سعدت جدا بوصولى للمجلد بعد اغتراب امتد خمسة عشر عاما.و قد انتهينا للتو من تناول وجبة إفطار شهية تحت ظل شجرة الديوان بمنزلنا بالمجلد و قد كنت جالساً على كرسي خشبي فاخر أرشف الشاي وأنا أنظر بعيداً في الأفق، أتأمل السحب تتشكل أمام ناظري أشكالاً مختلفة. ومرّ أمامي سرب من الطيور يقوده زعيمهم وقلت في نفسي إلى أين هم ذاهبون وهل هناك مكان أجمل من هذا. كان أخي حسين القوني يتحدث في الموبايل وسمعته يقول "ممكن نجي الليلة" وأنهى المكالمة والتفت إليّ قائلاً "يلا نمشي أبيي الجميلة". وخلال ساعة كنا في عربته الصالون وما هي إلا دقائق حتى دخلنا الطريق المسفلت بين المجلد وأبيي وكانت أمامنا لافته كتب عليها (النعام 100 كلم.. أبيي 160 كلم.. أبيمنم 200 كلم) وكنا نقصد أبيمنم وليس أبيي لأن هناك مشروع سياحي يريد حسين المشاركة فيه. أصحاب المشروع واحد من أبناء الدينكا وواحد من المسيرية مقيمين في كندا وعاوزين واحد مقيم في المنطقة "ليشاركهم في المشروع" وقد وصلوا مطار أبيي وهم في طريقهم للمشروع الآن وبعتقد حسين ان هذه فكرة ستفتح آفاق جديدة للاستثمار في المنطقة.
مرت أمامنا لافته كتب عليها (مشروع الميرم الزراعي..المستقبل بين يديك)، وحكى لي حسين أن المشروع توسع رأسياً وحقق أرباحاً طيبة في الموسمين الماضيين وهم يفكرون في التوسع أفقياً بضم مزيد من المشاريع الزراعية، وأنه دخل في حوار معهم لاعتماد بعض مشاريعنا الزراعية ضمن منظومتهم. يعتقد حسين أن المشكلة كانت في النقل والتسويق، وقد حلت المشكلة عندما قامت مؤسسة تنمية محلية أبيي بدعم النقل والتسويق من ميزانيتها التي تضاعفت بسبب ما دفعته الحكومة من نصيب الدينكا والمسيرية من دخل البترول بعد ارتفاع أسعاره إلى أكثر من مئة دولار للبرميل. الخدمة والدعم الذي قدمته مؤسسة تنمية محلية أبيي أحدث نقلة كبيرة في الإنتاج في المنطقة.
بعد فترة مررنا بقرية وعلى جانب الطريق باعة يبيعون الصناعات اليدوية والفواكه، ومن على بعد رأينا مصنع تجفيف وتعليب الفواكه الذي يملكه قريب دينج الور "وزير المالية في حكومة الجنوب" وزميل الدراسة في المجلد الابتدائية.
المصنع مشهور بالمنقة والأناناس الذي تكثر زراعته في بحر العرب خاصة وأن الخزانات التي أنشأتها المؤسسة في مجرى بحر العرب وروافدة يسرت الري الصناعي الدائم وبالتنقيط الذي أدخلته شركة من جنوب أفريقيا.
وصلنا مدينة النعام ووقفنا للتزود بالوقود وجلست أنا على تربيزة في المقهى وطلبت زجاجة مياه صحية وكانت من إنتاج مصنع أبيي للعصائر وقد علق الجرسون "خلاص ما في زول بشرب من البحر تاني" وأسعدني جداً الروح التي تحدث بها الجرسون. لفت انتباهي أن الجالسين قربي يتحدثون بأرقام مالية فلكية ومن ملابسهم ونوع الموبايل الذي يحملونه والدقون قفز ثراؤهم في وجهي وقلت في نفسي لا بد أنهم أصحاب المرسيدس الفارهة الواقفة أمام مقهى محطة البنزين.
وبينما نحن جلوس مرّ في شارع الزلط أمامنا قندران مكتوب على جانبه "صباحي الزراعية" وأبلغني حسين أنها مشاريع صديقي حسن صباحي التي تنتج العلف لأن المشروع البيطري الضخم الذي تدعمه مؤسسة تنمية محلية أبيي قد حسن من سلالات الأبقار وقلل من الترحال الدائم فاحتاج أصحاب مشاريع إنتاج اللحوم والألبان كميات ضخمة من العلف وأن مشاريع القوني الزراعية تبيع إنتاجها لهم. سمعت صوت ميكروفون ينادي الناس أن لا تفوتهم الفرصة ولما سألت عن ذلك أخبرني الجرسون أن هذه أيام مهرجان "التواصل الثقافي" الثالث والذي يرعاه هذا العام رئيس الجمهورية، وتقدم فيه ندوات ثقافية وعروض فلكلورية ومعارض للانتاج الزراعي والصناعي في المنطقة وعلمت أنه في العام الماضي كان تحت رعاية رئيس حكومة الجنوب وحضره أكثر من خمسين ألف زائر في المجلد وأن المهرجان أصبح معلماً سياحياً مشهوراً يحضره سياح الداخل والأجانب.
ثم غادرنا مدينة النعام نحو أبيي وفي الطريق كدنا نصطدم بغزال قطعت الطريق دون إنذار فطلبت من حسين أن يسوق على مهل حتى لا يصير طريق المجلد أبيي "طريق موت" مثل الخرطوم مدني. الطريق يمر بكباري فوق تعرجات الرقبا الزرقا وروافدها التي تتعرج مثل ثعبان ضخم في مناظر تخلب الألباب وقد طلبت من حسين عدة مرات التوقف لألتقط بعض الصور و حتى نستمتع بلحظات من السحر الذي يسر القلب ويشرح الصدر ويترك في الخيال ذكريات نحتاجها عندما نغادر هذا المكان، وتذكرت قول المتنبي:
يقول بشعب بوان حصاني أعن هذا يسار إلى الطعان
أبوكم آدم سن المعاصي وعلمكم مفارقة الجنان
ثم مررنا من على البعد على الأمير حامد النعيم وهو جالس على عنقريب وأمامه عدد من الرجال والنساء ولا أحسبها إلا محكمة قبلية يحاكم فيها شاب لم يستطع التحكم في نزواته. رفعت يدي بالتحية ولكن أحداً لم يعرني انتباهاً... وكان بقرب الطريق شاباً من الدينكا يقف أمام عربته اللاندكروزر عينه على أبقاره أمام ناظريه وهي تستمتع بالعشب الأخضر.
وعندما وصلنا أبيي هالني التحول الكبير الذي حدث منذ زيارتي الأخيرة لها. بهرتني المدينة بنظافتها والأشجار الخضراء المزروعة على جانبي الطريق والحديقة العامة التي أرى من بعيد مجموعة من الأسر داخلها وأطفالهم يجرون ويمرحون في المراجيح. قال لي حسين أن خلف سور الحديقة حوض سباحة أوليمبي الأبعاد لا يخلو صباح مساء من السباحين. ولاحظت ونحن نشق مدينة أبيي من غربها لشرقها أن الناس ساعية في مصالحها وليس هناك متعطلين في الشوارع ولا أطفال يسألون الناس عند نقط تقاطعات الطرق.
ونحن نواصل المسير نحو أبيمنم علقت على مزارع قصب السكر على امتداد الطريق من الجانبين، وعلمت إنه لإنتاج وقود السيارات (الوقود الحيوي-Biofuel) وليس لإنتاج السكر فقط، وأن ذلك فكرة أحد أبناء الدينكا المقيمين في أستراليا.
ولكسر رتابة الطريق أدرت الراديو في السيارة على إذاعة "أبيي FM" وكان النقاش حول أهمية التصنيع الأّولي على الأقل وعدم التركيز على تصدير المواد الخام من المنطقة.. وقلت لحسين "الغريبة كل النقاشات التي أسمعها اليومين دي عن الاقتصاد والتنمية.. ما في زول يتكلم عن حدود منطقة أبيي ولا تقاسم السلطة ولا السياسة.. الحاصل شنو؟" ضحك حسين "سياسة شنو يا زول السياسة بقت سلعة بايرة نحن خليناها لناس حزب الأمة والحركة" وفجأة ظهرت أمامنا بقرة أيقنت من طريقة مشيها أنها تعتقد أن شارع الزلط معمول ليها وحدها وصحت في حسين.. أعمل حسابك.. ثم تأكد لي أن الاصطدام واقع لا محالة فصحت مرة أخرى بصوت عال.. لا.. لا.. لا...
"قول بسم الله" قالت زوجتي "بتهضرب مالك يا راجل.. أصحى خلاص الصباح أصبح" ونظرت حولي فوجدت نفسي في غرفة النوم في منزلي بجوهانسبيرج. "أفتح ليك قناة الجزيرة".. لم أرد عليها.. ولكني سمعت المذيع يقول في موجز الأخبار "قتل اثنين من الجنود الأمريكان في بغداد اثر مرور عربتهم على قنبلة زرعت على جانب الطريق"..."واجتمعت الحكومة السودانية كاملة لأول مرة في الفاشر عاصمة ولاية دارفور وأعلن الرئيس البشير أن ذلك لأن حكومة السلام تدعم الولايات الثلاثة وأن أمريكا وبريطانيا يضخمان مشكلة دارفور لأغراضهم الخاصة"
حاولت الرجوع للنوم لأن اليوم هو يوم الأحد ولكني لم أستطيع. قلت في نفسي يا ترى هل يفكر أولي الأمر في الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني .. هل يفكرون فيما نحلم به.. أم أنهم في واد ونحن في واد.
د. عبد الكريم جبريل القوني - +277950022689
05-06-2008, 12:12 PM
Tabaldina
Tabaldina
تاريخ التسجيل: 02-12-2002
مجموع المشاركات: 11844
.. . ياخى دا حلم جميل .. والله انا بقراء فى الكلام دا يا عم كنت مصدق عديل رغم انى توقفت فى الاستثمار الكندى قلت عم حسين منتظر ينجض الموضوع لكن لمن قلت مرسيدس فارهة والشاب بتاع الدينكا البراقب البقر .. والمسبح الاولمبى .. الكلام ما وقع لى .. نسال الله ان تتحقق مثل هذه الاحلام ..
__________________
شكرا يا د. ياسر .. انت جبت المقال دا من ووين - اللينك - ؟؟ بالمناسبة د. عبدالكريم دا عمى ..
نرفع اكفانا بالدعاء للعم لاحمد جبريل القونى الذى وافته المنية الاسبوع قبل المنصرم فى حدادث حركة بالخرطوم تغمده الله بواسه رحمته واسكنه فسيح جناته
05-06-2008, 12:23 PM
عبد الرحمن الطقي
عبد الرحمن الطقي
تاريخ التسجيل: 11-27-2007
مجموع المشاركات: 3925
أحلام جميلة في قالب لغوي خلاب كالطبيعة التي يصورها شكراً للكاتب ، و لصاحب البوست ، و لكم العزاء يا تبلدينا و رحم الله أحمد القوني رحمة واسعة و أدخله جنات النعيم .
05-06-2008, 12:33 PM
Tabaldina
Tabaldina
تاريخ التسجيل: 02-12-2002
مجموع المشاركات: 11844
Quote: حاولت الرجوع للنوم لأن اليوم هو يوم الأحد ولكني لم أستطيع. قلت في نفسي يا ترى هل يفكر أولي الأمر في الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني .. هل يفكرون فيما نحلم به.. أم أنهم في واد ونحن في واد.
للاسف الشديد يا دكتور .. هم فى واد ونحن فى واد وابناء المسيرية فى واد وابناء الدينكا فى ود اخر .. وناس الحكومة مبسوطين ما دام فى .. خلاف هذا يعنى ان مصلحتهم مستقرة وما فى خوف ..
حتما هذا السبات العميق يا أنتم ؟؟ والى متى هذا التجاهل يا ابناء المنطقة ؟؟
فعلا حلم جميل ولكنه غير مستحيل بل أن المأمول تحقيقه أكثر من ذلك بكثير عندما تنزاح سحابة الطمع والشره الدنيوي التي تجثم فوق سماء السودان .. تعازينا الحارة أخ تبلدينا ونسأل الله ان يتقبل الفقيد قبولا حسنا ويكرم وفادته اليه شكرا يا دكتور ياسر على اشراكنا في القراءة الممتعة عمر
05-06-2008, 12:52 PM
Yasir Elsharif
Yasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 50074
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة