|
السياسة والدين "صوت .. لا نصيب له من سلطة"
|
لا أستطيع أن أتصور شيئا أسوأ من حكم رجال الدين، وهو أمر أنأى بنفسي تماما عنه
رئيس حاخامات بريطانيا، د. جوناثان ساكس
ماهو مقدار الإيمان الذي نلتمسه في قادتنا السياسيين؟ هذا ليس سؤالا في السياسة وإنما هو سؤال في الدين. فإذا ادعى الجالسون على مقاعد السلطة أن يد الله ترعاهم، هل نشعر بعدها بالراحة أم بالإلهام أم بالخوف؟
توني بلير، الأنجلو كاثوليكي، سياسي من الذكاء الكافي بما يسمح له أن يعرف أن التدين في بريطانيا ليس سبيلا لكسب الأصوات.
فبمجرد اختلاط الدين بالهواء السياسي، تنفذ رائحة النفاق. فما إن بدأ بلير حملته الانتخابية عام 2001، وظهرت صوره يحمل كتابا للترانيم في يده على خلفية الزجاج المعشق المشهور بالكنائس، إلا وبدأت الصحافة تكيل له السخرية. وهكذا انتهى الدرس الأول.
عندما وجه أحد الصحفيين الأمريكيين من صحيفة (فانيتي فير) لبلير سؤالا عن معتقداته الدينية، صاح مدير الاتصالات السابق، أليستر كامبل، من مكانه الذي يجلس فيه، وأوقف سير الحوار الصحفي قائلا: "لا شأن لنا بالدين"، وبالفعل توقف الحوار عن الخوض في هذا الأمر.
الكنيسة في مواجهة الدولة فلماذا إذا "لا شأن" للبريطانيين بالدين؟ ولماذا يشعر السياسيون الأمريكيين بحرية أكثر كثيرا عند الحديث عن معتقداتهم الدينية التي يحملونها معهم إلى أرفع المناصب؟ أولا، هناك بعض الحقائق يستند إليها في هذا الأمر.
يعتقد القس باري لين الذي يدير منظمة (الأمريكيون المتحدون لفصل الدولة عن الكنيسة) أن السياسيين الأمريكيين ينزعون حتما للعب بورقة الدين لأنهم: "يعرفون أننا نتمتع بأعلى نسبة للذهاب إلى الكنائس في العالم الغربي، وأعلى نسبة من المؤمنين بالله، وأعلى نسبة لمن يحضرون المحافل الدينية بانتظام". معظم الأمريكيين يعتقدون أنهم بالفعل كما يقول يمين الولاء الأمريكي: "أمة واحدة أمة واحدة يرعاها الرب".
في هذا المناخ، لا يساعد الساسة فقط إظهار انتمائهم الديني، بل أيضا إبراز ذلك كلما واتت الفرصة. ويقول باري لين إنه لهذا السبب صاغ الآباء المؤسسون للولايات المتحدة دستور البلاد، بحيث كان أول بند فيه، هو فصل الدين كلية عن السياسة. لقد أنشأت الولايات المتحدة على أيدي لاجئين دينيين لاذوا بالعالم الجديد فرارا من أوروبا، وكذلك كان أغلب سكانها من البروتستانت الفارين من القمع في أوروبا، وهم الذين عانوا من استبداد الدولة التي اختلط فيها الدين بالسياسة. لذلك عينه حظروا قانونا أن تفضل الدولة الفيدرالية أي ديانة على أخرى، أو أن تعرقل ممارسة أي شخص لشعائره الدينية الشخصية أو التعبير عن إيمانه. باختصار، الولايات المتحدة ليست دولة مسيحية، على الرغم من أن هذا الكلام قد يثير حفيظة الكثيرين من الإنجيليين المحافظين.
فمذهب الولايات المتحدة هو الحرية.
ميراث هنري الثامن غير أن المملكة المتحدة ليست كذلك.
الكثيرون يسخرون اليوم من عدم وضوح وتخبط كنيسة إنجلترا (الأنجليكانية)، غير أن الحقيقة الثابتة هي أن المسيحية الأنجليكانية هي دين الدولة. فالملكة ليست (حامي الإيمان) أيا كان هذا الإيمان وإنما هي (حامي العقيدة) والمقصود بها الإيمان المسيحي، والرأس الأعلى للكنيسة الأنجليكانية.
من مهام الملكة الدفاع عن العقيدة ولستة وعشرين من أساقفتها مقاعد وحقوق تصويت في مجلس اللوردات، وهي الميزة التي لا تحظى بها أي ديانة أخرى.
وإذا كان الدستور الأمريكي يفصل رسميا بين الدين والدولة، فالقانون البريطاني يدمج بينهما رسميا.
وهنا مكمن السخرية الحقيقي، فبدلا من تحويل المملكة المتحدة إلى دولة أكثر تدينا، تحول الأمر إلى النقيض تماما.
وهو بالتحديد ما كان الملك هنري الثامن يسعى إليه عندما ابتكر هذا النظام الأنجليكاني، في القرن السادس عشر. فقد اصطنع لنفسه ديانة خاصة يرأسها بنفسه قاصدا وقف رجال الكنيسة المثيرين للمشاكل عند حدودهم.
وحتى اليوم فإنه مما يضعف صوت الكنيسة الأنجليكانية أن أساقفتها الرئيسيين يعينهم رئيس الوزراء، ولا يعض سوى القليلين يدا امتدت إليهم بالخير.
ديانة بلا سلطة هناك توازن هام وحيوي بين السلطة والرؤية الدينية.
فرئيس حاخامات بريطانيا، الدكتور جوناثان ساكس، يقول إننا إذ نخرج الدين من حيز السياسة إنما نفعل ذلك متحملين نتيجة تلك المجازفة، فبدون ما وصفه جورج دبليو بوش يوما بـ"الرؤية" تصبح السياسة ليست إلا مجموعة من القضايا قصيرة الأجل التي لا تعنى بشيء إلا بكسب الشعبية والربح.
ومع ذلك يصر د. ساكس على أن صوت الدين في السياسة ينبغي أن يبقى بلا سلطة.
فقدرة الدين على كسب قلوب وعقول الناس يجب أن تعتمد على قوة الحجة وليس على حجة القوة. يقول الدكتور ساكس إن الدين في أسوأ حالاته كان مسؤولا عن إبادات جماعية واستبداد وإرهاب، لكن ذلك لم يحدث إلا عند اختلاط الدين بالسلطة، والخلط بين الاثنين.
وقال: "لا أستطيع أن أتصور شيئا أسوأ من حكم رجال الدين، وهو أمر أنأى بنفسي تماما عنه، أنت تعرف أنه في إسرائيل إبان التاريخ القديم، كان هناك أشخاص يملكون السلطة هم الملوك، وأشخاص لا سلطة لهم وهم الأنبياء، والآن هل يذكر أحد ملوك إسرائيل؟ أنا لا أذكرهم". ويضيف "لكن كلمات الأنبياء العبرانيين لن تمحى أبدا طالما ولى الناس وجوههم شطر السماء، وصوت هذه الكلمات يتحدث جانبا، ولا يتحدث إلى أحزاب سياسية أو إلى جماعات تهدف إلى الكسب السريع، وإنما يتحدث إلى أعماق روح الإنسان في داخله، إلى هذا الأمر الإلهي في داخلنا، وهو الذي ينجح حقا، لأن هذا الصوت ليس له نصيب من سلطة. هذا هو نمط المجتمع الذي أرغب العيش فيه".
بقلم روجر تشايلدز مُعِد برنامج "يد الله" BBC
مع تحياتي أبو آمنة
|
|
|
|
|
|