وهي رسالة تحاكم قيادات الحركة الشعبية في الميدان والصورة التي كانوا يتعاملون بها مع حلفائهم من المعارضين بالفصائل المعارضة الاخرى.. وربما كان هذا التعامل المشوب بعدم الثقة مع كل ما هو شمالي هو السبب في فشل مبادرات السلام السابقة منذ اتفاقية اديس ابابا وحتى مبادرة المرغني قرنق وقبله اتفاق كوكادام. وتتمثل اهمية الكتاب في ان مؤلفه عايش الواقع كسجين قد لايكون محايدا كل الحياد لكنه دون شك افضل من يصف ذلك الواقع وهو يعايشه من الداخل. وينقله الى رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان موثقا دون مساحيق وهي تنتقل من الثورية الى الشرعية ومن الحرب الى البناء ومن التحرير الى التنمية وهي استحقاقات لن تنجح فيها الحركة ان لم تستصحب مشكلات الماضي وتضع المعالجات اللازمة لها.

    الحديث عن الحركة الشعبية لتحرير السودان - كما يقولون - ذو شجون، أما الكتابة عنها أو حولها فذات أشجان. وأن أكتب أنا حولها فهي الأشجان ذاتها، خاصة تحت هذا العنوان. وإذا كان العنوان ملفتاً بدرجة ما، وقد يوحي بما سيوحي به، فإن ما سيرد تحته من سرد ورؤى وأفكار ستكون له علاقة مباشرة وغير مباشرة به. أما سبب اختياري الكتابة تحت هذا العنوان فهو أنني جلدت في سجن الجيش الشعبي لتحرير السودان، وبواسطة طاقم حراسته، وعلى مؤخرتي إحدى وثلاثين جلدة، بعد أن وافقت قيادته في الجبهة الشرقية رأي المخابرات الإرترية على نقلنا واستمرار اعتقالنا في سجونها بدلاً من السجون الإرترية. أما دوافعها فهو تلك العلاقة التي تربطني بالحركة الشعبية التي سأتعرض لها في موضعها، وكذلك محاولة للمساهمة - من وجهة نظري - في تلمس وجهة المرحلة المقبِل عليها السودان، وإبداء الرأي - الذي ربما يكون مفيداً - في بعض القضايا التي قد تهم الحركة الشعبية وغيرها من القوى السياسية.

    أرجو أن يتسع صدر فخامتكم Mr. Chairman لما سأكتبه - كما عودتمونا - وإنني مليء بالثقة في أنكم ستولون القضايا المطروحة هنا جل عنايتكم واهتمامكم.


    جلدة أولى
    كان الوقت مساء، حين قذف حراس السجن بأحد مقاتلي الجيش الشعبي داخل السور الشوكي، وهو يترنح سكراً ونشوة. ورغم آثار الضرب المبرح البائنة على وجهه وجسده فإنه وقف وسط باحة السجن "الشوك" وتمطى، ثم بدأ يمارس رقصة "تور مجوك" الدينكاوية الشعبية الممتعة في هالة من ضوء القمر، وهو يترنم بصوت عذب وبلحن "مورالي" جذب انتباهنا رغم التعب:
    نحن جيش شعبي

    نحن جيش تحرير

    قائدنا د. جون قرنق قال:

    سودان قديم لازم نغيِّرو.

    ابتسمت دواخلي، ابتسامة تعلَّق بحوافها طعم حبة الكلوروكين حين يتجشأها مريض الملاريا والحمى تكاد تهرس عظامه ومفاصله، ولكنه ينتظر موعدها - بشغف ووجد - صباح الغد ليبتلعها مرة أخرى. ورغم أنه يغمض عينيه بشدة ولكنه لا يفعل ذلك خوفاً منها ولا من طعمها، ولكنه يخاف ذلك الطعم العالق بذاكرته حين يضطر لأن يتجشأ يوم غدٍ.

    وتذكرت كيف أن سعادة كبيرة غمرتني - وهي بالتأكيد غمرت الآخرين - حين أمرنا قائد ثاني مركز تدريب القوات الخاصة الإرترية - المشرف على أمر اعتقالنا- في موقعه قرب الحدود السودانية، بالاستعداد للمغادرة إلى موقع قيادة الجيش الشعبي لتحرير السودان بالجبهة الشرقية في منطقة "ربدة"، على أن يتم ذلك خلال خمس دقائق نلملم فيها بقايا دفء في مفاصلنا التي اعترتها إفرازات، الرطوبة وبعض متاع تبقى لنا أثناء رحلة المعاناة والتعب. جاء ذلك الأمر بعد شهرين قضيناهما - نحن سبعة سودانيين من قيادات التحالف - رهن الاحتجاز بواسطة المخابرات الإرترية، وبأوامر مباشرة من القيادة السياسية والعسكرية للنظام الحاكم في إرتريا في ذلك المركز، وهي الفترة منذ الأول من شهر أغسطس وحتى الثلاثين من سبتمبر عام 2004م.

    منبع تلك السعادة هو مغادرتنا لذلك الموقع البائس، ونهاية الرهق النفسي الذي عانيناه طوال فترة اعتقالنا في ذلك المركز، وخلفنا مصوبة فوهات البنادق كما مجرمين عتاة بما فيها بعض بنادق تخص الجيش الشعبي لتحرير السودان استعانت بها المخابرات الإرترية لحراستنا. أما منبع السعادة الآخر فهو اقترابنا المكاني من أرض الوطن الذي يسكن وجداننا، وأن هذا الاقتراب سيجيء عبر بوابة الحركة الشعبية لتحرير السودان وذلك لإحساسي بأنني جزء لم ينفصل عنها أصلاً، لمعرفتي القديمة بها واللصيقة ببعض قياداتها، ولأنها بوابة منفتحة آفاقها على السودان الجديد مرتكزة قوائمها على احترام الآخر وخياراته (أو هكذا توهمت)، وكذلك لعلم قيادة الحركة الشعبية والجيش الشعبي بالجبهة الشرقية (أو الجبهة السادسة كما يسمونها) - بصفة خاصة - بظروف اعتقال المخابرات الإرترية لنا وملابسات ذلك الاعتقال، ومعرفتهم الشخصية بكل المعتقلين ومتابعتهم الدائمة لذلك وعلاقتهم المباشرة أو غير المباشرة بانفجار الجرح المحتقن في جسد التحالف. وعلى رأس هذه القيادات المقدم بيونق والمقدم ياسر جعفر ورجل الاستخبارات الأول الرائد أوغستينو مدوت، وهي القيادات التي كانت موجودة في تلك الفترة.

    جاءت عربة لاندكروزر (بك أب) مع مغيب شمس يوم 30 سبتمبر -بعد خمس دقائق من إخطارنا- يقودها بعض عملاء المخابرات الإرترية إلى موقع اعتقالنا لتنقلنا (أنا وثلاثة آخرين هم مجدي سيد أحمد، ياسر محمد أحمد وحامد إدريس) إلى موقع الحركة الشعبية. ولكن قبل أن يستقر بنا المقام على ظهرها، همس لنا أحدهم بأن قادة الحركة رتبوا الأمر مع المخابرات الإرترية بحيث سننتقل من (هنا) إلى سجن الجيش الشعبي لتحرير السودان. حاولت تخفيف وقع الخبر على نفسي والآخرين بأن اعتقالنا سيكون سودانياً هذه المرة فلا بأس من ذلك. ثم ران صمت ظاهري، ولكن شغل حديث طويل دواخلنا قاطعاً المسافة بين الموقعين، لنجد أنفسنا أمام بوابة سجن الجيش الشعبي بمنطقة ربدة، ونخضع لتفتيش مستفِز ودقيق لمتاعنا الفقير أصلاً، قبل أن يقذف بنا - حفاة - عبر بوابة شوكية اخرى إلى داخل السجن (الشوكي) في تلك الليلة المعتمة سوى من بصيرة جعلتنا نتحسس طريقنا وسط تلك الأجساد التي تفترش الأرض وتلتحف السماء. واستلقينا - بعد مساعدة أحد زملائنا (عوض حامد عربي) وجدناه قد سبقنا - ننتظر صباح الغد، يملأنا أمل لقاء بقادة الحركة في الجبهة الشرقية.


    جلدة ثانية
    سيدي الرئيس..
    كثيرون يعتقدون - ومن بينهم أعضاء قياديون فيها - بأن تاريخ الحركة الشعبية لتحرير السودان بدأ منذ تمرد مايو 1983م عندما قررت هيئة أركان الجيش السوداني الاستمرار في سياسة نقل القوات من المنطقة الجنوبية إلى الشمال، ورسخت الحركة نفسها هذا الاعتقاد في الأذهان. ملصقة بمسيرتها - منذ ذلك التاريخ - الطابع العسكري والإقليمي الذي لم تستطع تجاوزه حتى هذه اللحظة (كما سأبين لاحقاً) مما ساعد خصومها واعدائها لحصرها في هذه الزاوية، على النقيض من ما عبرت عنه حوارات وكتابات قياداتها، "على النقيض من كل حركات التمرد في الجنوب، لم تدْعُ الحركة الشعبية لتحرير الجنوب من هيمنة الشمال، بل أكدت على رغبتها - منذ البداية - في تأسيس سودان جديد يعم فيه العدل، وينعم فيه اهل السودان جميعهم بالاستقرار". منصور خالد - أهوال الحرب وطموحات السلام - ص360.

    وأكثر ما ساهم في تشكَّل طقس هذا الفهم والتكلس داخل أطره هو تاريخ الحركات المسلحة في جنوب البلاد منذ تمرد 1955م ومن ثم حركة أنيانيا 1 و2، وكلها انطلقت نتيجة الإحساس بالغبن والظلم بسبب سياسات المركز العقيمة والمتواطئة مع مصالحه. ولكنها اكتفت بنجاحات شوهها سطوع قدراتها العسكرية وعدم قدرة الأنظمة الحاكمة على اكتساحها وشلها، في مقابل ضبابية مواقفها الفكرية والسياسية مما جعلها توافق على حدود دنيا من مطالبها، وحتى دون ضمانات كفاية لاستمرار تحققها وتمنع التغول عليها، مثلما ما حدث لاتفاقية أديس أبابا 1972م.

    ولكن هل حقيقة أن تاريخ الحركة الشعبية بدأ منذ ذلك التاريخ؟؟

    انتظمت في أواخر سبعينيات القرن الماضي، ونشطت بكثافة في بداية الثمانينيات، حركة نشطة إثر بروز ملامح انهيار ذلك الاتفاق. وإذا كانت الحركات السابقة موزعة بين انفصال الجنوب عن الشمال وقيام دولة مستقلة وبين نظام حكم فدرالي يضمن للجنوبيين حكم نفسهم بأنفسهم في ظل الدولة الواحدة، فإن تلك الحركة (ويطلق عليها اسم "نام" اختصاراً) تجاوزت بتفكيرها بنود اتفاق أديس أبابا وخلفياته ومن ثم تداعياته. حيث ارتكزت أهم ملامح بنيتها السياسية والفكرية على تجاوز التقوقع والتعامل مع واقع أن السودان بلد غني بتنوع مصادره الفكرية والسياسية والثقافية والاثنية ويمكنه أن يسع الجميع، وأن يكون دولة واحدة وقوية في ظل كل هذا التعدد والتنوع.

    ولكن اهم ما في الأمر هو أن المبادرة هذه المرة جاءت من سودانيين من الإقليم الجنوبي تحاول استقطاب مجموع شمالي، مخترقة بذلك كل الحواجز المدعاة، وهي مدَّعاة لأن مسبباتها أصلاً غير منطقية وغير متسقة مع طبيعة السودان الفطرية، وإنما تعبر عن طرائق تفكير منغلقة لسياسيين آثروا التمترس في خندق مصالحهم الحزبية والعقائدية - وربما الشخصية - آخذين سطوتهم من تمركز السلطة في يدهم من قبل خروج المستعمر. وكان للجدية التي اتسمت بها قوة الطرح الخاص بتجاوز حالة الشمال جنوب أو الجنوب شمال وتبعاتها، التي تعيشها الحركات والأحزاب السياسية رغم (الشطحات الديكورية)، إلى حالة حركة سياسية قومية تعبر عن كل السودانيين، وليس الاكتفاء بكتابة ذلك في ديباجة الدساتير واللوائح الحزبية، وانما العبور به إلى آفاق التحقق عملياً، السحر الجاذب لاستقطاب وإلتفاف الكثير من المتطلعين إلى مفاهيم جديدة للممارسة السياسية.

    كان المعبر عن تلك الأفكار والمبشر بها - إبان تلك الفترة وأنا في بداية المرحلة الثانوية في مدرسة بورتسودان الثانوية - هم الطلبة من الإقليم الجنوبي المنتشرين في كل المدارس الثانوية في الشمال. وعلى رأس هؤلاء الطلبة باقان أموم الذي بلغ مرحلة الجلوس لامتحانات الشهادة الثانوية والتحق بعدها بكلية القانون جامعة الخرطوم. وقد كان مبرزاً على المستوى الأكاديمي ويمتلك نواصي القدرات القيادية على المستوى السياسي في مرحلة التلمذة، والآخر هو صديقي العزيز بيتر قرنق دي كويك (وهذا أسم الكنيسة) أما اسم القبيلة فهو كير قرنق دي كويك، وهو شخصية لمَّاحة يقرأ المستقبل بذهن رائق وينفذ إلى جوهر الأشياء دون مراوغة. وهما الآن - كما هو معروف - قياديان بارزان في الحركة الشعبية.

    وفي ظل القبضة الأمنية الباطشة لنظام نميري، خاصة بعد ان لبس عباءة الإمامة وتلفح ثوب الدين دون أن يكترث كثيراً للتطهر من رجس دواخله، حملت حركة "نام" رؤى واضحة لمقاومته - نتيجة وضوح رؤاها الفكرية والسياسية - تفاعلت داخلها الثقافات النضالية للشعب السوداني مجتمعة، وكان من أبرزها على الإطلاق الكفاح المسلح. جاء ذلك في نهاية عام 1980م وبداية عام 1981م، عندما طلب مني بيتر قرنق التوقيع على ورقة بعد الإطلاع عليها جيداً، أثناء رحلة مدرسية من بورتسودان إلى مدينة الأبيض، نظمتها جمعية التاريخ للطلاب المنضوين تحتها عن طريق السكة حديد، وكنا - هو وأنا وثلاثة طلبة آخرين - على رئاسة مكتبها التنفيذي.

    مضمون الورقة (المكتوبة بخط اليد) هو تعهد والتزام للموقِّع عليها وجاء فيها: "أنا أمير بابكر عبدالله أتعهد والتزم بالاستجابة لأي نداء يصدر لي من الحركة للانخراط في الكفاح المسلح ضد دكتاتورية نظام مايو." ولأن الثقة متبادلة بيننا بدرجة كبيرة لم أتردد في استخراج القلم للتوقيع، ولكنه استخرج موسى من جيبه وأمسك بإبهامي ونقره بمهارة فنيي التحاليل الطبية وطلب مني أن أبصم بدمي. وعندما أكملت كل تلك الطقوس، رأيت وجهه متهللاً وهو يطوي الورقة ويضعها في حقيبته ويقول لي "إنه عهد الدم". رغم إحساسي العميق بالارتياح المفعم بروح الطلبة المنفعلة بالثورة، أدركت أن ما هو مقبل أمر جلل.

    عرجنا أثناء رحلة العودة من عروس الرمال، وبعد توقفنا في العاصمة الخرطوم ليومين اثنين، بسبب انتظار القطار الذي سيقلنا مباشرة إلى بورتسودان، عرجنا إلى داخل جامعة الخرطوم للالتقاء بالرفيق باقان أموم. ولكنه لم يكن موجوداً، وكأنه "فص ملح وداب"، لم يكن له أثر حتى في كل السودان. لم أسمع باسمه بعدها إلاَّ في عام 84 عند اختطاف الطائرة العمودية التي كانت تقل بعض الأجانب العاملين في قناة جونقلي أو - ربما - في شركة شيفرون. اما صديقي بيتر قرنق فقد افترقنا بعد عام تقريباً، إذ عاد هو إلى الجنوب واستقر به المقام كمعلم في مدرسة ابتدائية هناك ليرسل لي خطاباً طويلاً تشي سطوره بشيء ما يلوح في الأفق، ويذكرني فيه بـ"عهد الدم". ولم أسمع عنه إلاَّ مؤخراً في الجبهة الشرقية بعد أن طلبت من بعض القياديين كانوا في طريقهم إلى مدينة "يـي" تسليمه نسخة من روايتي "فقاعات زمن التصحر" التي أهديتها إليه.

    كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان قد انطلقت من عقالها وأطلقت "منفستوها"، الذي لم يطلع عليه إلاَّ "ذوو الاختصاص" وقتها، ولكن ظلت جموع الشعب السوداني تنتظر الثالثة بعد الظهر من كل يوم، في حميمية لصيقة وسرية كبيرة، لتدير مؤشر الراديو إلى الموجة القصيرة حيث ينطلق صوت كفاح الشعب السوداني المسلح، بعد تلك المارشات العسكرية التي تثير في النفوس نشوة غريبة، ويبدأ المذيع في تلاوة أنباء المعارك العسكرية (وكفى)، وهل كان ذلك حباً في الحركة وإيماناً بها وبجيشها الشعبي أم نكاية في نظام مايو وبغضاً له؟!!!!!


    جلدة ثالثة
    صبيحة اليوم التالي لانتقالنا لسجن الحركة الشعبية في منطقة ربدة كانت الصورة قد بدأت تتضح ملامحها بالنسبة لي. حيث إن الضغط على السلطات الإرترية كان قد بلغ أشده من أجل إطلاق سراحنا، وبرغم أن هذه النقطة واضحة بالنسبة لكم - سيدي الرئيس - استميحكم عذراً في شرحها لمن تقع بين يديه هذه الرسالة. فبعد أن فشل مخطط الجبهة الشعبية (الحزب الحاكم في إرتريا) الذي كان يهدف إلى إنهاء وجود التحالف الوطني السوداني بقيادة عبدالعزيز خالد، وثبت لها بما لا يدع مجالاً للشك خطأ قراءتها لقدرات التحالف، وبعد ان اضطرت - تحت الضغط الدولي والإقليمي - إلى السماح لعبدالعزيز خالد بمغادرة أراضيها بعد أن ظل قيد الإقامة الجبرية في العاصمة الإرترية منذ 18 فبراير وحتى نهاية مايو 2004م، قامت المخابرات الإرترية - منفذة لأوامر عليا - بمحاصرة قوات التحالف وتجريدها من سلاحها (تسللت تلك القوات بصورة أذهلت الأرتريين إلى داخل الأراضي السودانية فيما بعد) واعتقال قيادات التحالف السياسية والعسكرية الموجودة داخل أراضيها والبالغ عددهم تسعة أشخاص في الأول من أغسطس 2004م، وقامت بإطلاق سراح بعضهم فيما استمرت البقية داخل معتقلاتها حتى نهاية سبتمبر من نفس العام، حيث تم نقل أربعة منهم (من بينهم شخصي) إلى سجن الحركة الشعبية.
    ولكن لماذا تم نقلنا إلى سجون الحركة الشعبية ومشكلتنا أصلاً مع السلطات الإرترية؟ وهل هناك تنسيق بين قيادة الحركة الشعبية العليا وبين السلطات الأرترية في هذا الشأن، أم هو مجرد تنسيق بين قيادة الحركة الشعبية في الجبهة الشرقية والمخابرات الأرترية التي كانت تعتقلنا؟ ولماذا لم يتم تسليمنا إلى قيادة التجمع الوطني الديمقراطي؟ وأين هو التجمع الوطني الديمقراطي طوال هذه المدة؟ هذه وأسئلة أخرى ظلت تحلِّق حول رؤوسنا وكنا قد قررنا طلب مقابلة قيادة الحركة في الجبهة الشرقية حسب ضوابط السجن، إلى أن حل المساء وحان موعد التمام (عد الرؤوس) ليطمئن السجان إلى أن سجنه مكتمل العدد. وبعد فراغه وإعطاء الإشارة بالانتهاء تدافع الجميع إلى الباب الشوكي للدخول إلى باحة السجن، فيما أمرنا القائد المناوب (نحن الأربعة) بالبقاء فجلسنا القرفصاء في الباحة الخارجية في انتظار أوامر اخرى. وجاء السجان والجلاد يحمل سياطه ليأتينا الأمر -وسط دهشة أفراد الجيش الشعبي وضباطه السجناء- بتنفيذ حكم الجلد علينا، وتم تنفيذ الحكم. وكان إحدى وثلاثين جلدة على مؤخرة رجل، تلاشت معها كل الأسئلة الموضوعية والتي تحتاج لإجابات واضحة، لتأتينا الإجابة عبر الأيام التي قضيناها متنقلين بين سجون الحركة من وضع سييء إلى وضع أسوأ منه.

    وتدافعت إلى ذهني كل الصور، وتلك الرحلة من بورتسودان إلى الأببيض وصديقي البشوش بيتر قرنق دي كويك، والقائد باقان اموم الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي الذي لا يصعد إلى مكتبه في مبنى المكتب التنفيذي قبل المرور على مكتبي وتنويري بما يجري أو باستخراج موضوع ما من الشبكة وغير ذلك، والقائد ياسر سعيد عرمان وطعم تلك الوجبة الدسمة التي دعاني ذات مرة إلى تناولها معه في المطعم الصيني، ود. برنابا بنجامين وهو يشجعني على مواصلة الكتابة ويدعم رغبتي في الكتابة عن الجانب الآخر للجيش الشعبي ويحمل خطابي بهذا المعنى إلى قيادته العليا ونسختين من الروايتين اللتين أصدرتهما في وقت سابق وهو يقول لي بأنهما سيكونان من ضمن منهج التعليم في المدارس في المناطق المحررة. ومع كل جلدة تتراءى لي صور أصدقائي ورفاقي وهم يبتسمون ابتسامات وكأنها تقول لتلك السياط القاسية كوني برداً وسلاماً.


    انتهي
    واليكم وصلة الكتاب كما نشر في جريدة الشرق القطرية في يوم السبت 23 يوليو 2005.
    http://www.al-sharq.com/site/topics/article.asp?cu_no=1...id=298&parent_id=297
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de