|
رحم الله عالم الآثار السوداني عبد الرحيم حاج الأميـــن
|
[U]عبد الرحيم حاج الأمين مرآة الحضارة لذاكرة المستقبل سيف الدين عيسى مختار/جدة في السيرة الذاتية للراحل المقيم عبد الرحيم حاج الأمين تتقاطع عدة صور، وتتلاقح عدة معارف وإشارات مهمة، تفتح الكوى لرجل مؤمن تجرد من إغراءات الذات، وأدرك أن الارتحال في ذاكرة الناس هو الطريق الممهد لوطن يولد في فؤاده كل يوم، ظل يحدق بكل ما أوتي من قوة إبصار في إبداعات الأسلاف في تجليات الزمن النبيل..لم يكن فعله ارتدادا إلى الخلف، بل بشارة خير بأن مرآة التاريخ هي التي تكشف لنا الطريق إلى المستقبل الواعد، وحين أكملت البشارة وعدها، أدرك أن مضمار الحياة قد أوشك على الانتهاء، وان رحلة الشعاع تظل في التوهج السرمدي، ساعتها راح في اتكاءه المحارب الذي لم يستنفد مشروعه بعد، وهو حتما لم يسترح بعد من وعثاء السفر، والرحلة التي ارتضاها في طريق الإبداع والتجلي، وفي ساعات الصفاء النفسي والروحي، هي حتما لذاكرة الأجيال.. هكذا ارتحل في هدوء وطمأنينة، في يوم شات. نظراته كانت مصوبة نحو وطن خرج منه لأنه لم يحسن التحديق في مرآة التراث ليبصر طريق المستقبل، غادرنا دون وداع لأنه كان مطمئنا من أنه سيعود ذات صباح حين يدرك الناس في بلادي الدروس التي أودعها عبد الرحيم حاج الأمين في ذاكرة المستقبل، والقيم الإنسانية التي حاول تجليتها ونفض الغبار عنها من إبداعات الأولين الذين استخلصوا عصارة حياتهم ومجدوها في لوحات جدارية وإبداعات حجرية..هل سمعتم بعبد الرحيم حاج الأمين؟ لقد كان يناديكم بأعلى ما يملك من صوت، الآن فقط ستدركون أن نداءه لم يكن صرخة في واد لا يصله الصدى، بل كان رجاء بأن نكتشف الكنوز التي خلفتها لنا أعرق حضارات الدنيا. عبد الرحيم نفسه كان خلاصة أعراق نبيلة تحمل نكهة التمر وشموخ الصحراء وعراقة النيل ، فوالده الشيخ حاج الأمين محمد بشير سليل المشايخ الذين أرسوا دعائم العلم والمعرفة ,أوقدوا نار الخلاوي ومططوا رؤيتهم تجاه الحداثة والعصرنة، كان قد استوطن جرادة،القرية الوادعة التي تقع شمالى مدينة دنقلا ببضع كيلومترات تزوج فيها أولا من السيدة عائشة محمد نور وأنجب الأستاذ محمد حاج الأمين،العلم الفرد في التربية والتعليم، ومن من أبناء المنطقة لا يعرف الأستاذ محمد حاج الأمين صاحب الأسلوب الراقي التأملي، وإسماعيل وعبد الوهاب ويحي وعبد الله وعبد الباقي وإبراهيم حاج الأمين، ثم تزوج من السيدة زكية إبراهيم إدريس وأنجب أحمد حاج الأمين، وسعاد التي توفيت بمصر، وآسيا، وفاطمة، وعبد الرحيم ومأمون، وحياة، وعبد المطلب وهاشم، والشيخ إبراهيم إدريس كان تاجرا يزرع المنطقة ما بين اسوان ودنقلا على مركبه التجاري، وهو محسى من آرتمري، تزوج من السيدة فاطمة العميري وأنجب منها السيدة زكية والدة المرحوم عبد الرحيم واخوانه، وأل العميرى كما هو معلوم من الجعافرة الذين قدموا إلى دنقلا من منطقة دراو واستقروا في دنقلا، وكان الشيخ إبراهيم إدريس قد أقام متجرا في دنقلا واستقر بها، وآل العميرى أهل علم وفضل ومنهم العم طه العميري وكان أديبا له مكاتبات مع الأستاذ عباس محمد العقاد، ومنهم الشاعر والمسرحي والفنان عبد العزيز العميري والعديد من الشخصيات المهمة في الثقافة والعلم. وهكذا تجمعت للأستاذ عبد الرحيم محمد حاج الأمين عدة مكونات اثنية وثقافية جعلت منه ذلك الانسان صاحب النظرة الثاقبة والادراك المبكر لقيمة هذا التراث ومعطيات تلك الحضارة التليدة التي تشكل منها وعيه ووجدانه، وكأنما كل هذا الارث الحضاري قد سرى في عروقه وانتهى الى أنامله فاكتسب تلك البراعة التي جعلت منه عبقريا لا يفري أحد فريه في مجال الخزفيات واللوحات التراثية والجدرانيات، ولأنه آثر أن يعمل في صمت ونكران ذات دونما صخب أو ضجيج أو حتى تعريف بما يقدم فقد ظل بعيدا عن الأضواء يقدم عطاء في مجال تخصصه لا تحده حدود. ولد الأستاذ عبد الرحيم محمد حاج الأمين في دنقلا في العام 1939م، وتلقى بها تعليمه الابتدائي، ثم انتقل الى بخت الرضا فكلية الفنون الجميلة ليتخرج فيها متخصصا في الخزفيات، وانتدبته حكومة السودان في السبعبنات من القرن الماضي الى الجماهيرية الليبية ليعمل استاذا للفنون في المدارس الثانوية بها.. ، عاد بعدها الى السودان للعمل في المتحف القومي بالخرطوم، وكان له الفضل في وضع الاطار العام لهذا المتحف وتزويده بكافة المتطلبات التي جعلت منه أحد أهم الأماكن السياحية في السودان، وكان هو الذي كلف من قبل الحكومة السودانية لنقل الآثار من معبد فرس في الستينات قبيل قيام السد العالى، كما ساهم في انشاء متحف الخليفة عبد الله التعايشي بام درمان، ومتحف السلطان على دينار بالفاشر، اضافة الى قيامه بتصميم الجداريات في كل من جامعة الخرطوم ، معرض الخرطوم الدولي ومجلس الشعب (المجلس الوطني حاليا) والعديد من الأماكن الأخرى، كما قام بتصميم العديد من الطوابع البريدية، والمشاركة في اخراج بعض الصحف والمجلات مثل مجلة الصبيان حيث كان يشارك فيها مع صديقه الفنان الكبير شرحبيل أحمد . ونذكر أيضا من الأعمال المهمة التي أنجزها وهو الخبير في نقل اللوحات الأثرية وترميمها وتقييمها قيامه بعمل لوحة أثرية عند مدخل مبنى الأمم المتحدة بجنيف.، كما شارك بتكليف من اليونسكو في ترميم آثار في ايطاليا وغيرها من مناطق العالم المختلفة.. في العام 1984م انتقل الأستاذ عبد الرحيم حاج الأمين للعمل في قسم الآثار بكلية الآداب بجامعة الملك سعود بالرياض وظل بها حتى العام 1998م حيث أحيل الى التقاعد ليعمل خبيرا في تقييم القطع الأثرية النادرة لدى مرسسة التوريق بلرياض والى أن وافته المنية صبيحة الثلاثاء 20 محرم 1429هـ (29 يناير 2008م بمدينة الرياض) . وبعد اجتياح العراق للكويت في العام 1990م وما نتج عن ذلك من تخريب للمتحف الوطني الكويتي تقدمت الكويت بطلب الى هيئة اليونسكو لاعادة متحفها، فرشحت اليونسكو الراحل عبد الرحيم حاج الأمين باعتباره الأقدر على القيام بتلك المهمة فاستعان الأستاذ عبد الرحيم عليه رحمة الله باحدى السودانيات المتخصصات في هذا المجال وهي الأستاذة سميرة ولس المقيمة حاليا في دولة الامارات العربية المتحدة، وانجز المهمة بكل فعالية واقتدار وقد أصدرت الكويت كتابا لهذه المناسبة ذكر المرحوم فيها على الصفحات الأولى منه، لقد شارك المرحوم في عدة مؤتمرات دولية في ايطاليا وألمانيا وبريطانيا ، فرنسا بولندا ، اليونان، كما ارتبط بعلاقات صداقة وأخوة مع المتخصصين في مجاله على نطاق العالم وعلى رأسهم الأستاذ فاروق حسني وزير الثقافة المصري، والمرحوم أحمد قدري مدير الآثار المصري وغيرهم ممن لا يسعنا حصرهم، ولعل زملاء دراسته في كلية الفنون الجميلة أو زملاء العمل في كل من المتحف القومي وجامعة الملك سعود هم الأقدر على كتابة سيرته لاظهار اسهاماته المقدرة في مجال تخصصه والأعمال الجليلة التي قدمها لحفظ التراث السوداني باعتباره أشهر سوداني يتخصص في مجال تقييم وترميم اللوحات الأثرية ونقلها من أماكنها ونسخها. هذه ريحانة من السيرة العطرة للراحل المقيم عبد الرحيم حاج الأمين، وأذكر أنني كنت بصدد التوثيق لأعماله قبل عدة سنوات، وقد نبهنى الى ذلك الأخ عبد الله عبد الدائم، واتصل به ثم اتصلنا به سويا عبر الهاتف وكان من المفترض أن أذهب اليه في الرياض لكن مشيئة الله أرادت غير ذلك، وكم أشعر الآن بالحسرة على ضياع تلك الفرصة، أما وقد ضاعت تلك السانحة، فان عبد الله عبد الدائم- نسأل الله الشفاء- لم يدع فرصة وجود ابنيه وائل ومحمد القادمين من كندا، وأخيه عبد المطلب القادم من قطر، هيأ لى فرصة الالتقاء بهم للوقوف على معلومات مهمة عن سيرته الذاتية، والشكر أيضا للأخوين هاشم ومأمون الذان قدما لى من دنقلا عبر الهاتف اضاءات مهمة حول شجرة نسب عائلة المرحوم حاج الأمين عليه رحمة الله، والشكر أيضا للأخ طارق محمد عبد الدائم زوج ابنة عبد الرحيم الوحيدة علا الذي تحدث عن اسهاماته وانجازاته باعجاب وحب عميقين. في سرادق العزاء الذي أقيم له بجمعية مشو بجدة شاهدنا أـبناء جرادة ومشو والحفير ودنقلا والزورات ومقاصر يصطفون جميعا لتقبل العزاء، فقد كان عبد الرحيم عليه رحمة الله من كل هذه القرى وله فيها جميعا قرابة أو نسب ، صبرا آل حاج الأمين في فقدكم الأليم ورحم الله عبد الرحيم حاج الأمين وأجزل له المثوبة والمغفرة وجزاه الله عنا خير الجزاء في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وألهم زوجه وأبنائه واخوانه وآله الصبر والسلوان وحسن العزاء (يا ايتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية، فادخلى قي عبادي وادخلى جنتي).
|
|
|
|
|
|