القرن الحادي والعشرين: يوتوبيا أم ديستوبيا؟ -بقلم خليل كلفت

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-11-2024, 05:36 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2008م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-29-2008, 06:28 AM

خليل عيسى خليل

تاريخ التسجيل: 03-21-2007
مجموع المشاركات: 953

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
القرن الحادي والعشرين: يوتوبيا أم ديستوبيا؟ -بقلم خليل كلفت

    منقول المنتدى النوبى العالمى
    اعداد الاستاذ حسن فهمى رشوان

    http://www.nubian-forum.com/vb/showthread.php?p=19892#post19892

    القرن الحادي والعشرون: يوتوبيا أم ديستوبيا؟‏



    خليل كلفت
    كاتب نوبى


    رغم وجود تقاويم، لدى ثقافات عديدة، "تعيش البشرية بأكملها في التقويم المسيحي"، كما يقول سيرج لاتوش. وهذا وجه من وجوه توحيد العالم بأكمله تحت سيطرة الغرب المسيحي. ولهذا يجد العالم كله، بكل ثقافاته، وبكل تقاويمه، معنى ما لكل هذا الاهتمام بالانتقال من قرن ميلادي إلى قرن ميلادي آخر، أو من ألفية ميلادية إلى ألفية ميلادية أخرى.

    غير أننا لسنا بحال من الأحوال إزاء دورة قرنية ميلادية ذات محتوى اجتماعي اقتصادي. وحتى أولئك الذين يتحدثون عن دورات اقتصادية قرنية (فرنان بروديل) توزع عطاياها ووعودها في زمن، ثم أزماتها وكوابيسها في زمن لاحق، بغض النظر عن سياسات البشر وجهودهم، حتى نظريات الدورات الاقتصادية القرنية هؤلاء لا تتطايق قرونهم الاقتصادية مع القرون الميلادية إلا على سبيل المصادفة.
    وهكذا فإن الانتقال من القرن العشرين إلى القرن الحادي والعشرين لا يزيد عن كونه مناسبة للتأمل وإنعام التفكير في المستقبل المنظور.

    وعلى كل حال فإن أقصى مسافة زمنية يمكن أن تمتد إليها أبصارنا أو بصائرنا، مهما شحذناها، لن تتجاوز العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين. وهذه على كل حال هي العقود التي تطرح على البشرية أخطر مسألة طرحت عليها طوال تاريخها الحافل.

    وإذا كانت نهاية القرن العشرين، وهي النتيجة التراكمية لتطورات هذا القرن بأكمله، هي البداية الوحيدة الممكنة للقرن الحادي والعشرين، و’’المدخل الوحيد‘‘ المتاح إليه، فلا جدال في أن العقود الأولى من القرن العتيد هي التي سوف تشهد تحقق الإمكانات الكامنة في تلك البداية الوحيدة، ومعرفة إلى أين على وجه التحديد يؤدي ذلك ’’المدخل‘‘ الوحيد.

    وبطبيعة الحال فقد كانت أقرب مناسبة مماثلة سابقة هي ’’دخول‘‘ القرن العشرين. وقد دخله البشر كعادتهم مستبشرين تملؤهم وعود سخية وآمال كبار تميز بها ذلك العهد الجميل La Belle Époque (كما ظلوا يسمون مطلع القرن العشرين)، ليكتشفوا أنهم دخلوا قرنا لا يبدأ بأقل من حرب عالمية أعقبتها بعد عقدين فقط تقريبا من الزمان حرب عالمية ثانية، أعقبتها بدورها بعد سنوات قلائل حرب عالمية باردة استمرت حتى أواخر القرن.

    وظلت الحروب والأزمات والمعاناة ذات الأبعاد التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ تشكل طابع القرن العشرين، الذي ينبغي إنصافه بالإقرار بأنه كان أيضا القرن الذي شهد أعظم تقدم حققته البشرية في تاريخها كله في مجال العلوم وتقنيات الإنتاج المادي، رغم أن كل هذا التقدم ذاته كان هو ’’الخير‘‘ الذي أعطى لكل تلك الشرور أبعادها الجهنمية, وكان سر هذه المفارقة هو الإطار الاجتماعي التاريخي الذي تحقق فيه ذلك التقدم. ذلك أن القرن العشرين كان أيضا القرن الذي استطاعت فيه الحضارة الرأسمالية أن تحطم – في نهاية المطاف – كافة محاولات التحرر (الاجتماعي أو الوطني منها.

    وأعود الآن إلى عنوان هذا الحديث..
    فهل هناك دلائل تشير إلى أن القرن القادم الوشيك يحمل معه بشارة تحقيق يوتوبيا جديدة على هذه الأرض؟ أم تطغي الدلائل التي تشير إلى مضمون هذه الكلمة الجديدة المفزعة التي ينذر نحتها الحديث، وبداية انتشارها في القرن الحادي والعشرين، بالويل والثبور وعظائم الأمور، وأعني كلمة ’ديستوبيا‘ dystopia (وهي أيضا الأنتي يوتوبيا anti-‎utopia بنفس المعنى) أيْ عكس ونقيض اليوتوبيا؟
    وكما هو الحال دائما: هناك المتفائلون وهناك المتشائمون، هناك أهل اليوتوبيا وأهل الديستوبيا.
    والنصيحة الذهبية في مثل هذه الحالة هي بطبيعة الحال أن نقف ونفكر: بدلا من الانقياد وراء أوهام جديدة تتضح حقيقتها بعد فوات الأوان، وبدلا من أن يشلنا كابوس الديستوبيا إلى حد اليأس من أي مسعى قد يحقق لنا حتى أن نموت واقفين.

    على أنه لا يمكن لأحد أن يفلت من الإحساس بكابوس طوفان وشيك. وحتى أهل اليوتوبيا يريدون أو يتوهمون إنقاذ العالم كله أو عالمهم الخاص من جحيم الديستوبيا القادمة – بل القائمة منذ الآن. أما أهل الديستوبيا فإنهم يهدفون من وراء تصوير الكابوس القادم أو القائم إلى حفز كل مقاومة ممكنة ضد تلك الديستوبيا، التي نكون أو لا نكون وفقا لوجود المقاومة ضدها من عدمها.

    وعلى كل حال، ينبغي قبل كل شيء أن نحاول معرفة ما إذا كان هناك خطر بكل هذا الحجم يهدد مستقبل البشرية، وما إذا كانت هناك آفاق حقيقية أمام محاولات تفادي ذلك الخطر.

    وبطبيعة الحال فإنه لا أحد يجهل قائمة أو قوائم الأخطار. وهناك الأخطار الإيكولوجية التي تهدد الحياة على الأرض أو على مناطق واسعة منها: البيت الزجاجي، الأوزون، التلوث، التصحر، الجفاف، نقص المياه،..إلخ إلخ. وهناك أخطار اجتماعية واقتصادية وسياسية وحربية لا نهاية لها، ويكفي أن نشير إلى المصير الرهيب الذي يحدق بالعالم الثالث الذي بدأ يغرق أمام أعيننا – خاصة في أضعف بلدان أضعف قاراته (مناطق واسعة من أفريقيا) – في التهميش إلى حد ’’الإلغاء‘‘ موبوءا بالديون الثقيلة، وتوقف النمو والتنمية، والتدهور إلى حد التراجع التاريخي، والانفجار السكاني والمجاعات والحروب الأهلية والحدودية والإقليمية والضوابط المالتوسية.

    ولا شك في أن استشراف آفاق السيطرة على كل هذه الأزمات وتفادي كل هذه الأخطار، يرتبط بصلة وثيقة بالحالة التي يوشك العالم أن يدخل القرن الحادي والعشرين.

    وبدلا من استعراض قوائم المشكلات من منظور ذلك المنطق العقيم في تشخيص وعلاج كافة المشكلات والمتمثل في التمتمة بتعويذة تلك الوصفة السحرية: تعظيم الإيجابيات وتحييد السلبيات فيما يتعلق بكل مشكلة، ينبغي أن يدفعنا إدراك حجم الأزمة إلى أن تكون إشارتنا إلى بعض تلك المشكلات الكبرى بهدف استكشاف كامل حجمها المستقبلي عن طريق منحها كامل ثقلها التاريخي.

    وهناك على وجه الخصوص قضية اللحاق بالغرب. وبالنسبة لمناطق ما يسمى الآن بالعالم الثالث، ظلت قضية اللحاق بالغرب قضية القضايا طوال القرن العشرين. وفي الوقت الحالي تنعقد آمال واسعة على تحقيق هذا اللحاق في القرن الوشيك. ولهذا ينبغي أن نفهم تاريخ هذه القضية جيدا ليكون بوسعنا أن نتوقع مستقبلها بصورة صحيحة. فلماذا يرتدي اللحاق كل هذه الأهمية؟ ولماذا يؤدي الفشل في تحقيقه إلى انقطاع كل أمل في مجرد بقاء العالم الثالث، أيْ إلى هلاكه وفنائه وإبادته؟ ولماذا لا ينبغي الالتفات إلى أيّ أمل مستقبلي في العالم الثالث لا يكون أساسه تحقيق ذلك اللحاق؟ ويتعلق كل هذا بطبيعة الحال بالمستقبل المنظور المحسوب بالعقود القادمة، فليس هناك ما يحول دون ’’لحاق‘‘ البشرية كلها بحضارة أخرى أعلى من الحضارة الرأسمالية يأتي بها مستقبل آخر، إذا أثبتت البشرية هنا والآن أن لها من الحكمة والإرادة والعزم ما يساعدها على البقاء حتى ذلك المستقبل، وهذا ما يفترض مسبقا خروجها سالمة من الأزمة الراهنة بدلا من الغرق تماما في محيط البربرية الزاحفة.
    والواقع أن مجرد انقسام العالم حاليا إلى مركز ومحيط، إلى شمال وجنوب، إلى رأسمالية متطورة وبلدان متخلفة تابعة في العالم الثالث، إنما يعني أن اللحاق لم يتحقق. ذلك أن اللحاق، أيْ لحاق المحيط بالمركز، إنما يعني إلغاء انقسام العالم إلى مركز ومحيط، وقيام عالم رأسمالي واحد ينقسم على الخطوط الطبقية، وليس أيضا على الخطوط الجغرافية والقومية والإثنية والثقافية.

    وبالأمس القريب كان انقسام العالم إلى عوالم عديدة: الغرب الرأسمالي، والشرق الاشتراكي، والعالم الثالث، مدعاة في حد ذاته للتفاؤل. لقد اتضح الآن أن ذلك التفاؤل إنما كان تفاؤلا سطحيا ساذجا يقوم على الأوهام. وكان قد بدا ذلك الانقسام في حدّ ذاته تحديا للحضارة الرأسمالية الغربية، ثم اتضح أن الشرق الاشتراكي لم يكن في الحقيقة سوى فرع جديد ’’بيروقراطي‘‘ لنفس تلك الحضارة، كما اتضح أن الوضع التاريخي للعالم الثالث لم يكن وضع التنمية المستقلة المزعومة وإنما وضع العجز عن اللحاق.

    وبهذا يتضح أن هذا الانقسام ليس أبدا مدعاة للتفاؤل، بل ينطوي في حد ذاته على الخطر.

    وتتمثل المسألة الجوهرية، في الماضي كما في المستقبل، في قضية انتشار الحضارة الرأسمالية بعد أن نشأت في الغرب وحققت فيه إنجازاتها التاريخية المادية المعرفية. وقد انتشرت هذه الإنجازات التاريخية في مناطق أخرى من العالم خارج أوروبا الغربية من خلال أكثر من طريق. فهناك الطريق المباشر لاستيطان الأوروبيين الغربيين والإنجليز بالذات لأمريكا الشمالية ولمناطق أخرى من العالم. وهناك طريق لحاق البلدان الأوروبية التي كانت قد تخلفت عن التطور الرأسمالي في القرن التاسع عشر، وكان لها من تاريخها كشريكة في التطور التاريخي الأوروبي العام في العصر الحديث ومن مواردها واستقلالها ما سمح لها باللحاق (ألمانيا، إيطاليا، روسيا). وهناك اليابان التي لا يتسع المجال لبحث عبقرية خصوصياتها.

    ثم جاءت مقتضيات الحرب الباردة لتسمح لبعض البلدان الآسيوية خلال النصف الثاني من القرن العشرين بأن تستفيد، في سيرها الحثيث في طريق اللحاق بالغرب، من دعم خارجي قوي بالإضافة إلى جهد داخلي خارق وتكلفة اجتماعية وسياسية رهيبة ومجموعة فريدة من الشروط المواتية: النمور الآسيوية الأصلية والجديدة بما في ذلك الصين الشعبية. وبطبيعة الحال فإنه لا يمكن الحديث عن أن النمور الآسيوية الأصلية والجديدة قد انضمت بصورة أكيدة ونهائية إلى نادي الحضارة الرأسمالية، منفصلة تماما عن العالم الثالث ومصيره، ذلك أنها تواجه جميعا تحديات سياسية واجتماعية هائلة يمكن أن تقرر مصير كل ’نمر‘ منها في نهاية المطاف.

    أما بقية المناطق التي يطلق عليها اسم العالم الثالث منذ منتصف القرن العشرين، فقد كانت تجربتها مختلفة تماما. وإذا تجاوزنا الاحتكاكات السابقة مع الغرب (الحملة الفرنسية على مصر على سبيل المثال) وكذلك محاولات اللحاق السابقة به طوال القرن التاسع عشر (عهد محمد علي مثلا)، لننتقل إلى القرن العشرين، فإننا سنجد أن اللحاق بالغرب هو القضية الكبرى المطروحة في الواقع كما في الفكر في المستعمرات وأشباه المستعمرات. وقد تحققت في البلدان المعنية مستويات من التطور الاقتصادي والتصنيع والتحديث في إطار التبعية الاستعمارية. وبحلول منتصف القرن، ومع تبلور واقع ومفهوم العالم الثالث من خلال الاستقلال وتجارب التنمية، ظل اللحاق مطروحا بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وإن كان قد شوش عليه في أوقات وأماكن متباينة من القرن العشرين اتجاه اللحاق بالشرق الاشتراكي، ولم يكن اللحاق العالم ثالثي بذلك الشرق الاشتراكي المزعوم بذلك الشرق الاشتراكي المزعوم سوى المسخ الأشد مسخا للمسخ الأصلي، أيْ للنموذج السوفييتي.

    ويتراءى للنظرة الساذجة أن انتشار الحضارة الغربية، انتشار إنجازاتها التاريخية المادية والتقنية والمعرفية، إنما هو مُعْطىً بسيط ومباشر ومتاح وملك لجميع من يريدون اقتناءه ويملكون المال اللازم لشرائه.

    غير أن كافة الأمم التي لحقت بالغرب، أيْ صارت من الأمم الرأسمالية المتطورة، حققت ذلك رغم الغرب، ومن خلال تناقضاته وليس بفضل أريحيته. ذلك أن هناك سمة جوهرية من سمات الحضارة الرأسمالية تتمثل في أن إنجازاتها التاريخية غدت منذ تحقيقها احتكارا للغرب الذي لم ولن يرغب في توزيعها عطايا على كافة البشر. إنها إنجازات تاريخية تملكها وتسيطر عليها الرأسمالية العالمية فلم تعد ملكا للبشرية بحال من الأحوال.

    فلماذا يقف الغرب ضد انتشار حضارته الرأسمالية، وأسلوب إنتاجه، وإنجازاته التاريخية؟

    لقد عمل الغرب الرأسمالي دائما على إعادة خلق العالم على صورته. وهذا لا يعني السماح للعالم كله بأن يلحق به، بل يعني على العكس من ذلك تحويل العالم كله إلى ملحق متخلف عنه ومكمل له تحت سيطرته الاقتصادية والسياسية والثقافية. والسبب وراء هذا بسيط جدا: الأقوى يريد أن يظل الأقوى لا أن يوزع أسباب قوته على منافسيه المحتملين. وهذا ينطبق على البلد الرأسمالي الواحد انطباقه على العالم بأسره. فالطبقة التي تملك أحدث التكنولوجيا وأحدث وسائل الإنتاج لا تدع هذه الأشياء تنتقل إلى أيدي طبقات أخرى داخل البلاد أو إلى بلدان أخرى. ففي الحالتين ستخسر تلك الطبقة الأريحية الأساس الحقيقي لأرباحها الطائلة وامتيازاتها الهائلة وسيطرتها المحلية والعالمية. وهكذا فإن ما ينسجم مع مصالح الغرب ليس الانتشار بين الآخرين وليس لحاق الآخرين به، بل هو هذا الانقسام إلى مركز ومحيط، بسبب حاجته إلى محيط يضع نفسه تحت تصرفه وتوجيهه لمصلحته هو بما يتفق مع هذه المرحلة أو تلك من مراحل تطور الرأسمالية والإمبريالية.

    غير أن هذا لا يعني أن يظل المركز حريصا دائما على الاحتفاظ بمحيط مهما كان الثمن. إننا لسنا إزاء عقيدة جامدة بل إزاء سياسة عملية بل براجماتيكية تماما. ومن الجلي أن المحيط القائم على اليوم قد وصل إلى حجم رهيب بضخامته وإلى حالة مفزعة بأزماتها وإلى كابوس مخيف باحتمالات المزيد من تعملق الحجم وتفاقم الأزمات. ومثل هذا المحيط يغدو عبئا ثقيلا بل خطرا محتملا من وجهة نظر المركز. وليس أمام هذا الأخير في هذه الحالة سوى خيارين لا ثالث لهما، الخيار الأول: هو التخلص من المحيط باتباع سياسات واستراتيجيات تساعد المحيط ذاته في القضاء على نفسه، وهذا ما يحدث الآن بالفعل رغم دموع التماسيح؛ الخيار الثاني: هو قيام المركز بتبني مشروع خيالي الضخامة يهدف إلى التحديث الشامل للعالم الثالث، ورفع المحيط إلى مستوى المركز، ووضع حد نهائي لانقسام العالم إلى مركز ومحيط. وليس هناك ما يدل على أن الشمال مولع بمثل هذا المشروع الذي لا يمكن أن يكون هدفه تحقيق الأرباح، والذي لا يمكن أن تدفع إليها سوى أسباب إنسانية خالصة لم تكن أبدا المحرك الحقيقي وراء سياسات الغرب أو الشمال، والذي لا يمكن أن يجبر الشمال على تبنيه سوى ضغوط تاريخية، بنفس الحجم الخيالي الضخامة، من جانب شعوب الشمال. وليس هناك اتجاه فعلي مباشر من هذا القبيل، قبل أن يفوت الأوان.

    وهذا الانقسام لا يترك للمحيط مجالا للحاق ولا لتضييق الفجوة ولا حتى للمراوحة في نفس المكان. بل يغدو المحيط موضوعا للتهميش والتدهور والانهيار في نهاية المطاف. ولا فكاك من هذا القدَر إلا بالفكاك من قدر المحيط من خلال اللحاق الذي يحاربه الغرب أصلا. وهكذا تدور رحى حرب خفية بين من يسعون بوسائلهم الضعيفة وإرادتهم المشلولة إلى تضييق الفجوة وإلى إزالة آثار العدوان المتواصل للتهميش (وليس أبدا إلى اللحاق، بل مع التسليم الكامل كمحيط بمكانة وامتيازات المركز) وبين من يفرضون على العالم الثالث التهميش ولا مانع لديهم حتى من إلغائه.

    وقانون السباق قاطع التحدد: إن مَنْ يعجز عن انتزاع اللحاق انتزاعا ينبغي أن يعتبر نفسه من الآن عاجزا عن مجرد البقاء.

    والحساب الختامي مثير للذهول.

    سكان الشمال (أو المركز أو البلدان المتقدمة) يمثلون 25% من سكان العالم ولكنهم يستهلكون 7% من الإنتاج العالمي للطاقة و75% من الإنتاج العالمي للمعادن. والبلدان التي يقطنها الـ20% الأغنى من سكان العالم تتصرف في 83% من الإنتاج العالمي وعلى الـ20% الأفقر أن يقنعوا بـ1.4% من هذا الإنتاج. وخلال ثلاثين سنة تقريبا تضاعف فرق الدخل بين الخُمْس الأغنى والخُمْس الأفقر من سكان العالم: كان فارق الدخل بنسبة واحد إلى 30 في 1960 فأصبح بنسبة واحد إلى 59 في 1989.

    ويتجه العالم إلى دخول القرن الحادي والعشرين بخريطة ديموجرافية تتميز بأزمتين سكانيتين متجاورتين: ركود سكاني في الشمال وانفجار سكاني في الجنوب.

    وفي الشمال يؤدي الركود السكاني إلى مشكلات اقتصادية هائلة ترتبط بالشيخوخة الديموجرافية في المدى القريب والمتوسط، كما ينطوي على مشكلات تتعلق بالبقاء في حد ذاته في المدى البعيد. وفي الجنوب يواجه الانفجار السكاني العالم الثالث بمشكلات تتعلق بالاقتصاد وبالبقاء في حد ذاته في المدى المباشر والقريب والمتوسط، إلى حدّ أن أفريقيا تواجه مباشرة تدخل الضوابط المالتوسية واحتمال التحول إلى قارة قليلة السكان نتيجة للأوبئة والمجاعات والحروب.

    أيْ أننا أمام شمال مهدد بالانقراض بسبب ركود نموه السكاني، وجنوب مهدد بالانقراض أيضا بسبب انفجاره السكاني.

    وإذا كان الشمال يظل يملك فيما يبدو مبادرة ممكنة لوضع حدّ يوم لاتجاه الانقراض السكاني فيه، فإن الجنوب يبدو عاجزا تماما تكتسحه أزمته السكانية في ارتباط وثيق بكافة أزماته. فهل هناك أيّ أمل حقيقي في أن يتغلب الجنوب على أزمة الانفجار السكاني؟
    ومن قبل كاد الانفجار السكاني يدمر أوروبا. ولم يكن بمستطاع هذه الأخيرة أن تنجو من الدمار إلا بفضل ثلاث عمليات تاريخية: 1- الهجرة إلى القارات والمناطق التي أمكن إبادة سكانها، 2- الثورة الصناعية التي غيرت تناسب البشر والموارد تغيرا جذريا، 3- الأسرة الصغيرة الحجم.
    ولا شك في أن نجاح البشرية في مكان ما ذات يوم فيما فيما مضى في حل مشكلة الانفجار السكاني، يُزْكي الأمل في نجاحها في مكان آخر ذات يوم آخر في المستقبل في حلّ نفس المشكلة بنفس الوسائل.
    غير أن العالم الثالث اليوم ليس أوروبا الأمس!

    فالهجرة إلى الشمال ليست بابا مفتوحا أمام أبناء الجنوب. وربما بدا أن الهجرة الشاملة هي الحل المنطقي الوحيد أمام خطر الانقراض في الشمال بسبب الركود السكاني وفي الجنوب بسبب الانفجار السكاني. وفي عالم يرفع شعار العولمة ويحاول أن يقيم على الأرض حرية مطلقة لانتقال السلع والخدمات والأموال والاستثمارات، يمكن أن تبدو ’عولمة‘ سكان العالم، أيْ إطلاق حرية الهجرة أمام البشر حلا منطقيا. وبغض النظر عن المشكلة التي تمثلها عملية تثاقف acculturation على هذا المستوى الكوكبي، أيْ عولمة التثاقف، فالحقيقة التي لا مناص من التسليم بها هي أن الشمال يقوم بإجراء عملية ’عولمة‘ تحت سيطرته ولمصلحة سكانه وليس لتوزيع العطايا على البشرية جمعاء.
    فهل يتجه العالم الثالث إلى إنجاز ثورة صناعية؟ لقد رأينا أن العالم الثالث ليس، بحكم التعريف، سوى العجز عن اللحاق بالثورة الصناعية، ليس سوى إعادة إنتاج التبعية والتخلف، ليس سوى الثورة السكانية بدون ثورة صناعية.

    ولا حاجة بنا إلى تأكيد أن الأسرة الصغيرة الحجم ما تزال بعيدة عن واقع أغلب مناطق العالم الثالث، لأنها في الحقيقة ثمرة منطقية لثورة صناعية لم تحدث.

    وحتى بافتراض تراجع مفاجئ في معدلات الخصوبة ومعدلات النمو السكاني في العالم الثالث إلى المستويات السائدة في الشمال، فإن النتائج المنطقية للانفجار السكاني إلى الآن ستظل تطارد بلدان العالم الثالث، وخاصة تلك الأكثر نموذجية في تمثيله، طوال القرن الحادي والعشرين.

    فهل يبقى أمل حقيقي بعد كل هذا؟

    وأمام فداحة الخطر المعلق كسيف ديموقليس على رؤوس البشر عند منعطف القرن الحادي والعشرين، تنشأ ميثولوجيا حافلة بالأساطير يبدعها ويستهلكها سكان العالم الثالث ومؤسساته ليل نهار. وبدلا من البحث الموضوعي والمسئول عن أمل حقيقي يدعو إلى عمل مباشر قبل فوات الأوان، تنبع الآمال والأوهام والأساطير من الشمال وتصبّ في الشمال. ويرتدي المنقذ، أيْ الغرب أو الشمال، أقنعة لا حصر لها. فالنظام العالمي الجديد لن يسمح بانهيار العالم الثالث الشريك الذي لا غنى عنه في التجارة والاستثمار! والولايات المتحدة الأمريكية لن تسمح بسقوط هذا البلد أو ذاك! وتعاون دول حوض البحر الأبيض المتوسط سينقذ شعوب جنوب وشرق المتوسط من المصير الكارثي العام الذي يهدد العالم الثالث! وهناك أيضا طوفان النظريات والتوجيهات والتعليمات التي تتدفق من الشمال فتتحول إلى أساطير منقذة: الخصخصة، اقتصاد السوق، التكيف الهيكلي... . وهناك الإيمان بثورة التكنولوجيا التي ستقلب الأوضاع رأسا على عقب في مستقبل قريب وكأن التكنولوجيا انفصلت عن الاقتصاد والسياسة وخاصة عن احتكار نفس الشمال أو الغرب.

    وهنا تبرز على السطح كلمة ’عولمة‘ globalization، ومع هذه الكلمة (وبالطبع مع واقعها) تنشأ أسطورة جديدة، حيث يبدو أن عملية ’العولمة‘ ستندفع لتقتحم كافة الحواجز ولتمحو كافة الحدود بين البلدان والقوميات والثقافات والاقتصادات المحلية والإقليمية، لتخضع كافة الأجزاء للكل العالمي الواحد الذي لا تفلح أمامه أية مقاومة أو هوية قومية أو إثنية أو ثقافية أو أية مؤسسة أو حركة سياسية.

    والواقع أن العولمة لا توحد في سياقها أجزاءً متساوية في كل واحد يعمل لمصلحتها جميعا، ولا تقوم على التنمية الشاملة لكافة الأجزاء لتنسجم في الكل الواحد، وهي ليست ’’رسالة‘‘ جديدة للحضارة الرأسمالية تدفعها إلى تعميم إنجازاتها التاريخية العلمية والتكنولوجية والاقتصادية لتشمل البشرية – بدلا من منطقها الأصلي الذي يميل إلى احتكار تلك الإنجازات ويميل بالتالي إلى تقسيم العالم، كما أنها ليست ’’أداة‘‘ جديدة لتعميم الحضارة الرأسمالية في عالم صار قرية واحدة.

    والواقع أن العولمة التي تمثل مرحلة جديدة في اندماج الاحتكارات عبر العالم وعبر القوميات والثقافات والدول، وفي إدماج مختلف الاقتصادات المحلية لكافة البلدان في الاقتصاد العالمي الواحد، إنما هي بعيدة تماما عن الانفصال عن مصالح الدول والبلدان والقوميات والثقافات المعنية، إلى الحد الذي يجعلها ذات مصلحة كوكبية شاملة تؤدي إلى انقسام البشر أعمق فأعمق على خطوط طبقية بينما توحدهم على كافة الخطوط الأخرى (الإثنية والثقافية والسياسية).

    إن العولمة لم تؤد، وليس من شأنها أن تؤدي، إلى العالم الرأسمالي الواحد وكأنه بلد واحد يتعامل مع كافة أجزائه على قدم المساواة، ومع كافة بشره بتعدد خلفياتهم الإثنية وثقافاتهم على قدم المساواة، أو حتى في الحدود المعهودة لعدالة الحضارة الرأسمالية داخل البلد الواحد. ولهذا فلا معنى لأن نطالب الجميع برفع الرايات البيضاء أمامها، بدلا من المقاومة، ولا معنى لأن ننتظر منها أن تضع حدَّا لانقسام العالم إلى شمال وجنوب، أو مركز ومحيط، وأن تنقذ الجنوب بالتالي من مصيره ’’الطبيعي‘‘ للغاية في ظل سيطرة منطق الحضارة الرأسمالية.

    في سياق هذا المسار من التردي والتدهور والانهيار والبربرية، تتفشى في كل مكان في العالم الثالث اليوتوبيات والاتجاهات والحركات السلفية باسم أديان ووثنيات وقبليات وقوميات وثقافات لا حصر لها، وتقوم ليس بدور المخلّص كما تتوهم بل بدور معجِّل التردي والتدهور والخراب العاجل.

    ويقوم تحالف ثالوث غير مقدس تصبّ فيه أنانية الغرب التي لا حدود لها، مع تخلف وتبعية وفقر العالم الثالث ولصوصية حكامه وضيق أفقهم، مع الاتجاهات السلفية الماضوية التي لا تبشر (من أفغانستان إلى الهوتو والتوتسي) بأيّ نهوض بل يفرزها مسار التردي فتؤدي إلى تسارع التردي والانهيار.
    وهذا الثالوث غير المقدس هو الذي يقود العالم الثالث إلى الديستوبيا، إلى جحيم الهلاك الجماعي على الأرض، في مكان وزمان اسمه القرن الحادي والعشرين.

    وإذا كان بوسع بلاد قليلة في العالم الثالث أن تنقذ نفسها من هذا المصير الكارثي بجهد خارق ينبغي أن يبدأ قبل فوات الأوان، فإن إنقاذ العالم الثالث بأكمله لن يتحقق إلا بتضافر جهود البشرية بأكملها، وبصورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ، من الآن وقبل أن يفوت الأوان. وبدون إيقاظ ضمير شعوب الشمال ووعي شعوب الجنوب وإشعال خيال وإحراق روع البشر أجمعين، فلا مجال لأي أمل حقيقي، بل ينبغي إدراك أن الأمل يتراجع ويفوت مع كل يوم يفوت.

    ونحن نعرف (ونعترف) أن الاتجاهات السائدة حاليا قي كافة الفنون أصبحت تجد في ’’الفن‘‘ ذاته، في الشكل وجمالياته، الغاية الوحيدة التي تعترف بها، والمبرر الوحيد لوجود الفن، بعيدا تماما عن التبشير باليوتوبيات أو مقاومة الديستوبيات.

    غير أن هذا لا يعني أن الفن والفنان يمكن أن يتخذا موقف اللامبالاة إزاء خطر يهدد بقاء الإنسان على الأرض، ليس كتضخيم بلاغي بل كواقع فعلي مباشر. فهل يحق لنا أن نحلم بإسهام لا يملكه سوى الفن والفنان في إنقاذ العالم من ديسوتوبيا القرن الواحد والعشرين؟.

    (عدل بواسطة خليل عيسى خليل on 01-29-2008, 06:30 AM)
    (عدل بواسطة خليل عيسى خليل on 01-29-2008, 06:32 AM)

                  

01-29-2008, 08:14 AM

محمد على طه الملك
<aمحمد على طه الملك
تاريخ التسجيل: 03-14-2007
مجموع المشاركات: 10624

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: القرن الحادي والعشرين: يوتوبيا أم ديستوبيا؟ -بقلم خليل كلفت (Re: خليل عيسى خليل)

    الأخ خليل ..
    أسئلة عديدة كانت تلف الخاطر وتفرقع في مخيلتي أضاء غموضهاهذا المقال التحليلي
    الرائع ..
    لك ولكاتبه التقدير .
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de