الفكر الصوفي عند النِّفَّري- مقال حذف

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-11-2024, 01:09 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة عادل عبد العاطى(Abdel Aati)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-10-2003, 10:37 PM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الفكر الصوفي عند النِّفَّري- مقال حذف

    الفكر الصوفي عند النِّفَّري
    تأمل في مقامي "الوقفة" و"الرؤيا"


    وليد عبد الله


    مقدمة
    يعد التصوف والعرفان من الحقول المهمة في المعرفة الإنسانية، بشكل عام، والمعرفة الإسلامية، بشكل خاص. فقد توغل أهل العرفان والتصوف في جميع مجالات الحياة والفكر، وتعمقوا في مفردات الدين ورموزه وحقائقه، وأنتجوا لنا نصوصاً تحمل إبداعات مختلفة على صعيد اللغة والأدب والحكمة المتعالية، وفتحوا في مجال العلوم علوماً خاصة، كعلم الحروف والأرقام، وعلم الحكمة، وعلم المقامات، وعلم الأحوال، وعلم المنازل والدرجات، وعلم الكشوفات، وعلم الولاية، وعلم النبوة والإمامة والأقطاب، وعلم الوجود والمعرفة، وعلوم الذات والأسرار، وعلم الآخر والكيانات. وكذلك أسَّسوا الفهم الوجودي لكيان الدين واحتوائه مفردات الوجود، ورسموا اتجاهات معرفية متعددة في إدراك الإنسان وأسراره وشبكة اتصالاته بالذات وبالآخر، وكذلك في معرفة مكنون النصوص الدينية المقدسة والأمثال العليا والقيم الأخلاقية والاجتماعية والسياسية. وكان نتائج بحثهم صياغةٌ حية متكاملة لذات متكاملة، منداحة من عوالم الغيب إلى عوالم الشهادة، ولحركة الإنسان في الحياة الدنيا، التي دخلوا كل زواياها ومسالكها، حتى صاغوا سلوكاً إنسانياً صافياً يحمل كل حيثيات الإنسانية وتفاصيل ظهورها وتكاملها. ومازال هذا التراث العرفاني والصوفي يدهشنا ويثيرنا، كما يحمل في دواخله حضوراً متواصلاً. والعلة في ذلك ترجع إلى تحطيمه كل القيود والأسلاك والأنظمة التقليدية التي تتسلَّط على الحقائق وتُضمِر وجودها وتعيق حضورها وحركتها الزمانية والمكانية. فأهل هذا العلم الإلهي يتجوَّلون في مدارات الوجود والمعرفة والحياة والفكر بشكل حرٍّ وثابت؛ فهم الأحرار حقاً في كل زمان ومكان، وفي كل دوائر الحياة اليومية، وعلى صعيد التاريخ الإنساني.

    وما يهمنا في هذه البحث هو أن نتجول في مدارات الشيخ النفَّري بشكل عام، ونقتفي الإشارات إلى تأثيره على مجالات متعددة، وتأثيره في الفكر الإنساني والإسلامي على وجه الخصوص. وأهم هذه الإشارات هي:

    الإشارة الأولى:
    إن جوهر أهل الطريق وهدفهم الأسمى هو الله فقط، وشعارهم الأبدي هو "لا مقصود إلا الله" – تلك الحقيقة المطلقة التي يتشوقون للاتصال بها والوصول إليها. ولا يتم ذلك إلا بشروط، كما يعتقد أهل هذا العلم، وخصوصاً ما ركز عليه الشيخ النفَّري في نصوصه من خلال فلسفة الإزاحة والعبور، اللذين هما سُلَّمه العروجي في الاتصال والوصول. وأهم هذه الشروط المتعلقة بفلسفة النفَّري بشكل خاص، وعند باقي المتصوفة، شرطان هما:

    1. التخلِّي: وهذا يعني التخلِّي عن كل العوالق والعوائق والأستار والزخارف في الذات الإنسانية التي تقف حاجزاً سميكاً بين هذه الذات والحقيقة المطلقة. وتسمى هذه الحواجز في فلسفة أهل الطريق، في شكلها الظاهري، بـ"فلسفة الحجب"، وفي شكلها الباطني، بـ"البرازخ". وتنقسم هذه الحجب إلى قسمين:

    أ‌. الحجب المادية (أو "الظلمانية" بالمصطلح الصوفي)؛ وهذه الحجب تحيط بالذات الإنسانية، وتشكل دوائر مغلقة في حركة هذه الذات، وتغلف معانيها في حضورها داخل مدارات الوجود. تتمركز هذه الحجب في مساحة الذات داخل عوالمها وملكاتها من النفس والعقل والجسد – وكل عالم أو ملَكة له حجابه الخاص ودورته داخل الذات – وتسمى بالحجب النفسية والحجب العقلية والحجب الجسدية.

    وأول مراحل الاتفاق والعهد للدخول في دائرة أهل هذا الطريق هو العمل على إزاحة هذه الحجب واقتلاعها من الجذور، ليتسنى للسالك والسائر الوصول إلى تصفية تامة لهذه الملَكات والعوالم كيما تكون مستعدة لاستقبال التنزُّلات الإلهية والتجلِّيات على الذات الإنسانية من أجل رؤيا واضحة للحقيقة. ويعتبر النفَّري هذه العملية من أهم وأخطر العمليات عند أصحاب السير والسلوك، لأنها ستحدِّد معالم حضوره ومنزلته ودرجته داخل دائرة الحقيقة الإلهية. وتكمن خطورتها في الكيفيات التي يتعامل بها مع تلك الحجب لاعتقاده بتحول هذه الكيفيات إلى حجب أخرى. وأما الطريقة المثلى عند أهل هذا الطريق في التعامل مع عالم الحجب فهي المجاهدة والرياضة المادية على منهاج الشيخ والطريقة التي يتعامل بها مع مريديه.

    ب‌. القسم الثاني من الحجب هو الحجب المعنوية (الحجب النورانية)؛ وهي الحجب التي تتعلق بالأمثال العليا والحقائق السامية وما تُظهِره من أنوار حقائقها وأسرارها، مما يؤسِّس للسالك معتقداته وانتماءاته وهوياته الحضورية في دوائر الدين والحياة والفكر.

    وتتعلق هذه الحجب بالأسماء الإلهية وأسماء الحقائق الظهورية، من الأنبياء والأئمة والأولياء والأمثال السامية في مجالات علوم أهل العرفان، كالمعرفة والولاية والأسرار، والعلوم الباطنية، من كشف وكرامات. ومراكز هذه الحجب في عوالم الذات الإنسانية وملَكاتها مستتبة في القلب والروح والسر؛ وتسمى بالحجب القلبية والحجب الروحية وحجب الأسرار. وتتعلق هذه الحجب بمركز الذات الإنسانية؛ ويُتطلَّب من أهل السير والسلوك التخلص منها وإزاحة المسافات الوهمية والصور الخيالية لها. وطريقة التخلص منها تتمثل بالمجاهدات والرياضات المعنوية. ويؤكد الشيخ النفَّري في نصوصه على هذه الحجب بالذات؛ ذلك أن التخلص منها يمهد الطريق لأصحاب العرفان والولاية للوصول إلى المقامات التي أبدعها الشيخ، وأبرزها مقاما الوقفة والرؤيا، كنا سنرى.

    أما الشرط الثاني في الاتصال والوصول إلى الحقيقة المطلقة فهو:

    2. التحلِّي: ويعني أن يتحلَّى أصحاب السلوك العرفاني والصوفي بالأسماء الإلهية الصفاتية والأسمائية والعقلية التي تسري في وجودهم، بشكل خاص، كونهم مراكز الوجود والحضور الذاتي للذات الإلهية، وفي الوجود، بشكل عام. فعليهم أن يتمثلوا ويتحققوا بهذه الأسماء حتى الوصول إلى التكامل في دائرة الحضور الإلهي. والطريقة التي يتم بها التحلِّي هي تسلق المقامات العرفانية والمنازل الوجودية التي لها حالات مباشرة وذاتية مع الحق الإلهي. والغاية هي التكامل وشهود الحق في الوجود كلِّه، من خلال كل الوجود المادي والمعنوي. وهم يتخذون أسفاراً في الوصول قسَّموها إلى أربعة أسفار:

    أ‌. السفر الأول: هو السير من الخلق إلى الحق

    ب‌. السفر الثاني: هو السير بالحق في الحق

    ت‌. السفر الثالث: هو السير من الحق إلى الخلق بالحق

    ث‌. السفر الرابع: هو السير من الخلق بالحق

    وتُعتبَر هذه الأسفار محور دوائر العلوم العرفانية للسالك والسائر بغية بلوغ التكامل.

    الإشارة الثانية: المؤثرات العامة والخاصة في العلوم العرفانية عند النفَّري.

    يبدو أن النفَّري اطلع على تراث الديانات الأخرى. فمن خلال سياقات نصوصه الدلالية وبناءاتها المعرفية واللغوية نراه يركز على صراع الأضداد والديانات، كما أشار إلى ذلك أ. يوسف سامي اليوسف في كتابه مقدمة في المواقف والمخاطبات بقوله: "تأثر النفَّري بالديانات القديمة، كالبوذية والمانوية التي تعتبر نتاجاً للديانة البوذية. وموطن المانوية بابل؛ ولقرب المكان الذي ولد وعاش فيه النفَّري منها فقد تأثر بتراث هذه الديانات التي بقيت آثارها قائمة حتى زمن ظهور الإسلام. فالإثنينيات، من خير وشر، ونور وظلام، وولادة وموت، وتسامٍ وتسافُل، إلخ، قد وردت في نصوص النفَّري؛ بل هي أركان فلسفته في التخلص والوصول إلى الحقيقة." إلا أن النفَّري ابتكر فلسفة الاستواء التي تنفي التضاد والتثنية من خلال بعض نصوصه، كما يقول:

    من رآني تساوى عنده الكشف والحجاب، ومن لم يرني من وراء الضدين رؤية واحدة لم يرني.

    فقد تجاوز النفَّري هذه الإثنينيات. ثم إن الأضداد والإثنينية موجودة في تراث المسلمين وفي الكتاب الكريم، كما هي موجودة في كل الديانات. ويبقى التأثر والتفاعل مع الحضارات والديانات قائماً، ويحتاج تشخيصه إلى دقة علمية وبحث معمَّق. وأما تأثر النفَّري بأسلافه من الصوفية فهو واضح وجلِّي، من خلال ذكر مصطلحاتهم وتسمياتهم المعرفية ومقاماتهم، رغم استخلاصه وتمثُّله لكل النتائج التي وصلوا لها، من دون نكران للأقوال والمعارف إلا بالشكل الذي يدعم فلسفته الخاصة.

    الإشارة الثالثة:

    لم يذكر الشيخ النفَّري أقوال الأنبياء، ولا أسماءهم أو مقاماتهم، ولا أقوال الأئمة والأولياء المعروفين ولا أسماءهم، ولم يستشهد بآيات القرآن الكريم والكتب السماوية الأخرى. فرغم أنه يُجمِل نفس الصياغات والاشتقاقات الأسلوبية للكتب المقدسة، ورغم أن أهل التصوف والعرفان مهووسون بهذه الأسماء والأقوال، وخاصة آيات القرآن الكريم، فإنه يورد ثلاث كلمات فقط من القرآن الكريم، وذلك في نص واحد يقول فيه:

    وترى النار تقول ليس كمثله شيء، وترى الجنة تقول ليس كمثله شيء، وترى كل شيء يقول ليس كمثله شيء.

    ولم نرَ له من شاهد قرآني آخر. ويبدو أن عدم ذكر الشيخ النفَّري للنصوص القرآنية وأقوال الأنبياء يعود إلى دعوته لتبنِّي فلسفة التجريد التام، وبناء ذاكرة جديدة، والوصول إلى الحقيقة بدون تسميات أو معارف أو كرامات أو عناوين. فهو قد أبدع مقامين يتلاءمان وهذه الفلسفة الجديدة، هما "مقام الوقفة" و"مقام الرؤيا"، اللذان سنشير لهما خلال البحث. لكنه أورد إشارة معنوية وباطنية لحقيقة الإنسان الكامل، جاءت متطابقة مع أحاديث أهل المذهب الشيعي عن الرجل الموعود، صاحب الزمان، الإمام المنتظر. ويعتبر الشيخ النفَّري أن هذه الحقيقة هي المثال المتكامل للحقيقة الإلهية على الأرض، وخروجُها يعني تحقُّق العدالة المعنوية والمادية في الأرض، كما هو وارد في النص. وباختصار، يقول في المخاطبة (مخاطبة وبشارة وإيذان الوقت):

    كذلك يقول الرب: إنما أخبرتكِ لظهور الأدب. فاكشفي البراقع عن وجهكِ، واركبي الدابة السيَّاحة على الأرض، وارفعي قواعدي المدروسة، واحمليهم إليَّ على يديكِ، من وافقكِ على اليمين ومن خالفكِ على الشمال، وابتهجي أيتها المحزونة، وتفسَّحي أيتها المكنونة، وتشمري أثوابكِ، وارفعي إزاركِ على عاتقكِ؛ إني أنتظركِ على كل فجٍّ؛ فانبسطي كالبر والبحر، وارتفعي كالسماء المرتفعة؛ فإني أرسل النار بين يديكِ، ولا تدر ولا تستقر. إن في ذلك لآية تُظهِر كلمة الله، فيُظهِر الله وليَّه في الأرض، يتخذ أولياءَ الله أولياءَ، يبايع له المؤمنون بمكة؛ أولئك أحباب الله، ينصرهم الله وينصرونه، وأولئك هم المستحفظون عدة، من شهدوا بدراً، يعملون ويصدقون ثلاثمائة وثلاثة عشر، أولئك هم الظاهرون.

    الإشارة الرابعة:

    تأثر جيل الصوفية بعد النفَّري بأفكاره وصياغاته اللغوية وثراء خياله ووسع مقاماته؛ فذكره الشيخ الأكبر ابن عربي في فتوحاته ورسائله، ونسب إليه الطريقة "الواقفية"، إشارة إلى "مقام الوقفة" الذي أضافه النفَّري إلى تراث مقامات أهل التصوف والعرفان. واعتبره ابن عربي من "الأفراد"؛ وهو مقام عزيز، لا يرتبط بالشكل التمثيلي مع مشايخ أهل الطريق، ولا بمعارفهم ومفردات سلوكهم زمانياً؛ بل إن للأفراد طريقهم ونتاجهم الخاص. ولقد تأثر الشيخ ابن عربي – وهو أكبر العارفين، وصاحب أكبر الموسوعات العرفانية لأهل التصوف والعرفان – بالشيخ النفَّري وفلسفته التجريدية، وبقوة وعمق ودقة أسلوبه، وبعلوِّ مقامه. كما تأثر كثير من الحكماء والصوفية بأسلوب الشيخ النفَّري في الكتابة والصياغة والمعاني وحاولوا تقليده. وأما في وقتنا الحاضر فيبدو أن أهل الأدب، وخاصة أهل الشعر المعاصر، قد تأثروا تأثراً واضحاً بنصوص النفَّري، واستفادوا منه في سياقاته الدلالية والأسلوبية، وخصوبة خياله، وقدرته اللغوية على التصوير والانفتاح والاختزال والتلاعب باللغة بشكل مبدع. وكما هو واضح ومعروف فإن الشاعر علي أحمد سعيد إسبر (أدونيس) قد أشار إلى كتاب المواقف والمخاطبات الذي أظهره لأهل الشعر ولفت انتباههم إليه.

    [يظهر أن الشعراء والأدباء أكثر معرفة بالشيخ النفَّري من أهل الدين والتصوف في وقتنا الحاضر. من هنا نتمنى أن يكون هذا البحث دعوة لأهل الاختصاص في حقول الدين والمهتمين والدارسين والباحثين في مجالات العرفان والتصوف للالتفات إلى تراث هذا الرجل العظيم.]

    الجزء الثانى يتبع
                  

02-10-2003, 10:38 PM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفكر الصوفي عند النِّفَّري- مقال حذف (Re: Abdel Aati)

    مدخل
    ولد محمد بن عبد الجبار بن الحسن بن أحمد النفَّري في مدينة نِفَّر الواقعة على ضفاف نهر الفرات شرقاً. ونِفَّر مدينة سومرية تسمى نيبور؛ وهي مبنية على ضفاف الفرات الشرقية، وكانت مركزاً دينياً مهماً قبل أربعة آلاف سنة، وكان فيها معبد آكور الذي يُعبَد به الرب إنليل، سيد الهواء. ومن بعدُ أصبحت مركزاً للديانة المانوية، ثم المسيحية في القرن السابع الميلادي. توفي النفَّري في عام 375 هـ/965 م، كما ذكره التلمساني الشارح لكتاب المواقف والمخاطبات على هامش الغلاف من المخطوطة المصرية. ويقول رينولد نيكلسون إن النفَّري "درويش جوَّاب آفاق، مغامر في أقطار الأرض". ويقول التلمساني إنه توفي في القاهرة، ولا يؤكد ذلك، مكتفياً بالقول: "الله العالم في مماته."

    إن حياة النفَّري غامضة في ولادته وموته وسيرته، على كل الأصعدة؛ وليس لدينا أي مصدر يذكر تفاصيل حياته. إلا أن من المؤكد أنه عاش في القرن الرابع الهجري، وعاصر محنة الحلاج التي أثَّرت على أهل التصوف ودَعَتْهم إلى التحفظ والكتمان والتقية الشديدة. وقد اكتشف كتابَ المواقف والمخاطبات للنفَّري المستشرقُ آرثر جون آربري سنة 1934. ويبدو أن عدم ذكر النفَّري في مصادر أهل التصوف والعرفان يرجع إلى عدة أسباب أهمها:

    أ‌. تأثير محنة الحلاج على جيل المتصوفة الذي تستر بالتحفظ والكتمان.

    ب‌. التخوف من الفقهاء الذين دأبُهم أن يشنوا حملة قاسية من التكفير والتفسيق على "أهل الطريق" ويحرضوا السلطات عليهم.

    ت‌. تبنى النفَّري أفكاراً خاصة به تدعوه إلى الغياب التام وعدم الظهور؛ وقد تكون هذه طريقة خاصة بالنفَّري وأصحابه.

    ث‌. يبدو أن النفَّري شيعي المذهب؛ وهو ما يبدو من خلال نصِّه الأخير في المواقف والمخاطبات الذي يشير فيه إلى الإمام المنتظر الذي يظهر وأصحابَه في آخر الزمان، بحسب الرواية الشيعية. والاعتقاد الشيعي بخصوص الإمام المنتظر متطابق مع مفردات النص النفَّري، وتؤكد ذلك طريقتُه العرفانية.

    ذلك أن العرفاء الشيعة لا يميلون إلى الظهور، ولا يهتمون بالتدوين، ولا يقدِّسون المشايخ، ويؤمنون بتعدد المشايخ أو السلوك بدون شيخ في هذا الطريق. ولا يظهر العرفاء الشيعة إلا بزيِّ الفقيه، كما جرت العادة، لعدم انفصال المؤسَّسة الفقهية عن هذا الحقل المعرفي. وأهل هذا الطريق يتخوَّفون من هؤلاء الفقهاء؛ وقد عانوا منهم أشد المعاناة، وخاصة أهل العرفان الشيعة. وإذا صحَّ أن ولادة النفَّري كانت في مدينة نِفَّر العراقية فإن ذلك يقوِّي الظنَّ بتشيُّعه. فمدينة نِفَّر تجاوِر الكوفة وبابل؛ ومن المعروف أن الكوفة والمدن المحيطة بها أكبر المراكز العلمية والتجمعات الشيعية في العراق، في الماضي كما في الحاضر.

    خلاصة القول: تبقى حياة النفَّري ومماته يكتنفهما الغموض؛ وليس لدينا أي دليل واضح على تفاصيلهما.

    قراءة أولية لمنهج النفَّري
    لقد أنهك النفَّري جسمَه في البحث والاختبار والأسفار، وبدأ يبحث عن كيان جديد للظهور يكون أكثر مقاربة ومصالحة مع ذاته ومسيرته السلوكية. لذا فقد اختار التدوين والكتابة وتفريغ ذاته المتكاملة في الخطاب الإلهي. فالكتابة أقرب الدلالات المجردة إلى حقيقة النفَّري، لأنها ساكنة، تحتاج إلى البحث عنها، وصامتة في حضورها. عشق النفَّري اللغة وعشقته اللغة، لأنهما يتكلمان بعمق واحد. وأراد النفَّري التشبُّه بالله، فاختار لغته مختزلةً، تسعى كذلك إلى التشبُّه بالله وإلى أن تكون على غرار روحانية الكتب المقدسة، حاملة نفس العمق الجوهري للخطاب الإلهي. فنصوص النفَّري تحتاج لمتذوِّق ذي حساسية خاصة، لأنها نصوص لأهل الخاصة من أهل طريق العرفان الذين يعلمون أسرار الكتابة والتدوين على صفحات وجودهم، ويقرأون ذواتهم كجزء متكامل داخل هذه النصوص الإلهية. ويمكن أن نوجز المحطات المهمة في المنهج النفَّري في الكتابة كما يلي:

    1. إن النفَّري يحاور ويتحدث حديثاً داخلياً تكامَل في ذاته: فهو يسمع، وينصت، ويصمت، ويتحدث؛ وكل هذه العملية الحوارية تتم داخل دائرة ذاته. فلا محلَّ للآخر إلا إذا أصبح ضمن مفردات هذا الخطاب، ومن ضمن عملية اتصاله التي دوَّنت خطابه. فكأنه يتحدث لذاته في غياب تام إلا من الذات الإلهية المخاطِبة. لهذا تحمل نصوص النفَّري حرية الاتساع والإطلاق في العبارة، وامتداد المعنى، وبساطة أسلوبية، وعمقاً محسوساً لا يُسبَر غورُه.

    2. لقد تبادل النفَّري واللغة، في عملية الكتابة، الحبَّ؛ فمالت اللغة معه حيث يميل، وانحنت أمام صدق تعامُله معها وتوظيفها بأشكال تليق بقدرتها على الإحاطة والابتكار والتجديد. فهي مستسلمة له كما لو أنها أحد مريديه، يقلِّبها كيفما يشاء. فاللغة في نصوص النفَّري منتشية، لانصياعها واستسلامها ليد مبدع وصاحب خيال فذ. والصياغة اللغوية للنفَّري ذات سياقات تحمل ديمومتها، وتحافظ عليها ككيان مستقل، يعرف ويفكر ويدرك ويعي وجوده ككائن حيٍّ، بلا شروخ أو فجوات. إن بنائية النص النفَّريِّ عبارة عن وحدة وجودية تامة وفناء بين ذات الكاتب وذات اللغة:

    وقال لي: هذه عبارتي وأنت تكتب، فكيف وأنت لا تكتب؟!

    3. يختزل النفَّري المعاني اختزالاً غريباً. فهو يؤسِّس نصاً من ثلاث كلمات يختزل بها معرفة متكاملة، حيث يقول:

    وقال لي: كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة.

    ويدل ذلك على عمق الفكر النفَّريِّ وتكامل سيطرة ذاته على المعاني والمعارف في اختزال التتابع الزمني للوجود.

    4. تحمل نصوص النفَّري مشاكسة للآخر (القارئ): فهو يقطع متعة القارئ ولذَّته في التواصل والاستمرار، وكأنه يُضمِر العداء له؛ وهو يحاول امتصاص الآخر داخل النص وإفراغ ذاكرته وملأها بمعانٍ جديدة دون أن تفقد اللغة وجدانيَّتها وإيقاعها. وأما معانيه فهي متراصة ومتماسكة في التفافها على القارئ والدوران حوله؛ وهي لا تترك مجالاً له لالتقاط أنفاسه، بل يبقى مشدوداً ومندهشاً لا يستطيع أن يترك النص بإرادته، ممسوكاً باختياره. ورغم الألم والحيرة فهو يشعر بالنشوة والصفاء.

    5. يتمتع النفَّري بخيال خصب وخلاق من كل الوجوه. إنه يستدعي الرؤيا لتكون من مقاماته الخصبة التي أنجبت صوراً لامتناهية للألوهية. فهو يُمطِر مشاهد غيبية، يمكن النظر إليها دفعة واحدة من جهات متعددة.

    تُعتبَر الرؤيا أكثر "الآلات" التصويرية عمقاً في تصوير عوالم الغيب وزوايا البحث عن الحقيقة المطلقة. فالنفَّري يحدد زوايا لالتقاط صور لمعانٍ لم يطَّلع عليها أحد من قبله. وبهذا الخيال الخصب الذي يتمتع به منح الرؤيا أعلى الدرجات في سُلَّم تكامل الذات الإنسانية في دائرة المطلق.

    يحدِّد خيال النفَّري للقارئ نقطة صغيرة من الضوء في فضاء شديد الظلمة، فيحرِّكها بسرعة هائلة تداهمك بألوان شتى من الصور، سرعان ما تتلاشى؛ فلا يبقى منها سوى انعكاس الضوء على العين. إنه يرسم في هذا الفراغ المظلم صوراً من نور تبرق ثم تتلاشى، مصوِّراً لك الوجود مقلوباً، كما في بؤبؤ العين، ليستخرج صوراً تأخذ شكلها الطبيعي؛ وفجأة تراها تكبر وتتطاير بلمح البصر... إنها لعبة... لعبة سينمائية معاصرة جداً. فهو أراد من كل هذا الخيال الغريب أن يؤسِّس ذاكرةً جديدة لرؤيا عوالم الغيب ومعالم الاتصال مع الذات الإلهية. فهو يُظهِر اللامرئي بصورة مرئية؛ ذلك أن الهوس الخيالي ملاصق لصور الكمال والجمال الإلهي. وفي نهاية مطاف كل نص ترى هذه الأنوار الصورية المتشكلة من كلمات جامدة توصل القارئ إلى عوالمه الذاتية، تومض وتبرق لتختفي دون أن تحمل حدوداً واضحة المعالم؛ لكنك لا تستطيع نكران مشاهدتك لها، فتخرج كأنك لم ترَ شيئاً، ولن يتبقى معك سوى نشوة المشاهدة، كما في المقتطع الآتي:

    أوقفني في البحر، فرأيت المراكب تغرق، والألواح تَسْلَم. ثم غرقت الألواح. وقال لي: لا يَسلَمُ مَن ركب.

    وقال لي: ظاهر البحر ضوء لا يُبلَغ، وقعرُه ظلمة لا تمكن، وبينهما حيتان لا تُستأمَن.

    6. لا يخفى على المتتبع لكتب الصوفية في ذكر مقاماتهم وأحوالهم أن هذه المقامات أصبحت من الثوابت التي تُلزِم كلَّ صوفي بالخوض فيها. والمقامات كسبية، يسعى الصوفي لتحقيقها في مناهج سلوكه؛ أما الأحوال فأمور وهبية، وتحصيل حاصل للمقامات.

    الجزء الثالث يتبع
                  

02-10-2003, 10:40 PM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفكر الصوفي عند النِّفَّري- مقال حذف (Re: Abdel Aati)

    تبدأ مقامات الصوفية بالتوبة، وتنتهي بالتوحيد؛ وبينهما الخوف، والرجاء، والصبر، والزهد، والفقر، والمحو، والإثبات، والتوكل، والتسليم، والرضا. أما الأحوال فهي واردات ترد على القلب، فتبرق وتختفي، ليستأنف الصوفي السير والسلوك.

    تنقسم المقامات إلى مقامات "مادية" وأخرى "معنوية". فالمقامات التي ذكرناها آنفاً هي من المقامات المادية في السير والسلوك؛ أما بعد التحقق بمقام التوحيد والدخول في الولاية فتبدأ المقامات المعنوية. ولكل عارف مقاماته وتسمياته الخاصة، رغم أنها تصب في بحر واحد. من أهم مقامات النفَّري المعنوية الخاصة نختار مقامين اثنين هما: "مقام الوقفة" و"مقام الرؤيا"؛ وسنوضح، باختصار، الملامح العامة لهذين المقامين:

    أ. مقام الواقف والوقفة:

    الواقف هو المنتظِر والمنتظَر داخل لحظة تكاملت في زمن الذات الإلهية وتهيأت وسكنت لتلقِّي الخطاب الإلهي المطلق. والواقف هو ذلك الذي تسلَّق قمة سُلَّم التجريد، والذي تجرَّد من التجرُّد ذاته؛ فهو يدور في عوالم الغيب والشهادة بدون حجب أو أستار. ويحقق الواقف أعلى مراتب الفناء في سُلَّم المقامات المعنوية عند أهل الطريق.

    اختار النفَّري أكثر المفردات تجريداً لتسمية مقاماته المعنوية. فالوقفة/الواقف كلمة مجردة أراد النفَّري أن يؤسِّس عليها معانيه ومعارفه الخاصة. الوقفة عند النفري مسلوبة الإرادة، وخارجة عن كل ضدَّانية وسوائية وغيرية، ولا تتستَّر بأي ستر، مادياً كان أم معنوياً.

    منشأ هذه الكلمة، في اللغة، لتحديد طارئ يطرأ على الحركة. وفي لغة أهل الفقه، "الوَقْف" هو إيقاف هذا المُلك أو البناء إلخ على شخص أو مشروع ما؛ فلا يمكن التصرف به إلا بخصوص شروط الوَقْفية؛ وتبقى هذه الوقفية متواصلة مادامت لا تتعارض مع مصلحة عامة. وعلى كل حال، ما نريد الوصول له، من خلال هذا التفسير اللغوي والاصطلاحي لكلمة "أوقفني" هذه، تبيانُ أن دلالة مقام "الواقف" تشير إلى أن صاحب هذا المقام يصبح مُلكاً لله وحده ليس غير، ظاهرياً وباطنياً، ويطبق كل الشروط المتعلقة بتكامله داخل هذا المقام.

    ونلاحظ ظهور هذا المقام عند النفَّري في المواقف، حيث يبتدئ كل فصل منه بقوله: "أوقفني" الذي يردفه بقوله: "وقال لي"، وكأنه يتلقَّى الخطاب الإلهي بعد أن يتم حال الوقوف ويتهيأ للإنصات.

    والوقوف حالة من حالات التواضع والأدب في مقام الواقف. ولا يصح لصاحب مقام الواقف أن يتلقى الخطاب الإلهي إلا في حالة الوقوف والاستعداد المعنوي لتلقي هذا الخطاب؛ فالوقوف هنا وقوف معنوي. ومن ضمن أحوال هذا المقام الأدب التام مع الله؛ ومن أحواله أيضاً الإنصات والصمت: فلا يصح النطق عند الواقف وهو في دائرة الرؤيا التي تلازِم الوقفة، والعكس بالعكس. يقول النفَّري:

    وقال لي: من رآني لا ينطق.

    في عملية تلقِّي الخطاب الإلهي من حضرة القائل – وهي حضرة الخطاب الإلهي – فإن أول ما يفقد الواقفُ الكلامَ، وبعبارة أدق، القدرةَ على الكلام؛ وتحلُّ محلَّ الكلام حالاتٌ من مثل الأدب والإنصات والصمت. وبعد هذه العملية يتحقق الإلقاء، وتبدأ العبارة الإلهية تكتمل داخل النص، كما في قوله:

    أوقفني في الوقفة... وقال لي: إن لم تظفر بي، أليس يظفر بك سواي؟
    بعد أن بيَّنا عبارة "أوقفني"، وكذلك مقام "الواقف"، نبين الآن العبارة التالية، وهي قوله: "وقال لي". فـ"القائل" هو اسم من أسماء الله، وهو من الأسماء الغيبية، كما ذكر ابن عربي في فتوحاته في فصل الأسماء الإلهية. وهذا الاسم الالهي "القائل" يتحكَّم في نقل الخطاب الإلهي المباشر إلى الوجود على مستويات مختلفة ومتفاوتة: على المستوى الظاهري، الذي من سماته الاختلاف والتفاوت والتشكل، وعلى الصعيد الباطني. فمعروف عند أهل المعرفة أن هذا الاسم "القائل" هو الواسطة أو الوحي الذي ينقل الخطاب من الحضرة الإلهية إلى حقائق كمالية مخصوصة، لها حضور ذاتي متكامل. وحضرة الخطاب الإلهي المذكورة هنا هي إحدى الحضرات عند أهل العرفان، ويتشكل بها الخطاب الإلهي. ويحمل الاسمُ "القائل" إلى كمالات وجودية مخصوصة؛ فيكون هذا الاسم مسؤولاً عن نقل الخطاب الإلهي في النصوص النفَّرية، بما يمكِّن من صياغة المعادلة التالية:

    حضرة الخطاب الإلهي + القائل + الواقف = النص النفَّري
    وأما المسافات المعنوية في المعادلة السابقة فهي كالآتي:

    أ‌. ما بين الخطاب الإلهي والقائل، تكون الكلمات الغيبية

    ب‌. ما بين القائل والواقف، يكون الإنصات المعنوي

    ت‌. ما بين الواقف وذاته، يكون التدوين الظاهري والباطني

    أهم سمات مقام الواقف:

    أ‌. تشبُّه مقام الواقف بالصفات الإلهية الشهودية والغيبية.

    ب‌. الوقفة هي الساحة المعنوية لكمال الذات الإنسانية في دائرة الحقيقة المطلقة.

    ت‌. تختفي كل ضدَّانية وسوائية وغيرية داخل ساحة الوقفة.

    ث‌. مدار الوقفة والواقف فوق مدارات أهل الأرض وأهل السماء، كما يقول النفَّري:

    إذا علمت علماً لا ضدَّ له، وجهلت جهلاً لا ضدَّ له، فلست من أهل الأرض ولا من أهل السماء.

    ج‌. الوقفة تعتق من كل شيء. فهي فوق عالم أضداد الدنيا والآخرة:

    وقال لي: الوقفة تعتق من رقِّ الدنيا والآخرة.

    أهم السمات الواضحة في سلوكية الواقف هي الحرية المطلقة:

    وقال لي: العالِم في الرِّق، والعارف مكاتب، والواقف حر.

    أهم الثوابت الذاتية في شخص الواقف هي الصمدية، والفردانية، وعدم الالتفات الى الأغيار:

    وقال لي: فالواقف لا يقبله الأغيار ولا تزحزحه المآرب.

    ب. مقام الرؤيا:

    إن الرؤيا في معارف وخيال الصوفية والعارفين أهم المنافذ المجردة والذاتية للارتباط بالخطاب الإلهي، ومشاهدة الحقائق المجردة، والالتقاء بالأسرار المعنوية. والرؤيا أعلى مراتب الكشف؛ فهي تنزُّلات التجلِّي الإلهي على الفؤاد ليرى الحقيقة، كما هو وارد في القرآن الكريم: "ما كذب الفؤاد ما رأى" (سورة النجم 11). فمقام الرؤيا آخر أبواب مقام الواقف في سُلَّم المعنى الذاتي الإلهي. ومفتاح الرؤيا اللحظة المطلقة، بلا ذاكرة، ولا عنوان، ولا تسميات؛ فهي القدرة الذاتية والكمالية لاختراق كل شيء وسلب شيئيَّته، وإزاحة محجوبيَّة كل الحجب والموانع والأستار، وإزاحة الألوهية كل غيرية وسوائية عن ذاتها المستقلة. فمن خلال مقام الرؤيا يستطيع الواقف أن يرى كل شيء من وراء كل شيء، وأن يرى الحقيقة الإلهية من وراء كل الأشياء والحجب، كما يقول النفَّري في المواقف:

    وقال لي: لا يكون المنتهى حتى تراني من وراء كل شيء.

    فالرؤيا آخر منتهى الوصول، على أن ترى الحق من وراء كل الأشياء. وبوجود الأشياء يكون للرؤيا القدرة على شهود الحق في كل الوجود، ورؤية الوجود في وحدة شهود الحق. فالرؤيا تنزُّلات الذات الإلهية على سرِّ الواقف وتجلِّيات الحق على ذاته. ومن مساحات الرؤيا التي تتحقق فيها المشاهدة والكشف المعنوي النومُ. يقول النفَّري في المواقف:

    وقال لي: نَمْ لتراني، فإنك تراني؛ واستيقظ لتراك، فإنك لا تراني.

    فنوم الواقف هو الرؤيا المطلقة للحقيقة الإلهية. والنوم هنا نوم معنوي تنكشف له الحقائق عن مكنوناتها وأسرارها؛ وهي إزاحة معنوية لكل رقابة حسية أو مادية، وجدانية أو معنوية، عن حقيقة الواقف. فالنوم المعنوي يحقق هذا الفتح العظيم في رؤية الحقيقة الإلهية. واليقظة هي يقظة الأوهام في مسالك الوجود، بحيث تتلاشى الذات الإلهية في حجب هذا الوجود دون أن يعلم المستيقظ بذلك، ظاناً أنه في يقظة أمام الحقيقة، بينما هو في غيبوبة عن الحق. فالمستيقظ لا يرى إلا أشباح الحقائق؛ بينما تنكشف للنائم من وراء الحجب أسرارُ الحقائق. ويكون الواقف صاحب الرؤية أعظم وأكبر من العارف كما يقول:

    وقال لي: كل واقف عارف، وليس كل عارف واقف.

    ولأن معرفة العارف ملازمة لسرِّ ذاته، لا تفارقه أبداً، فالعارف يبني قصوراً من المعرفة وينصِّب نفسه مَلِكاً على هذه المملكة الشاسعة، ولا يستطيع أن يتخلَّى عن مُلكه؛ فقد أضحت المعرفة حجابه الأكبر. يقول النفري:

    وقال لي: فإن العارف كالمَلِك يبني قصوره من المعرفة فلا يريد أن يتخلَّى عنها.

    وتصير المعرفة ناراً تأكل كل محبة. فالمحبة هي محور ذات الواقف وجوهر مقام الرؤيا؛ بالمحبة يخترق الواقف كل مدارات الحقائق ليصل إلى مكنون الحقيقة الإلهية. فمعرفة العارف تأكل كل محبة لأنها النار التي سُلِّطت على وجدانه المحجوب:

    وقال لي: المعرفة نارٌ تأكل المحبة.

    وأما علوم الرؤيا التي تزيح عن الواقف غيرية الأشياء وسوائية الحجب فهي أن تشهد الصمت الذي هو جوهر سرِّ الواقف وقلمه الذي يدوِّن به وقوفَه. والصمت عند الواقف ملَكة ذاتية:

    وقال لي: من علوم الرؤيا أن تشهد صمت الكل، ومن علوم الحجاب أن تشهد نطق الكل.

    فهذه الشهادة التي يراها صاحب الرؤيا هي استيلاءُ كماله على كل الأشياء، فتشهد له بعمق الكل. وأما إزاحة ذاتية الحجاب فهي إشهاد وإنطاق الكل.

    وكما ذكرنا مراراً، فإنه باختفاء ذاتية الأشياء واستقلالها عن المعنى الحق، وبمحو ضدَّانية التقابل وفعالية تأثير الأضداد على الإنسان، يستطيع الواقف أن يرى من وراء الضدَّين رؤية واحدة. وهذه إشارة إلى عمق التوحيد في المشاهدة من وراء الأضداد، رؤية واحدة حقَّة:

    وقال لي: من لم يرني من وراء الضدَّين رؤية واحدة ما رآني.

    وهذا التوحيد هو حقيقة التوازن الوجودي في جوهر شهود الحق في كل الأشياء. ولا بدَّ أن تتحقق لصاحب الرؤيا المعرفةُ التي يرى بها الحقيقة، ولا يرى بديلاً عنها. وهذا هو الاختلاف بين معرفة الواقف ومعرفة العارف: فالواقف يستخدم المعرفة في الرؤيا لرؤية الحق؛ بينما العارف يرى في المعرفة المعرفةَ ذاتها.

    أهم سمات صاحب الرؤيا:

    أ‌. إزاحة كل ذاتية مستقلة عن معنى ذات الحق ورؤيته بلا وسائط.

    ب‌. سلب كل محجوبيَّة وشيئية عن ما هو دون الحق.

    ت‌. تزيح الرؤيا ظاهريةَ الصور وشكلانيةَ المعاني، وتخلِّص الواقف من انطوائه تحت ثقل تسلُّط التعيُّنات الثابتة والمتغيرة.

    ث‌. الرؤيا تحقق الوحدة الوجودية لشهود الحق.

    ج‌. التثبت في الرؤيا، وانصهار الحقائق الثابتة في ذات الواقف، هو سرُّ اكتمال دائرة الرؤيا للحقيقة:

    وقال لي: قف في مقامك بين يديَّ، قف في رؤيتي، وإلا اختطفك كل شيء.

    ح‌. مركز الرؤيا في المدار الإنساني هي الروح؛ والروح والرؤيا من سنخ واحد، من أصل واحد:

    يا عبدُ، الروح والرؤيا إلفان مؤتلفان.

    فالروح هي السريان الحقُّ لذات الإنسان، والقيمة الكمالية لفعالية الرؤيا؛ والرؤيا هي المعراج الوصولي لحمل الروح على المشاهدة.

    خ‌. الرؤيا لا يتخلَّلها الحجاب، ولا تتحول إلى حجاب أبداً؛ فهي مقام نوراني لأنها من أصل الحقيقة الإلهية بلا وسائط.

    د‌. الرؤيا هي أهم العوالم وأعظم المراتب لأنها جوهر ذاتي يلامس الذات الإلهية:

    يا عبدُ، لو علَّمتك ما في الرؤيا لحزنتَ على دخول الجنة.

    ذ‌. الرؤيا تحقق للإنسان الواقف عبور كل الأشياء واجتياز كل المسافات المعنوية والمادية؛ فتلوح له الأشياء ظاهرة في بواطنها، وكاشفة عن حقائقها، وواضحة في معانيها. يقول النفَّري:

    أنت عابر كل شيء؛ فجزت فرأيت كل شيء، ورأيت وجه كل شيء، ومعنى كل شيء.

    الخاتمة
    إن الله راغب بالإنسان. ولهذا خلقه على صورته. تلك الرغبة الإلهية في الخلق لا تنمُّ عن حاجة افتقارية، بل هي حاجة الغنى نفسه لإظهار ذات العطاء. وتلك الصورة لا يكتمل ظهورُها ما لم تتطابق مع حقائق المعنى الإلهيِّ في سرِّ الإنسان – هذا الإنسان الذي حمل رغبةَ الله على ظهره، وتحمَّل عناء البحث والهجرة والأسفار، وابتكر التساؤل ليحلَّ لغز هذه الحقيقة، منذ فجر الإنسانية إلى يومنا هذا، وأراد الوصول إلى هذا التطابق، إلى اكتشاف المعرفة الحقَّة التي يصل بها إلى سرِّ الصورة الأولى وتمام ظهورها في دائرة الوجود.

    لقد حافظ أهلُ التصوُّف والعرفان على براءة السؤال الخام والقلق الخام كي يتطابقوا مع الأصل، أصل الوجود، الذي تحمَّلوا في سبيله العناء العظيم وضحَّوا بكلِّ وجودهم من أجل الوصول إلى الحقيقة. فهم أهلُ الله الذين لا يستظلون بظلٍّ ولا ينتسبون إلى التسميات. أسَّسوا للمسلمين، بشكل خاص، وللبشرية، بشكل عام، مشروعاً خصباً، وتركوا تراثاً إنسانياً صافياً وعميقاً. فأهل هذا الطريق افتتنوا بالله افتتاناً أفقدَهمْ كلَّ شيء، وأحبوه حباً لامتناهياً، وهاموا في عشقه. ينحتون بوجودهم أسماءه، ويرسمون بدمائهم خرائط الوصول إليه. سكنوا الصحارى والجبال وغاصوا في الوديان، وركبوا البحار، واتخذوا من الهجرة بيتاً ومن الغربة زاداً. فماذا يمكن أن نقول عن أسفارهم – تلك الأسفار التي هي أكثرها تعقيداً على أرض البساطة، وأكثرها بساطةً على أرض التعقيد، في البحث عن مكنون البساطة، وهو الله – الله بسيط الحقيقة – وعن الفناء في هذا المعنى الإلهي. لهذا حملوا قلوبهم مناجلَ للتجريد وللغوص إلى أعماق الوجود بلذة الاختراق وفضول ألم الاستطلاع، لاستخراج كنوز المعارف وحقيقة الكمال المطلق.

    يلمِّعون قلوبهم كما يلمِّع الفارس سيفه، ويعلنون البراءة من الصدأ المتراكم على القلوب، لأن قلوبهم بيت الله. فكيف يهيئون هذا البيت لأعظم وأجلِّ محبوب أفنوا حياتهم في البحث عنه؟! يطلبون الموت كما يطلبون الخلود. دخلوا إلى الحياة من فوهة الموت. هم مدارج الموت التي يعبُر عليها أطفال التلعثم. المعرفة انهمار دموعهم أطفالاً كالنجوم تملأ جسد الرب، لامست شفاه العشاق فتكلَّمت بكل اللغات. وعلومهم مياه التكرار في رحم لذَّات المعارف. هم النسَّاجون الذين نقشوا قلوبهم سجادةً للرب، وأنفاسهم أنوار لامست عيون الله. إنهم ثمرات معارفه التي اختزلت زمن الإنسان.

    يعلنون من مكنون خيالهم: إن زمن الله قيلولة أسمائه بلا نهارات؛ وإن زمن الإنسان خطيئة معلقة على رقبة الشمس. هم أبناء الشمس الذين عزموا على رؤية كل شيء، والنظر إلى كل شيء، وممارسة لذَّات كل شيء، لأنهم عيون الرب في وجوده؛ يرى بهم كل شيء، وينظر بهم كل شيء، ويلمُّ بكل شيء. والحقيقة تعني توسلات الرؤيا لجسور السواحل في الظهور.

    الخيال عندهم ثرثرة المعاني في مجالس الغيب. هم أهل الليل، بيت الله الذي يتوسَّط ساقَيْ الوجود: ساق من نور، وساق من ظلام. وأرواحهم معلقة بأرجوحة إعماء، وأفواههم تحمل خطابات المعاني للوجود، ومرايا رؤية الرب التي تلمُّ بجنون الخطابات. هم أطفال المعاني في أحضان المشيئة التي ربَّتهم أحراراً.

    مقاماتهم جروح أقدام الرب في مسيرة البرازخ. وأحوالهم رياح الجنوب التي لا تملُّ من العتاب. والكشف والحجاب بحارٌ لمراكبَ غرقى؛ والفناء والبقاء ألواح تطفو على ساحل التِيْه الأعظم. لعبة من القرب والبعد لا تحظى بالقُبَل والاحتضان. وعشقهم هوس الموتى من وراء منافذ قيود اللذات. وحزنهم فرح قديم يطفو على سطح السعادة المتأخرة. وتوبتهم انحناء الجسد في بيت الخطايا. وتجريدهم عري الخطاب في غرف خالية من عسل الأنثى. ونفوسهم أقداح الطاعة الممتلئة بالتحولات. وتوحيدهم سكر الفنانين على موائد النار. وذواتهم موائد عليها فاكهة الجنة، يأكل منها المؤمن والكافر. ونومهم سرير العبودية الذي يحلم بالمسافات. وصبرهم عربة يجرُّها حصان الفقر. ورؤياهم امتداد الوادي المقدس المنطوي تحت أسرار دعوة نزع النعلين، ولفِّ الساقين، والجلوس أخيراً فوق نار التيه، والانتظار آخراً بلا أسماء...

    يقول لهم الرب: "من راسلتُه ابتليتُه بجميع البلاءات، ظاهرة وباطنة. ومن لمستُه جعلت العباد يبحثون عنه في كل مكان كي يكون وليَّهم. ومن قبَّلته قطعتُ رأسه. ومن احتضنتُه أفنيتُه إلى الأبد." وقال: "لم أصافح أحداً لأنه سيكون إياي."

    هؤلاء هم أهل العرفان الذين عشقوا الله، وذابوا في كل معانيه، وتجردوا من كل شيء من أجل الحضور والرؤيا والفناء في المعنى الأسمى. إنهم المجانين الذين يتطلعون إلى عقل لا يغيب.

    فكيف نصف هؤلاء، والصفات حجبٌ انتهكوها، والأسماء عبارات تجاوزوها؟

    إنهم كلمات الله التي لا تنفد.

    إنهم حقاً أهل الله.
                  

02-11-2003, 01:03 AM

طارق اسماعيل
<aطارق اسماعيل
تاريخ التسجيل: 01-20-2003
مجموع المشاركات: 423

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفكر الصوفي عند النِّفَّري- مقال حذف (Re: Abdel Aati)


    الاخ عادل ود بولندا
    سلام واحترام
    شكرا على الموضوع نحتاج بشدة لمثل هذا المواضيع

    لكن نحن عيونا كده ما بتشوف تقوم تنزل بوست بالصوره الطويله دى
    بالصورة دى بتخلى ليك واحد يفقد بصره


    د.طارق
                  

02-11-2003, 01:38 AM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفكر الصوفي عند النِّفَّري- مقال حذف (Re: طارق اسماعيل)

    سلام يا ود اوديسا

    جميل انو الموضوع عجبك ؛ والمشكلة يا اخوى ما مشكلة الموضوع طويل ؛ لكن الكبر حصل

    مرة اخرى شكرا لك ؛ وعلى وعد بالتواصل

    عادل
                  

02-11-2003, 06:32 AM

Yaho_Zato
<aYaho_Zato
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 1124

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفكر الصوفي عند النِّفَّري- مقال حذف (Re: Abdel Aati)

    dear Adil

    i have saved the articles you have posted about Sufism in my disk, so i can come to read them when i have the capacity of time .. thank you
                  

02-11-2003, 12:16 PM

حسن الجزولي
<aحسن الجزولي
تاريخ التسجيل: 12-05-2002
مجموع المشاركات: 1241

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفكر الصوفي عند النِّفَّري- مقال حذف (Re: Abdel Aati)

    الاخ عادل
    المقال ممتاز يغرى بمتابعة لكتابات مؤلفه حول الموضوع .. من هو وكيف الحصول على مزيد من الكتابات عن النفري نفسه , شكرا لك مره اخرى
    بالمناسبه : سبق وان ارسلت نفس التعليق قبل يومين ولم يظهر على البوست ولا اعلم السبب
    اخوك حسن
                  

02-11-2003, 06:17 PM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفكر الصوفي عند النِّفَّري- مقال حذف (Re: حسن الجزولي)

    الاخ حسن

    تحياتى

    كاتب الموضوع الصديث وليد عبد الله كاتب من العراق يقيم فى دمشق - سوريا ؛ وهو من المتعاونين مع مجلة معابر ؛,وسارسل لك اذا اردت بعضا من مقالاته بالبريد الاللكترونى اذا تفضلت وارسلته لى ؛ وعن النفرى لا توجد حسب علمى ؛ كتابات متكاملة؛ ولكن قد تطرق له ادونيس فى الثابت والمتحول ؛ كما هناك كتابات متعددة عنه فى مجلة نزوى
    www.nizwa.com


    خير مرجع للقراءة عن النفرى هو النفرى نفسه ؛ واذا كان لك احد فى لبنان او سوريا او القاهرة ؛ فيمكنك ان تطلب منهم ان يشتروا لك كتابة الضخم "المواقف والمخاطبات " ؛ وهو حسب علمى متوفر فى مكتبة الاهالى بدمشق وفى مكتبة مدبولى بالقاهرة

    عادل
                  

02-11-2003, 06:24 PM

ابويوسف

تاريخ التسجيل: 10-17-2002
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفكر الصوفي عند النِّفَّري- مقال حذف (Re: Abdel Aati)

    الاخ عبد العاطي
    تحيه معطره عطر الصوفيه
    موضوعك جميل ومفيد وثر ونحن صراحه في حوجه الي مثل هذه البوستات
    شاكرين لك سعه صدرك وانت تكتب وتوثق كل هذه الحروف النيره
    انار الله طريقك اليه ووفقك
                  

02-11-2003, 06:55 PM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفكر الصوفي عند النِّفَّري- مقال حذف (Re: ابويوسف)

    الاخ ابو يوسف

    تشكر يا انسان

    واتمنى ان يتواصل الحوار ؛ عسانا ان ناخذ الحكمة الكامنة فى التجربة الصوفية ؛ ونرقى بها وبانفسنا الى افق جديد

    عادل
                  

02-21-2003, 01:02 AM

طارق اسماعيل
<aطارق اسماعيل
تاريخ التسجيل: 01-20-2003
مجموع المشاركات: 423

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفكر الصوفي عند النِّفَّري- مقال حذف (Re: Abdel Aati)

    لاقدام
                  

02-21-2003, 08:44 AM

THE RAIN
<aTHE RAIN
تاريخ التسجيل: 06-20-2002
مجموع المشاركات: 2761

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفكر الصوفي عند النِّفَّري- مقال حذف (Re: Abdel Aati)

    الأخ عبد العاطى
    تحية وتقدير كبيرين على المقال الغنى

    أنا حقيقة من المهتمين للغاية بعالم التصوف، لست متصوفا، ولكن بى شغف لمعرفة الكثير عنه وعن أقطابه
    كنت قد بدأت قبل فترة طويلة مضت فى قراءة السفر العظيم الفتوحات المكية لمحى الدين بن العربى، وأظننى قد وجدت ضالتى وما أبحث عنه هناك ولكن تقطعت بنا السبل ولم يعد من مجال لمتابعة القراءة والبحث

    فهل يوجد أى موقع متوفر على الشبكة يمكن أن أجد فيه هذا العمل الكبير، أو جزءا منه

    ولك مجددا الشكر والتقدير
                  

02-22-2003, 07:10 AM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفكر الصوفي عند النِّفَّري- مقال حذف (Re: THE RAIN)

    مقال آخرعن النفري
    -----------------------

    أزمة النِّفَّري


    يوسف سامي اليوسف


    لعلَّها أن تكون حقيقة شديدة الصدق، تلك التي قال بها نفرٌ من علماء الاجتماع الثقافي، والتي تنصُّ على أن الظاهرة الصوفية لا تظهر إلا في مدن مكتهلة، أو جانحة إلى الشيخوخة، وأن المجتمعات البدائية والقروية تكاد أن تجهل هذه الظاهرة، أو هي لا تعرف منها إلا مستواها البسيط. فلا ريب في أن المدينة الشائخة، أو نصف الشائخة، هي أكثر المجتمعات قدرة على إنتاج الشعور بالاغتراب، ولا سيما في نفوس الأفراد الحسَّاسين الذين لا يقدرون على التكيف مع الاتِّضاع الذي يصيب الحياة في مجتمع؛ ذلك الاتِّضاع الذي من شأنه أن يدفع كل فرد نحو السعي اللاهث وراء المال، بحيث لا يبقى للإنسان من هدف في الحياة سوى النقود والنفوذ. وهذا يعني بالضرورة أن كل ما هو إنساني يكون قد تعرَّض للتهميش، وربما للتدمير أيضاً.

    إذن، في الجو الخانق المأزوم وحده يتيسَّر للظاهرة الصوفية أن تنشأ وتشبَّ عن الطوق، وذلك لأن من طبع الشيء أن يحرِّض نقيضه على المجيء إلى الوجود. فليس من قبيل الصدفة أن يبدأ التصوف الإسلامي في العراق خلال النصف الثاني من القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي)؛ إذ إن ذلك الإقليم الذي احتوى على عاصمة الممالك الإسلامية – أقصد بغداد – قد استحال إلى أكبر مستودع للمال في الدنيا بأسرها، وذلك ابتداء من عصر هارون الرشيد، أو قبل ذلك بقليل أو بكثير.

    ولقد كان المال يأتي إلى العراق من سبيلين اثنتين: أولاهما الخراج الذي كانت تدفعه أقاليم الدولة العباسية للخزينة المركزية في بغداد؛ وثانيتهما التجارة الدولية بين الشرق والغرب. ومما هو معلوم أن مدينة البصرة في جنوب العراق كانت واحدة من أكبر مراكز التجارة العالمية، وذلك بحكم كونها ميناء كبيراً على شطِّ العرب المفضي إلى الخليج، ثم إلى الهند والصين. ولهذا السبب فإن ثقل العراق التاريخي في ذلك الطور من أطوار الزمان قد احتكره النصفُ الجنوبي من ذلك الإقليم واستأثر به دون النصف الشمالي الذي ظل مغموراً حتى الحروب الصليبية على وجه التقريب.

    ومما هو مؤكَّد تمام التأكيد أن الصوفية الإسلامية قد ابتدأت في مدينة البصرة حصراً، وأن من أبرز مؤسِّسيها امرأة اسمها رابعة العدوية، وهي من عاشت وماتت في تلك المدينة الجنوبية الشديدة الثراء يومذاك. ثم إن الصوفية قد اتخذت من بغداد في القرن الثالث الهجري مركزاً لها، وذلك يوم أصبحت بغداد، التي ولدت نصف شائخة، أعظم مستودع للذهب في غرب آسيا وشمال أفريقيا.

    ولا يخفى على من يتتبَّع بأناة سيرةَ الحلاج وأخبارَ محنته أن الصراع الذي أفضى إلى مقتله هو صراع من أجل السلطة. وكلُّ صراع من هذا القبيل إنما هو، في جوهره، صراع من أجل المال قبل كلِّ شيء.

    ولعل أهم ما في أمر المجتمع الذي بلغ إلى برهة توثين المال أو عبادته على نحو صريح أن تكون مؤسَّساتُه معطوبة من الداخل، بحيث لا يملك الفرد – ولا سيما الحسَّاس – أن يتكيف مع هذه المؤسَّسات التي يتحكم بها الرَّهل والخمج، من جهة، والاستبداد المتشنج، من جهة أخرى. وربما كان الإفراط في الأنانية أبرز صفة بين صفات الإنسان في مجتمعات المال والنفاق ومساوئ الأخلاق، التي رأى إميل دوركهايم، عالم الاجتماع الفرنسي، أن anomia، أو فساد المعايير الكلِّية، هي صفتها الشاملة. وفي مثل هذه المجتمعات لا ينضج شيء كما ينضج الشعور بالاغتراب وعدم الانتماء. وربما جاز القول بأن كلَّ تقدم في الوعي البشري لا يقل عن كونه تنمية لهذا الشعور المغترب نفسه، وكذلك للحساسية التي لا بدَّ من أن ترافقه على الدوام. ومما هو جدير بالتنويه أن الشعور بالاغتراب هو عنصر ملازم للروح الحسَّاس في جميع الشروط والظروف؛ ولكن من شأن الجشع واستفحال شراسة المال أن يؤجِّجا هذا الشعور حتى تخوم التفاقم المرير.

    إذن، هذه هي مدن الاغتراب التي تتلخص الحياة فيها بأنها لهاث محموم وراء النقود والنفوذ. وهذا كابوس غليظ لا يطيقه الحسَّاسون الذين لا بدَّ لهم من السعي بحثاً عن مخرج. ولماذا لا يكون النسك، أو الزهد، بل حتى التصوف، هو المخرج من هذه الأزمة الآزمة التي يتورط فيها الروح دون أن يكون قد اختار ذلك المأزق بتاتاً؟

    وههنا يتدخل الفعل الحر، الذي هو اختيار حصراً، والذي هو ناتج هيفٍ في الروح، أو حساسية نفيسة، في الوقت إياه. وهذه سمة لا يؤتاها إلا الفرد الفريد، ذو القامة الباذخة والوجدان الحميم.

    وإذ يتدخل هذا الاختيار العالي فإن الداخل يثور على الخارج، فيفضِّل الإنسانُ الصوفَ على الحرير، ويطفر من ضيق العبودية إلى سعة الحرية. ولكن هذا العمل لا يقوى عليه إلا النخبة التي زوَّدها الخالقُ بأرواح مطهَّمة هيفاء، لا تملك إلا أن تُضمَر التقزُّز من كل ما هو فاسد وسقيم.

    ***

    وخلاصة الأمر أن الصوفية إنما تبدأ من الشعور بالاغتراب، الذي من شأن المدن المتورِّمة أن تفرزه على نحو تلقائي. والاغتراب شعورٌ يكابده – أو لا بدَّ من أن يكابده – أفراد حسَّاسون لا يملكون أن يتكيفوا مع مجتمع لا محلَّ فيه للعواطف الصادقة، أو للاتصال الإنساني بين الأفراد. فكلُّ اتصال في مدن الأورام تؤسِّسه المصلحة والملق والمداهنة، ولهذا فإنه يفتقر إلى الحرارة والصدق. وبفعل هذا الوضع التغريبي يشعر المرء – ولا سيما الحسَّاس – أنه مهجور، أو منفصل عن الآخرين، وأن هاوية لا تُعبَر تحجز بينه وبين الناس؛ إذ لا يرضى الحسَّاس إلا أن يكون الاتصال في العمق حصراً – وإن لم يكن كذلك فلا لزوم له بتاتاً! وعند ذاك فإنه يبحث عن الاتصال الأصلي في مكان آخر، فيجده في الفعل المجاني، أو اللانفعي، كالتصوف والفكر والفن والأدب. وبذلك يُقدِم المرء على توظيف غربته، فيُحيلها إلى علوٍّ، حين يعمد إلى مثل هذه الأفعال الحرة الكريمة التي لا هدف لها سوى الاتصال العميق.

    وإذ يحاول التصوف أن يحيل المرارةَ إلى حلاوة، والخواءَ إلى ملاء، فإنه يكون قد اتخذ لنفسه هدفاً واضحاً، وهو الدفاع الذاتي ضد الغثاثة والرثاثة والاتِّضاع؛ وهذه حالات لا يطيقها الحسَّاسون. وفي الحق أن الاغتراب لا يقتصر تأثيرُه على التصوف وحده، بل يتعدَّاه إلى الفنون والآداب في كثير من الأحيان. فهو صريح في شعر المعرِّي، وفي بعض كتابات التوحيدي، وكذلك في بعض قصائد المتنبي، الذي عاصر النِّفَّري وتوفي معه في سنة واحدة هي 354 هـ/965 م.

    ومع أن ابن عربي قد نفى أن تكون الغربة صفة من صفات أهل المعرفة والكمال – إذ هي منزلة أدنى ينزلها المتوسطون والمريدون، وذلك في الجزء الثاني من الفتوحات المكية (وهذا الجزء الثاني حصراً هو واحدٌ من أعظم الكتب التي كتبتْها البشرية!) – مع ذلك فإن تراثه كلَّه هو نتاج للشعور بالغربة قبل كل شيء – وإن كان يرى نفسه من أهل المعرفة والكمال الذين تجاوزوا برهة الاغتراب. وحبذا مثال واحد سريع: حين يقول الشيخ الأكبر، في الجزء الثاني من الفتوحات المكية، "ما ثَمَّ إلا جمال"، فإنه لا يفعل شيئاً سوى الدفاع عن نفسه ضد بؤس الحياة وابتذالها في عالم الاغتراب المرير. فهل يعقل أن يكون ابن عربي، الأندلسي الأصل، قد عاصر حروباً اجتثاثية شديدة الشراسة (معركة حطين في الشرق، ومعركة الأرك ومعركة العقاب في الأندلس)، كما عاصر سقوط معظم بلاده التي جاء منها وما تعرضت له من كوارث وويلات، وأن لا يكون هنالك في الوقت نفسه إلا الجمال وحده؟!

    ههنا، يتبدى الدفاع وكأنه قد تطرف كثيراً، حتى صار الفرد الحسَّاس يعيش في كون يخصُّه بمفرده ولا يخصُّ سواه من الناس.

    ***

    وأياً ما كان الشأن، فإن الكتابين النفيسين اللذين تركهما محمد بن عبد الجبار النِّفَّري، القادم من مدينة نِفَّر، الواقعة في النصف الجنوبي من العراق – أعني المواقف والمخاطبات – إنما ينبثقان من شعور مرير بالغربة قد لا يخفى على الدارس المتأني والمتفطِّن لما يسكت عنه الكلام المنطوق أو المكتوب. فالكتابان اللذان هما محاولة جليلة لتنظيم ذاتٍ مبعثرة، إنما تنسجهما حزمةٌ من الأضداد أو المثنويات، أهمها: الله والسوى، والقرب والبعد، والفرق والجمع، والظاهر والباطن، والنطق والصمت، والليل والنهار، والحياة والموت، والمعرفة والجهل، والعبد والرب، والنور والظلام، والنار والماء، إلخ. وهذا يعني أن النِّفَّري شديد التأثر بالمانوية التي تهتم بالتضاد أيَّما اهتمام. فمما هو معلوم أن نِفَّر (أو نيبور السومرية)، التي هي مدينة النِّفَّري، شديدة القرب من بابل، مدينة ماني، بل عاصمة الديانة المانوية.

    وفي الحق أن أهم ما يرمي إليه النِّفَّري، بعد الدفاع ضد الاغتراب (الذي يتلخص في أن ترفض المحيط لأنه يرفضك)، هو تجاوز الأضداد والبلوغ إلى ماوراءها، حيث لا شرَّ ولا توتر ولا تغريب، بل حال رؤيوية تشبه الـنيرفانا. ولهذا أخذ الرجل يطوِّر مقولتي "الرؤيا" و"الموقف" اللذين يرى فيهما التجاوز الفعلي للوضع الدنيوي المأزوم. ففي قاع الخطاب النِّفَّريِّ يرخم اعتقادٌ جازم بأن الاغتراب، أو البؤس، أو الشر، هو حال ديمومي من أحوال المشروع البشري كلِّه، لا يفارقه بتاتاً، بل يتغلغل في جميع ثناياه وتفاصيله وأجزائه على نحو شامل وصريح.

    وقد لا يخفى على الذين درسوا النِّفَّري بأناة، ولم يكتفوا بالافتتان بجانب واحد من جوانبه الكثيرة، كالصورة الفنية أو الأسلوب الشعري، أن الرجل متأثر بالبوذية والمسيحية والمانوية بقدر ما هو متأثر بالإسلام. ومما هو جليٌّ تماماً أنه متأثر بالزرادشتية التي تقدِّس النار وتهتم كثيراً بمثنوية النور والظلام. ففي الحق أن كلمة "النار" شديدة التواتر في كتابات النِّفَّري. ويبدو أنه صوفي تركيبي استطاع أن يوفِّق بين هذه الأديان كلِّها أيما توفيق (كانت المانوية في زمنه ديانة واسعة الانتشار).

    ومهما يكُ جوهر الأمر، فإن النظر إلى العالم بوصفه وحدة أضداد هو بحد ذاته توتر ونتاج لتوتر أيضاً. وفي الحق أن النِّفَّري لن يُفهَم الفهمَ المناسب بمعزل عن هذه الصفة، أو الظاهرة، التي تتميز بها نصوصُه كلُّها.

    ثم إن مما هو في صلب الحق أن حياة الزهد والتجوال في الأرض التي عاشها النِّفَّري هي في حدِّ ذاتها مفتاح لاستيعاب تجربته الحية وسرِّ شخصيته ومنطويات كتاباته أو مضمراتها. فلعل مما هو مقبول تماماً أن هذا التجوال، الذي انتهى بموته في إحدى قرى مصر العليا، هو رفضٌ للتعايش مع مدن الاغتراب الخانقة التي من شأنها أن تضغط على روح الإنسان حتى تدفعه إلى التمرد والرفض والانسحاب، ولكن شريطة أن يكون ذا حساسية وإرهاف.

    فمع النِّفَّري – وربما مع كل صوفي كبير – تظهر الذات وكأنها الصخب الذي يحنُّ إلى السكون. ولعل هذا الحنين الدافئ الصادق أن يتضح جيداً بواسطة مقولة "الرؤيا"، وكذلك مصطلح "الوقفة" – وهما الفكرتان السيدتان في كتابات النِّفَّري كلِّها. فالوقفة والرؤيا لا هدف لهما إلا السكون بجوار الله، تخلُّصاً من عالم التوتر المرير.

    ومما هو شديد النصوع للمتأني أن المثنوية الكبرى بين جميع المثنويات التي تنسج الخطاب النِّفَّريَّ هي مثنوية الله والسوى، أو الروح والمادة. وهذه مثنوية شديدة الدلالة، بل هي المفتاح الذهبي الذي من دونه لن يتيسر لأحد أن يستوعب حقيقة الرجل. وحبذا بضعة مقبوسات، لعلها أن تشرح الأمر:

    1. وقال لي: سدَّ باب قلبك الذي يدخل منه سواي، لأن قلبك بيتي. (المخاطبة 13)

    2. يا عبدُ، من صبر عن سواي أبصر نعمتي، وإلا فلا. (المخاطبة 15)

    3. غششتُك إن دللتُك على سواي. (الموقف السادس)

    4. وقال لي: آليتُ لا أقبلك وأنت ذو سبب أو نسب. (الموقف التاسع)

    5. وقال لي: لا يجاورني وجدٌ بسواي. (الموقف 17)

    إن في الميسور أن يحشد المرء عشرات المقبوسات الدالة على أن النِّفَّري لا يرى في الكون أية مثنوية أكبر من مثنوية الله والسوى، أو الروح والمادة؛ إذ السوى هو كل ما عدا الله، بل لا يقل في نظر النِّفَّري عن أن يكون الشيطان بأمِّ عينه. ويتبدى الفرد، أو الإنسان، وكأنه برهة يتجاذبها هذان القطبان المتعارضان إلى الحد المطلق الذي يجهل كل صلح أو كل وساطة. ولأن النِّفَّري يؤسِّس هاوية لا تُعبَر البتة بين الله والمادة، فإن الآية القرآنية التي يكرِّرها عدة مرات هي هذه: "ليس كمثله شيء." (الشورى 11) وهذا يعني أن المادة لا تشبه الله بتاتاً. إن هذا ليس تنزيهاً وكفى، بل هو قبل كل شيء رفض للمادة ونبذ للحياة.

    ومما هو في حكم المؤكَّد تمام التأكيد أن هذا الموقف، الذي يتطرف إلى هذا الحدِّ في رفض المادة التي لم يرها إلا بوصفها قوة إبليسية أو جحيمية تجهل الخير جهلاً مطبقاً، ليس بموقف إسلامي بتاتاً. فالإسلام دين الوساطة؛ أو هو الدين الذي يقدِّس الروح من دون أن يرفض المادة رفضاً كلياً، كما يفعل النِّفَّري وأستاذُه البوذا. إن الإسلام يرفض الإفراط والإسراف وينادي بالاعتدال؛ إذ لقد جاء في القرآن الكريم: "ولا تنسَ نصيبك من الدنيا" (القصص 77)؛ كما جاء فيه كذلك: "قُلْ من حرَّم زينة الله التي أخرج لعباده" (الأعراف 32).

    أما رفض الحياة، أو المادة، بهذا التطرف فهو البوذية حصراً وتحديداً. فالبوذية هي دعوة صريحة إلى استئصال الحياة والتخلُّص منها لأنها ألم، بل لأنها لا تملك أن تكون غير ألم، وفقاً لذلك المذهب الهندي. فلئن كنا لا نملك أن نبلغ إلى الله (الروح، الخير) إلا إذا هجرنا المادة هجراناً تاماً، كما يريد النِّفَّري، فهذا يعني أن علينا أن نهجر الحياة نفسها، أي أن نستأصل شأفتها حتى لا يبقى لها وجود بتاتاً. ولئن لم تبق هنالك حياة، فمن ذا الذي سوف يبلغ إلى الله؟! إن هذا تطرف في التصوف، لا أعرف من ذهب إليه في مجال اللغة العربية سوى صاحب المواقف والمخاطبات. ويبدو أن النِّفَّري الذي انبجس موقفُه من أن الحياة معضلة (كما هو شأن البوذا)، لم يفطن إلى الحقيقة الأهم من هذه الحقيقة، وهي أن الحياة سرٌّ بالدرجة الأولى. ولعل في الميسور أن يصاغ سؤالُ السرِّ على النحو التالي: لماذا يتشبث البشر بالحياة، مع أنها تنطوي على حزن كثير وفرح يسير؟ أو ربما على هذا النحو: كيف استطاع البشر أن يتحمَّلوا تاريخهم الذي يطحن عظامَهم كما تطحن الطاحونُ الحبوبَ؟ إن هذين السؤالين هما موضع تأمل فلسفي عميق في نظر الألباء.

    ***

    أما المفارقة الحادة في تجربة النِّفَّري فتتلخص في أن موقفه العدمي، أو الاستئصالي، قد تمكَّن من إنتاج هذه النصوص الحية، بل الخالدة والشديدة القدرة، لا على الاجتذاب وحده، بل على الإنعاش، أو تدعيم الحياة، بالدرجة الأولى. ويبدو أن ثمة مفارقات أخرى في تجربة الرجل، لعل أهمها تلك المفارقة التي يتبدَّى من خلالها وكأنه لا يرى في اللغة سوى عجز عن القول، مع أن اللغة قد نطقت بلسانه على نحو نادر في العالم بأسره.

    لقد أراد النِّفَّري أن يسفِّه المال وسلطته التغريبية وأن يرفض المجتمعات التي صار فيها المال وثناً معبوداً من دون الله. ولهذا حمل عصاه وساحَ في الأرض بعدما آثر القفار على مدن الاغتراب والعذاب. فما كان إلا أن اكتشف القدرة التعبيرية للُّغة، أو طاقتها الإنعاشية التي تصلح بديلاً عن حياة لا تستحق أن تُعاش. وهذا يعني أن الرجل قد اكتشف أعظم حقيقة تخص الحسَّاسين، وهي أنه ما من حرية، وما من حياة أصلية، إلا في الإبداع وحده، أو قبل سواه.

    ومن شأن هذه الحقيقة الخاصة بالحسَّاسين – الذين هم حتماً مغتربون – أن تحيل المرءَ على حقيقة أخرى خلاصتُها أن الأوضاع الاقتصادية، على الرغم من كونها شرطاً أولياً ضرورياً، لا تكفي لتفسِّر الظاهرة الصوفية؛ إذ لا بدَّ من أخذ الثورة الروحية في الحسبان لدى دراسة هذه الظاهرة الثقافية الشديدة التعقيد. فلا يجوز البتة اختزال الإنسان في نشاطه الاقتصادي؛ ولكن إغفال التأثير الذي يمارسه الاقتصادُ على روح الإنسان هو غلطة فاحشة لا تقل شناعة عن تلك الغلطة التي يرتكبها أولئك الذين لا يرون الإنسان إلا حصيلة شروطه الاقتصادية حصراً. يقيناً، إن الروح، أو الإنسان، أكبر من جميع الشروط بلا استثناء!

    ومما هو جدير بالتنويه في هذا الموضع أن تحليل الأسلوب النِّفَّريِّ تحليلاً دلالياً قد يكون أحسن منهج لدراسة ذلك الكاتب العميق. فربما كانت أعماق النص أو مضمراته أكبر من سطوحه وأغزر، وأكثر قدرة على احتقاب فحواه. وما من ريب في أن كل منطوق أدبي ينطوي على مغزى مسكوتٍ عنه. وليس في الميسور أن يتكشَّف هذا المضمر، أو المكتوم، إلا عبر تحليل الأسلوب، الذي يسعك أن تدعوه باسم "الاستبار". ولكن لا يتسع المجال لمثل هذا الفعل الشاسع المساحة في هذه العجالة الموجزة.
                  

02-22-2003, 07:27 AM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفكر الصوفي عند النِّفَّري- مقال حذف (Re: THE RAIN)

    العزيز المطر
    وفي المطر خير كثير

    انا ايضا مثلك من الهتمين بالفكر الصوفي ؛ والصوفية كما تعلم فيها اهل السلوك ؛ واهل الطريقة ؛ واهل الفكر

    كتاب الفتوحات المكية متوفر اغلبه حسب علمى فى صفحةالوراق للتراث ؛وفيها كتب اخرى قيمة ؛ وستجده هناك تحت باب كتب صوفية او كتابات صوفيه ؛ وان كانت طريقة العرض متعبة جدا وغيرمنظمة ؛ حيث يتم العرض فى فريم بالشمال ؛ والصفحات اللاحقة والسابقة تحتها ؛ اما الابواب ففى فريم باليمين ؛ وان كان سكربت جافا المستخدم لا يعمل فى الكثير من الحالات
    http://www.alwaraq.com/

    اتمنى لو اتسع لى الوقت ؛ او لك ؛ وقمت بنقل الصفحات الى ملف مكتبى ؛ كيما يكون الكتاب فى ملف واحد

    هل من يتطوع بهذا الامر ؛ ويمكننا بعدها ارسال الكتاب لمن يرغب عن طريق البريد الالكترونى

    عادل
                  

02-22-2003, 03:19 PM

THE RAIN
<aTHE RAIN
تاريخ التسجيل: 06-20-2002
مجموع المشاركات: 2761

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفكر الصوفي عند النِّفَّري- مقال حذف (Re: Abdel Aati)

    كثير التقدير والشكر ليك يا عادل

    دعنى أحاول، ولك العرفان كله
                  

02-22-2003, 03:25 PM

THE RAIN
<aTHE RAIN
تاريخ التسجيل: 06-20-2002
مجموع المشاركات: 2761

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفكر الصوفي عند النِّفَّري- مقال حذف (Re: Abdel Aati)

    وجدتها وجدتها

    صرت كما أرخميدس، ولك من الفرح نصيب الأسد يا عادل
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de