|
"الطيب حاج مكي" يكتب: دلالات ومعاني إغتيال محمد طه محمد أحمد
|
دلالات ومعاني إغتيال محمد طه محمد أحمد الطيب حاج مكي كل أساليب القتل قبيحة وكل أنواعه بشعة وممقوتة ومستهجنة ولكن أكثر أشكال الموت قبحا ووحشية القتل غيلة وغدرا0 يكفي القتل غيلة وحشيته أنه يخطف الأعمار ويحيل أقدار الناس من آجال محتومة في لوح محفوظ تنقضي وتنتهي بصورتها الطبيعية والإنسانية المألوفة إلى مأساة يقرر فيها(بشر)عاديين وأحيانا بشرا أقل من عاديين لا يعرفون الحوار ولا يدركون حرمة النفس ولا خيارات لهم للتواصل والتعايش وقبول الاختلاف0 هؤلاء إذا ما سادت أساليبهم وتعاملنا معها بذاكرتنا الضعيفة المعهودة وطيبتنا الساذجة وشعورنا بالغضب الوقتي مع تمني القبض عليهم ومحاكمتهم دون أن نحرك ساكنا فإننا نطلق النار على أقدامنا وعلى بلادنا0 إن هؤلاء خطر داهم وعدو له (إرشيف) وسوابق0 إنهم لا يعرفون للمختلف حرمة ولا لخلاف الرأي قيمة0 إن علاجهم استئصال المختلف وحز رأسه وقتله غيلة وغدرا0 إن سرقة أعمار الناس أمر محرم في كل شرائع السماء والتمثيل بجثث المغدور بهم يتجاوز الحرمة إلى إلحاق ممارسيه بالحيوانات لما في ذلك من عدم إنسانية حتى في القتل ولما فيه من الخسة والنذالة والجبن الذي يجرد فاعله من الانتماء للجنس البشري0 وإنه لأمر محزن ومثير للاشمئزار أن يحدث هذا في بلادنا السودان الموسومة بالتسامح وإنه لمؤسف أن يحدث مع أي إنسان مهما كان الطرف المختلف معه مضرا ومؤذيا ومثيرا للخلاف0 ولا يجد المرء من عبارة في هذه اللحظات يمكن أن يلقي بها في وجه بشاعة الجريمة وأسلوب القتلة إلا التساؤل(ليش؟)0 مع إحساس بالمرارة والحسرة بأن بلادنا تدخل نفقا كالح السواد وقد ظلت عبر تاريخها ترفض هذا الأسلوب وتمقته وتلفظه من أقصاها إلى أقصاها0 على أن الانفعال بالجريمة يجب أن لا يصرفنا عن تتبع الدلالات ولا يستغرقنا عن إغفال حقيقة أن اغتيال محمد طه محمد أحمد لم يأت من فراغ وإنما للجريمة جذور ولها آباء0 ففي حين كانت الأمم تبتدع اختراعات التقدم وتبحث عن الرخاء لشعوبها ظلت بلادنا خلال عقد ونصف تبتكر شتي أساليب القتل وتنشر ثقافة القهر والاغتيال والاستئصال وإعتقال النساء والضعفاء ونشر ثقافة كراهية المختلف وتمكين منطق تحكمه آليات القوة والعنف والإقصاء والقمع وضرب الخصوم والهزوء بهم وقطع الإيدي التي تجيد نسج التآلف والتسامح وعزة السودان وكرامته0 ومن المؤسف أن هذه الثقافة انتقلت إلى كل مفاصل الحياة وإلى مؤسسات التعليم العالي وحتى المساجد وتتم رعايتها وتغذيتها ونقلها إلى جيل المستقبل بعناية ولذلك ما حدث حصاد لزراعة ولثقافة مرجعيتها البندقية والتصفية الجسدية والأنكى أن تقابلها أخرى تشارك السلطة وتظل مرجعيتها التمرد أو أمريكا أو مجلس الأمن0 ومما يؤسف له بشكل إضافي أن شركاء الإنقاذ الجدد الذين انضموا إلى ركبها قلما تحدثوا عن خطر هذه الثقافة أو انتقدوها ولو لفظيا بل أن ممارساتهم لا تقل عن الإنقاذ شمولية ثقافية وعدم وعي بمآلات ثقافة العنف0 ففي منتصف شهر أغسطس الماضي قامت الحركة الشعبية أو حلفاءها أو فصيل منشق عنها بارتكاب جريمة قتل بشعة عمد المهاجمون في ربكونا إلى إغتيال تجار(جلابة) أبرياء لا ذنب لهم سوى لونهم0 المصيبة أن الحركة الشعبية تنصلت من الحادثة وذرفت كمية من دموع التماسيح لذر الرماد في العيون وقد نصدق نفيها وأن من قاموا بالمجزرة عناصر(منفلتة)ولكن ما الذي قامت به الحركة للجم ثقافة العنف؟ المأساة أن الحركة لا يمكنها التنصل عن صلتها بفكر بعض قادتها إذ أن لمفكريها رأي (راسخ) في تشجيع العنف والإرهاب وتشجيع الشمولية وإن شئتم اقرأوا ما كتبه منصور خالد في الطليعة المصرية عند سقوط نيكروما قال: (علينا أن نعيد النظر في كل المبادئ الدستورية التي ورثناها عن الغرب مبدأ الحرية الفردية ومبدأ استقلال القضاء ومبدأ استقلال الخدمة المدنية ومبدأ الحريات النقابية) وقال أيضا( فالذي يقاسي منه زعماء أفريقيا التقدميون والذي دفع ثمنه اليوم نيكروما، هو هذا التسامح الذي يبدونه نحو خصومهم بالرغم من كل الاتهامات التي تترى عن الدكتاتورية والطغيان، فالإشتراكية ما كانت لتقوم في روسيا لولا إرهاب ستالين0 وفيديل كاسترو ما كان ليستطيع أن يقيم دعائم دولته مالم يرق ما أراق من دماء)0 هذه هي الثقافة التي تنشأ وتترعرع فيها أساليب القتل والحركة ليس لوحدها في ذات المنحى تكتب أقلام وتنطق ألسن بعضها من قادة المؤتمر الوطني تتحدث عن(جدوى)استباحة دم قادة في السودان لأنهم(معارضون)0فقد استبيح دم السيد الصادق المهدي أكثر من مرة على لسان حكام في الشمالية وفي هذه الأيام هناك تسريبات في الإنترنت عن الاغتيالات0 هذه الثقافة شبه(الرسمية) هي التي توفر الوقود والتربة الصالحة لاستنبات بكتيريا التطرف التي ستغزو الجسد السوداني وها هي الأعراض تنتشر وستهد مناعته وتدخل الفيروسات في جيناته على نهج ياجوج ومأجوج0 ومع ذلك لا تتحرج الحكومة بوعي أو بلاوعي في الاستمرار في إضعاف قوى التسامح وتيارات الديمقراطية والاستنارة0 إن الاغتيال مأساة إنسانية من حيث هي حدث حزين والقتل بالصورة التي تم بها يحول الحزن إلى كارثة وطنية لأنه يتم بسبب مشروع وهو اختلاف الرأي0 صحيح أن المغفور له محمد طه محمد أحمد الذي لا أعرفه، ولا يعرفني، كان رجلا مشاكسا وكان شديد الاعتداد برأيه وكان لا يتورع في خصومته أو نشر ما يراه إلا أن الأصح أنه كان ضحية ثقافته ومع كل الحيثيات فإن حل الخلاف معه ليس في قتله أو اغتياله0 ولهذا حدث اغتياله مستنكر ومستهجن ولا عجب فقد كان القتيل سودانيا بسيطا وعصاميا واغتياله في هذا الظرف العصيب الذي تشهد فيه بلادنا ظرفا سياسيا مجهول النهاية، لا يعني إلا ضرب ثقافة التسامح وضرب قلب السودان ودفعه نحو المجهول0 ولعل الرسالة من اغتياله هي أن لا حصانة لرموز البلد مهما كانت درجة التسامح والاعتدال التي يعكسونها0ففضيلة الاعتدال والتسامح لم تعد تعني شيئا للذين يحملون أحكامهم في أيديهم وينفذون مشيئتهم على طريقتهم وبأسلوب ليس أبشع منه أساليب الجزارين وجيمس تايلور0 وإذا كان إغتيال محمد طه يمثل مأساة لأسرته كما هي طبيعة الأشياء إلا إنه أيضا مثل لعموم السودانيين حتى المختلفين معه صدمة صاعقة0 لأنه الحدث الأول الذي يحدث لمخالف في الرأي والأول الذي يحدث في ظل الانفتاح والسلام الذي أمل كثيرون أن يوقف أساليب القتل وحمل السلاح خاصة وأن المغدور به في آخر مقال له حلم بمستقبل سوداني فيه ديمقراطية وتسامح وقبول للآخر ونصح الحكم بقبول المختلف0 المحزن أن الذين اغتالوه ما زالوا طلقاء والآسى يتضاعف أن كانوا من بين الذين ذهبوا مع الناس يشيعونه لمثواه وأنهم في(بيت الفراش)يرفعون أكفهم لتلقي العزاء أو من بين الذين يبكونه كلما ذكرت محاسنه0 إن اغتيال الصحفين وأصحاب الرأي، أو أي إنسان صاحب رأي يجب أن لا يمر مجانا فإن مر هكذا بلا محاسبة فلا يعني إلا أمرا واحدا، إعطاء جواز مرور لجر البلاد لمزيد من القتل ومزيد من الاغتيالات وسفك الدماء وإدخال أساليب شنيعة لم نعهدها على مر تاريخنا0 إن اغتيال المرحوم محمد طه يجب أن ينبه النيام ويوقظ الغافلين والمخترقين من قادة العمل الوطني وأحزاب الحكومة إلى أن هذا حادث يؤشر لتحول خطير ويجب أن لا يمر بلا إجراء(قضائي) وعدلي يحق الحق ويبطل باطل التطرف0 ولكي يحدث ذلك لابد من تصعيد نقابي وصحافي والمطالبة بتحقيق دولي إن استدعى الأمر وإلا فإننا نستسلم لمحنة ثقافية أدخلتنا فيها الجبهة الإسلامية وأفرزت أساليب جماعات الجرافة وأساليب حز الرؤس0 إن هذه الثقافة لا ينفع معها تسامح لأن التسامح يساعد على تمددها ويدعم استقوائها ولا أجازف إن قلت أن الغفلة السودانية المعروفة قد تكون مدخلا يأخذه القتلة في الاعتبار حين ينفذون جرائمهم المستقبلية0 إن التسامح مع هذا الحدث المؤسف يعني أن أي خلاف بسيط في الرأي سيأخذ الناس إلى حمامات دم وإغراقهم في مناظر رءوس مقطعة وأشلاء تتناثر في مساجد الخرطوم وفي شوارعه وفي أحياء الكلاكلات والعمارات وغيرها0 ولذلك الخطوة الأولى في استعادة(تار) التسامح السوداني هو في اعتبار (حملة) هذه الثقافة أعداء للوطن وللعقيدة والصحافة فإن لم نفعل ذلك فإن الخطر على السودان وأهله وسمعته واستقراره قادم لا محالة0 لأن هؤلاء سيستهدفون أهل الفكر والرأي ورموز السياسة0 ذلك لأن هدفهم الأبعد ليس الأفراد وإنما القيم السودانية السمحة وهدفهم الأبعد إفراغ البلد من أصولها الفكرية والثقافية وإدخالها في العصر الحجري لينتهي وطننا مشتت الصف محتضر ثقافيا، وليكون لقمة سائغة لمن يريد أن يبتلعه وما أكثر الطامعين فيه وما أكثر الذين يوفرون لهم الشروط ليستثمرها0 رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح الجنات0
|
|
|
|
|
|