من الصعب جدّاً ان تقنع الصغير ان يكون كبيراً..لإنه مقيّد في مواصفاته بغريزة تدفعه نحو الإنتحار، المعنوي..
في هذا الوقت من فصل الربيع، لم تخضّر الأرض هذه السنة، ومازالت السماء مكفهرّة بسحابها الرمادي، وكأنها تنذرنا كل يوم ان ماوراء تلك الغيوم، عاصفة مخبأة، قد تنفجر في أية لحظة، وإن تجاوز المطر حدّه المعتاد في ارض اصبحت مبلله. ومع ذلك يبقى الأمل في فكِّ حصار الغيوم من سماء مونتريال أملاً للحياة وبهجتها خلال الشهور القادمة.
إنها طبيعة الطقس الكندي، المتغير من شرقه إلى غربه، حيث يختلف لكبر المساحة، المقدّرة الثانية في العالم بعد روسيا. لذا لا بد له ان يولّد طقوس إنسانية، ايضاً مختلفة لدى "نحن" أبناء الحلم الغائب، والأحلام المنتظرة على شاطئ غريب، أو مطار اغرب، في تركمات سنوات الغربة، السائبة مرات، أو في خلافات الأخوة الأعداء، الصغار منهم والكبار، على حافة الزمن.
في تلك الزوايا المظلمة، والمشرقة نادراً، لا بدّ أن تثار الزوابع في فنجان قهوة، أو اكبر بقليل، لتشّوه أو تغبّر على البعض مصداقيتهم او سلوكهم من قبل الذين لم يتعلموا وغير قادرين على اكتساب الحضارة بسلوك وليس بخطاب، لم يعد مقنعاً.
لكي يظهر البعض انه مهم، وأنه مناضل "بحجم الجامبو" أمام الأخرين، لإنه لا يستطيع ان يقيس الظاهرة بمعايير سليمة، إذ لو استطاع بتفكيره تجاوز الحالة المهيمنة عليه "البحث عن عظمة وموقع، وفلوس كمان"، فإنه لا بد سيتعلم القياس عبر المعايير والتجربة واللقاء، لكنه ولإنه لا يملك هذه الإستطاعة، فإنه سيستخدم معايير البقاء البدائية، عبر تجنيد واتفاق مصالح لأخر "أمّي أو عشائري"، وينشر عرضاً وطولاً كل همسة، او واقعة تخميناً. وما سياسة الهجوم الشخصي إلا إحدى الوسائل الناجعة "بإعتقاده"، وأفضل من الصمت الذي قد يكون اغلى من الذهب مرات.
اصيبت مونتريال بحمى طارئة، وما زالت. اصرُّ على هذه الظاهرة الغريبة، التي لم تٌجرّب في فترات الهدوء النسبي، أو الغياب الفعلي عن أي نشاط، لجالية، او ابنائها. ومازالت رحى "الحروب الصغيرة" تشتدُّ للدفاع عن مصالح اصغر، وعن أوهام اكثر من خلّبية. يحاول البعض إدخال من لا علاقة لهم، ونشر غسيل غير نظيف. مع أن هذا البعض ينأى عنها في متاهات الأوكار، والظلام. حيث لا فائدة ترتجى ولا إضافة إلى تجربة الوطن في الداخل والخارج. لكن السلوك الذي لم تسعفه، تجربة الإغتراب، ولم تقدم له، إلا صورة ضخمة عن ظروف عاشها، في فراغ ذاتي، مازال حاضراً، لن ينضج، ولن يملك في أي يوم قدرة على رؤية واضحة لمعنى الشفافية والإلتزام الحضاري بإهداف اسمى من أي تشخيص فردي، أو أي فريق، تصارع مع نفسه، أم مع الأخرين.
إنها الحياة الماضية "والتاريخ" الذي لا يتجدد في عقول من خشب، إنها الذكرى الأليمة التي صاغتها ظروف الجهل المدعّي العلم، بدون ان يدري. إنها حكايات اصغر من ان تثار لذكرى التجربة. لكنها وللإسف الشديد مزروعة حتى العظم في نخاع "إنتهازية" اللحظة، وقناصي المواقع، وكأن الهدف الأسمى، حريق الغابة ومن فيها، من اجل توّتر أو نقص، أو عقدة، او خسارة.
نعم سيخسر الذين لا يعرفون مدى إستطاعاتهم، ولا يملكون من واقع مصداقية الجهد، إلا خطاب الماضي، "وحرتقات" الطاولات المنفية. إنهم مع كل هذا معنونون، ابناء المنفى لوطن النفي، وابناء القهر، لقهر التجربة، وابناء جغرافية المسحوقين، لعدم وعيهم لإذاها الرابض على صدورهم.
في هذه السحابة الأرضية، نعود إلى الأشجار المقابلة، لمجلس صيفي، لم يحن أوانه، وإلى نظرات امل بشمس اطول لم يطل نورها كالمعتاد، على ان تعود الحقيقة إلى واقعها ويهدأ البعض من غلوّه المحموم "تذاكي" على رقمية النتائج. إنها حياتنا الجديدة، والقديمة، محملّة، بكل رواسب الأرض والتاريخ، وعقل بشري، كان مفروضاً ان يكون السباق، لإمتحانات المواجهة مع الحياة والمستقبل.
أبناء الوطن، يحملون النار الحارقة، يصبوها في غضبهم على ارض لم تعد خصبة، تصحرت في بعض العقول، وغير قادرين على القيام بنقد اعمق، لحياة كان من المفروض ان تكون مدرسة جديدة في كل ثناياها الكندية، إنسانياً وحضارياً، قيماً وسلوكاً وحصاداً. لكنها مازالت متعثرة على ابواب الفقر الفكري اولاً والمادي ثانياً، مما كثف الإرتباك في المواقف لطموحات اكبر، فعاد إلى رمادية اللحظة التائهة على ابواب الظلام.
عليكم الله لو ما عرستوا لي الشافعة دي !. مخطوبة والله يا النور. اشتهر في الحلة أن كراعه (خدرة)، ما أن يشاهد فتاة ما في احد الاعراس ترقص مثل عود من البان حتي يهجر النوم عدة ليال قبل ان يطلبها للزواج ليعرف اما انها : مخطوبة، او انها : تريد ان تقرأ، ويعني ذلك انها لا ترغب في الزواج منه وبعد ايام ينطلق صوت الزغاريد فيتساءل:
دة عرس منو؟
دة عرس فلانة.
فيقول وبراءة الاطفال في عينيه: ما قالوا دايرة تقرأ!
لا يعرف أحد كيف سيمول زواجه، لا يملك دخلا او عملا، يصرف مافي الجيب وما في الغيب (كما يقول خالد الكد) علي العرقي، مرة أعلن احدهم بفخر:
لقد اوقفت الشراب وكانت تبقت لي زجاجة عرقي من المخزون القديم دلقتها ارضا.
شعر النور بحزن فقد شخص عزيز، يا زول انت ماك نصيح؟ تكب النعمة؟
ما كان تديها لي اشربها وتلقي الأجر!
يتعامل مع والده كشقيق أصغر،
أبوي جيب سفة.
ويعطيه والده سفة.
خد يا ابوي لف لي سيجارة القمشة دي إنت خبرة في الشغل دة!
يضحك هو وهو يضع السيجارة المحترمة في زاوية فمه ويقول : اول مرّة اشوف والد يخرب ولدو!
ابوي اديني الف جنيه.
يعطيه والده خمسمائة.
البخل العليك شنو، داير تشيلها معاك لامن تموت.
ويقول والده: الباقي حتشيلو براك!
يضحك، يعرف ان والده يريد ان يقول له انت حرامي، كلما وجدت(فرقة) ستسطو علي اموالي السائلة والمنقولة، ذلك انه لن يتردد ان كانت هناك قعدة في ان يسطو علي زريبة الضأن، يعرف والده ان جزءا من ثروته الحيوانية تحول الي مواد تستخدم في البهجة، يستبدل العتود بزجاجة عرقي. الخروف بزجاجتين وطبق من الشية. ذات مرة كان والده يؤم الناس امام المسيد في صلاة المغرب، حين مر النور من امامهم ذاهبا الي البيت، انتبه والده انه نسي المحفظة في البيت فترك الصلاة وانطلق خلف النور، لحسن الحظ استطاع ان يصل الي المحفظة قبل ان يجدها النور، وضعها في جيبه وعاد ليواصل الصلاة.
سمع الله لمن حمده.
بعد الصلاة سأله الجماعة، كيف تطلع من الصلاة وترجع تاني تتمها!
فقال بغضب: انتوا ما شفتوا النور!
كنت وين يا ولد؟
كنت في السما!
وجايي ليه ما كان تقعد هناك!
ابوي داير لي تلات الف.
ماشي تسكر بهم
لا ماشي اشتري جلابية، هدومي بقت زي هدوم الشحاتين.
في المساء يعود بنفس جلبابه الممزق وهو يزحف ارضا من فرط السكر.
يقول والده حين يعبر من تحت أنفه في الفناء برائحة العرقي التي( تصم الاذان): مشيت سكرت بيهم.
تمضي ايامه ويتواصل اخضرار قدمه وجفاف جيوبه، تتعالي الزغاريد في قيظ القيلولة: ويقول هو : البت ما قالوا دايرة تقرأ!.
يضحك والده وينسي هو بسرعة، مجرد ان يحل المساء، ورغم انه لا يصلي يقول : بعد العشاء ما في اختشاء.
ذات يوم جاء سكرانا نهارا، قال والده: انت بقيت العشاء ذاتو ما قادر ترجاه! والله عشاك بقي ضهر!
وجدته ذات مساء يبكي في قعر جدار، ساعدته ليمشي، كنت أحمله تقريبا وهو يبكي تارة ويغني تارة اخري:
أنحن الحارة بندورها.. عارفانا ..
انت بتغني بتقول شنو؟
فقال : دة كلام كبير .. انت ما بتقدر عليه!
سحبت يدي التي تسند ظهره فسقط ارضا وواصل بكاءه، عرفت أنه ممكون وأن الصبر (غلبه) سألته عن اسم الفتاة التي سنسمع غدا زغاريد فرحها فقال:
سميرة!
سقطت انا ارضا هذه المرة من فرط المفاجأة، كنت انا ايضا أحبها سرا، أجلس في ساعات العصاري فوق كثبان الرمال لاحظي بابتسامتها العابرة للأزمنة، حين تمر في طريقها لرعي البهائم، أجد دائما عذرا ما لأعيد البهائم الي الحظيرة مبكرا وأسلم نفسي للصدفة التي تضعني في طريق ابتسامتها. التي تساوي أكثر من ألف ميعاد، كنت أدخرها لزمان اخر، شئ ما في براءة ابتسامتها وفي مغيب الشمس الساحر فوق كثبان الرمال وفي أشباح أشجار المسكيت المتناثرة في الافق الغارق في السراب، اوحي لي أننا يجب ان ننتظر دورة زمان اخري قبل ان نتطلع الي تغيير حياتنا، كنت أظن ان احدا لا يراها غيري، تقطن مع امها في بيت صغير بين كثبان الرمال شرق القرية ولا يراها احد الا نادرا ومن علي بعد لا يمكن معه تمييز أجمل ابتسامة في العالم، يحرسها صياح الديكة في صباحات الرمال. حين اسمع صوت صياح ديوكها اعرف انها ستعبر بوجهها الجميل فوق الكثبان في طريقها الي المرعي البعيد الذي تزدهر في أطرافه أجمة نبات الحلفاء. تركته ارضا وذهبت لاوقظ والدي كان صحن العشاء لا يزال بجانبه والمسبحة في يده حين أخلد للنوم، استيقظ مذعورا وقال: اختك اتلدغت يا ولد، كان يحب فاطمة أكثر من اي شئ اخر في العالم، قلت له: اريد ان اتزوج. نفض غبار النوم من وجهه بالمسبحة وقال: انت جنيت يا ولد ما تنتظر الصباح. قلت بثقة: اذا انتظرنا للصباح سنسمع صوت الزغاريد قبل ان نصل الي بيتهم.
قال والدي ما الذي حدث؟
قلت النور أعلن قبل قليل انه يريد ان يتزوجها !.
خرج والدي معي وحين انطلقت الزغاريد ليلا كان النور لا يزال سكرانا لا يستطيع حراكا في حفرته. في اليوم التالي قال لي: المرّة دي وفرت علينا نسمع حكاية البت دايرة تقرأ!. قال لي : كان والدي مضربا بالامس عن تسامحه، أخفي بهائمه ومحفظته، حتي الحمار لم أعثر عليه، تذكرت أن ناظر المدرسة يرسل أحد الخفراء ليحضر له العرقي في وقت محدد، كمنت له في الظلام وحين اقترب الرجل بحماره وهو يحمل الكنز خرجت له فجأة في ضوء النجوم وأنا عار كما ولدتني أمي فقط أضع فوق رأسي خرقة حمراء، فرمي الكنز وترك الحمار وولي هاربا وهو يصرخ: الجن الأحمر! قال لي : نتيجة سكرة أمس بقت من صالحك، عرسنا ليك، وأعلن سماحه بضحكة قائلا: يعني انت عرست بالحرام!. _________________ أحمد حمد الملك كاتب وأديب سوداني
الدوبيت .. ضرب شعري غنائي أشتهر به سكان المناطق الرعوية في السودان، وله أسماء أُخر في العالم العربي مثل الزجل والمواليا، أصله كلمة فارسية مكونة من شطرين أولهما (دو) ويعني اثنين، والمعنى واضح وهو الشعر ثنائي الأبيات، حيث يتكون الدوبيت من قصيدة غنائية طويلة مكونة من مقاطع صغيرة تتألف من بيتين من الشعر بذات القافية مع اشتراط انتهاء الشطر الأول لكل منهما بنفس القافية التي ينتهي بها البيت، وهذا ما يجعل المقطع الواحد من الدوبيت مكون من أربعة أجزاء صغيرة موحدة القافية مثاله ..
الناس العلي الساحر بشقّوا الصيّ
أمسوا الليلة فوق راياً نجيض ما نيّ
ناس أب ترمة جاموس النحاس أب ديّ
عقدوا الشورة ميعادهم جبال كربيّ
وهناك حالات يكون فيها المقطع ثلاثياً أو خماسياً وفي حالات نادرة يكون سداسياً، ويشتهر بهذا النوع سكان بوادي السودان الغربية في كردفان ودارفور، وفي بعض المناطق من أواسط السودان الغربية المتاخمة لكردفان، كما أن أغلب شعر (الحكّامات) بغرب السودان ينتمي لهذا الدوبيت الثلاثي، ومثاله من غرب السودان هذا المقطع الجميل الذي يُمدحُ به العرسان ليلة عرسهم وتغنيه لهم بنات الفريق ..
سقتا النَّم علي الجاغوس
الشجرة الظليلة الما نقرها السوس
في راسها النمر وفي ظلها الجاموس
ورغم أن الدوبيت متجذر في وجدان القصيدة السودانية الدارجة، ويشكل الضرب الأوفر حظاً من الانتشار والتداول لسهولة حفظه وجمال معانيه وارتباطه بحياة البداوة الفطرية التي يحن إليها كثير من الناس الذين شغلتهم حياة المدن والحواضر عن الاستمتاع بجمال تلك الحياة، إلا أن شكل قصيدة الدوبيت كما هي في السودان لا تنتمي حقيقة إلى الدوبيت بمعناه في العالم العربي، حيث الدوبيت هو أحد فنون الشعر المعربّة والخارجة عن أوزان الشعر العربي الخمسة عشر، وللدوبيت خمسة أنواع جميعها لا تطابق الدوبيت الذي نعرفه في السودان وأقربها إلى الدوبيت السوداني هو النوع المسمى : (الرباعي الخالص) وإن كان يختلف عنه اختلافاً طفيفاً، ويتفق معه في كثير من النواحي الأخرى، حيث يتفق معه في وحدة القافية في المقاطع الأربعة، ويختلف معه في وجوب أن يكون هناك جِناسٌ بين قافيتي المقطعين الأولين، وجناسٌ بين القافيتين الأخيرتين، وبذا يختلف عن الدوبيت السوداني الذي لا يشترط سوى وحدة القافية في جميع المقاطع. أما بقية أنواع الدوبيت الأربعة فهي بعيدة كلياً عن فكرة الدوبيت المتعارف عليه في السودان وفي منطقة البُطانة على وجه الخصوص.
ينتمي الدوبيت السوداني إلى بحر من بحور الشعر (المستحدثة)، وهو البحر المسمى بحر (المواليا)، الذي هو فنٌ (مستحدث) قيل أنه أستخدم أول مرة لرثاء الوزراء البرامكة حين نكبتهم على يد الخليفة العباسي، وهذا النوع من الشعر مطابق تماماً لما نسميه نحن في السودان (الدوبيت)، حيث لا يشترط هذا الضرب من الشعر سوى اتفاق القافية الأخيرة من كل جزء من الأجزاء الأربعة أو الثلاثة من مقطع الدوبيت، وربما أتى الخلط بين المواليا والدوبيت – في اعتقادي - لعلاقة المواليا بالفرس البرامكة.
ويعتقد الكتّاب والمؤرخون أن المواليا ضرب من الشعر المستحدث والذي لم يجري على ألسنة العرب في الجاهلية، حيث أن المقياس هو بحور الخليل بن احمد، ولكن ربما أغفل الخليل بن أحمد هذا الضرب من الشعر ولم يرد مطلقاً في بحور شعره الخمسة عشر، أقول أغفله لأن هذا النوع من الشعر ينتمي إلى الشعر الجاهلي وأخص الثلاثي منه بالذكر، وربما أغفله الخليل غير عامد لأن استخدامه لم يكن كثيراً، لذا ومن باب إحقاق الحق ينبغي أن يعترف بالمواليا كأحد بحور الشعر الرسمية المعتمدة. ودليلي على كون المواليا أكثر أصالة من جميع بحور الشعر الأخرى، أن أقدم قصيدة شعر عربي على الإطلاق هي قصيدة العنبر بن تميم والتي كتبت قبل الهجرة النبوية بحوالي مائة وخمسين سنة، وكان قد نظمها لحداء الإبل وهو عائد من منطقة تسمى بهراء في الجزيرة العربية، قال فيها ..
قد رابني من دلوي اضطرابها
والنأي في بهراء واغترابها
إن لم تجيء ملأى يجيء قرابها
ونلاحظ مدى الشبه الشديد بين بناءِ هذه المقطع وبين مقطع قصيدة المواليا وزناً وقافية و(استخداماً)، ورغم أن هذا المقطع لم يعرف إن كان له بقية من قصيدة أم لا، إلا أنه حتى وإن لم يكن مقطعاً معزولاً من ثلاثة مقاطع فقط، فهو على الأقل يحاكي تماماً من ناحية الوزن أوزان المواليا الثلاثية الموجودة في غرب السودان.
ورغم أن المقطع السابق من قصيدة العنبر بن تميم قريب الشبه من البحر السابع من بحور الشعر وهو (بحر الرجز) إلا أن وجود القافية في نهاية كل مقطع ينفي انتماءه لهذا البحر، حيث أن بحر الرجز لا وجود للقافية في نهاية كل شطر من قصائده.
وقد استخدمت المواليا أو كما تسمى في السودان الدوبيت في مختلف المناسبات والأغراض، مدحاً ورثاءً وغزلاً وتشبيباً وفخراً وحماسة، يقول الشاعر العظيم (ود ضحوية) في نقده لظاهرة اجتماعية بدأت في الظهور في وقته، وهي عادة التبطل واللا عمل، وينتقد فيها الولد الشاب الذي لا يسافر (لقطع الطريق) إلى أن ينقضي الشهر ويهل هلال الشهر الجديد ولا يرد البحر يعطن ويبل (شنانه) في مائه، ولكنه رغم خموله وكسله حينما تمر الفتيات أمامه فإنه يراهن كالصقر ويمشي أمامهن مشية الغرور والفخر (القدلة)، ويختمها بوصف هذا الشاب بالخيبة والمذلة ..
ولداً ما سَفَر لمن شهيرُو يهلّ
ما وَرَدَ البَحَر .. عطَّن شنانُو يَبلّ
وكت الشوف .. يشوف متل الصقير يقدل
وا خيبةً علي ولداً يعيش بالذل
وللدوبيت في السودان حظ وافر من القصائد الغزلية الرائعة، وأشهرها تلك القصائد التي كتبها العاشق المتيم قيس البُطانة (المحلق الحمراني) في ابنة عمه وزوجته (تاجوج) الجميلة، يصف عينيها بأنها فص ألماس يزين الذهب المُجمَّر ويشبه شفتيها بالتمر وشعرها بالبستان وخصرها بالضمور وملمس جلدها بملمس القماش الكيدي المخطط، وذلك حينما أصابته اللوثة العقلية نتيجة طلاقه منها ..
فص الماز مركَّب فوق مجمَّر
فص عينيكِ يا أم خشماً متمَّر
فوق بستان .. تِحِت سالك مَضمَّر
جليدك .. طاقة الكيدي المنمَّر
ويقول أحدهم وأظنه أيضاً (ود ضحوية) مادحاً الكرم والبذل، ورغم ان ود ضحوية كان قاطع طريق إلا أن قطاع الطريق في ذلك الوقت كانوا أشبه بروبن هود (لصوصٌ نبلاء)، فهم يقطعون طريق الإبل فقط لاغير، أما النعاج والبقر فإنهم يعفّون عن نهبها، كذلك لا ينهبون أملاك النساء ولا الأطفال، يقول الشاعر أن هذه الإبل إن (حرَّن) أي كن لدى غيره فهن بُكار (والبكرة هي الناقة) ولسن صفائح زيت، أي أن ما سيبذله من تعب هو من أجل شيء له قيمة مادية ومعنوية في ذات الوقت، وإن (بردَن) أي حينما ينتهي حرّ المعركة وتصير هذه الإبل ملكه وتتحول لنقود فإنه ليس بخيلاً بها للغير ..
ان حرَّن بُكار .. ما هن صفائح زيت
وإن بردن نقود .. ماني البخيل صريت
وللأبيات بقية لا أذكرها.
نجد في شعر (الهمباته) الذي هو نوع من الدوبيت الخاص بقطاع الطريق في العهود الغابرة، جميع معاني الشعر، وأكثر ما كتبوه كان عن رحلاتهم الشاقة لنهب الإبل من بقاع السودان المختلفة، وفي ظني أن هؤلاء الهمباتة كانوا من العوامل التي ساعدت (جزئياً) في توحيد السودان بعض الشيء في زمان كان السودان فيه قارة لا وطن، وقد وحدتهم (ظروف عملهم) قبل أن تتوحد البلاد، فنجدهم إخوة تجمعهم الصداقة و(الخوة) رغم تباين مناطقهم الجغرافية، وفي ذلك يقول قائلهم ..
الخبر البيجي الصدِّيق مقفَّل جُوَّة
حالف ما بقيف دونو ان بقيت في هوَّة
عِنْ طرش الدرق ما بنسى شرط الخوَّة
كبّاس للدهم .. عند البقول : يا مروَّة
وأشعارهم للمتمعن فيها دروس في تاريخ وجغرافيا هذا الوطن، يقول شاعرهم يصف حياته بالتقلب وأنه لا يدوم على حال، فيوماً هو في منتهى السعادة، وفي اليوم الآخر يتحمل المشاق لسوق الإبل من جنرة إلى كاجة وهي مدن في غرب السودان، ثم يعود ليصف محبوبته بأنها ظبية منطقة الباجة في شمال السودان، سياحة في ربوع الوطن لا تتجاوز الثلاثة أسطر ..
يوماً في بَسِطْ .. عند المزنَّد عاجا
ويوم غربتَبِن من جنرة شايل كاجة
بيش نرضيها غير البِلّ جدية الباجة ؟
كما نجد أن للدوبيت استخداماً آخر وهو الرثاء، حيث أن للدوبيت مقدرة عجيبة على إيصال المعاني الإنسانية بسهولة، وأن يجعل المتلقي يعيش حالة الشاعر ذاته، وتحضرني قصيدة للشاعر السوداني ود البنا (الفرجوني) أطال الله عمره في رثاء صديقه المرحوم شيخ قبيلة الشكرية (حسان أبوعاقلة أبوسن)، ورغم طول القصيدة وجمالها إلا أن هذا البيت كان بليغاً جداً، حيث يتساءل الشاعر فيه عن فارس الصف وطاهر الكف (صديقه حسَّان) ما خبره الليلة، لماذا لم يلاقيه بابتسامته التي عهدها عليه، ويدعو البروق أن تبكي عليه وأن تنهمر سيلاً لأن الذي يعدل (الحال المائل) قد رقد في قبره ..
فارس الصف، وطاهر الكف، خبارو الليلة ؟
ما لاقانا بيتبسم لَزومَ الشيلة
أبكَنْ يالبروق .. كُبَّنْ دموعكن سيلة
رقَدَ البِسند الهاكعة وبعدل الميلة
ومن أجمل المرثيات أيضاً ما قاله الشاعر الراحل صلاح أحمد إبراهيم يرثي صديقه الشفيع أحمد الشيخ بعد إعدامه من قبل النظام المايوي عقب الانقلاب العسكري الذي مُني بالفشل وراح ضحيته الشفيع ورفاقه في الحزب الشيوعي، حيث وصفه بجبل الذهب واضع الساس الذي لم يهتز ولم يتزحزح حين التف حبل المشنقة ودُرِعَ حول عنقه ..
فارس الساحة جيَّاب الحقوق للناس
سنَّاد الضعيف وكت الضيف ينداس
يا جبل الدهب .. إنتَ الوضعتَ الساس
وما اتزحزحتا يوم درعوا الحبل في الراس
وللجبل مكانة مميزة في الوجدان السوداني، فالشخص القوي والثابت الذي لا يهتز يوصف بأنه جبل، وقد انعكس هذا الوصف على كثير من قصائد المدح في الدارجية السودانية عموماً والدوبيت خصوصاً، وقد وصف الزبير ود رحمة بذات الوصف (جبل الدهب)، ولا يعني هذا بأي حال أن هناك انتهاكاً أدبياً لحقوق قائلة الأبيات التالية (بت مسيمس)، التي سبقت صلاحاً بأزمان طويلة، حيث تضمن صيرورة الإبداع بقاء النسل الإبداعي حياً على مر العصور، تقول الحكَّامة بت مسيمس واصفةً الزبير باشا ود رحمة بعدما نفاه الانجليز إلى جبل طارق ..
في السودان قبيل .. ما بشبهوك بالناس
يا جبل الدهب ... الصافي ماكَ نحاس
بارود انتصارك .. في غمرة الكبَّاس
خليت المجوس ألين من القرطاس
وفي ذات السياق، وصف الفرسان الذين لا تهزهم الخطوب بالجبال، ذلك الوصف البديع والمدح الذي أسبغه أحد شعراء الشكرية (ود حَسوب) حينما سأله أحدهم عن أبو علي (وهو جدٌ بعيدٌ لحسان الذي رثاه الفرجوني أعلاه) فقال له رأيته تواً (هسع شُفتو) على ظهر حصانه (يتلتت) وبقع الدم على لحيته، ووصفه بأنه جبل الموسم الذي تقصده القبائل ولولاه لما كان النصر حليفهم على أعدائهم ..
هسع شفتو .. فوق ظهر الحصان بتلتت
ولصفي الدم .. علي دقنو المليحة اتشتت
جبل الموسم الفوقو القبايل ختت
أكان ما حضر .. قوم ناس خميس ما انسكت
هذه الروعة والوصف البليغ؛ لم يطلب أحدٌ من الشاعر أن يمدح أبو علي، كل ما طلب منه أن يجيب بالنفي أو الإيجاب على سؤال جوابه كلمه : نعم رأيته ولا لم أره، ولكنها الشاعرية المتدفقة التي تبحث عن مسارب للنفاذ إلى الوجود. وبين ود حَسوب والفرجوني مسافات زمنية ليست بالقليلة، ولكنهم اجمعوا على فروسية أبو علي، فنجد الفرجوني بعد مئات السنين يمدح أبو علي، الممدوح قبله، ويصفه بمن صد الهمج، وذلك في نفس مرثيته التي اقتبسنا منها ما سبق، يقول وهو يرثي حسَّان ..
يبكنك سيوف أجدادك القُطّاع
ويبكيك أب علي الصدَّا الهمج ما طاع
جِنسك مُو مُلَملَم .. بُرقة مُو لُطَّاع
نور في نور كواكبك .. كُلهن سطَّاع
وللنساء باعٌ طويل في شعر الرثاء وأغلبه لأبناء وآباء وأزواج ماتوا أو قتلوا في ساحات الشرف؛ قالت بنونة، ترثي أخاها الذي أصابه الجدري فأقعده عن القتال وأماته ميتةً لا تليق بالأبطال، لا أتمنى لك الميتة التي يذر فيها الرماد عليك (فميت الجدري لا يغسل ولكنه يذرى بالرماد عن بعدٍ خوف العدوى) أريدك يوم لقاء العدو أن يكون دمك وشاحاً تتوشحه، وأن يكون الموتى تحت يديك مسلوبين خاضعين لك وغبار المعركة (العجاج) يكتح وجوههم، ثم تأتي لذكرى سيفه فتحن إلى سيف أخيها الذي كان يجز به الرقاب ..
ما دايرا لك المِيتة أم رماداً شحّ
دايراك يوم لُقاء .. بدميك تتوشّح
الميت مسولب .. والعجاج يَكتحّ
أحيَّا علي .. سيفو البسوّي التحّ
ثم تواصل وصفها له في قصيدة طويلة غاية في الروعة، يغنيها الفنان الكبير عبد الكريم الكابلي بصوته العذبِ المنساب الذي لا يشيخ يصاحبه لحنٌ عدنيّ جميل، في شريطٍ ضمَّ باقةً من زهور الأغنيات هذه أحداها.
والدوبيت يستخدم أحياناً لوصف رحلة ما أو منطقة من المناطق أو ظاهرة طبيعية، ومن أكثر الشعراء الذين وصفوا الطبيعة في شعرهم شاعر البُطانة الشهير (الحاردلو)، وهو من الشعراء الذين وصفوا فأجادوا الوصف، والكلام عن الحاردلو ذو شجون ولا ينتهي أبداً، ولكن نكتفي بهذه الصورة التي نقلها لنا عن رحلة عودته من أحدى مناطق السودان إلى أهله في منطقة البُطانة، حيث يقول أن هناك خبراً أكيداً وصله وهو أن البُطانة قد رشها مطر الخريف، وأن السحاب ينزف فوقها حتى مطلع الفجر لا يتوقف، وأن حشرة (أم صريصر) قد هاجت فُحولها استعداداً لموسم التكاثر وبدأت في غنائها الشبيه بالنواح، ويصف ناقته (بت ام سايق) بأنها أسرعت حين أحست بهذا الفرح الجميل في أرض البُطانة، فلم تتناول عشاءها إلا بالقرب من فريقهم في البُطانة ..
الخبر الأكيد .. قالوا البُطانة اترشَّت
ساريةً تبقبق للصباح ما انفشَّت
هاج فحل أم صريصر والمنايح بشَّت
وبت أم سايق علي طرف الفريق اتعشت
والدوبيت لا يقتصر على أبناء البادية، فهذه بنونة سليلة الملوك، ولا تنتمي للبادية بأي صورة من الصور، وإن كانت قبيلة الجعليين التي تنتمي إليها بنونة تراوح بين البداوة والحضارة وذلك لموقعها الجغرافي ما بين بادية البُطانة بمراعيها الخصبة النادرة في الجنوب، وبين حوض النيل العظيم في الشمال، الذي تقطن أغلب القبيلة على ضفتيه. ولكن الدوبيت في السودان لا يرتبط مطلقاً ببادية أو بحاضرة، بل هو فن نابع من القلوب. وللشايقية في أقصى شمال السودان حيث تنعدم المراعي تماماً وتختفي معها حياة البداوة، إلا في أضيق الحدود، ولا تشابه بحال من الأحوال حياة الرعي والبداوة المؤسسة في سهل البُطانة ومراعي الغرب الرحيبة، ورغم ذلك كان للدوبيت نصيب، وإن كان قليلاً، منه ما غنته مهيرة بنت عبود لفرسان الشايقية تستحثهم على النهوض ومقاومة الأتراك قبل غزوهم لديار الشايقية، ورغم ان القافية في أبيات مهيرة غير موحدة، إلا أن ما قالته هو دوبيت بشكلٍ أو بآخر ..
غنيت بالعديلة .. لي عيال شايق
البَرَشو الضعيفة ويلحقوا الضايق
الليلة استعدوا .. وركبوا خيل الكرّ
وقدامهم عقيدهم بالأغر دفَّر
جنياتنا الأسود .. الليلة تتنتر
ويالباشا الغشيم .. قول لي جدادك : كرّ
ولم أكن أريد الاستشهاد ببيت شعر للرائع حميّد لأنه ليس ملكاً للشايقية وحدهم، ولكن بيت شعره التالي يُرغمُ المستشهدَ على الإتيان به، يصف حميّد أصحاب المظاهر الكاذبة الفارغين المفرغين، الذين يتباهون بحديثهم المنمق وملابسهم الجميلة، في حين أن رؤوسهم خاوية، فقال ووصف فأجاد الوصف، وبهذا الوصف البليغ أختتم ويكون الحديث قد انتهى ..
الناس في العروض .. لا تقيسها بي تبيانا
لا يغرك لباسهم والعروض عريانة
ديل حراس رِزِق .. مِتلَ التكنِّي أمانة
زي إبل الرحيل .. شايلة السُقى وعطشانة
______________
متعكـ الله بالصحة والعافية وحرمكـ المصون .. دمت القاً عطراً صفحات هذا المنبر.
05-22-2006, 09:11 AM
Tabaldina
Tabaldina
تاريخ التسجيل: 02-12-2002
مجموع المشاركات: 11844
لم تعد الشهامة شهامة، ولا الصداقة صداقة، ولا المروءة مروءة، ولا النخوة نخوة، ولا الأخوّة أخوّة، ولا الجيرة جيرة، ولا القرابة قرابة، ولا الأمانة أمانة في بلادنا التعيسة. لقد تآكلت القيم وخربت الأخلاق وبارت النفوس وتصدعت الأسس الإنسانية، فشاع النصب والاحتيال وتفشى الكذب والخداع والتدليس والإجرام والخيانة الاجتماعية، وأمسى الغريب طبيعياً والطبيعي غريباً. وغدا الشهم حماراً، والصادق مغفلاً، والغيور مخبولاً،والطيب ساذجاً، وكأن المطلوب منا أن نتحول مائة وثمانين درجة عن طريق الإنسانية الحقة، وأن نقرأ الأشياء بالمقلوب كي نساير العصر، وإلا اعتبرونا شاذين وغير معاصرين.
وكي لا يعتقد البعض أنني أحاول توضيح الواضح، لا بد من الاعتراف بأن انحطاط القيم وفساد المجتمعات ليس حدثاً جديداً بل شهدته كل حقب التاريخ بدليل أن الأدباء الانجليز مثلاً كـ دانيال ديفو وبرنارد شو ودي أتش لورانس وتشارلز ديكنز وغيرهم تناولوا الخراب الاجتماعي والإنساني منذ أكثر من قرن، ناهيك عن أن نبراسنا العظيم عبد الرحمن الكواكبي شرّح المجتمع العربي والإسلامي خير تشريح قبل أكثر من مائة عام في مؤلفه الخالد "طبائع الاستبداد". وبالتالي ليس من الجدة بشيء أن يتحدث أحدنا هذه الأيام عن فساد البلاد والعباد. لكنني أجد نفسي مجبراً على طرح الموضوع وتكراره بعد أن وصلت براثن السرطان إلى قلب مجتمعاتنا التي كنا نحتفظ لها يوماً ما بصورة رومانسية ناصعة في مخيلتنا. وكما هو معروف فإن الخطب يصبح أكثر وقعاً وتأثيراً على النفس إذا كان قريباً منا، حسب النظرية الإعلامية، فسماع خبر عن زلزال في إندونيسيا لن يؤثر فينا كما يؤثر خبر سقوط ابن جارنا من على سطح المنزل وكسر يديه ورجليه، فما بالك إذا كان الخطب أشد وأنكى، كفساد مجتمعاتنا التي ترعرعنا بين أحضانها.
كم أشعر بغصة قاتلة وأنا أرى كيف انقلبت المفاهيم وتحجرت القلوب وفسدت الطبائع وأمست المصالح سيدة المواقف في بلادنا التي كانت طيبة، ووسط أبناء جلدتنا الذين كانوا يوماً خيّرين. كم بتنا نحِنُّ لتلك الأيام الخوالي عندما كان الناس أناساً والوحوش وحوشاً. أما الآن فقد تعولم الناس والوحوش في قالب واحد قيمياً. وغدا من الصعب جداً التمييز بين بني آدم وبني آوى من حيث الأخلاق والسلوك.
لقد قادني حظي العاثر قبل أيام إلى مكتب محاماة في إحدى المدن العربية «والحمد لله لتناول فنجان قهوة لا أكثر ولا أقل» وليتني لم ألبّ الدعوة، فقد اطلعت خلال تلك النصف الساعة التعيسة على عجائب وغرائب كنت أعتقد أنها موجودة فقط في الروايات وأفلام الإجرام فقط، فإذ بها حدث يومي مكرور في منطقة عربية كنت أعتقد أن أهلها أقرب إلى الرهبان في بساطتهم وطيبتهم ومعشرهم وقيمهم وتصرفاتهم."نعم يا أخ ما هي مشكلتك"، سأل المحامي أحد الداخلين إلى مكتبه، فأجاب الأخ: "مشكلتي بسيطة يا سيادة النائب: لقد استيقظت صباح اليوم لأجد أن زوجتي خطفت الأولاد وسافرت إلى إحدى بلدان أمريكا الجنوبية بعد أن رشت الشرطي على الحدود بمبلغ ما". لقد كان الحدث بالنسبة لي كالصاعقة، خاصة وأنني ما زلت أحتفظ لتلك البقاع الطيبة بذكرى رهبانية جميلة وبريئة. أما سيادة المحامي فقد بدا عادياً في رد فعله لا مستغرباً، لكن ليس لأنه متحجر القلب ولا يأبه بالمشاعر الإنسانية، بل لأنه، كما أردف لي قائلاً: "إنه حدث بسيط مقارنة بالجرائم الأخرى التي تمر على رأسي يومياً. لقد كنت قبل أسبوع مشرفاً على إعدام شاب قتل شخصاً شر قتلة لينهب منه ما يعادل خمسمائة دولار". فقلت له: "ربما يحدث ذلك في شوارع واشنطن الخلفية أو في شيكاغو، لكنه مستحيل أن يحدث في قرانا الوادعة"، فقال: "لا ياسيدي. لقد أصبح لدينا مجرمون ومنحرفون في مدننا وضيعاتنا الجميلة والمسالمة بخطورة أولئك الذين تشاهدهم على شاشات التلفاز في الأفلام الأمريكية."
لقد روى لي السيد المحامي كيف احتاج شاب مقبل على الزواج إلى مبلغ بسيط لشراء الذهب لخطيبته قبيل الزفاف، فدعا أحد التجار إلى بيته على أمل أن تكون جيوبه ممتلئة بالمال، وبعد أن وصلا إلى المنزل جلس التاجر في غرفة الاستقبال، لكنه غط في نوم عميق بسبب التعب، وهنا كانت فرصة الشاب بأن ينقض عليه بفأس، فأغمي عليه، فجره إلى غرفة أخرى، وعندما وجده ما زال يحرك رأسه أتى بسلك الهاتف وخنقه به ليجهز عليه تماماً، ثم فتش جيبه ليجد فيها ما يعادل خمسمائة دولار فقط لا غير، فأخذها وتوجه إلى بيت خطيبته، وطلب منها أن تذهب معه لشراء «الصيغة»، وكأن شيئاً لم يحدث- هكذا بكل دم بارد.
وما كاد المحامي يفرغ من رواية الشاب القاتل حتى دخلت علينا عجوز تشتكي جارها الطيب و"الآدمي جداً" الذي كانت تعتبره أفضل وأنبل وأكثر رجال القرية شهامة واستقامة، لكنه فاجأها بأن نصب عليها وسرق منها نصف مجوهراتها القديمة التي كانت تحتفظ بها ليوم الضيق. لقد غدت الأمانة والاستقامة عملة نادرة في الكثير من مجتمعاتنا، فالقريب يمكن أن يغش قريبه وينصب ويحتال عليه بطريقة خسيسة للغاية دون أن يشعر بأي وخز للضمير، حتى بات الأخ لا يأمن جانب أخيه أحياناً.
لماذا وصل أبناء جلدتنا الطيبون إلى هذا الدرك من السفالة والانحطاط القيمي والأخلاقي؟ أليس لأن السلطة في بلادنا العربية أفسدت كل شيء ورفعت شعار "يجب إفساد من لم يفسد بعد"، لأن حكم شعب فاسد أهون عليها بكثير من حكم شعب صالح؟ أليس الثلم الأعوج من الثور الكبير فعلاً؟ أليس من الخطأ تحميل العولمة الإعلامية والثقافية وزر انحراف مجتمعاتنا وتجريدها من قيمها الاجتماعية والأخلاقية والدينية والثقافية النبيلة بدعوى أن الانفتاح الإعلامي الخطير مكن الشعوب العربية التعرف على ثقافات العنف والإجرام والانحراف الأخلاقي في العوالم الأخرى؟
قد يجادل البعض بأن ما يحدث في بلادنا من انحرافات يبقى نقطة في بحر مما يحدث في الغرب المتوحش، وخاصة في أمريكا، حيث لا تمر دقيقة دون أن تقع جريمة مروعة، أو في أمريكا اللاتينية، حيث يقتلون الإنسان من أجل سيجارة. وهذا صحيح، لكن الفرق بيننا وبينهم أن ما يسميه كارل ماركس بـ"واقعنا الاجتماعي" الذي هو نتاج لواقعنا الاقتصادي يختلف تماماً عن واقعهم، فالجرائم التي تقع في أمريكا هي نتيجة طبيعية لطبيعة النظام الرأسمالي المتوحش. أما نظامنا فهو زراعي أو ما قبل صناعي مسالم حسب التحليل الماركسي. ناهيك عن أن المجتمعات الغربية على رغم العنف المتفشي في بعضها تظل أكثر التزاماً بالأخلاق الإنسانية من مجتمعاتنا، فالناس هناك صادقون في تعاملاتهم وأمينون ومستقيمون وحتى خيرون، وهو أمر تنبه له المصلح الكبير محمد عبده منذ زمن بعيد عندما قال ذات مرة: "لقد شاهدت في الغرب مسلمين من دون إسلام بينما لدينا في ديارنا إسلام من دون مسلمين."
أما أن تفرز بلداننا جرائم كتلك الموجودة في أمريكا ذات النظام الاقتصادي والاجتماعي المختلف كلياً فهذا يشير إلى خلل خطير لدينا وأن السيل قد بلغ الزبى. ناهيك عن أن لدينا تراثاً ثقافياً ودينياً رادعاً للجريمة بشكلها الأمريكي، بالإضافة طبعاً إلى النظام الأمني العربي الصارم الذي أخصى كل شيء آخر في بلادنا، كي يكون هو الكل بالكل. لكن هذه التركيبة الثقافية والمجتمعية والدينية والأمنية لم تحل دون تفشي الفساد والجريمة والخراب الاجتماعي على نحو خطير في ديارنا. لماذا؟ لأن الاستبداد أقوى منها جميعاً وهو المسؤول الأول والأخير عن التدهور الاجتماعي والأخلاقي في مجتمعاتنا على مبدأ "حاميها حراميها".
وكان الكواكبي قد حذر الآباء والأمهات في كتابه الشهير من تربية أبنائهم على الفضيلة والأخلاق الحميدة لأن الاستبداد قادر على قلب الأمور رأساً على عقب، بجعل الصادق كاذباً ومتزلفاً والشهم نذلاً وسافلاً والكريم لئيماً وخسيساً، وبذلك تضيع جهود الآباء سدى. وبالتالي علينا ألا نتوقع من مجتمعاتنا أن تكون فاضلة وخيرة إذا كان من يحكمها يدفعها بانتظام واستمرار إلى هاوية السقوط الاجتماعي والأخلاقي والقيمي، ولا يغمض له جفن إلا إذا فسدت البلاد والعباد.
.. . أغدا ألقاك ...للشاعر السوداني الهادي آدم كتب عنه سالم من سوريا
الشاعر السوداني الهادي آدم اسم يؤكد ظلم الأضواء للكثيرين من المبدعين الخلاّقين العرب ،الذي لم تعرفه الساحة العربية إلاّ من خلال قصيدته أغدا ألقاك التي تغنت بها سيدة الغناء العربي ام كلثوم في السبعينيات من القرن العشرين،
وعلى الرغم من أن الشاعر الهادي آدم عد من أهم شعراء السودان ، وتجربته الشعرية تعتبر محطة هامة في مسيرة الشعر السوداني ، إلاّ أنه يكاد يكون مجهولا للمتلقي العربي خارج السودان ، ويبدو أن هذا قدر لا فكاك منه للمبدعين العرب في الجنوب العربي كما هو اشكالية كبيرة بين المشرق والمغرب العربي ، إلا لقلة خدمتها بعض الظروف ويبقى الحلم في التعامل العربي مع الانترنت لتجاوز محنة الجهل بالآخر التي امتد زمنها أكثر مما ينبغي وتركت فراغات ووحشة في الساحة العربية نتلمسها بوضوح
وان كانت مجموعة أشرعة تشارك هذا الحلم العربي لبعض المحاولات الجادة فقامت بالتواصل واستضافة أعضاء مبدعين من شتى المنابت والأصول وإلغاء روح القطرية والشللية والتخندق فقط وراء الابداع ..
عودة لشاعرنا الكبير الذي ظلمته الأضواء الهادي آدم ، الذي عرف في الأوساط الثقافية السودانية بغزارة الإنتاج وتصديه لمعظم أغراض الشعر العربي ، الذي نتلمس في نتاجاته بوضوح أثر البيئة السودانية المتنوعة الثرية تلك التي عرفها أهلها أو من تعايش وعاشوا أرضها وشعبها أو تنافذوا مع مبدعيها ونتاجاتهم الابداعية مما ساعدت في تلمس ثراء البيئة السودانية في قصائد هذا الشاعر الكبير ،
وعند السؤال والاستفسار من المبدعين السودانيين الأصدقاء أجدهم يتفقون تماما على تمكنه من تلمس الثراء الثقافي البيئوي المتنوع على امتداد هذا البلد الجميل بروحه وطيبته وثقافته وتعدده رغم انف خرابات السياسة ..
وعلى ما يبدو أن مهنة التدريس بقداستها وأبعادها التربوية والثقافية أتاحت للشاعر التنقل في الكثير من أرجاء السودان بشماله وجنوبه ، وله قصائد كثيرة مقررة في مناهج اللغة العربية بمختلف المراحل الدراسية في السودان ومن بينها قصيدة كانت مقررة لتلاميذ المرحلة المتوسطة تؤكد أن موهبة الهادي قد تفتحت ونضجت في وقت مبكرجدا من عمره فقد نظمها وهو بعد في سن الرابعة عشرة .! وقد حفزه على نظمها حنينه وعشقه لبلده الهلالية ، ومن أبياتها:
قلب الطبيعة في جنبيك خفاق والنهر خلف رباك الفيح دفاق وللبدر في رملك التبري عربدة وللصباح اذا حياك اشواق
وإن كانت قصيدته الذائعة الصيت أغدا القاك هي التي أوصلت صوته الشعري للساحة العربية ، فهي قطعا ليست أفضل قصائده حسب رأي النقاد والمثقفين السودانيين ، إنما جاء اختيارها لتغنيها أم كلثوم لاعتبارات جمالية تتعلق بفن الغناء و لم يكن وفق معايير نقدية شعرية ..
ولتلمس ابداعه أكثر نجوس داخل نموذج مغاير لنموذج اغدا القاك وهي قصيدة تموت الذرى وإن كانت الاولى مغناة تدور حول تباريح الهوى والشوق للحبيب فان الثانية نظمها الشاعر غداة رحيل صديقه محجوب عبدالحفيظ الذي كان يعد ويقدم برنامجا تليفزيونيا ذائع الصيت بعنوان الصلات الطيبة كان المشاهدون في السودان يلتفون حوله بقوة ، ومن خلال هذا البرنامج استطاع محجوب استقطاب مساعدات الخيرين وجهودهم لخدمة من أذاقتهم الحياة مراراتها كالارامل واليتامى والمشردين والمعوقين والمرضى والمحتاجين وغيرهم من المعذبين في الأرض ، وبسبب ذلك أصبح محجوب عبدالحفيظ بروحه الإنسانية الحانية الودود ، محبوبا من قبل شعب السودان ، وكان لرحيله المفاجئ في حادث وقع مؤلم في المجتمع السوداني بأسره ، فرثاه شاعرنا الهادي آدم بقصيدة : ((( وتموت الذرى))) التي بدأها بهذه الابيات:
أأرثيك ما يجدي الغداة رثائيا وابكي اسى ماذا يفيد بكائيا وما خطبك الدامي بخطب وانما دعائم صرح قد هوى متداعيا اقول له لما مضى غير عابئ بزفرة مفجوع تذيب المآقيا حنانك يا محجوب غادرت اكبدا مقرحة ما هكذا كنت قاسيا فانك ما عودتنا غير رقة نعمنا بها شطرا من الدهر غاليا تترك دنيا كنت انت قوامها وتسلو فؤادا لم يكن عنك ساليا وعالمها المفجوع كيف تركته يضمضم جرحا كان جراه شاكيا فمنذ الذي يجثو على الارض يحتوي كسيحا ومن يحنو على من جاء حابيا على الرغم من النبرة الحزينة الباكية في المطلع فان براعة الاستهلال تلفت النظر مثلما يلفت النظر الصدق المفعم بالأسى في بقية الأبيات وربما نجد خيطا متينا من العاطفة يربط ما بين الاستهلال في هذا المطلع والاستهلال في قصيدة أغدا القاك رغم تباين الغرضين ..
اغدا القاك؟ يا خوف فؤادي من غد..
ولنتأمل قوله عن هؤلاء التعساء بعد رحيل من كان يحنو عليهم:
سعيت اليهم والظلام يجنهم فأيقظت آمالا لهم وامانيا فعادوا كأن الفجر حط رحاله لديهم وان الليل ما عدا داجيا لمست شجونا قيدت من خطاهم فهب وشيكا كل من كان جاثيا سعوا بغير اقدام تقود وابصروا بغير عيون شد ما كنت حانيا
ومرة اخرى نلمس صدق الاحاسيس والشعور الحاني الانسيابية والسلاسة والجزالة في اللفظ والتفرد في الكلمة المنتقاة والتراكيب الجريئة التي تذكرنا بالمتنبي ، سعوا بغير اقدام ، ابصروا بغير عيون ، ثم يمضي الهادي آدم لتشمل مرثيته الوطن نفسه: ارى طالع الاوطان كالناس منهم المحظي ومن امسى له الدهر جافيا كذلك بلادي كلما ذر شارق من الافق لم يعدم من الارض راميا تموت الذرى فيها وتحيا بلاقع تموج باشباح عمرن الفيافيا
الى ان يختتمها بتقليدية تشيع هنا وهناك في أشعاره وربما يعود ذلك إلى أنه من الجيل الذي مثل الجسر بين شعراء المدرستين التقليدية والحداثية اذ يقول:
فكم من هلال راح قبل تمامه فلم يكتمل بدرا يجوب الدياجيا سلام على عبدالحفيظ مشيعا الى جنة الخلد مرضيا عليه وراضيا
وفي غمرة استحضار هذا المبدع السوداني العربي لابد من وقفة مع تلك الرائعة التي تعد من روائع الغناء والشعر العربي الحديث أغدا ألقاك لتلامس شغاف قلوب احبت هذه القصيدة لحنا وصوتا وكلمات ونسيت من خلفها مبدعا خلاقا رقيقا جميل الروح اسمه الهادي أدم من هناك من أرض السودان.. كتب عنه سالم فماذا كتبنا نحن؟؟؟؟؟؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة