مسارات السودان الجديد - كتاب للتجاني الحاج عبد الرحمن

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-05-2024, 10:16 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة عادل عبد العاطى(Abdel Aati)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-08-2003, 01:21 AM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
مسارات السودان الجديد - كتاب للتجاني الحاج عبد الرحمن

    الفصل الاول من كتاب
    مسارات السودان الجديد
    للاستاذ التجاني الحاج عبدالرحمن
                  

07-08-2003, 01:23 AM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مسارات السودان الجديد - كتاب للتجاني الحاج عبد الرحمن (Re: Abdel Aati)

    مسـارات السـودان الجـديـد
    الفصـل الأول
    قضـايا نظـرية


    التجاني الحاج عبدالرحمن
    أسمرا، في أكتوبر2002م


    مـقدمـة
    يمتاز السودان بتعدد مذهل في كافة المناحي، ويعتبر من الدول الأفريقية الغنية بالتعدد العرقي والثقافي واللغوي والديني، إذ أن هنالك أكثر من 500 قبيلة وأكثر من مائة لغة ممتدة عبر السودان. تشكلت هذه المجموعات خلال أزمنة مختلفة من التاريخ، تم فيها التزاوج والإختلاط بينها بدرجات متفاوتة. وقد تشكل الوجود السياسي فيما بعد، وبصورة من الصور على قاعدة هذه العلاقات القبلية والعشائرية التي نتجت من التداخل المذكور، ونستثني الوجود السياسي بمعناه الواسع في التاريخ القديم والذي بالضرورة كان تكوينه وشروطه التاريخية تختلف عن التكوين السياسي المعاصر الذي نؤرخ له منذ عهد الإستعمار التركي المصري. فقد بدأت ملامح البنيات السياسية المعاصرة تتضح منذ ذلك التاريخ. لعبت التركيبة الإجتماعية والدولة المركزية التي أسسها الإستعمار فيما بعد، دوراً رئيسياً في بناء التكوينات السياسية الحالية. سوف نستند في تقسيمات هذه البنيات على دراسة قدمها أبكر آدم إسماعيل بعنوان (تأملات في الحال والمآل، حول مسألة الديمقراطية في السودان) فقد وظف الكاتب هذه التقسيمات لضالح موضوعه، وبالضرورة سيختلف توظيفنا لها تبعاً لطبيعة موضوعنا.


    الخارطة السياسية والأيديولوجية


    يشير الكاتب الى ثلاثة بنيات أساسية هي (التركيبة الطائفية، الأحزاب السمولية، الأحزاب الجنوبية) وتتفرع من كل نوع أحزاب متعددة.

    التركيبة الطائفية:
    لقد ظلت أجزاء عديدة من السودان الشمالي في حوار لقرون طويلة مع الثقافة الإسلاموعربية، وعبر معادلة الزواج الأحادية الإتجاه (عرب ـ سودان) تم تطبع تلك الأجزاء بالطابع العربي عرقياً وثقافياً، ومن خلال الطرق الصوفية تم توسيع قاعدة الإسلام وطبعه بالطابع الصوفي من التدين ـ الذي لا يعنى في (الدولة الإسلامية) أو (القوانين الإسلامية) كبير اهمية من الناحية الإعتقادية، وعلى مستوى الفكر فهو لاينشأ على (التفكير) والتدبر والتفقه (بالمعنى المعلوم)، إنما يقوم على (التوكل) وآليات الإتباعية والوسيلة، لذلك غالباً لا تكون أساس النزعات (فكرياً). وكان هذا هو الأساس للوعي السياسي الطائفي. ولأنه كان ولازال لكل شيخ طريقة زعيم يرفده بالمال والمناصرين، ولكل زعيم قبيلة شيخ طريقة يتوسل به للدنيا والآخرة، كان ذلك أساساً مفصلياً أول للتركيب البنائي للطائفة السياسية الراهنة (التي توجد حتى في طرائق عمل الأحزاب العلمانية). بعد تكوين الدولة الحديثة برزت في السودان طائفتان كبيرتان هما: الطائفة الختمية بقيادة المراغنة (نسبة الى محمد عثمان الميرغني الجد والملقب بالختم)، وطائفة الأنصار بقيادة الإمام محمد أحمد المهدي، ومازالتا تلعبان أدوار كبيرة في الصراع في السودان.

    طائفة الختمية:
    كانت نشأتها الفعلية في السودان مع قيام الحكم التركي المصري عام 1821م. ولظروف تاريخية لا يسع المجال لذكرها هنا تبعت الطائفة غالبية القبائل النيلية في أواسط وشمال السودان وشرقه، وبعض القبائل الرعوية في كردفان في الغرب، لكن أهم أتباعها هم من تلك المجموعات من التجار المتوزعين في أغلب المدن السودانية شماله وشرقه وغربه المعروفين بالجلابة الذين هم في غالبيتهم الساحقة من أبناء شمال وأواسط السودان الإسلاموعروبي، وهم بذلك يمثلون في الواقع قاعدة المجتمع (المديني) والمسيطرين على المفاصل الرئيسية للعمليات الإقتصادية في السودان، أذ تتداخل المصلحة في السوق مع علاقات الطائفة الرئيسية بالإضافة لعلاقات المصاهرة المزدوجة (تجار/صوفية) التي خلقت نوعاً من تشابك المصالح والعلاقات العشائرية التي تصب في تعبير الطائفة وممارستها للسياسة عبر الحزب، ويتبع في طائفة الختمية نظام الوراثة في زعامتها والذي يكتسب مشروعيته من فكرة آل البيت.

    طائفة الأنصار:
    هي متأخرة نسبياً في نشأتها عن نظيرتها، إذ تكونت بعد قيام الثورة المهدية 1881 ـ 1898م بقيادة الإمام محمد أحمد المهدي الذي (إدعي) أنه المهدي المنتظر. ولأنه في الأساس رجل صوفي، فقد ترك بعد موته مجموعة من الخطب والأوامر، بعضها الأدعية التي جمعت فيما يسمى براتب الإمام المهدي، وصار يتوسل بها أتباعه، ولكن يرجع الفضل في التأسيس الحقيقي لطائفة الأنصار الى السيد عبدالرحمن المهدي، إبن الأمام المهدي، وذلك بعد إنهيار الدولة المهدية بسبب الغزو الإنجليزي 1898م ومحاولة الإستعمار لإستبدال النمط الديني (الثوري) ـ بعد المقاومة العنيفة التي جوبه بها من قبل الإنصار وتجربة سقوط دولتهم على أيديهم ـ بآخر مهادن يبمثله الختمية. وبعد تنامي نفوذ الختمية فطن الشيج عبدالرحمن لذلك وإتجه الى الحيلة وإتبع أسلوب المهادنة ، لذلك سمح له بممارسة نشاطه الديني كما تمارسه الطرق الصوفية، فإستثمر الراتب وقام بطبعه ونشره بين أتباعه وقام بتنظيمهم وترتيبهم هرمياً ـ رأسياً عبر المناديب، وأفقياً عبر إصطفاف القبائل. يقوم الترتيب الهرمي على تبعية أبناء القبائل لزعمائهم وتبعية الزعماء للمناديب وتبعية المناديب للإمامة. وتم إدخال السيد عبدالرحمن في نظام إقتصاد الدولة بتسليفه المال وإقطاعه الأراضي الزراعية خاصة في مناطق الجزيرة ليصبح من كبار الإقطاعيين كنظرائه الختمية.

    بشرياً تتكون طائفة الأنصار من عترة الإمام المهدي وأسر أصحابه، وتنضوي تحت لوائها مجموعات من القبائل في غرب السودان ـ رزيقات، مسيرية، حوازمة، بني هلبة، وبعض البيوتات من قبائل الحمر في كردفان والقبائل الزنجية مثل الفور والمساليت والقمر والتاما والميما .. إلخ ـ بالإضافة الى بعض الطرق الصوفية التي تساند الطائفة في كيانها السياسي. وكان الراتب رمرزاً للتماسك والإمام مصدراً للتوسل. ولما سمح بممارسة السياسة قامت كل طائفة بتكوين حزبها السياسي، الختمية الحزب الإتحادي ، والأنصارحزب الأمة، ودخل السودان في إشكالية الطائفة السياسية والتي يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
    o أيديولوجيا الوراثة والتبعية: ففي كل الأحوال تأتي مشروعية الزعامة الحقيقة من الوراثة ـ وراثة آل البيت عند الختمية، وبيت الإمام عند الأنصار ـ ولإرتباط هذه الفكرة بالوعي الديني الصوفي المرتكز على التنظيرات الشيعية التي ساهمت في تضخيم (مشروعية الوراثة) وتقديسها، فأصبح لا فكاك منها، بل الإقتداء بها وتكريسها في مستويات أدنى في العشائر والأسر والقبائل الدينية ومن ثم الأحزاب السياسية. أما من الجانب الفكري والمتعلق بآليات التبعية والوسيلة، بالإضافة لنسبة الأمية العالية في السودان والتي تتجاوز الـ 70% تقريباً، فقاد ذلك الممارسة السياسية الى أن تصبح نوعاً من التبعية العمياء وليس التفكير وتقييم البرامج على أساس توازن (مصالح) الجماهير، لذلك أمسى مصير البلاد رهناً لمصالح قيادات هذه الطوائف وباتت الممارسة (الديمقراطية) مجرد آليات لفرض سيطرة هذه الطوائف على كيان الدولة والعمل وفق مصالح زعمائها الإقطاعيين والمقتربين منهم من الزعماء التحتيين، بالإضافة لذلك إتباع أسلوب المكايدة وعلو الشأن الذاتية في صراع السيطرة بين الطائفتين، وإهمال الجوانب الموضوعية في إدارة البلاد وتطورها مما ظل يخلق المبرر للقوى الشمولية والعسكريين للقيام بإنقلابات عسكرية.
    o التورط في الأنظمة الإقتصادية الإقطاعية: من الناحية الإقتصادية فإن زعماء هذه الطوائف متورطين في أنظمة إقطاعية غنموها كثمرة لتعاونهم مع الإستعمار وهم يملكون القدر الوافر من الأراضي الزراعية الخصبة خاصة في وسط السودان النيلي ، وإلي عهد قريب كانت هذه الطوائف تستثمر إتباعها كأقنان يقومون بفلاحة الأرض مقابل وعود بالجنة دونما أجور مادية، ومبدأ القنانة هذا يتعارض مع أي مشروع أو توجه ديمقراطي لأنه يقوم بتكريس التبعية موضوعياً حتى ولو حاول المواطن الفكاك منها نظرياً ، وقد كان هذا من أهم أسباب إهمال التنمية في السودان.
    o يتهم الكثير من المتعلمين هذه الطوائف بتعويق مسيرة التعليم الحديث وإهماله سعياً منها للمحافظة على مصالحها لإرتباط إستمراريتها بإستمرارية الأمية والجهل والتبعية العمياء، وبذلك تكون هذه الطوائف المهدد الأول لمشروع الديمقراطية في السودان.

    الأحزاب الشمولية أو أعداء المبدأ:
    هذه القضية تتعلق بتيارات المتعلمين الذين درسوا الكتب ووجدوا فيها النظريات الجميلة على إختلافها، وتبنوها حسبما إقتضى الظرف وأخذتهم الحماسة لها دونما عميق نظر في الواقع وإشكالاته، وتبنوها دونما كفاية من الأستعداد للتضحية بجزء من نظرياتهم على علاتها والنزول بها للعمل الشاق وسط الجماهير، بالإضافة لمعاناتهم من طبيعة الدولة القمعية، إختاورا أقصر السبل لحسم صراعاتهم فيما بينهم من جهة وبينهم والطوائف من جهة أخرى ، وإختار البعض الآخر من المتعلمين التأقلد بإعتلاء زعامة الأحزاب الطائفية وأغلب هؤلاء يقفون موقفاً عدائياً من الديمقراطية على المستوى العملي وموقفاً تكتيكياً على المستوى النظري.

    هنالك تياران يغطيان توجهات كيان المتعلمين في شمال السودان، التيار الديني الإسلامي الذي يتبنى أيديولوجيا (الدولة الأسلامية) مع تفاوت في درجة التشدد (الأخوان المسلمين، الجبهة الإسلامية جماعةأنصار السنةالمحمدية) وهي جماعات تعادي مبدأ الديمقراطية، لأنه في ظل الديمقراطية الحقيقية لا يكون أمل في قيام دولة إسلامية في السودان، التي من مقتضياتها تكريس الأسلمة والإستعراب، وإستمرار نمط الإقتصاد الريعي العشائري وإلتزام الشمولية، ومن ثم تأزيم الصراع في السودان ، ولكن بالرغم من ذلك فلها قاعدة جماهيرية معتبرة.

    أما أحزاب اليسار بشقيه الماركسي والقومي العروبي، فهي بسبب ضآلة كسبها الجماهيري تتبنى الديمقراطية تكتيكياً بإعتبارها وسيلة تجنبها القمع، لكنها عادة ما تمارس القمع وتتخلى عن الديمقراطية متى ما سنحت الفرصة لها في القيام بإنقلابات عسكرية، وهي أيضاً من مهددات مشروع الديمقراطية، ولعل الحزب الشيوعي السوداني قد يعيد النظر في نظرياته الشمولية والإلتفات الى واقع السودان، ومن ثم إستثمار قدراته المهدرة في التكتيكات، خاصة بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي وصيرورته كاليتيم في مائدة اللئام. أما القوميون العرب فلا أحد يعرف كيف سيوفقون يوتوبيا الوحدة العربية مع واقع السودان المتعدد الذي تعتبر (القومية العربية جزءً منه وليس العكس) خاصة بعد تطور سؤال الهوية وإرتباطه بحقيقة الديمقراطية التي لن تبقي أملاً في الأفق المنظور لـ (وحدة عربية) يكون السودان وضعه الحالي طرفاً فيها بسبب تعدد الهويات والغبونات التاريخية التي سببتها ممارسات القومية العربية في السودان.

    الأحزاب الجنوبية:
    هي تختلف عن نظيراتها في المال، بالرغم من الإختلاف الإثني والديني إلا أنها تقوم في بنيتها على التركيبة العشائرية، ويفتقر الكثير من قادتها الى المبدئية ويمارسون السياسة على أساس المساومات والمصالح الشخصية، وقد ظل معظمهم ألاعيب في أيدي الأحزاب الشمالية ولكن بعد ظهور الحركة الشعبية لتحرير السودان أخذ الوضع منحاً جديداً وتبدى نوع من المبدئية، وبالرغم من أن الجنوب هو أول المستفيدين من الديمقراطية الحقيقة إلا أن تكريس عنصر القبلية والعرق في التنظيمات الجنوبية فيما يعرف بالعنصرية المضادرة في مقابل التوجهات العنصرية للأحزاب الشمالية، يعد من المعوقات الأساسية لتطور الممارسة الديمقرطية.

    من خلال إستعراض هذا النص الطويل كان غرضنا الأساسي هو رسم خارطة للبنيات السياسية السودانية قدر الأمكان، ولا تهمنا بشكل أساسي آراء كاتبها في هذه البنية أو تلك، إنما هدفنا هو رسم "صورة عامة"، ومن ثم بناء رؤيتنا وفقاً لطبيعة موضوعنا، وعليه؛ يتضح لنا أن التقسيم الآيديولوجي لهذه البنيات يقع ضمن ثلاثة نطاقات هي: (الأحزاب الطائفية، الأحزاب العقائدية، والأحزاب ذات التموضع الإقليمي). وسنحاول خلال رحلتنا في التفكير والمقارنة أن نضع أسس لقكرة السودان الجديد من خلال دراسة كل نظاق أيديولوجي.
                  

07-08-2003, 01:24 AM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مسارات السودان الجديد - كتاب للتجاني الحاج عبد الرحمن (Re: Abdel Aati)

    تحليل البنيات السياسية

    الأحزاب الطائفية:
    إن إلقاء نظرة للنسيج الداخلي لهذه الأحزاب يكشف لنا المزيد من إشكالياتها، والتي ظلت تنعكس على مر التاريخ على الواقع السياسي العام، والملاحظة الجديرة هنا أن إصطلاح "طائفية" في تقديرنا لا يفي بالغرض كاملاً في فهم طبيعة العلاقات الداخلية ، بل قد يكون مضللاً في الكثير م الأحيان ، إذ أنه يعكس مفهوم للطائفية مغايراً تماماً لحقائق الواقع من خلال تآكل قوته المفهومية عبر الزمن. وقد أشار أبكر في سياق توصيفه لهذه الأحزاب الى البناء الأولي الذي نشأت عليه هذه الأحزاب (طائفة الختمية الإتحادي) ، (طائفة الأنصار حزب الأمة). السؤال المنطقي الآن هل إنتفت العلاقة بين الطائفة والحزب ؟ الإجابة على هذا التساؤل قج تكون بالنفي، أو الإيجاب لكن نعتقد أن ذلك مرد حدس وينبغي تعزيز ذلك بالتحليل، إن ذلك مسألة ضرورية لكشف طريقة التفكير داخل الطائفة الدينية والحزب المرتبط بها، نتفق مع الكاتب في أن طريقة التفكير وآلياته قد إنتقلت مع الطائفة الى الحزب، لكن من الأفضل أن نري ذلك من خلال رؤية بطانة التفكير في نسيج الطائفة الدينية بشكل عام وعلى وجه الخصوص أرضية العرفان بإعتبارها المفهوم الأساسي الذي أنبنت عليه فكرة الطائفة الدينية في السودان. والمعروف أن الطائفتين المذكورتين (الختمية والأنصار) هي طرق صوفية بالأساس، والتصوف هو ما يعرف "بالعرفان"، أو الغنوص، ويعرف العرفان أو الغنوص على أنه (( .. العرفان في اللغات الأجنبية يسمى الغنوص و " “gnose والكلمة يونانية الأصل “gnosis ومعناها: المعرفة، وقد أستعملت أيضاً بمعنى الحكمة ، غير أن ما يميز العرفان هو أنه من جهة معرفة بالأمور الدينية تخصيصاً، وأنه من جهة أخرى معرفة يعتبرها أصحابها أسمى من معرفة المؤمنين البسطاء وأرقي من معرفة علماء الدين [ أهل الرسوم كما يسمونهم] الذين يعتمدون النظر العقلي (اللاهوتيون، المتكلمون). وهكذا أستعملت الكلمة في القرنين الثاني والثالث الميلادي للدلالة على المعرفة بأمور الدين معرفة أسمى من تلك التي تقررها الكنيسة. ومن هنا الغنوصية“Gnosticism“ وسنطلق عليها العرفانية ـ وهي؛ جملة التيارات الدينية التي يجمعها كونها تعتبر أن المعرفة الحقيقة بالله وبأمور الدين هي تلك التي تقوم على تعميق الحياة الروحية وإعتماد الحكمة في السلوك ، مما يمنح القدرة على إستعمال القوى التي هي من ميدان (( الإرادة))، فالعرفان يقوم إذن على تجنيد الإرادة وليس على شحذ الفكر ، بل يمكن القول أنه يقوم على جعل الإرادة بديلاً للعقل .وإستطراداً في ختام تحليلنا للعرفان كوقف ونظرية فإن الموقف العرفاني، كما يحلله الجابري موقف سحري يلغي العلم كله بجعله من ((أنا)) العارف الحقيقة الوحيدة، وهي يعتبر العالم كله شراً ليجعل من ((أنا)) ه ، ومن ((أناه)) وحده ((نفحة)) الخير الإلهي الوحيدة في هذ العالم. وبنقلة سحرية ينقل العارف تاريخه إلى ما قبل تاريخ البشر، لا بل الى ما قبل تاريخ الملائكة (..) وبما أن نزعة (( الأنا الوحيدة)) المسيطرة عليه لا تقبل التعدد على مستوى البشر أو على المستوى الإلهي، فإن النهاية المنطقية التي ينتهي إليها ـ حتماً ـ "إدعاء الإتحاد بالإله أو حلول الإله فيه". والنظرية العرفانية بمختلف صياغاتها، تكرس رؤية سحرية للعالم صميمة (..) ولا تعود تعترف بقيود المكان ولا بقيد الطبيعة ولا بناموس أو سنة من نواميس أو سننه (..) وبعد فإن العرفان يلغي العقل.

    النص السابق يكشف لنا بوضوح عن طريقة تناول الطرق الصوفية العرفانية لمسألة المعرفة، والتي تتم عن طريق (الكشف أو الإلهام)، وألياتها، ممارسة رياضات بدنية ونفسية (إعتكاف، تسليك). وهذا الموقف يتناقض مع الموقف العقلي الذي يتم فيه التعّرف على حقائق الأشياء وغيرها إستدلالياً. أيضاً طريقة التنظيم والتراتيبة داخل هذه الطوائف (حوار، مقدم، شيخ ...ألخ) توضّح من جانب آخر سلم المعرفة، والذي هو أقرب الى التسلسل الكهنوتي من حيث التنظيم، إذ كلما تصاعد المريد إلى أعلى في هذا السلم زادت معرفته حتى يصل إلى مرحلة ما يعرف بـ
    ((العلم اللدني= تناول المعرفة مباشرة ودون وسيط من لدن الذات العليا)). من هنا نكتشف أيضاً أن المعرفة في هذا الحقل غير مرتبطة بقواعد متعارف عليها (منهجية) يتم أستنباطها من موضوع (ما) للوصول إلى ماهيته أو العلاقات الداخلية للموضوع قيد الدراسة، وهو الإستنتاج الذي وصل إليه الجابري عندما إنتهى به التحليل الى نتيجة أن تناول المعرفة في هذا المجال ((العرفان)) ذات طابع سحري أكثر منه عقلاني.

    وإذا كنا قد قررنا أن الطوائف السياسية (بمعني الأحزاب التي تكونت من أساس طائفي/ديني/عرفاني) مرتبطة صميمياً بجذورها العرفانية وغير منفصلة عنها، على الأقل في تناول المعرفة، أو طرائق التنظيم، فبالضرورة أن تتسرب كل طرق التفكير وآلياته من الطائفة الدينية الى الحزب السياسي أو على الأقل يصعب الفصل بينهما. وعلينا أن نتصور حجم الإشكاليات التي تنعكس على المجتمع من واقع هذا السلوك السياسي، فهذا التنظيم السياسي يرى العالم كله من خلال الرؤية العرفانية الخالصة، بما في ذلك القضايا اليومية الملتصقة بحياة الجماهير، ومصادمات مثل تلك الأحزاب مع الفلسفة وقضاياها مثل مسألة العلاقة بين الدين والدولة وغيرها جد مرير، وفوق كل ذلك نجد أن الطبيعة التنظيمية لهذه الأحزاب تظل منغلقة على الطائفة التي يغطيها الظل العرفاني [قارن تجربة الإكليروس في عهود الظلام في أوربا] وتتعامل مع الجماهير خارج نطاق دائرة الطائفة الدينية/السياسية على أنهم عمالة مدربة تعطي خبراتها المعرفية والسياسية بمقابل معلوم أو في أحسن الفروض هي مشروع أتباع (جدير بالذكر هنا إسترجاع موقف حزب الأمة من محمد أحمد المحجوب) ، وهناك مقولة متداولة في أوساط الأنصار تكشف لنا عن العلاقة بين الأنصاري وعضو حزب الأمة (كل أنصاري حزب أمة، ولكن ليس كل حزب أمة أنصاري) وكما هو معلوم أن الأنصار هم البطانة الطائفية لحزب الأمة، ونفس القول ينطبق على الحزب الإتحادي وطائفة الختمية.

    ما نستنتجه من التحليل السابق أن هنالك علاقة إرتباط "بنيوية" بين الحزب والطائفة الدينية في السودان ومسار إنتقال الفرد من المؤسسة الطائفية الى الحزب السياسي هو ليس إنتقال من فضاء الى فضاء آخر مختلف على صعيد القوانين والعلاقات الداخلية، إنما هو حركة في نفس المجال، فقط تختلف الوظائف الجديدة. وعليه يمكننا أن نمضي قدماً ونستنتج أن عملية صناعة القرار داخل مؤسسات الحزب الطائفي تمر بسلسلة معقدة من العمليات التي يتداخل فيها التفكير العقلاني مع التفكير العرفاني، هذا التداخل بالضرورة لن يفضي الى نتائج قادرة على معالجة الواقع المشخص. وهذه إحدى أهم أزمات الأحزاب الطائفية في السودان.
                  

07-08-2003, 01:25 AM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مسارات السودان الجديد - كتاب للتجاني الحاج عبد الرحمن (Re: Abdel Aati)

    الأحزاب العقائدية:
    في هذه النوع من الأحزاب نجد أنها تستند بالأساس على أيديولوجيات ذات طابع شمولي تفسر به العالم، وسميت عقائدية لطبيعة الأفكار التي تطرحها، والعقائدية ليست بالضرورة أن تنتمي إلى حقل الأديان فحسب، فالأيديولوجيا الشمولية ذات طابع عقائدي، لذلك ينطبق مصطلح الحزب العقائدي على الأحزاب المنتمية الى حقل الأديان، وتحديداً المنتمية إلى المدارس الأصولية من الإديان، إضافة إلى الأحزاب اليسارية بشقيها. ويبدوا أنه من الضروري شرح مصطلح أيديولوجيا بإعتباره العنصر المفتاحي لفهم هذه البنيات. مصطلح أيديولوجيا يدل على معنيين متمايزين على الأقل وإن كانا مترابطين حيث يستخدم هذا المفهوم من ناحية للتعبير عن الوعي الزائف، أو أشكال الفهم المغلوط للواقع ويمكن أن يستخدم من ناحية أخرى، وبشكل أكثر حيادية للإشارة الى نسق من الأفكار ودون أن يعني ذلك ضمناً أن هذه الأفكار زائفة، وتستخدم الأيديولوجيا بالمعنى الذي يعني مجموعة الأفكار الزائفة أو المغلوطة بهدف الحط من شأن وضع سياسي معين أو حزب سياسي معين أو لوصف مجموعة من الأفكار أو العقائد الخاصة بطبقة إجتماعية معينة، والتي تستخدمها الطبقة في تبرير مصالحها السياسية والإقتصادية . نمضي مع نفسير آخر، والذي يفصل بين (الخطاب) والأيديولوجيا، بإعتبار أن أي خطاب يحمل مضمون أيديولوجي والخطاب بالطبع يتضمن مبادئ معرفية وبالتالي فإن المضمون الأيديولوجي هو ما يحمله (الخطاب) أي الوظيفة الأيديولوجية (السياسية الإجتماعية) التي يعطيها صاحب أو أصحاب ذلك الفكر لتلك المادة المعرفية (..) وبالتالي تتحدد الروابط التي يجب إقامتها بين الفكر والواقع، لا بد من التأكيد هنا على أن الإشكالية النظرية التي تؤسس وحدة الفكر هي أساساً إشكالية معرفية؛ بمعنى أنها نتيجة تناقضات حقل معرفي معين، وبالتالي تظل قائمة مادامت الشروط المادية والأبستمولوجية التي تؤسس ذلك الحقل المعرفي قائمة. أما المضامين الأيديولوجية التي توظف فيها المادة المعرفية التي يقدمها نفس الحقل وداخل نفس الإشكالية فهي لا تخضع لهذه التناقضات بل لتناقضات وصراعات (أيديولوجية) تجد أصلها ومنبعها لا في درجة تطور المعرفة وجهازها، بل في المرحلة التي يجتازها المجتمع من التطور . من هنا يتضح لنا أن سلوك الأحزاب العقائدية تجاه دراسة الواقع ينطلق من أساس نظري سابق، قد يكون الواقع الذي تم إستنباط هذه المادة المعرفية منه مختلف تماماً عن الواقع الذي يتم فيه تطبيق هذه المادة المعرفية تطبيقاً حرفياً، من ناحية نجد أن هذه الأحزاب قياساً على التركيبة الطائفية التي أشرنا إليها في السابق، هي أكثر تطوراً، لكن يبقى السؤال الملح كيف توظف هذه الأحزاب العقائدية مادتها المعرفية في تفكيك الواقع المشخص أمامها؟ بمعني ما هو المضمون الأيديولوجي الذي تعطيه هذه الأحزاب لمادتها المعرفية؟ فالأحزاب العقائدية (الدينية) تعطي للأديان (كأساس) معرفي مضمون أيديولوجي يعبّر عن طموحاتها السياسية والإجتماعية، يتم فيه إستثمار للنص الديني عبر آليات مختلفة من التفسير، لتقديمه على أنه هو "الدين نفسه" أو "حقيقة المراد الإلهي"، وبالتالي يصطبغ التفسير بقداسة النص ويتم تسويق هذا الناتج المشتق وعناصر أخرى وكأنه النص ذاته لتحقيق سلطة خطاب على المتلقي (الجماهير)، والتي بها ومن خلالها يتم تحقيق الأهداف السياسية الدنيوية الخالصة الخاصة بهذه البنية أو تلك. ونجد أنه من الضروري أن نثبّت الحد الفاصل فلسفياً بين "النص" و "ما يفهم من النص" بإعتبارهما حدين مستقلين عن بعضهما البعض، فالأول ثابت من حيث هو مفارق للواقع التاريخي للبشر، بينما الثاني متحول، وخاضع للقوانين الكونية. وقد لاحظ محمد أركون تناقضاً هاماً في هذه الأحزاب العقائدية الدينية، والذي يتمثل في البعد الشاسع بين مضمون خطابها ومسارات حركتها السياسية اليومية، وأشار إلى أن المنظومات الأصولية (الأحزاب العقائدية الدينية) تقوم بأكبر عملية علمنة يشهدها التاريخ الإسلامي دون أن تعي ذلك أو حتى تريده، وهي في خضم هذه العملية، وصراعها مع الآخرين تكشف عن رهاناتها الزمنية.

    أما الأحزاب العقائدية الأخرى (ذات الأيديولوجيات الشمولية) والتي تكسي على أفكارها طابع "العلمية" فإن العلم الصحيح يؤكد كل يوم على أنه لم يعد هنالك علم طبيعي واحد تنطبق مقولاته وقوانينه على مختلف العوالم، الأرضية والذرية والفضائية، فإنه ليس هنالك، ولا يمكن أن يكون علم إجتماعي واحد تنطبق مقولاته وقوانينه على جميع المجتمعات وعلى مر العصور [فلتتحرر] أذاً من سلطة مقولات الأيديولوجيات والعلوم الإجتماعية الخاصة بالمجتمعات الرأسمالية الغربية المتطورة ولتعتبرها مجرد مقولات نسبية تعبر عن حالة أو حالات ضمن أحوال أخرى موجودة، أو سبق أن وجدت. إن هذه الخطوة ضرورية وبدونها لن تتمكن من رؤية الواقع في الماضي ولا الحاضر .
                  

07-08-2003, 01:26 AM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مسارات السودان الجديد - كتاب للتجاني الحاج عبد الرحمن (Re: Abdel Aati)

    الأحزاب ذات التموضع الإقليمي:
    هذا النوع من الأحزاب أو البنيات السياسية يختلف عن النوعين السابقين (العقائدية والطائفية)، والإختلاف ليس حول مسألة متعلقة بنسق الأفكار أو المجموع القيمي المرتبط بهما، وقد يكون هنالك حزب ذو تموضع إقليمي، ولكنه على مستوى الأفكار والمواقف السياسية ينتمي الى أحدي هذه البنيات السابق ذكرها أيضاً التموضع الإقليمي ليس بالضرورة أن يقف عقبة في طريق هذه البنية أو تلك من الإندفاع نحو الأفق القومي بأي حال من الأحوال. وقد قصدنا بالتموضع الإقليمي الإشارة إلى شروط النشأة التاريخية وإرتباطها بالواقع الذي إنطلقت منه هذه البنيات، وما ينعكس من ذلك على خطابها السياسي، والأمثلة على ذلك كثيرة.

    إن ما يهمنا في دراسة ظاهرة هذه البنيات هو "شروط تطورها" ولا نعتقد أن تعبير هذه البنيات عن الطموحات السياسية للجماهير التي تنتمي إليها هو نوع من النقص في تركيبتها. وكما ذكرنا سابقاً أن السودان بلد متعدد في كل المناحي، عليه فإن من أهم شروط التعدد وإستمراريته كعامل أساسي في تحقيق الأنتقال الى مرحلة أعلى في عملية الإندماج القومي، هو بقاء مثل هذه الكيانات المختلفة قادرة على العطاء وتبادل منتوجاتها الثقافية والقيمية مع بعضها البعض. أيضاً فكل كيان بمحتوياته هذه يتضمن في نسيجه الداخلي نسقاً من الأفكار (الثقافة بمعناها الموسوعي) والآليات التي يستطيع بها ممارسة السلطة السياسية (العشيرة، القبيلة ..إلخ) والأحزاب الإقليمية هي مرحلة متقدمة في ممارسة السلطة السياسية قياساً على هذه المستويات، والإرادة السياسية في هذا المستوى من الممارسة مسنودة بوعي جمعي أرفع من وعي القبيلة والعشيرة وقابل للتطور أكثر منها، وهو يرتبط في الأغلب الأعم بقضايا أكبر نسبياً من التجمعات القبلية والعشائرية. من العوامل المهمة في نشوء هذه الأنماط الدولة المركزية في جانب من جوانب ممارساتها والتي تلعب سياسية التهميش الواقعة على الكيانات القبلية والعشائرية دوراً مهماً في تحولها نحو بنيات سياسية ذات تموضع إقليمي في مسيرة سعيها للدفاع عن هوياتها ومصالحها. والتنظيم السياسي عبارة عن مظهر من مظاهر هذه العملية.

    تختلف الأيديولوجيا المسيطرة في هذه البنيات عن نظيراتها من البنيات الأخري، وذلك بالضرورة لإختلاف ظروف النشوء والإرتباط العضوي لها مع المجموعات التي تنتمي إليها، وما يتولد من أفكار وسياسات تبعاً لذلك. وطالما أن العلاقات القبلية مازالت تحتل موقعاً متقدماً في الحياة الإجتماعية والسياسية لهذه الكيانات، بالتالي فإنها تؤثر بشكل مباشر على وعيها السياسي/ الأيديولوجي، وبما أن هذه العلاقات تحتوي على قدر معتبر من المحتوى القيمي والثقافي في شكل تراث يشكل الوعي الجمعي لهذه المجموعات أو لاشعورها السياسي، فإن أيديولوجيا هذه الأحزاب هي أقرب إلي المحركات النفسية الإجتماعية من أنها نسق أفكار أو إعادة تشكيل لعقائد أو أديان. وعليه فإن التطور الطبيعي لها هو الإتجاه نحو الإنقتاح وإستيعاب تشكيلات إجتماعية جديدة قد تكون مختلفة عنها تماماً في جذور النشأة أو الثقافة السائدة فيها، هذا التحول يدفع بهذه البنيات الى إحداث تغييرات جذرية على أفكارها أو أجندتها السياسية، ومهم جداً هنا أن نشير الى أنه طالما ظلت حالة اللاتوازن قائمة على صعيد معادلة المركز والهامش والذي غالباً ما يحتوي هذه البنيات بمختلف أفكارها، فإن التموضع الإقليمي سوف يستمر حتى لحظة إنفلاته من التهميش، والخطورة في الموضوع أن الناتج قد يقلب مسار التهميش ويصبح المركز هامشاً والهامش مركزاً جديداً، وهو قلب لموازين الصراع وتغيير لعناصره أكثر من أنه إقرار لمعادلة متوازنة للتطور الإجتماعي.

    نختتم مسحنا للبنيات السياسية في السودان بتلخيص النتائج التي توصلنا إليها، إن ذلك ضروري من حيث أنه يفيدنا في التعرف على المفاهيم الأساسية الواجب علينا إتباعها.
    أ. البنيات الطائفية السائدة في السودان، على مستوى الأفكار تنتمي إلى الحقل العرفاني، وعلى مستوى التنظيم فالإرتباط يقوم على آلية الإتباعية والنتيجة النهائية هي إنغلاق الطائفة على شرائح إجتماعية بعينها تخدم مصالحها إستناداً على قاعدة الولاء الطائفي.

    ب. البنيات العقائدية متقدمة نسبياً بحكم تقدمها الفكري ولكن ما يحد من تقدمها هو الطبيعة الشمولية لأيديولوجيتها، فالعقائدية الدينية في السودان (الأصولية الإسلامية) تعبر عن طموحات المنتمين الى حقل الثقافة العربية الإسلامية فقط، والعقائدية اليسارية إما أنها غارقة في أثبات صحة مقولات الصراع الطبقي في السودان وأهمية قيام تحالف العمال والمزارعين لإنجاز مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية وغيرها من الشعارات التي تجعلها غير قادرة فهم جوهر الصراع في السودان، أو عقائدية يسارية منتمية إلى أيديولوجيا العروبة، وفي كلتا الحالتين فلكل بنية عقائدية إشكالياتها ، وسنرى ذلك بمزيد من التفصيل لاحقاً.
    وعليه؛ فإن فكرة السودان الجديد وبناؤها السياسي لايمكن أن تنتج حزباً طبقياً بالمعني الماركسي لكلمة طبقة Class. ولا طائفياً، ولكي نتفهم ذلك فلنمضي قدماً في التعرض لبعض الرؤي الفلسفية.
                  

07-08-2003, 01:27 AM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مسارات السودان الجديد - كتاب للتجاني الحاج عبد الرحمن (Re: Abdel Aati)

    صحيح من وجهة النظر الفلسفية ربط أفكار حزب (ما) أو بنية سياسية، أي بنية، بتطور شكلها التنظيمي، ولكن من الضروري أيضاً الإنتباه الى العلاقات الجدلية التي يجب إقامتها بين مستوى تطور الأفكار في هذه البنية وتركيبتها التنظيمية وإعتبار شروط الثابت والمتحول في الحالتين، فمن ناحية العلاقات الجدلية التي تربط تطور الأفكار بالبناء العضوي أو المادي للبنية السياسية، يجب أن ننتبه الى عدم الوقوع في الجدل الفلسفي القديم الذي طرحته الماركسية في إطار الصراع بين المادية والمثالية والذي يطرح تساؤل؛ "هل الوعي أسبق للوجود الإجتماعي أم العكس"، إن الطرح للقضية التي نحن بصددها وفي الواقع المشخص أمامنا (واقع السودان) من الممكن أن يكون إحدى المعوقات الرئيسية في الفهم والتحليل، وعندما نقول أن العلاقة بين طرفين هي علاقة جدلية إنما نعني أن أحد الطرفين شرط لوجود الطرف الآخر، فالفكر مرتبط بالواقع تأسيساً على هذه الرؤية، ومن خلال مثال إرتباط أفكار البنية السياسية بتركيبتها العضوية نأخذ مسألة الجدل ههنا كما إستعرضناها (العلاقة الشرطية) وبالتالي يصبح طرح السؤال هل أفكار الحزب أسبق لوجوده المادي (العضوي) أم العكس سؤال بعيد عن الموضوعية ويقود إلى حلقات نقاش دائرية لاتنتهي، ومن هنا نفهم أن العلاقة بين افكار بنية (ما) ووجودها الموضوعي (كبناء عضوي)، على أن الأفكار هي شرط للوجود المادي والعكس صحيح أيضاً، وتظل علاقة الإرتباط هذه قائمة ومستمرة في التاريخ، ولايمكن الفصل بينهما إلا (كإجراء منهجي للدراسة)، فلا توجد أفكار سياسية خارج نظاق منظومة أجتماعية تستطيع التعبير عنها، ولا توجد منظومة إجتماعية معينة لا تمتلك أفكار محددة ورؤية مهما كانت ضحالتها. هذا ما كان على صعيد العلاقة الجدلية، إما إعتبارات الثابت والمتحول ، فإن البنيات التنظيمية لها درجة ثبات نسبي أكبر مقارنة من الأفكار، فالأفكار خاضعة للتحول المستمر طالما ظلت خاضعة لمنطق العلم وتدفق المعلومات بقدر إذدياد حاجة الإنسان، وهذه العملية لامتناهية في الزمان والمكان. وعليه فإن القول بإكتمال أفكار بنية سياسية (ما) يناقض هذا المبدأ ، وستظل الأفكار في التطور والإتساع إلى مالانهاية، ولن يأتي اليوم الذي نسمع فيه بإكتمال الفكر إلا وستكون هذه نهاية التاريخ.

    عليه فإن أي بنية سياسية تظل خاضعة للعلاقة الجدلية السابق ذكرها ولعلاقة الثابت والمتحول، وستظل الأفكار تتطور وفقاً لتطور حاجة الإنسان وسؤاله، أما البنيات التنظيمية (الوجود المادي أو العضوي) فهو مشروط بتطور هذه الأفكار من جانب وبالواقع الإجتماعي من جانب آخر.
    جانب آخر مهم، هو "الهوية الفكرية" للبنية السياسية المعينة، وما نعنيه بالهوية هنا هو الطابع الآيديولوجي، أو المضمون السياسي/الإجتماعي للخطاب الذي تقدمه البنية السياسية المعينة، وتبرز هذه الهوية غالباً من خلال الرؤية أو الإطار النظري، وهذه الرؤية، وأي رؤية، تتكون من عناصر، وهي كما يحددها الجابري في سياق قراءته للتراث العربي الإسلامي؛ مضمنة من خلال قضية "وحدة الفكر ... وحدة الإشكالية"، فوحدة الفكر لا تعني وحدة المفكرين (الدينية، اللغوية ..) ولا وحدة الموضوعات التي تناولوها، ولا هي وحدة الزمان والمكان، إنما تعني وحدة الإشكالية. قد تكون الموضوعات التي تناولها المفكرون مختلفة، وقد تكون النتائج التي توصلوا إليها متشابهة، وقد تكون متباينة (..) كل هذه الأوجه من الإتفاق أو الإختلاف لا تهم، لأنها لا تحدد ولا تؤسس وحدة الفكر، إنما يؤسس وحدة الفكر في مرحلة تاريخية ما، وحدة إشكالية هذا الفكر، والإشكالية هي منظومة من العلاقات التي تنسجها داخل الفكر المعين مشاكل عديدة مترابطة لا تتوافر إمكانية حالها منفردة.

    العنصر الثاني هو "تاريخية الفكر"، والمقصود بتاريخية الفكر إرتباطه بالواقع السياسي الإجتماعي والإقتصادي الذي أنتجه، أو على الأقل تحرك فيه . من هنا يتضح لنا أن الهوية الفكرية، إنما تتحدد داخل الإطار الإجتماعي والسياسي والإقتصادي للواقع المشخص. إن مثال السودان يعطينا نموذج تطبيقي لما نتحدث عنه، فنموذج مدرسة الغابة والصحراء، السودانوية كما لدي الطيب زين العابدين، وكل الدراسات المهتمة بالفكر السوداني تعطينا صورة لمسألة تاريخية الفكر وإستمراريته، فهذه القضايا مطرحة الآن بقوة من خلال فكرة السودان الجديد، وبالتالي فإن إقتراب مفكرين معاصرين من تخوم تلك الأفكار أو إبتعادهم عنها لا يغير من مسألة تواصل هذه الرؤي مع بعضها البعض ـ على الرغم من التباعد الزمني النسبي ـ إنما يزيد من إلتحام الماضي بالحاضر حول نفس الإشكالية.

    العنصر الثالث الذي تتحدد به الهوية أيضاً هو قضية "المنهج"، والمنهج معناه: الطريق المؤدي إلى .. وعلم المناهج يعني مناهج العلوم والمنهاج العلمي هو جملة العمليات العقلية والخطوات العملية، التي يقوم بها الباحث من بداية بحثه حتى نهايته من أجل الكشف عن الحقيقة والبرهنة عليها، وبما أن العلوم تتمايز بموضوعاتها فهي تختلف كذلك بمناهجها. لذلك لا يمكن الحديث عن منهاج عام للعلوم، للكشف عن الحقيقة في كل ميدان، بل فقط عن مناهج علمية. إن لكل علم منهاجه الخاص الذي تفرضه طبيعة موضوعه . عليه؛ طالما أننا نصنف ضمن إشكالية الفكر السوداني ومرتبطين بواقعه فإنه يجب أن تنطلق رؤيتنا وهويتنا الفكرية من هذا الواقع وإشكالياته، ويتحدد المنهج الذي نتبعه تبعاً لفكرنا وواقعنا، وبالتالي تتحدد هويتنا السياسية أو هوية البنية السياسية التي نتمي إليها إنطلاقاً من هذا المعطي التاريخي/الإجتماعي. هذا التصور يتجاوز الأطر الطائفية والعقائدية، لأنه يتعامل مع الطابع الإشكالي للواقع بإتجاهاته المتعددة لأن واقعنا بطبيعته متعدد. بالتالي فإن الإنتماء الى طبقة بعينها أو شريحة إجتماعية أو طائفة دينية لا يحقق المدخل الصحيح في التوجه نحو خلق أمة سودانية موحدة وهوية مشتركة تصلح قاعدة للبناء الوطني والدولة الوطنية في السودان، لا بل يجعلنا خارج هذا الواقع ومغتربين عنه، إن الحلقة المنطقية هي أن نتجه نحو خلق التوازن الإجتماعي من خلال هذه الرؤية للواقع في السودان الجديد، والتي إن تحققت بدورها تكون مرحلة في تطورنا الإجتماعي سابقة للإنطلاق نحو أفاق كونية أكبر متجاوزة للأطر القومية.
                  

07-08-2003, 01:29 AM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مسارات السودان الجديد - كتاب للتجاني الحاج عبد الرحمن (Re: Abdel Aati)

    القضايا المحورية التي تواجه السودان الجديد

    قضية الهوية:
    المشاريع السياسية التي طرحت منذ الإستقلال واجهت صعوبات عديدة في أن تترجم أحلام الإستقلال إلى واقع إستقرار سياسي يمكّن من تحقيق التنمية والتقدم لشعوب وقوميات السودان، وكثيراً من هذه الصعوبات كانت ولا زالت مرتبطة بالتكوين الداخلي لهذه المشاريع، من حيث هي رؤية مطروحة لصيغ التطور الإجتماعي/السياسي، وآليات يتم إستخدامها لهذه الرؤية، وبصرف النظر عن المنطلقات الأيديولوجية لهذه المشاريع، إلا أن الثابت الوحيد ـ رغم الإختلاف بين هذه المشاريع ـ هو إتفاقها الضمني على النظر إلى واقع السودان من منطلق مشروع آحادي، ومحاولة بناء الدولة الوطنية إنطلاقاً من هذه الرؤية والموقف المنهجي، وهو ما يعتبر ـ قياساً على الواقع ـ قفز على معطى التباين والتعدد التاريخي، وقد كانت ـ ولا زالت ـ هذه هي السمة الغالبة. الظاهرة الأخرى هي الإختلاف حول الديمقراطية ككيفية سياسية. هاتين الملاحظتين كانتا بمثابة المدخل لكل أزمات السودان السياسية والإجتماعية في تاريخ الدولة السودانية المعاصرة.

    إن المأزق الذي أدخلته الجبهة الإسلامية بإنقلابها في يونيو 1989م، مثل في مظهره الإجتماعي والسياسي، قمة ماوصلت إليه الأزمة الفكرية والسياسية منذ الإستقلال، فقد عبرت الجبهة الإسلامية، ومن خلال طرحها النظري ـ وحتى على المستوى التطبيقي ـ عن إتجاهات عروبة وإسلامية الدولة، والذي كان كامناً في بعض الخطابات السياسية ـ ولا زال. ومضت الجبهة الإسلامية إلى ما هو أبعد من ذلك من خلال إنكارها للواقع الإجتماعي في السودان في تخطي مكشوف لحقيقة التعدد في السودان وتزييفها للديمقراطية مقابل تكريس الشمولية. إن تبرير ذلك لا يمكن القبول فيه بسهولة بظاهر السياسات التي تفرزها الجبهة الإسلامية في خضم صراعها مع الآخرين، إنما يجد أسبابه الرئيسية في الأسس النظرية والفلسفية التي تستند عليها المنظومات الأصولية بشكل عام والجبهة الإسلامية على وجه الخصوص في مواقفها وتصوراتها للعالم والأنسان، وهذا إطار أيديولوجي عريض يشمل جملة ماورائيات و " مخيال إجتماعي" مترسخ منذ قرون.

    خلال مسيرة البحث عن إستقرار إجتماعي/سياسي في السودان كان ولابد من أن تفرز الأزمة أطروحات نظرية ورؤي سياسية جديدة تستند في رؤياها على واقع التعدد والتحديد للديمقراطية من حيث هي ممارسة وهياكل أكثر من كونها قيمة، بإعتبار أن القيمة أو الماهية تتم معالجتها على مستوى الفلسفة وقد حسمتها حركة الفكر والتاريخ والمنظومات السياسية التي نشأت مؤخراً كانت حلقة من حلقات البحث عن الإستقرار السياسي، قد تختلف ظروف نشؤها، ولكن المضامين النظرية تكشف عن تقارب نسبي على مستوى الأفكار. ويدور المضمون النظري في سياق هذا البحث حول فكرتين مركزيتين (من حيث الرؤية):
    1. فكرة التعدد وبناء الدولة الوطنية في السودان إنطلاقاً من هذا المعطي التاريخي والمسألة لا تقف عند حدود الإعتراف، بل تتخطاه الى موقف الأخذ بعناصر هذا التعدد كمدخلات أولية لتشكيل الهوية المشتركة أو الدولة الوطنية.
    2. فكرة الدولة المدنية الديمقراطية، والتي تتداخل فيها ثلاثة أبعاد مرتبطة مع بعضها البعض وهي، البعد الجغرافي، البعد الأجتماعي، والبعد السياسي.
    أولاً: تعبر عن البعد الجغرافي الحدود السياسي للدولة السودانية التي تشكلت بعد الإستعمار التركي/المصري، والتي مثلت أول ظهور للدولة المركزية في السودان (كسلطة سياسية) بحدودها المتعارف عليها الآن، ويتمدد هذا التعريف لفكرة الدولة ليشمل العناصر المادية والتكوين الإجتماعي والتاريخي، وليس المعني السلطة السياسية فحسب.

    ثانياً: البعد الإجتماعي: وهذا يتم فيه الأخذ بعناصر التعدد المشار إليها [ديني، ثقافي، عرقي، إلخ...] كأساس لمشروع بناء الهوية المشتركة، ووفقاً للمنطق الرياضي فإن الهوية المشتركة يمكن إعتبارها محصلة لتفاعل العناصر السابقة مع بعضها البعض في الزمن (التاريخ)، هذه العلاقة ليست إفتراض رياضي محض، إنما هي علاقة تتحقق على مستوى الحراك الإجتماعي اليومي. يعرف فرانسيس دينق الهوية على أنها "كل ما يعرف الفرد به نفسه أو تعرف المحموعة نفسها ويعرفها الآخرون" وطالما أن العناصر السابقة هي جزء من تكوين الفرد أو الجماعة النفسي والأثني العام ، فبالتالي فإن التعريف بالفرد أو المجموعات لا يخرج من سياق التحديد له أو لهم من خلال هذه العناصر، ومن هنا تكتسب الهوية معناها كتجريد لكل هذه العناصر، وبالتالي فإن العلاقة الرياضية بين هذه العناصر وهذا المعنى المجرد علاقة تطور عندما ندخل حساب الزمن (التاريخ). وعليه؛ فإن ذلك يمنحنا القدرة على الإستنتاج بأن الهوية المشتركة المتكونة من ناتج تفاعل جماعات مختلفة أثنياً ودينياً وثقافياً إنما هي هوية محتلفة بالكامل عن أي هوية منفردة لكل مجموعة داخلة كطرف في هذه التفاعل، لكنها في ذات الوقت تحمل الخصائص الجينية الأولية لكل الكيانات المختلفة.
    بمعنى:
    (هـ) = د[ دين، ثقافة، عرق، ..إلخ]
    حيث: هـ هي الهوية.
    تترجم هذه المعادلة على أن الهوية دالة في العناصر الأولية المكونة لها من دين وثقافة وعرق وغيرها. وفي حال تداخل هويات مختلفة تصبح الهوية المشتركة والمتكونة من تفاعل كل الهويات المختلفة ناتجاً لعلاقة البناء الأكسيومي الرياضي لإتحاد كل الهويات المختلفة مع الوضع في الإعتبار عنصر الزمن. بمعنى؛ أذا كانت هـ1، هـ2، هـ3، ...... هـن، هي هويات مختلفة داخلة في تفاعل مع بعضها البعض، فإن الناتج النهائي لن يكون هو أحدى هذه الحدود بأي حال من الأحوال، أنما هو ناتج إتحادها أو كيميائها، وهو ما يمكن تمثيله رياضياً أيضاً كالآتي:
    هـك = هـ1 Ûهـ2 Û هـ3 Û.... هـن
    حيث هـ ك تمثل الهوية الكلية.

    وعندما ندخل الزمن (التاريخ) تصبح المعادلة على النحو التالي:
    هـ ك = د [مجـ {هـ1 Ûهـ2 Û هـ3 Û.... هـن}]
    حيث هـ ك الهوية الكلية، عبارة عن دالة في مجموع إتحادات الهويات الداخلة في التفاعل، وهذه الهويات دالة في الزمن (التاريخ). تتحقق هذه المعادلة عندما تصل هذه الدالة إلى نهايتها العظمى تحت شروط معقولية تسمح بإستمراريتها، هذه الشروط عبارة عن العوامل السياسية والإجتماعية التي تتيح لهذه العناصر المختلفة لكل من الهويات المختلفة من الدخول في عمليات إعادة تعيين لنفسها من خلال تبادل المنتوجات الثقافية والقيمية والمادية مع بعضها البعض وعلى قدم المساواة في الحقوق والواجبات على مستويات الدولة والمجتمع، إن إنحياز السلطة السياسية لصالح أي حد من الحدود في المعادلة (هوية بعينها) يجعل منها غير قابلة للتحقق، ويفتح الباب على مصراعيه أمام الصراعات والمواجهات الدموية. وفي حال مضي المعادلة وفقاً لشروط المعقولية المشار إليها فإن الناتج النهائي هو ما يمكن تسميته إنتماء مشترك أو دولة وطنية، وتكون على إستعداد للدخول في مرحلة جديدة أعلى من مرحلة إكتمال الدولة الوطنية أو الإنتماء المشترك.

    ثالثاً: البعد السياسي: وهو يمثل السلطة السياسية والتي في تقديرنا تؤثر بشكل مباشر في العاملين السابقين بإعتبارها واحداً من شروط المعقولية المشار إليه، فمتى ما كانت السلطة لا تعكس هذا التعدد بأي صورة من الصور، ولا توفر شروط المعقولية الضرورية هذه لإنجاح عملية التبادل القيمي وإعادة التعيين الذاتي للمجموعات المختلفة ومع بعضها البعض، فإنها في هذه الوضعية تخل بمعادلة التوازن الإجتماعي.

    لذلك فمفهوم الوحدة يتحقق على المستوى الإجتماعي أولاً عندما تصل (هـ ك) في المعادلة السابقة إلى نهايتها العظمى، عندها تتكون نظرة جديدة للدخول في مرحلة جديدة تتجاوز حدود مفهوم القومية إلى ما هو أوسع، إن قمة ما يمكن أن تحققه المرحلة الحالية في سياق رؤية الأمة السودانية ووفقاً للتصور المطروح، هو تحقيق الوحدة، الحلقة المنطقية في هذا المسار هي نقطة البداية والتي يجب أن تبدأ من الأخذ بمعطي التباين في السودان كمعطي تاريخي إجتماعي لا يمكن القفز من فوقه، والتعامل معه كواقع لا بد من تطويره نحو أفاق مشتركة تضم الجميع. إن الحقيقة الماثلة أمامنا تقول أن ذلك لم يكن مطروقاً في الماضي وهذا ما دفعنا إلى التقرير ومنذ البداية أن هنالك أزمة داخلية للمشاريع السياسية التي طرحت في السودان، ففريق قرر منذ البداية أن السودان بلد عربي مسلم ويجب أن يمضي تطوره الإجتماعي نحو تحقيق غايات العروبة والإسلام مهما كان الثمن وآخرين كانوا ينظرون الى المسألة برمتها على أنها في نهاية التحليل صراع طبقات ليس إلا. الخطأ الذي وقع فيه الأولون (الذين يفترضون عروبة السودان وإسلاميته) أنهم تحركوا في فهمهم لهذا الواقع من منطلقات فكرية لا علاقة لها بهذا الواقع وليست جزءً منه إلا من بعد تاريخ حملة عبدالله بن أبي السرح، ورغم ذلك ظلوا مصرين على قولبة هذا الواقع ومحاولة إستساخه من جينات التاريخ العربي الإسلامي، فوقعوا في أزمة العرب العاربة والمستعربة والمتمركزة حول أزمة قراءة النص الديني (كمرجعية لاهوتية) من خلال سلطة مرجعية(ثقافية) هي الثقافة العربية "سلطة الإعرابي صانع العالم" ، وأيّاً كان الحقل الذي تنطلق منه هذه القراءة (سنية سلفية، شيعية) فإن هذا لا ينفي سيطرة هذه العقلية على تصور هؤلاء. وهي أزمة منهجية قديمة تتلخص في كيفية الفصل بين الثابت والمتحول أو المطلق والنسبي أو الخطاب الألهي والبشري. والتجربة الإنسانية تعطينا دروس مفيدة من خلال قراءة التاريخ الأوربي الذي أفرز سلطة ثالثة بعيداً عن سلطة الكنيسة والأمير وهي سلطة الشعب أو المصلحة العامة أو التعاقد الإجتماعي مما فتح الباب على مصراعيه أمام بروز المجتمعات المدنية الحديثة.
                  

07-08-2003, 01:30 AM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مسارات السودان الجديد - كتاب للتجاني الحاج عبد الرحمن (Re: Abdel Aati)

    أما الآخرون فهم الذين وقعوا في مأزق الإشتراكية (التي طبقت) وليست التي كما كان يحلم بها الناس . ولكي نفهم البعد الحقيقي لهذا الموقف وتأثيره في تاريخ السياسة السودانية نستطرد مع المفكر الماركسي جورج لوكاتش والذي يذهب في إيضاح هذه النقطة من خلال تركيزه على عدم مطابقة ما تقرره الماركسية الرسمية لواقع معطيات المجتمعات ماقبل الرأسمالية (والتي يقع السودان ضمن نطاق تصنيفها). أوضح لوكاتش أربعة حقائق أساسية لهذه المجتمعات تمثل في وجهة نظرنا حقائق موضوعية في بناء هذه المجتمعات، هذه الحقائق فضحت من جانب القراءة المغلوطة لليسار الإشتراكي لواقع المجتمع السوداني.
    يقول لوكاتش:
    1.إن مؤسسة الدولة والمؤسسات الأخرى التي يتكون منها المجتمع في المجتمعات السابقة للرأسمالية، مثل القبيلة والطائفة، والمذهب الديني .. إلخ، كل ذلك يشكل بنية فوقية متميزة عن القاعدة الإقتصادية للمجتمع ، بل أن هذه المجتمعات، جميعها، الدولة والقبيلة والطائفة الدينية والنقابات الحرفية والفرق الدينية .. إلخ جزء من بنية كلية أعم يتداخل فيها الإقتصادي والإجتماعي والديني والأيديولوجي.
    2.إذا كان الإنقسام الفعلي والواضح في المجتمعات الرأسمالية بأوربا خلال القرن التاسع عشر هو الإنقسام إلى طبقات، وإذا كان الوعي السياسي السائد في هذه المجتمعات يرتبط فعلاً بالإنتماء الطبقي، فأن الواضح والسائد في المجتمعات السابقة للرأسمالية هو الإنقسام الى "جماعات" تتمايز عن بعضها البعض بالحسب والشرف أو النسب والجاه أو بالمال أو بالحرفة أو بالمذهب الديني (عصبات، طوائف .. إلخ)، جماعات تحركها من وراء وفي الخفاء المصالح الإقتصادية، نعم، ولكن بما، الإقتصاد لم يكن قد تطور الى درجة تجعل منه المحدد للعلاقات، فإن الوعي الذي يحرك الصراع بين هذه الفئات والجماعات لم يكن الوعي الطبقي، بل "الوعي الفئوي" العصبية القبلية التعصب الطائفي، التضامن الحرفي .. إلخ، ومن هنا فالناس داخل هذه الجماعات التي من هذا النوع يكونون مشدودين لا إلى مصالحهم الإقتصادية المباشرة بل إلى مرحلة سابقة من "تاريخ" الجماعة، المرحلة التي ترتبط بها الإمتيازات أو الأمجاد أو التضحيات التي تشغل مخيال هذه الجماعة والتي تتحدد بها هويتها.
    3.ومن هنا كانت الأيديولوجيا السياسية والإجتماعية في المجتمعات السابقة للرأسمالية لا ترتبط بالواقع الإقتصادي الإجتماعي الذي تعيشه الجماعة في حاضرها، بل في الأعم الأغلب ، بواقع آخر مضى، يمكن أن يكون مختلفاً تماماً. إن الأيديولوجيا في مثل هذه الحال لا تعكس دائماً الواقع الراهن بل في الغالب منقولة إلى الحاضر من الماضي. وكثيراً ما يكون أساسها الإجتماعي الذي إنبقثت عنه يقع في الماضي وليس الحاضر. ولذلك فهي بوصفها محرضة ومحركة ليست جزءً من بنية فوقية، ليست شكلاً من أشكال الوعي العليا، بل هي عنصر في بنية كلية أعم. وهكذا فالأيديولوجيا أو "العقيدة" مثلها مثل القبيلة أو الطائفة مثل المصلحة الإقتصادية، معطيات متداخلة يصعب التمييز فيها بين ما هو قاعدة وما هو إنعكاس لها. وبعبارة أخرى إن الصراع الإجتماعي في المجتمعات السابقة على الرأسمالية لا يأخذ شكل إنعكاس للواقع الإقتصادي الذي تعيشه هذه الجماعات المتصارعة، بل يكتسي شكل إستمرار لصراعات تجسد أساسها الإقتصادي في الماضي وليس الحاضر (قارن الصراع بين الشيعة والسنة والذي يرجع أساسه الإقتصادي الإجتماعي الى زمن الصراع بين علي ومعاوية).
    4. وأخيراً فأشكال الوعي العليا من فن وفلسفة .. إلخ ، إذا كانت تتمتع في المجتمعات الرأسمالية بإستقلال نسبي واضح، أنها في المجتمعات السابقة للرأسمالية ذات إستقلال نسبي واسع جداً وعلاقاتها في فترة زمنية ما ، بالعلاقات الإقتصادية الإجتماعية القائمة في تلك الفترة علاقات باهتة بل تكاد تكون منعدمة.

    النقاط الأربعة السابقة تؤكد على المقولة السابقة والتي تغلط قراءة التيار الإشتراكي لواقع السودان، وتضيف مزيداً من التأكيد على حقيقة أزمة المشاريع السياسية، فإذا كانا هذين التيارين هما محصلة التجربة السودانية ، وكلها وقعت في مأزق التناقض مع الواقع فإن بروز تجربة سياسية جديدة تصبح مسألة أشبه بالحتمية التاريخية مع كل تحفظاتنا على مصطلح حتمية.

    من خلال ما سبق كان واضحاً أن تركيزنا منصب على إيضاح "الرؤي" التي كانت البنيات السياسية السودانية ترى من خلالها واقع السودان وتنظّر له من خلاله، وعملية الكشف عن هذه التناقضات هو بالأساس كشف لتناقض علاقة الفكر بالواقع لديها، أو الصورة والمثال كما تقررها الفلسفة، وعلى المستوى التطبيقي تزيح لنا الستار عن الصعوبات التي ذكرناها في البداية، وتعطينا نموذح حي لعملية نقل المفاهيم والنظريات إلى بيئات مختلفة، ومحاولة تطبيقها عليها، وما قد ينجم عن ذلك من إشكاليات. والذي يحدث في مثل هذه الوضعيات هو؛ أن المفاهيم والنظريات التي يتم نقلها تتحول الى عوائق معرفية (إبستمولوجية) تحول دون الوصول إلى جوهر المسألة أو القضية في الميدان الذي تم نقلها إليه. إن أثنين زائد إثنين تساوي أربعة، معادلة صحيحة، ولكن ليس في كل أنواع الحساب، بل هنالك نوع خاص إذا طبقت فيه هذه المعادلة حرفياً كان الناتج خطأ لأن أثنين زائد إثنين تساوي في نوع خاص من الرياضيات إما أقل أو أكثر من أربعة، وقوانين الفيزياء الكلاسيكية ومفاهيمها لا تقبل التطبيق في عالم الذرة ولاتساعد على تحصيل المعرفة بهذا العالم، وفي وجهة نظرنا أن المفاهيم والنظريات التي تستخلص لدراسة بنية المجتمع الرأسمالي تصبح عوائق إذا ما تم نقلها بكلياتها لتطبق في مجتمع آخر يختلف في تركيبته ودرجة تطوره عن المجتمع الرأسمالي ، ويصدق هذا بدرجة ما على ما تم في السودان.
                  

07-08-2003, 01:31 AM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مسارات السودان الجديد - كتاب للتجاني الحاج عبد الرحمن (Re: Abdel Aati)

    قضية الدين والدولة ومفهوم العلمانية:
    ظهر مفهوم العلمانية مع الثورة الفرنسية، والثورة الصناعية في أوربا ليطرح على بساط البحث قضية علاقة الدين بالدولة، وقد شهد ذلك العصر تحولاً عميقاً في بنية وتركيبة المجتمع الأوربي من مرحلة الإقطاع إلى مرحلة الرأسمالية، نتج عن هذا التحول تغيير في العلاقات الإجتماعية السائدة خلال عهود الإقطاع لتنمو على أنقاضها العلاقات البرجوازية والمجتمع المديني. وقد إقتضت الكثير من الضرورات التاريخية هذا التحول، منها سيطرة الكنيسة على المجتمع والسلطة السياسية وما أستتبع ذلك من تداخل في الخطاب بين ما هو إلهي، وما هو بشري(=التراث الإنساني)، وإكتسبت السلطة السياسية قداسة مستمدة مباشرة من السلطة الإلهية عبر الكنيسة.

    ماحققه هذا الإنتقال الذي خلقته الثورة الصناعية، وعلى المستويين الفلسفي والسياسي، أنه فصل ما بين سلطة الكنيسة وسلطة الأمير (=الدولة)، وقد أدى ذلك إلى ظهور مجال ثالث هو سلطة الشعب أو المصلحة العامة والذي تم تعميقه لاحقاً فلسفياً بطرح بنظرية العقد الإجتماعي لجان جاك روسو، أيضاً أضاف التطور المعرفي عمقاً لمفهوم العلمانية، والتب لم تعد تقف عند حدود
    [الفصل بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية] بل تعدتها إلى تحرير العلم والمعرفة من إرتباطهما باللاهوت وأصبحت العلوم الطبيعية والإنسانية تتمتع بإستقلال نسبي واسع، وهو ما أدى إلى تطورها المذهل في كافة المناحي.

    تحديد المصطلح:
    العلمانية Secularism تعني أصطلاحاً "فصل السلطة الزمنة عن السلطة الدينية"، هذا على المستوى المفهومي والإطار التاريخي، والعلمانية بهذا التحديد وضعت حداً فاصلاً بين السلطة الزمنة كممارسة تتم على المستوى الإجتماعي، السياسي والمعرفي، وبين السلطة المستمدة من النصوص الدينية (الميتافيزيقية). إن إنتقال المفهوم إلى العالم الثالث وتحديداً الدول التي تدين بالإسلام، واجهته الكثير من الإشكاليات، فلا توجد حتى الآن ترجمة مقابلة لكلمة Secularism في اللغة العربية إلا عندما نأخذ المعني من الإطار التاريخي، بمعني؛ عندما نتحدث عن علمانية في اللغة العربية نجد أنفسنا مضطرين لتجاهل التحليل الفيلولوجي في هذه اللحظة. إن المصطلح وبكيفته الغير محددة في اللغة، أدخل الكثير من السجال حول المصطلح نفسه، وأصبح هنالك أكثر من مفهوم متداول والذي في الأغلب الأعم عبارة نواتج إشتقاقات أيديولوجية أكثر منه تحديداً معرفياً قاطعاً، وهو ما أصبح فيما مدخلاً للإبتزاز السياسي. وعندما نتحدث عن دولة علمانية فإننا نعني وعلى وجه التحديد الدولة القائمة على الفصل التام ما بين الدولة كمؤسسة والدين كمؤسسة ـ كما يضبطنا الإطار التاريخي للصراع في أوربا كتجربة تاريخية مرت على البشرية، مع الوضع في الإعتبار الفرق بين المجتمعين، و الفترة التاريخية. ومن هنا إذا كانت سلطة الدولة معروفة فما هي سلطة الدين إذاً؟؟ نطرح ذلك وفي ذهننا مقاربة ذلك بالتجربة الإسلامية وبالطبع نستصحب في ذاكرتنا إختلاف الإسلام عن المسيحية.

    هنالك إختلاف حول مسألة السلطة داخل الدين الإسلامي، بعض الكتابات تقر بأن الإسلام لم يعرف قط نمطاً لدولة كهنوتية كما عرفتها أوربا القرون الوسطى، وكتابات أخرى تناقض هذه المقولة وتقرر أن الإسلام (دين ودولة) في ربط محكم بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية!! هذا بالطبع إذا تم إستثناء الحقل الشيعي بإعتبار أن له تسلسل كهنوتي واضح التراتبية (نظام الملالي في إيران)، ومناقشة قضية الدين والدولة غير مطروحة أصلاً بالنسبة له. إن الإستناد الوحيد في تبرير إن (الإسلام دين ودولة في المفهوم السني) يقوم على أساس ضعيف ومختلف عليه في النص الديني الواردة في آيات الحكم الثلاثة[ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون(الظالمون، الفاسقون)]، وعندما ننظر إلى الكثير من الآيات الواردة في النص القرآني والحديث الشريف [وأمرهم شورى بينهم، وشاورهم في الأمر] والحديث النبوي [وأنتم أعلم بشئون دنياكم] نكتشف أن دينية الدولة التي يرددها مناصري حركات الأسلام السياسي (الإسلام دين ودولة) غير موجود أصلاً أو على الأقل هناك إختلاف حول المدلول الحقيقي لها. وعندما نمضي في ترجمة مصطلح العلمانية من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية فإننا نكتشف مفارقة، فعلمانية في اللغة العربية مشتقة من مصدر [ع،ل،م] بمعني معرفة أو عالم [ ع،أ،ل،م]، واللتين تنتهيان إلى نتيجة واحدة، وسواء أن كانت علمانية هي ناتج أشتقاق من المصدر [علم] أو [عالم] فإنها ترتد فلسفياً إلى الدلالة بأن المعرفة الناتجة منها أنما هي محصلة لتراكم التجربة البشرية المستمدة من المعرفة بقوانين الكون عموماً وبالتالي، تنتفي صفة الإلحاد التي تدمغ بها العلمانية كموقف معرفي، وينسحب ذلك أيضاً على الموقف السياسي.
    تأسيساً على ما سبق، فمفهوم الدولة العلمانية لا يخرج من هذا السياج، ونجد أنه من الضروري تحديد أنماط الدولة لتوضيح فكرتنا:

    الدولة الدينية أو الدولة الثيوقراطية: وهي نموذج الدولة التي تقوم على أساس ديني في فهمها لطبيعة تحريك مؤسسات الدولة وتكوينها، والتوجه العام للسياسة التي تطبقها هذه الدولة، وعادة ما يكون هنالك دين بعينه (مسيحي كما في نموذج أوربا القروسطى أو إسلامي كما في إيران، السودان، السعودية والعديد من الدول العربية) يمثل أساس الخطاب الذي تشتق منه الدولة أيدولوجيتها السياسية وتوجهاتها العامة، وهذا النموذج إقصائي للكيانات الدينية الأخرى، لأنه بطبيعة التكوين يعتمد ديانة بعينها ولا يفسح مجالاً للأديان الأخرى إلا ككيانات أقل شأناً في أحسن الفروض.

    الدولة الإلحادية: هذا النموذج إقصائي أيضاً، لكن بطريقة مختلفة، بإعتباره لا يضع للأديان كبير إعتبار في حركة المجتمع، لا وبل لديه موقف منها كما في نموذج التجربة الإشتراكية عموماً.

    الدولة العلمانية: هذا النموذج يمثل موقف وسط ما بين النموذجين السابقين، وأهم معالمه أنه يقوم على أساس مدني على المستوي السياسي ومحايد تجاه مسألة الأديان، بمعني أنه نموذج لدولة مواطنة يكون فيها أنتماء الفرد لمنظومة الدولة على هذا الأساس، وتأخذ مسألة الأديان كموقف يخص حركة الفرد والمجتمع ولا تعتبر معيار للإختيار في مستويات التنافس على مستوى الدولة أو الإنتخاب الطبيعي في المجتمع.

    النموذج الأخير يمثل قمة ما توصل إليه الفكر الإنساني حول ممارسة السلطة السياسية، ب‘تباره يوفر الحد الأدني للفرد أو المجموعات في التعبير عن نفسها ككيانات في منظومة دولة في واقع عالم ومجتمعات مليئة بالتعددية على مستويات متباينة يصعب قولبتها في أطر محددة، وبالتالي ترك الباب أمامها مفتوحاً لتطور نفسها في سياق حركة التطور الكونية. والسودان واحداً من النماذج القياسية في هذا الجانب. عليه لا يمكن صهر جميع قومياته وأعراقه وأديانه في قالب واحد مهما كان.
                  

07-08-2003, 01:32 AM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مسارات السودان الجديد - كتاب للتجاني الحاج عبد الرحمن (Re: Abdel Aati)

    مأزق الديمقراطية في السودان

    القضية المحورية الثانية في سياق قراءتنا للتجربة الماضية في السودان، ومحاولة بناء أفق جديد هي مسألة الديمقراطية، وتكتسب أهميتها من حيث أن الديمقراطية في حد ذاتها مطلب قيمي ضروري للإنسان بصورة عامة وضرورة حيوية لوطن متعدد كالسودان من الإستحالة بمكان أن يحكم سياسياً بنظام شمولي مهما كانت درجة "وطنيته" لأنه في نهاية المطاف سيعبّر عن مصالح شريحة إجتماعية بعينها ضد أخرى، ونماذج التجربة الديمقراطية التي مرت على السودان خلال التاريخ المعاصر تقف شاهداً على ذلك. لذلك لزم البحث والإستقراء عن الدوافع والمسببات.

    تعريف مصطلح الديمقراطية:
    تاريخياً يرجع المصطلح الى الحضارة الإغريقية، وقد كان تعني "حكم الشعب لنفسه"، بمعني الممارسة السياسية المعبر عنها (بالسلطة) تتم بواسطة الشعب، مع الوضع في الإعتبار المفهوم "الأثيني" ـ نسبة إلى أثينا ـ لكلمة شعب والتي لم تكن تعني المجموع البشري زائداً علاقاته الإجتماعية والإقتصادية، أو التكوين الإجتماعي كما تعرّفه العلوم الإنسانية المعاصرة، فقد كان الشعب في وجهة نظر الثقافة الإغريقية تمثله طبقة أو شريحة إجتماعية بعينها في المجتمع الأثيني القديم، وهي فقط المناط بها ممارسة السلكة السياسية. تعرّف موسوعة علم الإنسان الديمقراطية على أنها ((.... مصطلح فضفاض يتضمن كلا من المشاركة والتمثيل، ونحن نصف بعض الإجراءات على أنها ديقمراطية أو نصف أسلوباً في الإدارة بأنه ديمقراطي، عندما نود الإشارة الى المشاركة الفعالة للأفراد المتأثرين بالقرارات في عملية إتخاذها. ومن ناحية أخرى نصف يعض النظم السياسية بأنها ديمقراطية، لنعني أن الممثلين (النواب) قد إنتخبوا من خلال عمليات تصويت حرة لكي يتخذوا القرارات نيابة عن الأفراد أعضاء تلك النظم. وفي هذه الحالة فإن الأفراد الذين لا يشاركون في عملية إتخاذ القرار يكون الممثلين مسئولين أمام ناخبيهم، وتمييز بعض المدارس الماركسية بين الديمقراطية البرجوازية التي تعمل فيها الحكومات المنتخبة لصالح الطبقة الرأسمالية الحاكمة وبين الديمقراطيات الشعبية، حيث تمثل الحكومة، سواء كانت منتخبة بتصويت حر أم لا مصالح الطبقة العاملة)) . إذاً فمصطلح ديمقراطية في جوهره يعني ـ بصرف النظر عن التجربة الأثينية ـ حق المشاركة في صناعة القرار والوصول الى السلطة السياسية (الحكم)، بمعنى آخر التداول السلمي للسلطة. وفي العصور الحديثة تطور مفهوم الديمقراطية من حيث هو كيفية سياسية، فأصبحت الديمقراطية سلوك ضروري لحركة المجتمع متجاوزة بذلك تعريفها الأول.

    نماذج للكيفيات الديمقراطية

    الديمقراطية المركزية:
    تشكلت الديمقراطية المركزية مع التيارات الإشترالكية وحركات التحرر في بلدان العالم الثالث، وتبلورت مع الفكر الماركسي خلال رحلة تحوله من الثورة إلى الدولة في التجربة السوفيتية (سابقاً). إن طبيعة التجربة الإشتراكية ـ وفي مستواها النظري والتنظيمي ـ فرضت التنظيم الواحد على مستوى الدولة، والذي يضم في داخله "تحالف العمال والمزارعين والبرجوازية المثقفة التي آمنت بحتمية إنهيار الرأسمالية وقيام النظام الإشتراكي". هذا التنظيم وضع حداً فاصلاً ما بين نفسه "كحركة معبرة عن المقهورين" من جانب وملوك رأس المال من جانب آخر، و يرتبط ذلك في شعوره الداخلي بتعبير عن كليات المجتمع. لذلك فالممارسة السياسية وصناعة القرار داخل هذا النموذج يقتضي شكلاً (ما) من أشكال الممارسة الديمقراطية في داخله كبنية تنظيمية، وفي هذه الحالة نجد أنه من الصعوبة بمكان التفريق ووضع الحدود الفاصلة بين الديمقراطية كقيمة في حد ذاتها، وكممارسة محصورة داخل إطار الحزب (راجع التعريف الذي أوردناه سابقاً)، فإلتحمت الفواصل بين ما هو جوهري (قيمة) وما هو كيفية سياسية، وأصبحت الديمقراطية هنا تعبير صارخ عن الأيديولوجية المرتبط بتوجهات التنظيم، وليست كيانا مستقلاً بذاته. صحيح بدرجة ما القبول بأن المركزية الديمقراطية مفيدة على مستوى التنظيم كآلية للتعبير عن الآخر وصناعة القرار، لكن على مستوى الدولة فهذا شئ آخر، وقد أوضحت التجربة البلشفية بعد رحلة تحولها من الثورة إلى الدولة، أن الماركسية لم تستطع إستيعاب الديمقراطية وتطويرها خارج السياج الآيديولوجي للفكر الإشتراكي، بل نقلت تجربة الممارسة الديمقراطية الحزبية (المركزية الديمقراطية) إلى مستوى الدولة، فتحول الحزب إلى دولة والدولة إلى حزب، ونتج عن ذلك قمع للآخر الذي يقع خارج المنظومة الآيديلوجية. إن تجربة المنظومات الأصولية شبيهة إلى حد كبير بالتجربة الإشتراكية من حيث المضمون، عليه فإن مانخلص إليه هو:
    o الديمقراطية هي حق المشاركة في صناعة القرار على المستوى السياسي، وعلى المستوى الإجتماعي هي تحمل لخيارات الآخرين، وهذا المبدأ يشكل العمود الفقري لقيمة الديمقراطية وماهيتها.
    o الديمقراطية كسلوك تتضمن في داخلها هذه القيمة ومعبر عنها بكيفية تسمح بقبول الآخر على مستويات الرأي والعقيدة وكل خياراته.
    o الفصل بين الديمقراطية التي تمارس على مستوى المنظومة السياسية (الديمقراطية المركزية) تلك التي يجب ممارستها على مستوى الدولة.

    الديمقراطية اللبرالية:
    تتأسس الديمقراطية في هذه التجربة على الفلسفة اللبرالية، وهنالك من يربطون ما بين التعددية الديمقراطية واللبرالية!! لكن المسألة غير ذلك، فكما قامت الديمقراطية المركزية على الفلسفة الإشتراكية، أيضاَ تأسست الديمقراطيات الغربية عموماً على الفلسفة اللبرالية. وتقوم اللبرالية على مبدأ الحرية المطلقة للفرد، والعلاقة بين الفرد والدولة هي علاقة تعاقد (جان جاك روسو، نظرية العقد الإجتماعي)، لقد فرضت هذه العلاقة طبيعة تطور المجتمعات الأوربية وإنتقالها من عهد الإقطاع إلى عهد الثورة الصناعية ونشؤ المجتمع (المديني). فطبيعة العلاقات الإجتماعية السائدة في عهود الإقطاع كانت قائمة على أساس القربي، وقد تشكلت فيما بعد الثورة الصناعية هذه العلاقات على أسس المصالح الإقتصادية في المدن والتجمعات العمالية، والتي كانت تضم أفراد تجمعهم علاقات لا تنتمي إلى ميدان القرابة، لذلك إزدهرت فلسفة (الفردانية) أواللبرالية للحفاظ على حق الفرد ومصلحته في المجتمع المديني. وعندما تطورت التجربة الديمقراطية داخل هذه المجتمعات كان لابد لها من الإستناد على هذه الفلسفة وهذا التعاقد الإجتماعي. وخلاصة القول:

    أولاً: يجب فهم اللبرالية على أنها فلسفة قائمة بذاتها على أساس الحرية المطلقة للفرد داخل المجتمع ككل.

    ثانياً: تتأسس علاقة الفرد بالمجتمع والدولة على أساس أنها علاقة تعاقد تستند على قاعدة المصالح الإقتصادية والحقوقية المتبادلة.

    ثالثاً: الديمقراطية كممارسة تنطلق من هذا الأساس الفلسفي، بإعتبار أن هنالك علاقة تعاقد متسلسلة، تبدأ من علاقة الفرد ببنيته السياسية أو الإجتماعية (طبقة أو شريحة) التي ينتمي إليها، والتي بالضرورة علاقة مستندة على المصالح المشتركة (حزب المحافظين في بريطانيا أو العمال)، ومن ثم تمتد هذه العلاقة لتصبح علاقة تعاقد ما بين المنظومة السياسية والدولة أو المجتمع، والحزب يدافع عن مصالح الطبقة أو الشريحة التي ينتمي إليها، وهذه الطبيعة الداخلية لما يسمى بالديمقراطية اللبرالية وميكانيزماتها.
                  

07-08-2003, 01:32 AM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مسارات السودان الجديد - كتاب للتجاني الحاج عبد الرحمن (Re: Abdel Aati)

    تجربة الأصولية الدمقراطية:
    تنطلق كل الحركات الأصولية من قاعدة واحدة حيال المسألة الديمقراطية، وتنظر إليها كتجربة لا تخص العالم الإسلامي، لا وبل غربية عليه، وهي في نهاية المطاف حالة إستلاب Assimilation. يعزي كثير من المفكرين المعاصرين ذلك ضعف التراث الإسلامي في التنظير للسلطة، فكل التجارب عبر التاريخ الإسلامي كانت عبارة عن نماذج متفرقة، إضافة إلى تأثير الفضاء البيئي الذي نشأت فيه الثقافة اللإسلامية العربية (الجزيرة العربية) والذي لم يكن يسمح بقيام دولة مركزية تستطيع أن تطور مفهوم وتراث راسخ لممارسة السلطة كدولة، فالقبائل العربية التي كانت تعيش في شبه الجزيرة العربية معزولة نسبياً عن بعضها البعض في أغلب فترات التاريخ، وكانت في حالات حرب من أجل الماء والكلاء، وعندما وحدت التجربة الإسلامية ما بين هذه القبائل داخل منظومة الدولة تجلت هذه النزعة من خلال ظهور أنماط متباينة من الحكم (عهد الرسول، الخلفاء الراشدين، دولة بني أمية، الدولة العباسية ..إلخ)، يعضد من ذلك النص الديني نفسه، والذي أشار إلى تبيان كيفية ممارسة السلطة في أعلى مستوى من التجريد (وأمرهم شورى بينهم) ، (وشاورهم في الأمر)، وهي اِلإشارات الوحيدة التي لا تحتمل التأويل فيما يخص توضيح كيفية ممارسة السلطة. لذلك ظلت الديمقراطية في إطارها الواسع، وكما تعرّفها العلوم الإنسانية المعاصرة متجاوزة للموقف الفقهي المدرسي التقليدي، والذي كل تراثه في التنظير لمسألة ممارسة السلطة السياسية لا تخرج من الآداب السلطانية، والموقف الإنتهازي لمقولة "من قويت شوكته وجبت طاعته". ومنطقياً جداً أن تظل منظومة أفكار هذه المنظومات فضفاضة وغير محددة الملامح وفاقدة للسند التاريخي، وعليه فإن المطالبة بإلتزام هذه المنظومات بالنهج الديمقراطي أمر سابق لأوانه، وليس من المتوقع منها أبداً أن تلتزم بها ضمن أجندتها السياسية إلا في سياق تبريري يمهد لها الطريق للوصول إلى سدة الحكم. يلاحظ حيدر إبراهيم هذه النقطة على وجه التحديد مشيراً إلى أنه رغم موقف الإسلامويين غير المبدئي وغير المقتنع بالديمقراطية إلا أنهم بإستمرار أكثر المستفيدين من الديمقراطية. وبعد ثورة أكتوبر 1964م إستغل الأسلامويين التحولات السياسية الجديدة بالذات إزدهار الحركات النقابية والطلابية وإنتشار أشكال جديدة لمجتمع مدني ممكن مثل الإتحادات والمنظمات والهيئات الكثيرة التي تم تكوينها لأغراض متنوعة . ولكي نفهم هذه النقطة جيداً نستطرد مع د. حسن عبدالله الترابي، والذي يكشف لنا النص الذي سنورده عن مضمون خطاب لامبدئي للمنظومات الأصولية حيال مسألة الديمقراطية.. يقول الترابي((.. وقد أدركت حركة الإسلام مثل هذه الديمقراطيات السطحية [يعني التجارب الديمقراطية في السودان] والقائمة على الأشكال لا تعيش إلا بضع سنوات، وفي مثل هذه الأحوال حركات الإسلام بين خيارين، إما أن تثور ثورة شعبية، مثل الثورة الإيرانية التي قامت وهزمت النظام الشاهنشاهي المسلح ـ ومثل هذه الثورة ستكون آثارها في السودان سالبة لأن السودان بلد مفتوح ولا يسمح بقيام ثورة شعبية وسوف تتفتح فيه الإحتمالات على قيام حرب أهلية. وآثر أهل الإسلام أن يسابقوا الذين كانوا يتسابقون للفوز بالقوة وآثروا أن تقوم بألطف ما يكون [يعني إنقلاب 30 يونيو 1989م] ..)) . لذلك فالسجال الذي تثيره المنظومات الأصولية عن تطابق الشورى والديمقراطية وتستند عليه في خوض المعارك الإنتخابية، هو في الواقع جدل غير ذي معنى وواضح أنه فقه ضرورة.
                  

07-08-2003, 01:33 AM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مسارات السودان الجديد - كتاب للتجاني الحاج عبد الرحمن (Re: Abdel Aati)

    تناقضات التجربة الديمقراطية في السودان:
    لا يختلف معنا كثيرون حول أن مسألة الإستقرار السياسي في السودان ومنذ الإستقلال لم تجد طريقها الى الدولة، فقد ظل السودان يعاني من أضطراب في نظام الحكم، وشهد دورات وأنماط مختلفة، وهو ما تم الإضطلاح عليه بالدائرة الجهنمية (ديمقراطية ـ إنقلاب ـ ديمقراطية)، وما إنفك السودان يدور في فلك هذه الحلقة حتى اللحظة، نقطة الإختلاف قد تنشب حول تحليل أسباب الأزمة التي أنتهت إليها هذه النتائج، وأغلب القراءات تنظر للقضية من زاوية تجلياتها السياسية وتقديمها على أنها هي الأسباب الموضوعية التي نتجت منها الإنقلابات العسكرية والأنظمة الشمولية، ولقد أشرنا في البداية إلى أن ذلك أصلاً من صميم أزمة المشاريع السياسية وتناقض فكرها السياسي مع الواقع المحيط، وهي أزمة داخلية خاصة بها على كل حال، وتقع فلسفياً ضمن نطاق تصنيف أزمة الفكر والواقع المشار إليها. عموماً نستطرد هنا مرة أخرى في هذا الجانب للكشف عن هذا التناقض عبر تناول الديمقراطية كحالة قياس، وفي تحليلنا أن الأسباب السياسية مهما كانت موضوعيتها في تقديمها كأسباب للتغير من وجهة نظر الآخرين، فالثابت أنها نتائج لأزمة متجددة داخل ذهنية الأحزاب السياسية السودانية، وهي أزمة تناقضها المذكورة، والتي تستمدها من علاقتها العضوية بالثقافة المهيمنة ـ بلا أستثناء ـ وعليه فأن هذه الأحزاب وعقليتها والتجليات التي تفرزها على الواقع، كلها تمثل بنية الأزمة الكلية، والسبب الرئيسي في حدوث الإنقلابات العسكرية والأتيان بالأنظمة الشمولية، ويجب النظر إلى هذه الأزمة بهذا الشمول. إن التجارب المختلفة تكشف لنا التناقض القائم بالنسبة لهذه الأحزاب، والذي يقع في الإختلاف حول الديمقراطية داخل كل حزب سياسي معين، فيما يتعلق برؤيته (= الخطاب الأيديولوجي) والبرنامج السياسي (الخطاب السياسي) الذي تخوض به هذه الأحزاب معركة الصراع السياسي. هذا التناقض ينتهي به المطاف بإنتصار ما هو أيويديولوجي على ما هو ظرفي (البرنامج) في منعطفات الممارسة البرلمانية الحرجة. هذا الإستنتاج يؤكد على حقيقة جوهرية، وهي أن الديمقراطية كقيمة في حد ذاتها ليست أصيلة داخل مرجعيات هذه الأحزاب. لذا يصبح من الضروري نقد التجارب السياسية السابقة لا على أساس العوامل المتحولة السابقة ـ لوحدها ـ بإعتبارها هي الأسباب التي أفضت إلى إجهاض النظم الديمقراطية لأنها في نهاية المطاف نتائج، إنما على أسس جديدة هدفها المحوري إزالة التناقض بين ما هو أيديولوجي وسياسي حول قضية الديمقراطية، ومن ثم الإتفاق على نظام ديمقراطي محدد الملامح، والتعامل معه على أساس أنه منهج إجتماعي ينتظم المجتمع الدولة من القمة إلى القاعدة.
    متى ما حاولنا تجاوز ذلك فمن المؤكد أن أسباب ومهددات الديمقراطية ستنحسر في المستقبل. لخص روفائيل.ك.بادال هذه النقطة (( .. أن أول ممتطلبات الحكم الديمقراطي اللبرالي هو أن يكون [ديمقراطياً]، وهذا يعني أن تستمد سلطتها من الرأي العام وتخضع لمحاسبته)) وإذا كنا نرى هذه أزمة الحكم في السودان، فما هو المخرج؟؟ هل الديمقراطية المركزية كما قامت في الأنظمة الإشتراكية؟؟ أم كما هي منمذجة في في التجربة الأوربية الغربية؟ لقد مرت بلادنا بكلا النموذجين، وفي كلا الحالتين كان الواقع يكذب هذه التجارب. إن الإتجاهات النظرية الآن تشير إلى ما يمكن أن نطلق عليه ديمقراطية تعددية، والتي تبدو مختلفة عن التجربة اللبرالية، إذاً فما هي هذه التجربة؟؟

    الديمقراطية التعددية Pluralistic Democracy :
    أذا كان مفهوماً لنا معني الديمقراطية، إذاً كيف نفهم التعددية عندما نجمعها مع الديمقراطياً، بالتأكيد الجمع هنا ليس جمعاً جبرياً، وتقديرنا أن جمع المصطلحين لابد من أن ينتج مفهوم آخر مغاير. تعرّف موسوعة علم الإنسان التعددية Pluralism من زاويتها الأنثروبولوجية على أن ((... التعددية الثقافية أو الإجتماعية مفهوم شديد العمومية يعني وجود أنساق أو أنساق فرعية متعددة داخل وحدة إقتصادية إجتماعية أو سياسية واحدة. ومن هنا يمكن القول بأن هناك تعددية لغوية، تعددية سلالية، وهكذا، ومن الخطأ أن تعد مثل هذه التعددية داخل الحدود القومية أو الإقليمية شيئاً شاذاً أو إستثنائياً، لأننا أذا نظرنا الى السجلات التاريخية والإثنوغرافية فسوف نرى أن التعددية هي القاعدة وليست إستثناء. والتعددية في الجوانب السياسية لها معنى مختلف عن هذا، حيث تعني توزيع القوة السياسية أو توزيع صلاحيات إتخاذ القرار بين الجماعات أو مؤسسات مختلفة)) . نستعرض مرة أخرى رأي روفائيل بادال فيما يختص بالديمقراطية التعددية كمفهوم، لما لذلك من أهمية محورية في بلورة رأي حاسم حول المصطلح، .. يمضي بادال (( ... تدخل الديمقراطية التعددية ضمن فكرة الحكومة المقيدة، قبول أو إعتناق التعددية الديمقراطية .. بمعنى أن تصون القيم والمصالح اللصيقة بأعضائها، وهي تحوي إفتراضاً آخر بأن الحكومة لم تشكل لتخدم مصلحة مجموعة واحدة أو بعض القطاعات في المجتمع، وإنما للمصلحة المشتركة لكل المجتمع)) قد ينشأ القياس ما بين الديمقراطية اللبرالية والديمقراطية التعددية، صحيح أن هنالك قواسم مشتركة، وهي وجود التعدد، لكن أي تعدد؟ فالتعدد في الديمقراطية البرالية يستمد أساس فكرته من الفلسفة اللبرالية وتطورها المذكور، يشرح بادال هذه النقطة مرة أخرى((.. ثمة فرصية لبرالية تقول بأن الحكومة البرلمانية تقوم على القبول الشعبي ستتيح ـ بالتعريف ـ وتقوم ما يريده الناس ، وفي نهاية التحليل فالإنشغال أو المعتقد المركزي في اللبرالية هي حرية الفرد وإستقلاله)) إذاً فالإختلاف ما بين الديمقراطية اللبرالية والتعددية يكمن في مسألة التعدد السياسي، لكن لمصلحة من هذا التعدد؟؟ فكما ينتهي التعدد في اللبرالية الى الفرد، فإنه في الديمقراطية التعددية ينتهي الى مصلحة المجموعة، أياً كانت نوعية الروابط التي تربطها، قد تكون التعددية السياسية المطروحة في التجربة الأوربية حالة من حالات الديمقراطية التعددية بإعتبار أن هنالك مجموعات تجد موقع لها في الدولة تعبر به عن نفسها، ويكمن الأختلاف ما بين التعدد في هذه التجارب وتجارب دول العالم الثالث أو نماذج المجتمعات السابقة للرأسمالية، إذ أن الروابط الإجتماعية والسياسية في المجتمعات الرأسمالية قائمة على المصالح الإقتصادية ووضوح التقسيم الطبقي، بينما ذلك غير متوفر في مجتمعات ماقبل الرأسمالية، وهو ما يجعل أساس التعدد فيها مختلف كلياً عن تجربة المجتمعات الغربية. وفشل النماذج الديمقراطية في هذه المجتمعات ـ والسودان واحد منها ـ يرتكز بالأساس على هذه الملاحظة، إذ أن كثير من النظم السياسية فيها حاولت نقل التجربة الأوربية نقل مسطرة.

    التعددية في السودان ـ ومعظم الدول النامية ـ تقوم على عناصر مختلفة، فهي تعددية على الصعيد الإثني، اللغوي، الديني وهي في نهاية التحليل تعددية ثقافية ـ بالتعريف الموسوعي لمصطلح ثقافة ـ أو تعدد هويات كما يقرر ذلك فرانسس دينق. وهي في هذا تختلف عن التجربة الأوربية أو على الأقل مرحلة متأخرة عنه. ففي مجتمع السودان والمجتمعات الشبيهة، أرتباط الفرد بمجموعته الثقافية أقوى من إرتباطه بالدولة، ويصعب النظر للفرد من دون هذه الهوية الثقافية، وقد لاحظ هذا الإرتباط كل من ريجس دوبري، كارل لوكاتش وبانو في معرض نقدهم للتجربة الماركسية الكلاسيكية وتطبيقاتها على المجتمعات الآسيوية والأفريقية وأمريكا اللاتينية، وهو ما أسموه "بنمط الإنتاج الآسيوي" أو المجتمعات السابقة للرأسمالية، وقد تعرضنا لهذه النقطة من قبل. لذلك عند النظر إلى مسألة الديمقراطية في السودان نجد أنه من غير الممكن تجاوز هذه التعددية، فإبتداع الديمقراطية التعددية إنطلاقاً من التعددية الثقافية أو على الأقل القبول بها لمرحلة من مراحل التطور أمر ضروري، وهي حالة من حالات "التبيئة" التي نقوم بها للديمقراطية اللبرالية في حقل مختلف عن الحقل الأوربي، والمحدد الأساسي في هذه التجربة هو إعترافها بالكيانات الثقافية والهويات كمكونات أساسية للمجتمع من حقها أن تمارس الديمقراطية داخلها وتتمتع بها ككيانات أو أي شكل من الأشكال تختاره على مستوى الدولة. قد ينتقد البعض ذلك، على أساس أنه مدخل إلى تكريس القبلية أو الجهوية وغيرها، لكن في تقديرنا أن القبلية أو الجهوية هي بالأساس عناصر أولية داخلة في عملية تطور إجتماعي لصياغة هوية مشتركة أو فلنقل دولة وطنية، وبالتالي التعامل معها على أنها عناصر سالبة وقمعها (من خلال تصدير المعني السالب لمصطلح قبلية وجهوية ضمنياً) لا يمكنه أن يحقق فكرة الدولة الوطنية على الإطلاق. هذا يعني أن نفتح الباب لكل الثقافات والكيانات على قدم المساواة وتكريسه على المستوى السياسي والحقوقي والإجتماعي بشكل عام كجزئية مفصلية في خلق ارضية للتطور الإجتماعي نحو الهوية المشتركة وبناء الدولة الوطنية.
    وبهذا نختتم هذا الفصل على اساس أن نطرح خلال الفصل القادم تفاصيل أكثر حول الأزمة السودانية وآفاق السودان الجديد.
                  

07-08-2003, 05:40 AM

WadalBalad
<aWadalBalad
تاريخ التسجيل: 12-20-2002
مجموع المشاركات: 737

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مسارات السودان الجديد - كتاب للتجاني الحاج عبد الرحمن (Re: Abdel Aati)

    Welcome back Adil

    والله وحشتنا

    والبوست بتاعك دا لخَّص لنا سلسلتنا بتاع نحو سودان جديد: الأحزاب السودانية فى الميزان

    تسلم يا خوى
                  

07-09-2003, 11:05 PM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مسارات السودان الجديد - كتاب للتجاني الحاج عبد الرحمن (Re: WadalBalad)

    سلام وشكرا يا ود البلد

    وفي الجراب مساهمات عديدة اخري ؛ لصديقات واصدقاء مثابرات ومثابرين ؛ ولكنهم غير اعضاء في البورد ؛ وسننزلها تباعا

    مع الود
    عادل
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de