في لقاء هاتفي أجرى مع الدكتور حسن عبد الله الترابي وهو حبيس في كافوري مع موقع "إسلام أون لاين" على الإنترنت ساح الدكتور الترابي في مختلف القضايا ليؤكد تضادات عديدة فهو يؤكد مثلا أن الخوف من حركتهم من الغرب كان لأنها ديمقراطية وإسلامية ثم يؤكد أن المشكلة كانت في تسلط العسكريين (أي ان الحركة لم تكن ديمقراطية يوما)، ولكن أبلغ التضادات كانت حين سئل عما تبقى من المشروع الإسلامي، إذ نسب إليه أنه قال: "أعتقد بداية أن كثيرًا قد بقي من المشروع الإسلامي الذي كان غائبًا بالأساس من السودان.. فالسودان يختلف عن مصر من حيث إن التدين لم يكن جزءًا من مكونات شعبه، ولكن الآن وبفضل سيرة طويلة من الدعوة ومجهودات دعاة ومصلحين كثيرين في السودان تأثروا بدعوة الإحياء الإسلامي في مصر انتشر التدين وسط المجتمع السوداني، وكثرت المساجد في كل حي وكل شارع وازدحمت بالمصلين، وتحررت المرأة من كل قيود القبلية والعادات والتقاليد، وخرجت للعمل، واختلطت بمشاكل بلادها، ولم يحدث -على عكس ما حدث في بعض البلدان- أي مشاكل أسرية تفسخ أو خلافه.. لقد كان الشعب السوداني يجاهد مع الإمام المهدي وهو مخمور، ولا يعرف كيف يصلي، ولا يقسم لك حين يقسم "بالله"، الآن كل شيء تغير.. يكفي أن يضع الجنوبيون ممثلين في الحركة الشعبية ثقتهم في الإسلاميين فقط، ومن هذا المنطلق طالبوا بخروجنا- انتهى كلام الدكتور الترابي".
كانت الأفكار الصادرة عن الدكتور الترابي من قبل حول مسألتهم تتبع في بدايتها منطق الاعجاب بتجربة "الإنقاذ" عجلهم ذي الخوار، والحديث عن أن الفريق البشير "هبة من الله"، ثم أتى حين من الدهر على الدكتور الترابي بدأ يتحدث عن فساد مالي، وأخيرا بعد إجراءات رمضان وصفر صار الدكتور الترابي يعلنها صراحة أنهم قد أخطأوا بالانقلاب. وفي ندوة له بجامعة القرآن الكريم عدد تلك الأخطاء واعترف بكذبهم على الناس حينما قال عن البشير"فتوادعنا وذهب هو للقصر رئيسا وذهبت للسجن حبيسا"، وكان الدكتور الترابي كلما ذكر شيئا من المنكرات قاموا بها قال معقبا: استغفر الله.. أستغفر الله. بعد ذلك سادت ثقافة الاستغفار وسط قادة الشعبي فمنها ما اختلط بمعنى أننا لم نكن نعرف ما يجري باسم الإسلام "كما قال الدكتور بشير آدم رحمة في ندوة العميد" وهو يذكر أن زوجته كانت تحكي له وهو وال عن الظلم الواقع على الناس ولم يكن يصدقها، ومثل التصريح الذي جاء على لسان الأستاذ المحبوب عبد السلام في جريدة الشرق الأوسط حيث جاء تحت عنوان "حزب الترابي يعترف بارتكاب خطأين تاريخيين ويطلب الغفران" الآتي: "أعلن مسؤول بارز في حزب المؤتمر الشعبي السوداني المعارض الذي يقوده الدكتور حسن الترابي أن الحركة الإسلامية في السودان ارتكبت خطأين في مسيرتها السياسة منذ أربعينات القرن الماضي بمشاركتها في النظام العسكري للمشير جعفر النميري في حقبة الثمانينات، وبقيامها بانقلاب يونيو (حزيران) الذي أتى بحكومة الرئيس الحالي الفريق عمر البشير إلى السلطة" ومع أن الاعتذار فيه تبرير إلا أنه يفهم أيضا في سياق طلب المغفرة فقد كان التركيز على الخطأ كبيرا. وقد التحق بموجة الاستغفار أو الاستنكار جملة من مثقفي حركة الدكتور الترابي أبرزهم الدكتور عبد الوهاب الأفندي والدكتور الطيب زين العابدين وهذان لم يلتحقا بالشعبي وقد خرجا عن الوطني خروجا لا زالت حرارة صدقه تتوهج في كتاباتهم التائبة إلى الله. كتب الأفندي كثيرا عن زلات ما يسميه الحركة الإسلامية وعن ذنبها الكبير في إنقلاب الإنقاذ بل عدّ تصرفهم ذاك في الانقلاب أحط درجات العلمانية. والدكتور الطيب زين العابدين بعد أن ساح في أوجه حربهم في مقاله "حرب البسوس الإسلامية" ختم بالقول: " ينبغي أن يدعو هذا الوضع الغريب الاسلاميين الى قدر من التفكر: لماذا حدث هذا؟ وكيف حدث؟ ليس بقصد علاج الأمر الواقع لأني أشك في أنه قابل للعلاج ولكن لإعطاء درس لآخرين في أنحاء العالم ولأجيال قادمة يستنيرون به طريقهم في أساليب العمل الاسلامي. إجابتي المتواضعة والبسيطة على السؤال هي أن أصل الداء يكمن عندما أصبح اكتساب السلطة هو محور العمل الإسلامي وشغله الشاغل، وعندما طلبت تلك السلطة قوة واقتدارا فوق رقاب الآخرين!. "
أما بالنسبة للشعبي ففي مرحلة تالية زاد معدل التبرير وذلك في الورقة التي أصدرها الدكتور الترابي وهو في كافوري بعنوان "عبرة المسير لاثني عشر السنين" ولكن الاعتراف بفشل التجربة كان ظاهرا. ثم جاء كتاب "السياسة السلطانية" ليغير من موجة الخطاب بحيث لا يتطرق للتجربة وإن كان مضمون الكتاب هو أن الإسلام لا بد أن يرتبط بالشورى والديمقراطية..
الحديث الهاتفي مع الدكتور الترابي في أواخر أيام اعتقاله (29/9/2003) والمنشور في 3/11 بموقع إسلام أون لاين ينتقل بنا لمرحلة جديدة.. مرحلة فيها نفي الخطأ والتخلص من الشعور بالذنب ثم تجاوزها إلى الهجوم على الآخرين. وإن كنا قد احتفينا بثقافة الاستغفار من باب الأثر "رب خطيئة أورثت ذلا وانكسارا خيرا من طاعة أورثت غروروا واستكبارا"، فإننا نأسف أن تم تجاوز تلك المرحلة بهذه السرعة ولا زالت آثار الذنب الذي اقترفته بحقنا –نحن الشعب السوداني- أخطاء هذه الحركة التي قادها الدكتور الترابي لا زالت ماثلة. نأسف جدا أن تغيّر الخطاب من ثقافة الاستغفار إلى ثقافة "العزة بالإثم"!.
أكد الدكتور الترابي في جملة واحدة تضادات بعضها لمنطق حديثه والآخر يضاد الواقع المعاش منها: قوله أن السودان كان خلوا من الإسلام ولكنه الآن شكل ثورة بزت غيرها وهذا ينافي الواقع. ثم يؤكد أن المجتمع السوداني على يد الإسلاميين لم يشهد مشاكل "مع أنه أكد قبل قليل أن العسكريين لم يتركوا للمشروع من سبيل". ولعل أبلغ تضاد مع الواقع هو سعيه –في سبيل إثبات خلو السودان من الإسلام النيل من المهدية كأنجح دعوة إسلامية ووطنية في السودان منذ تكوّن بشكله المعروف وحتى الآن. فالسائل لم يشر للمهدية ولكن كان دكتور الترابي يجاوب على أسئلة في رأسه هو.. كيف يثبت لانقلابهم المشئوم "الذي سماه ثورة شعبية" قصب السبق الإسلامي وكل طوبة بأرض السودان تعرف أن ذلك كان شأن المهدية وهم مجرد متمسحون بإرثها كما تمسّح السامري بالإله قابضا من أثر الرسول!.
فالمهدية هي الثورة الإسلامية الحقيقية الوحيدة في السودان (لأن ما قاموا به هو انقلاب تسوّر البلد ليلا ليقضي على تجربة الثورة الوطنية والديمقراطية الثالثة ويحل محلها شمولية قابضة)، وكل ما قيل من قدح للمهدية من قبل سواء أكان من دكتور الترابي الذي قال عنها أنها "حركة درويش ساعدته الظروف" أو غيره ضمن مشروع "نحو مشروعية لمعارضة المهدية"، لم يستطع إنكار أن ذلك "الدرويش" أقام الدين، وكان هجاؤه بأيدي الآخرين هو تمسكه الفائق بالدين، أنظر رائية الشيخ محمد شريف نور الدائم التي هجا فيها االمهدي ولكنه أكد:
كم صام كم قام كم رتل كم تلى إلى الله ما زالت مدامعه تجري
وكم بوضوء الليل كبّر للضحى وكم ختم القرآن في سنة الوتر
والمعارضون للمهدية لم يقدحوا في أن –الشعب السوداني الذي جاهد معها- كان واهي التمسك بالدين بل على العكس، قال الكبّاشي هاجيا الأنصاري: كان حدّثك بالجنة التقول كان فيها. أما الصلاة وكافة العبادات فقد كان الاهتمام بها بالدرجة الأولى، وحرصا على تمسك الجميع بها فقد كان لزاما على جميع الناس من أقل فرد حتى العلماء وزعماء القبائل والأمراء أن يحضروا للصلاة الجامعة في مسجد الهجرة فلا يغيب عنه إلا بعذر، أما خليفة الصديق فلم يغب يوما لا لمرض أو غرض طيلة ثلاثة عشر عاما.. ويروى أن اثنين من منكري المهدية كانا يشكيان من هذا النظام الصارم في العبادات فهربا وإذ هما في الخلاء استمتعا بالرقاد بعد طلوع الفجر ثم قال أحدهما لأخيه وهو يتنفس الصعداء لفرصة النوم وقت صلاة الصبح قال له: "تلقى الجماعة بي هناك إلا..رغّب.. رغّب- أي يدعونهم الآن لأداء ركعتي السنة"!. وعن تعليمهم للصلاة حدّث ولا حرج، فلم نسمع لحركة الأخوان أو من أخذ عنها هذا الاهتمام العجيب بتفاصيل الفرائض والسنن والآداب بشكل صار موضع تندّر الناس كلهم. إن للأنصار في كل سجدة قرآنية دعاء محفوظ، وراتبهم جامع الأدعية المأثورة والانكسار لله تعالى. أما مسألة القسم فهذه يشهد عليها أن الإمام المهدي نفى كل الألقاب حتى الشيخ والسيد وخلافه وما كان يتعالى على أحد ممن اتبعه في نصرة دين الله، ويشهد عليها درجة التوحيد الكبرى التي ظهرت في مجالسه وفي تعالميه.. ولم يكن شعار "الدين منصور" كما هو الآن "كل شيء لله" اسما على غير مسمى حيث يتخذ كمقطع غنائي تهز فيه قيادات تعلمت أن يكون كل شيء للدنى، باعتراف الدكتور الترابي نفسه!
إن المهدية ليست بأقلامنا نحن –الشعب السوداني المخمور الذي لم يكن يعرف عن الدين شيئا- بل بأقلام الإسلاميين المصريين الذين أخذ من بعضهم جماعة الدكتور الترابي تعاليمهم وكانت حركتهم تأثرا بهم، هي الثورة الإسلامية التي تجلت فيها كل ملامح الإصلاح في عصرها كما قال الدكتور عبد الودود شلبي. وقد تطرق لها الدكتور محمد عمارة ولمدى صدقية قائدها فقال: "وسواء أكان محمد أحمد قد أدرك أن تحقيق غاياته لا بد له من طاقة عاطفية وشحنة روحية تهز قلوب المؤمنين وتذهلهم عن الروابط والقيود التي تشدهم الى الدنيا ومتاعها فيسرعون بسوط الخارق المعجز الى الانخراط في حركته الاصلاحية، فاخترع أنه هو المهدي المنتظر اختراعا. أو أن الرجل قد امتزجت في عقله وقلبه ونفسه معاناة شعبه وأمته بالصوفية التي صنعت لروحه شفافية زادت منها رياضاته ففجرت فيه كإنسان طاقات غير عادية ولا منظورة فرأى ما لا يراه الآخرون وما أنكره عليه الكثيرون، رأى رسول الله (ص) يعهد اليه بالمهدية ويكلفه بالجهاد.. سواء أخذنا بالتفسير الأول، أو اعتمدنا التفسير الثاني -وهو الذي نميل اليه- فلقد أعلن محمد أحمد في الأول من شعبان 1298هـ 29 يونيو 1881م أنه هو المهدي، ودعا الناس إلى الإيمان به والهجرة إليه، والجهاد معه لإقامة الدين وتحرير البلاد من الترك والأجانب"! إلى أن يقول عن المهدية ..أنها صنعت بما فجرته من طاقات روحية في الشعب السوداني أشياء يدهش لها الباحث فيما خلفت من وثائق ومنشورات.. وهي تؤكد في كل جوانبها أنها كانت واحدة من أبرز حركات اليقظة التي تصدت بها الأمة في السودان للتحديات التي فرضها عليها أعداؤها في ذلك التاريخ.
وشهد شاهد آخر من بين السودانيين الذين لا يوالون المهدية هو المرحوم حسن نجيلة حيث قال في كتابه "ذكرياتي في البادية" أنه وهو يعلّم الكبابيش الرحّل لاحظ ملاحظة غريبة هي أن الشيوخ كانوا متقدمين على أبنائهم وأحفادهم الذين نشأوا تحت الحكم الثنائي من ناحية التعليم وامحاء الأمية بسبب مجهودات المهدية في تعليمهم القرآن.
لقد قدمنا بما قال الدكتور الترابي نفسه من قبل عن ثمرة حركتهم الفاسدة وقد قال السيد المسيح "بثمارها تعرفونها" وأكد غيره بشكل لا يعرف المناورة أن ما قاموا به لم يكن نكبة للسودان فحسب ولا للإسلام فحسب بل نكبة لحركتهم ذاتها.. وما قاله الأنصار عن المهدية سواء أكان في بكائيتها على يدي أحمد ود سعد الذي حينما بكى كرري وما جرى فيها من زلزلة للدولة الوطنية الإسلامية الصبية ماذا بكى؟:
دوب لي صيامهم.. وصلاة قيامهم
...
دوب لي راتبهم.. وترتيل حزبهم
دوب لي صاحبهم
الما بكذّبكهم!
قارن ذلك بمقالة الأفندي أن عهد "الإنقاذ" كان بالنسبة إليه عهد الفجيعة في الأصحاب.. بل قارنه بشعر جهادهم: بالأمس غادرنا الرفاق.. يمموا قصد المعالي.. فارقوا أرض النفاق!.
ولو أردت أن تقارن –وما من مقارنة بالأصل، فتأمل كلمات ردت على محاولة لتشبيه تجربة "الإنقاذ" بالمهدية:
هوشن جاب عاد
تحرير البلد من غازي
لي وأد الحلم بالضبة والنبوت
وشن جاب عاد
توحيد البلد لي فصلها المثبوت
وشن جاب عاد
شهقة تشرشل الشاهد
على العزة الحماسية
لي استخفاف جنى العم توم
بي تهديد عذاب وارد من الخرطوم
وكل الشنشنة النية
شن جاب عاد
تجديد دينا بث الروح
لي اخلاقنا لما تروح
ورفعة راس نجومي وكاد
ما بتشبه سلو الجلاد
ولا دود الخلا زي ديب
ولا النيتو المتيلة لعيب
ولا الهبماتة مهدية
....
إن المقارنة لا تقوم.. فكيف بادعاء التفوق؟..
وليبق ما بيننا
11-15-2003, 11:28 AM
حمزاوي
حمزاوي
تاريخ التسجيل: 10-10-2002
مجموع المشاركات: 11622
أولا نشكرك علي ما اوردته من حقائق ومواقف الجماعة اللااسلامية هم جالبي المصائب للسودان
أخوي اسماعيل عندما كنا ندرس في المدارس الأولية كان هناك قصة في كتاب المطالعة تبدأ بي مشى الثعلب يوما في ثياب الواعظينا وختم القصة بي مخطأ من ظن يوماً أن للثعلب ديناً فهذه القصة تنطبق على هذا الشيخ الترابي وكل يوم ازيد تصديقا لمقولة الكاتب الكبير الطيب صالح من أين أتوا هؤلاء . . أمن حواء سودانية . . كلا ثم كلا
شوف جنس الكلام دا الحديث الهاتفي مع الدكتور الترابي في أواخر أيام اعتقاله (29/9/2003) والمنشور في 3/11 بموقع إسلام أون لاين ينتقل بنا لمرحلة جديدة.. يا اسماعيل يا ابن وراق بالله عليك الله متين معتقل وفي السودان كان بيكون موفر ليه اتصال بالهاتف سبحان الله عشنا وشفنا معتقلي الجبهة اللاأسلامية يتوفر لهم اتصال هاتفي .
ما اطيل عليك بس أقول ان غدا لناظره قريب
11-15-2003, 11:40 AM
إسماعيل وراق
إسماعيل وراق
تاريخ التسجيل: 05-04-2003
مجموع المشاركات: 9391
العزيز حمزاوي مشتاقين والله يا حبيب والله يا حمزاوي نحن أحترنا مع الترابي ده الرجل عايز يقول أن السودان ما عرف الإسلام إلا بهم وللرجل كتابات كثيرة في ذلك وطبعاً بلا خجل وكعادته في تزوير الحقائق يقول أن من قاتل مع الإمام المهدي كانوا مخمورين وطبعا دي يا حمزاوي ما غريبة من الرجل نعيش ويا ما نشوف
11-15-2003, 08:01 PM
lana mahdi
lana mahdi
تاريخ التسجيل: 05-07-2003
مجموع المشاركات: 16049
الحبيب الشقيق وراق شكرا الف مرة على نقل مقال رباح الى هنا فالمقال متميز و شافى و كافى للرد على الشيخ الدكتور الذى اعياه كثيرا الخلط بين المبادىء و الثوابت سواء كانت تاريخية او فكرية و بين المتغيرات خاصة السياسية منها،،خفف الله [محبته الزائدة و المتزايدة] لكيان الانصار و حزب الامة مع محبتى لنا
11-23-2003, 10:36 AM
أبنوسة
أبنوسة
تاريخ التسجيل: 03-15-2002
مجموع المشاركات: 977
لله در هذه الرباح وشكرا أخي إسماعيل والتحية موصولة للأخت لنا وإليكم الجزء الثاني
ولبقى ما بيننا "كما ذيلت الأخت رباح مقالها" ==================================================================================== كلمات حيية في مقام المهدية
أنصاريات وإنقاذيات
رباح الصادق
تعرضنا في الأسبوع الماضي لإفادات الدكتور حسن عبد الله دفع الله الترابي عرّاب (الإنقاذ) حول تجربتهم باعتبارها أعظم ثورة إسلامية عربية ركزت أقدام الإسلام في السودان الذي كان خلوا منه فكلام الدكتور عن أن المهدية نظمت في صفوف جهادها الشعب السوداني مخمورا جاهلا بالعبادات مشركا بالله. مررنا بطرق خفيف على أوجه تثبت للمهدية النقاء العقدي والاهتمام بالعبادات والالتزام الديني، وأوجه أخرى تثبت أن تجربة الإنقاذ كانت متخلفة عن الأداء المهدوي بشكل ينفي إمكانية المقارنة ناهيك عن الحديث عن تفوق.. ونواصل في هذه المرة وفي المرات القادمة سياحة حرة حول المهدية كدعوة وأثرها ليس على السودان القطر فحسب بل كل شريط السودان حتى غرب إفريقيا، واضعين في ذهننا ما مثلته (الإنقاذ)وما تمثله في وطنها وفي الإقليم.
ولعل أهم ما يمكننا اعتباره المدى الزمني والسياق التاريخي. فالمهدية شكلت دعوة ثم دولة في زمان قصير إذ لم تبلغ فترة الدعوة أكثر من أربع سنوات منذ هجمت المهدية على صاحبها وحتى فتح الخرطوم عام 1885م. واستمرت دولتها ثلاثة عشر عاما فقط. وكانت تلك الفترة متعددة الأجندة فالتحرير والتوحيد والتشريع والتربية حشرت كلها في ذلك المدى الزماني الضيق. والسياق التاريخي يحدثنا عن أنها الفترة التي وقعت فيها البلاد الإسلامية والإفريقية لقمة سائغة في فم المستعمر الذي كانت مهيأة اجتماعيا له وعلى حد تعبير المفكر الإسلامي المرموق الكاتب بالفرنسية مالك بن نبي: القابلية للاستعمار، وكانت الدول الأوربية في مدها الرأسمالى بحثا عن المواد الخام والسوق لمنتجاتها (وقبل ذلك العبيد لبناء العالم الجديد الذي اكتشفته أوربا عبر الأطلنطي: أمريكا) قد مشطت الدنيا واحتلت أجزاء كبيرة منها. وقد شكلت المهدية استجابة الشعب السوداني لذلك التحدي علاوة على التحديات الداخلية التي كانت تواجهه: التسلط العثماني المتحجر فقهيا والذي صار مطية للأطماع الاستعمارية الأوربية وصار يسلط على السودانيين قيادات أوربية جاءت لتخدم مصالح شعوبها (أمثال غردون وأهرولدر وسلاطين)- وظهور بوادر الشعور القومي وعقبات تكون القومية السودانية لكثرة المفارقات بين السودانيين- والوضع الاقتصادي المتردي والضرائب الباهظة على المواطن يدل على ذلك المثل: عشرة في تربة ولا ريال في طلبة ومع ذلك سيادة ثقافة استهلاكية بالدرجة الأولى أثمرت مشاكل اجتماعية ضخمة في تعسر الزواج والمباهاة بين الناس في كافة المناسبات- والتفسخ الأخلاقي الفظيع حتى لقد زف في الأبيض رجل لرجل- وسيادة ثقافة التواكل وغير ذلك.
وقد فرضت المهدية نظمها الصارمة في مواجهة تلك التحديات فوقفت بصلابة إلى جانب الزهد ولفظ كل عادات المباهاة، كما وقفت إلى جانب التساوي بين الناس مما لم يرق لذوي الحظوات التاريخية ومعلوم أن المساواة هي أول شروط المواطنة وبالتالى أول مستلزمات القومية. أشار الدكتور محمد عمارة العالم الإسلامي المصري في كتابه الجامع (تيارات الفكر الإسلامي- نفس المبحث عن المهدية نشره الدكتور عمارة في كتابه العرب والتحدي) أن المهدية وجدت فكرا فقيرا غارقا في «فكرية القرون الوسطى المحافظة والجامدة لدى الفقهاء الذين ارتبطوا بالدولة والنمط العثماني، وفكرية الطرق الصوفية المليئة بالخرافات» وذكر أنها زادته فقرا من حيث الكم لأن الفكر أصبح وقفا على المهدي ثم قال: (ولكن هذا الفكر القليل من حيث الكم كان أكثر تقدما من حيث الكيف فلقد اتسم بالسلفية، بمعنى العودة للنصوص الأصلية كتابا وسنة، وأسقط خرافات العصور الوسطى وإضافاتها التي حجبت الجوهر البسيط والمتقدم للدين، ثم أنه أعلى قدر المصلحة وفتح الباب واسعا للاجتهاد المحكوم بالمصالح المتجددة على هدي من الكتاب والسنة». ولهذا قال الدكتور إبراهيم الشوش -وهو غير منتم للمهدية أيضا- عن أثرها على العلماء والشعراء: (انتزعت الثورة المهدية هؤلاء العلماء الشعراء من تهويماتهم.. ووجهت انتاجهم وجهة تتصل بحياة الناس وأدخلت فيه الحمية والحماس في نفوس العامة وانتشلتهم من وهدة الغيبيات والاتكال والأوهام المرضية والبطولات الوهمية)- (محمد محمد على- كتاب: الشعر السوداني في المعارك السياسية ص 179). لقد كانت المهدية ثورة شعبية حقيقية والدكتور محمد سعيد القدال يؤكد ذلك في كتابه :المهدي: لوحة لثائر سوداني، كما يؤكد في كتابه السياسة الاقتصادية لدولة المهدية حقيقة أنها (لم تكن وقفا على منطقة دون أخرى أو قبيلة دون قبيلة أو فئة دون الثانية، ولا كان إنتصارها يرجع لهذه المجموعة دون سواها. إنها ثورة شعبية شملت معظم المناطق التي خضعت للحكم التركي المصري، وكان وصول أول منشور من المهدي أو رسول من لدنه يكفيان لدفع الناس للخروج ، ولم يكن إنخراط الناس في صفوف الثورة وتفجيرها حدثا معزولا عن ماضيهم النضالى ضد الحكم التركي - المصري، فمنذ قيامه وهو يواجه معارضة من مختلف فئات المجتمع تمثلت في العديد من الإنتفاضات وكانت الثورة المهدية أكثرها نضجا وأعمقها جذورا فغدت تتويجا لها).
بينما جاءت الإنقاذ كثمرة لحركة محدودة ظلت تعمل منذ الأربعينيات ثم صنعت دولتها التي حكمتنا حتى الآن زهاء الخمسة عشر عاما، جاءت إنقلابا على سلطة ديمقراطية شرعية تجهد لإزالة آثار العدوان الشمولي المايوي على الحياة العامة في السودان وتعاني من مشاكل طول فترة الديكتاتورية وأثرها على الأداء الديمقراطي نفسه، فأطاحت بذلك ليس عبر تعبئة الشارع ليقود ثورة شعبية تضغط على الحكومة أو تغيرها بل عبر تآمر بليل وتسور للبلاد ملثم (إشارة لإخفاء هوية الإنقلاب لمدة عام ونصف في بدايته)، فماذا جنى من ذلك الإسلام والسودان؟ تمزق وتفاقم للحرب الأهلية وتعدد لجبهاتها، هبوط مريع في الأداء الاقتصادي يشهد علىه وضع الدولار وقد صرح أحد قادة الإنقلاب أنهم جاءوا لكيلا يصل سعره لعشرين جنيه سوداني وهو الآن ألفان وستمائة جنيها! وزادت كل مشاكل المجتمع ، ثم كان الفقر المدقع الذي وصل حد أن يتدافع الناس على محسن يعطي الزكاة فيلقى العشرات مصرعهم كما حدث في بورتسودان ولا زالت الحادثة تزلزل كيان أي إنسانية لا زالت فينا، وتنحر أي ادعاء أن البرنامج المطبق الآن في السودان له أية صلة بسيدنا عمر بن الخطاب الذي خشي من سؤال الله عن بغلة عترت في العراق !. أما عن الفكر فقد جاءتنا الإنقاذ بخزعبلات فقهية ما سمعنا بمثلها في البرية متسببة في ردة على الصحوة الفكرية التي سادت الفكر الإسلامي في السودان مما حدا بدعوات التأصيل أن تتخذ خطوات لمأسسة العلاقة بين الأديان عبر المواطنة وللتأصيل التشريعي عبر خطوات مدروسة تستنفر كافة العلوم الفقهية والعصرية،وشاهدنا البيعة البعدية اي بعد تقلد الامامة والبيعة تكون قبلا ، والبيعة المتعددة فكانت تعقد البيعات لكل من الرئىس البشير والدكتور الترابي ، هذا كله وغيره مما لم نذكره على مشارف القرن الواحد والعشرين!.
ولو انتقلنا للعبادات والأنصار فلا يجدي هنا أن نحصر أو نعدد، وكفانا ذكر بعض النوادر التي اشتهرت عنهم. من ذلك أنهم لفرط اهتمامهم بالطريقة التي تؤدى بها الصلاة من تعوذ وبسملة وقبض وسكتات الدعوات وخلافه كانوا يرون الفروقات فيها بدرجة الكبائر.. يروى أن أحد الشيوخ صلى بالأنصار وفيهم الإمام عبد الرحمن ولم يتعوذ من الشيطان الرجيم فسلم عشرات من الأنصار وخرجوا من صف صلاته قائلين: لن نصلي وإبليس في صف واحد. وكان شيخ أخر قاضيا شرعيا في كوستي وزار الإمام عبد الرحمن في الجزيرة أبا وقد طلب منه الإمام أن يؤم جمعهم للصلاة ففعل وكان يعلم أن الأنصار لا يسامحون في تلك التفاصيل وربما خشي ألا يقبل كما ذاعت القصة أعلاه، وحالما بدأ في الصلاة صاح الناس (سبحان الله) فسّلم وسأل: ماذا حدث لقد تعوذت وبسملت وقبضت فقيل له: ولكنك يا شيخ نسيت الفاتحة نفسها!.. كل ذلك من فرط حرصه ألا يغلط أمام هذا الجمع الدقيق الحريص على كل تفاصيل الصلاة حرصا لا يدانى.. وبلغ بالأنصار حد التمسك بالدين تحريم ما يراه الكثيرون مكروها مثل التنباك والسجائر. بل لقد كانت الجزيرة أبا وقد نفذ فيها البرنامج الأنصاري المهدوي بدقة مثالا للمدينة الإسلامية الفاضلة من التراحم والحرص على العبادات وعلوم الفقه والقرآن والعمل والجد وحتى مقدم مايو المشئوم لم يكن بها نقطة بوليس، كانت بقعة خالىة من الجريمة، خالىة من الكحول، خالىة من حتى التنباك والسجائر.. وهذا ما جر لها بعد قنابل العسكر كل المحاولات لإشاعة الفاحشة بين بنيها وبشكل منظم!.
وما لنا والتواريخ والنوادر التي تروى؟ أنظروا للمسجد الرابع (وهو مسجد الخليفة الذي سماه الإمام المهدي بالرابع ليكون رابع المساجد التي تشد إليها الرحال) هذا المسجد منذ سطت علىه الإنقاذ من هيئة شئون الأنصار في مايو 1993م وحتى بعد أن أرجعته لأيد ضرار، لم تستطع هي ولا من ارجعته لهم أن يقيموا ولا عشر الصلوات التي كانت تقام فيه في الأعياد والمناسبات الدينية.. صلت فيه الإنقاذ زمنا برئيسها وهيلمانها ولكن ظلت كل صلواتهم -وهم في أوج منعة دولتهم- أقل من عشر صلوات الأنصار بعد مضى أكثر من قرن على دولتهم وهم في أسوأ حالات القهر والعسف.. إن اهتمام الأنصار بالصلوات زيها ومحتواها من صفوف مرصوصة وتجويد للتلاوة والدعوات والحركات والسكنات وحشدها وغير ذلك لا يضاهيه أي اهتمام ليس في السودان فحسب بل في كل العالم الإسلامي السني وإن كان للشيعة اهتمام بالمنابر الدينية الشعبية والصلاة الحاشدة مشهود.
لقد كثرت الكتابات من مختلف المشارب لمعارضي الإنقاذ أو تابعيها التي قارنت بين المهدية وبين الإنقاذ، وقد حاولنا هنا وفي المرة السابقة إثبات أن المقارنة لا تقوم، ولو صح مقارنة الإنقاذ تاريخيا فبالحكم العثماني (التركي - المصري) الذي قال فيه السودانيون ما أوردنا (عشرة رجال في تربة ولا ريال في طلبة) وقد قال السودانيون أيضا عن الإنقاذ: (أربعون خذوهم للمدفن ولاتفوتوا زكاة محسن): كان ذلك بيانا بالعمل!..
وسنواصل لمرات تالية مستعرضين جوانب مختلفة بإذن الله.
وليبق ما بيننا
11-23-2003, 10:48 AM
إسماعيل وراق
إسماعيل وراق
تاريخ التسجيل: 05-04-2003
مجموع المشاركات: 9391
الاخ اسماعيل شكرا لك على هذا الموضوع لان حقيقه الحركه الاسلاميه ومنظرها وقائدها د.حسن الترابى اينما وجدت هذه الحركه وجدت مشكله بجانبها ولقد ذاق الشعب السودانى منها حنظل الحياة ومازال . والمتابع لسيرتها يصاب بالذهول فى كل يوم جديد واخرها مقابله الترابى مع قناة الجزيرة حين رد عن اسباب فشل الحركه الاسلاميه فى السودان ، حمل الشعب المسؤليه ووصفه بانه جاهل وامى ولايفهم شيئا. وفى رايى ان هذه الصنوف المريضه من البشر علينا ان لانسمح لها بان تعود مرة اخرى الى السلطه.
نصر الدين حسيندفع الله
11-29-2003, 02:18 PM
إسماعيل وراق
إسماعيل وراق
تاريخ التسجيل: 05-04-2003
مجموع المشاركات: 9391
في سياحتنا الحرة ما بين المهدية و"الإنقاذ" نتعرض اليوم لفكرة تاريخية بدأت تروج عن المهدية منذ الربع الأخير من القرن العشرين، وتتمثل في مشروع "نحو مشروعية لمعارضة المهدية" ونقارن هذه الفكرة بـ"الإنقاذ" كحركة انقلابية قامت بها الجبهة الإسلامية القومية ومسئولية القيام بها معلقة في عنق شقي المؤتمر الوطني والشعبي الموجودين في الساحة، وذلك لنمتحن مكانتها في مدرّج المشروعية.
كانت الكتابات عن المهدية في بدايتها بتحريض من قلم المخابرات البريطانية ونجيت باشا، فهو الذي أغدق على الأقلام وحثها على الكتابة السلبية عن المهدية فجاءت كتابات نعوم شقير الشامي وإبراهيم فوزي باشا المصري وأهرولدر البريطاني وسلاطين باشا النمساوي وغيرهم، كانت تلك الكتابات جزءا من الدعاية الحربية على المهدية لهزيمة الروح المعنوية للأنصار وتقوية شوكة مخالفيهم في ا لمجتمع، فكانت الذهنية التي بني عليها السودان الحديث على عهد الاحتلال الثنائي مضادة للمهدية معلية من شأن معارضيها. يقول بروفسير محمد هاشم عوض في مقال له عن "التغير الاجتماعي في السودان: "وهذا ما حدث في الحقبة الاستعمارية الماضية حيث قربوا مزارعي نهر النيل ومثقفيه الذي عارضوا المهدية ومؤيديها من قبائل الشرق والغرب الرعوية، واستغلوا مزارعي النيل ومثقفيه في مشاريعهم الزراعية ودواوينهم الحكومية في نهب خيرات البلاد". لذلك نشأ التعليم الحديث والخدمة المدنية وقوات دفاع السودان وكل هياكل الدولة السودانية الحديثة على أساس معاد للأنصار مما جعل دعوة إعادة هيكلة الدولة على أساس قومي تعني فيما تعني إعادة اعتبار الأنصار في هياكل الدولة الحديثة فهم في ذلك من المغبونين وليس المحظيين كما وقر في صدر الكثيرين. لاحقا سلطت كتابات كثيرة مغرضة منقادة للدعاية المصرية المنصبة على أن السودان جزء من مصر بحق الفتح والمنادية بفاروق ملكا على مصر والسودان لتشويه وجه المهدية في طورها الثاني وهي –أي المهدية- التي وقفت ماردة في وجه هذا الادعاء ولولا وقفتها لما كان للانتصار على دعوة ضم السودان للتاج المصري من سبيل. اغترف الخطاب الثقافي السوداني من كتابات الدعاية الحربية المغرضة ثم الدعاية المصرية المنقادة للتاج ما شاء له حتى جاء الإنصاف للمهدية بأيدي أقلام تنتمي لخلفيات معادية، فكانت كتابات البروفسير محمد إبراهيم أبي سليم عن المهدية في طورها الأول غير مشوبة بشبهة انحياز تقليدي. وكان إنصاف المهدية في طورها الثاني على يد البروفسير حسن أحمد إبراهيم الذي أظهر أنه أتى من بيئة تتهم الإمام عبد الرحمن المهدي اتهامات خطيرة وبحث حتى وصل في كتابه عن "الإمام عبد الرحمن المهدي" إلى أنه أعظم شخصية سودانية في القرن العشرين، ثم كان تغيّر تقييم البروفسير أحمد إبراهيم دياب –الاتحادي الاتجاه- من مرارة واتهام المهدية في طورها الثاني في منتصف الثمانينات، إلى تسليم واعتراف بأيادي الإمام عبد الرحمن المهدي البيضاء على السودان والسودانيين في منتصف التسعينيات. أظهرت تلك الكتابات المهدية كدعوة وطنية أساسية في تكوين القومية والتوحيد السودانيين. ولعل دور المهدية الديني ظل غائبا في كتابات السودانيين المنطلقين من خلفية مدنية قليلة الجرعات في تعليمها الشرعي، أما الآخرين المنطلقين من تعليم ديني أو التيارات الإسلامية التي نشأت في رحم التعليم المدني فكلها لم تركز على تبيان الدور التشريعي المهدوي التجديدي والإحيائي الرائد إما من عجز عن تفهم ذلك الدور أو جحود بسبب التنافس الديني أو السياسي مع ورثة المهدية. وإن كنا قد أشرنا إلى كتابات إسلاميين غير سودانيين تعترف للمهدية بتلك الريادة الدينية في حلقاتنا السابقة.
وإزاء هذا التسليم الكامل للمهدية ودورها الرائد وطنيا ودينيا برز تيار مثلته كتابات مثل "الصراع بين المهدي والعلماء" للدكتور عبد الله علي إبراهيم، و"المقاومة الداخلية للدولة المهدية" للدكتور محجوب مالك فيها تتبع للمنطق الذي كان وراء معارضة المهدية لدى من عارضها. فتحت هذه الكتابات الباب أمام خطوة لاحقة افتتحتها ورقة الدكتور عبد الله علي إبراهيم عن "المهدية والكبابيش" حيث صدّر عنوان الورقة بجملة "نحو مشروعية لمعارضة المهدية"، وقد ساحت الورقة في تتبع تقاليد وقيم وثقافة الكبابيش التي يصعب عليها هضم التعاليم المهدوية كما تتبعت حظوة الكبابيش ومصالحهم المرتبطة بالحكم التركي مما جعل معارضتهم للمهدية مرتبطة بالخارج ومنسقة مع المخابرات البريطانية والجيش المحتل. بعد ذلك جاء مقال الدكتور عوض السيد الكرسني المعنون بذات العنوان "نحو مشروعية معارضة المهدية" عن "تحقيق نصيحة الشيخ ود دوليب" وفي ذلك المقال المنشور بمجلة الدراسات السودانية تتبع لموقف الدواليب بكردفان المعارض للمهدية وارتباطهم مصلحيا بالحكم التركي علاوة على النصيحة التي تركها لهم الشيخ ود دوليب قبل وفاته منذرا بمجيء المهدي ومحذرا من اتباعه.
الكتابات التي تبحث مشروعية معارضة المهدية محقة في شيئين:
الأول: إن كان غالب الناس قد وقفوا مع المهدية إبان فترة الثورة فقد وقف البعض لارتباط مصالحهم بالحكم التركي معارضين.
الثاني: أما بالنسبة للدولة فإن برنامج المهدية الثقافي والديني كان من الصعب تقبله لدى الكثيرين في ذلك الوقت، علاوة على ذلك فإن الخلافات إبان الدولة أبعدت آخرين فانضم لمعارضة الدولة بعض جنود الثورة.
لكن تلك الكتابات أغفلت جوانب أخرى منها:
أولا: أن المهدية ثورة ودعوة تحررية وتكوينية للقومية السودانية في ذات الآن مما اقتضى لغة أحادية لا يمكن محاكمتها بمنطق البناء بارد الدماء وبعد تحقق التحرير والتوحيد، كما أنها كانت في زمان سادت فيه لغة العنف والاقتتال الدنيا فلا يمكن محاكمتها بمنطق العصر الحالي بحال، وهذا هو المعنى الذي أشارت له بصورة واضحة الفرنسية د. فيفيان ياجي في مقالها بعنوان "الخليفة عبد الله في ضوء جديد". كل تواريخ التوحيد والتحرير العالمية احتوت على فترات احتكمت فيها لمنطق أحادي قتالي. وليكن الحكم الإجابة على السؤال: هل كانت قيادة الثورة تعطي إنذارا أو تدع لغير القتال سبيلا أم لا؟ إن تواريخ الإنذارات في المهدية حافل بخطابات هادئة اللغة تحكّم العقل بل وتناشد القلب، يخاطب بها الإمام المهدي عدوه بـ "حبيبنا في الله" ويناشده مناشدة حارة ويضع فيه أملا وحسن ظن، حتى غردون المحتل الأجنبي الذي حارب الأنصار حربا بيولوجية فنشر بين صفوفهم الجدري، حتى هو خاطبه الإمام المهدي خطابا لينا عله يذّكر أو يخشى، ولم يقل آذنتها عليك حربا لا رجعة عنها بل "سلّم تسلم" وكان يزمع أسره حتى يفتدي به عرابي قائد مصر الوطني.
ثانيا: أن معارضة المهدية المرتبطة بجيش الاحتلال لا يمكن النظر لها بعين المشروعية. ولو كانت معارضة وطنية مستوعبة لمتقضيات القومية الوليدة ولمطامع المحتل لما صدح لسانها قائلا:
يا يابا النقس يا الإنجليز ألفونا
والنقس هو ملك الحبشة. وكذلك قال قائلهم بعد كرري ودك الدولة الوطنية السودانية الأولى مهنئا كتشنر:
بشرى لجيش بالفتوح فقد ظفر
ثالثا: أن المهدية في طورها الثاني أدركت أن فرض البرنامج الديني والثقافي الإصلاحي بشكل فجائي يقود لردود فعل ويلقى معارضة تطيح به، وأنه لا بد من التدرج في البرنامج الإصلاحي والتسامح مع الآخر المذهبي والوطني.
وما يهمنا هنا من كل هذه السياحة أن نثبت أن الوعي السوداني بعد تخلصه من آثار دعاية المحتل الحربية ولو جزئيا خرج لكأنما مبشر بأن المهدية هي الاتجاه الوطني الشرعي الوحيد. هذا المعنى استفز بعض المؤرخين ليبحثوا في الأسباب التي جعلت البعض يعارض المهدية بحثا عن مشروعية لمواقفهم المتهمة تلك. ورأيي أن غالب أعمال تلك الكتابات قد ضلت طريقها حينما أثبتت عكس ما أرادت بحيث وثقت مع أسباب المعارضة لأعمال تصب في خانة الخيانة الوطنية، ولقد كان اتجاه المهدية في طورها الثاني أكثر إنصافا وتفهما للجماعات التي عارضت المهدية سواء في فترة الثورة أو الدولة وأكثر اعترافا بها كجماعات وطنية أصيلة المواطنة مع الأنصار (ديننا الإسلام ووطننا السودان)، صحيح وقر في بعض الضمير الجمعي للأنصار مقولة "البلد بلدنا ونحن أسيادها تشهد كرري والشكابة" ولكن ما فتئت الصيحات من النخبة الأنصارية تعمل لعكس هذا المعنى وها هي مناشدة إمام الأنصار الآن لتحوير ذلك الهتاف ليكون "البلد بلدنا الكل أسيادها"..
لقد كانت المهدية ثورة شعبية حقيقية تحريرية وتوحيدية وتشريعية وتعريفية بالسودان الذي كان قبلها شبه مجهول عالميا، وكانت كاملة الشرعية المستمدة من الرجال والنساء الذين ساروا في ركابها واستجابوا لصيحاتها الوطنية والدينية الصادقة، والمغالطة حولها تقف عند حد: هل توجد أية مشروعية لمعارضة هذا البرنامج الوطني والديني الإصلاحي العظيم؟.. فما هو شأن "الإنقاذ"؟.
استقل السودان من الاحتلال الثنائي منذ 1956م وتعاقبت عليه الحكومات الوطنية الديمقراطية والعسكرية، ولم يشهد المشهد السياسي السوداني بعدا كبيرا عن الدين كما شهدت غيره من دول العالم العربي والإسلامي وذلك بأثر من المهدية. فقد رأى الاحتلال الثنائي أن المهدية أججت العاطفة الدينية السودانية في الشمال بشكل كبير ولو أراد أن يبقى فعليه ألا يستفز تلك العاطفة. لذلك حد التبشير المسيحي في الشمال ودعم العلماء والجماعات الدينية والطرق الصوفية المعادية للمهدية، ولذلك كانت الحركة السياسية السودانية حتى اليسارية أبعد من غيرها من الإساءة للدين، وكانت دعوة تحرير المرأة وحقوقها غير مقترنة بالسفور كما حدث في بلدان أخرى، ولما ظهرت الحركات الصفوية الإسلامية قوبلت باحتفاء أكثر مما قوبلت به في المجتمعات المماثلة. لم يكن المشهد السياسي السوداني وبأثر من المهدية خال من الدين أبدا ولعله كان في مصر كذلك منذ حملة نابليون وما تلاها حيث انحصر الدين في مؤسسة الأزهر التي تفرّخ علماء هم أقرب لكونهم أدوات في يد السلطان بينما كانت القلة المعارضة لاتجاه تدجين المؤسسة الدينية تلقى عنتا متزايدا. ولذلك فإن الحركة الأخوانية المصرية واجهت بطشا شديدا في مصر علي يدي جمال عبد الناصر ولا زالت تعاني. والسودانيون بأثر لا ينكر من المهدية متمسكون بشعائر الدين وعباداته حتى قبل موجة الصحوة الإسلامية التي نفحت العالم الإسلامي منذ سبعينيات القرن المنصرم ولا زال مدها متزايدا. وفي الزمان الذي كان فيه التزام الشباب بالصلوات والصيام خاص بالجماعات الإسلامية في الكثير من بلدان العالم الإسلامي، كان ترك الصلاة وفطور رمضان لدى الشباب من المستهجنات للإنسان السوداني العادي.
كانت أشواق التأصيل الديني والثقافي تجد أذنها الصاغية في الأنظمة الديمقراطية، وكانت الديمقراطية الثالثة تنفذ برنامج التأصيل بخطوات مدروسة، وصوتت صناديق الاقتراع لصالح برنامج نهج الصحوة الإسلامية لدى حزب الأمة بأكبر الأرقام ثم للجمهورية الإسلامية لدى الاتحادي الديمقراطي ثم بدرجة أقل للجبهة الإسلامية القومية. وحتى لو فشلت الحكومة المنتخبة في تحقيق ذلك البرنامج فإن الانتخابات الدورية كانت جديرة بتصحيح الاتجاه نحو التأصيل استنادا على غلبة الأشواق الإسلامية لدى السودانيين.
انقلبت "الإنقاذ" على نظام شرعي ديمقراطي منتخب وخرقت الدستور واستبدلته بنظام لا شرعي امتطى صهوة الدبابات ليفرض على السودانيين طاقما حاكما لم يحتكم له شوريا وبرامج فوقية صاغتها عقلية الجبهة الإسلامية وقيادتها وقد أثبتت الأيام قصورها باعتراف بعضهم. أوقفت "الإنقاذ" برنامج التأصيل الديمقراطي المدروس والذي يستوعب المواطنة ويبنى على اتفاق مع الشركاء الوطنيين غير المسلمين مستبدلة إياه ببرنامج "المشروع الحضاري" الذي أنتج نقيض الحضارة ونقيض الإسلام بمفاقمة كافة ملفات الفساد والسير بالسودان القهقرى، فقد أوقفت "الإنقاذ" تطور البلاد في مناح كثيرة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وعطلت عملية السلام مستبدلة إياها بالتصعيد الجهادي ومقولة السلم عبر الحرب.
لم تكن هنالك أية مشروعية دينية أو وطنية "للإنقاذ" التي خططت لها الجبهة الإسلامية القومية باعتراف قادة التيارين المنشقين عن المؤتمر الوطني خليفة الجبهة. لقد أصابت "الإنقاذ" الملف الديني بكبوة عظيمة جعلت الناس الذين صوتوا للإسلام وهم أحرار يهتفون مكبلين قائلين: "كملنا الدين دايرين بنزين"، أما وطنيا فقد أدخلت الوطن في خانة أن يكون أو لا يكون!. هل هذه هي الثورة الإسلامية العربية العظيمة التي يقرظون ويبشرون بمثلها في بلدان العالم الإسلامي؟!.
خلاصة هذا المقال: ربما وجدت مشروعية لمعارضة المهدية كثورة ودعوة إسلامية وطنية، ولكن لا توجد أية مشروعية لقيام "الإنقاذ"!.
في الحلقة القادمة نتعرض بإذن الله لمعنى هام يستعرض الفرق بين المهدية عبر الحقب وبين (الإنقاذ) أي: المهدية بعد مائة عام في مقابل "الإنقاذ" في أوج السلطان.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة