|
|
 كنت هناك : ما تبقى من سيرة عبد الباقي المنسية
|
قال عبد الباقي ابن عمي عن اخبار ما جرى :
كنا نصيد العصافير الصغيرة ونقطع رقابها دون سكين نوجهها حيثما اتفق ونشويها في النار ونأكلها بتلذذ... امي تقول إنها «فطيسة» وحرام لاننا لا نسمي الله عليها .. في الليلة التالية وفي امسية مضاء فيها القمر ، دقات قوية على الجدار ، النسوة يحتشدن جارتنا ام الحسن مريضة النساء يتوافدن زرافات ووحدانا يلبسن الحلى في ايديهن ورقابهن الثياب الزاهية والاجسام الممتلئة شامة شيخة الزار تتوسد الحلقة.
تسللت لارى من خلف ثقب الباب الخارجي احتفال اولئك النسوة الصراخ والرقص العنيف ، التلطخ بالدم هناك من تلوث صدرها وثيابها بالدم واخريات ينثرن الرماد ويترنحن ويهمهن ويزبحن الخراف والديوك السوداء وديوك الحبش والرومي والبط .
جدتي شمه تحكي لنا الحكايات عن فاطمة السمحة والغول وابوزيد الهلالي ومخاضته عند منحنى النيل وعن عنترة وعبلة وبطولات المهدية التي لا تنتهي.
امسكتني جارتنا (عيشة) متلبسا نهرتني زجرتني بشدة على ان لا اعاود التلصص على الناس وهي المعروفة بطبيتها البائنة لا ادري لماذا يحرم على الاطفال مثلنا الدخول لهذا العالم كنا سبعة من الصغار نسكن في غرفة واحدة ومعنا اختان لامي سعيدة وبخيتة والدنا متوفي واخ ابي هو الذي يشرف علينامن بعد. كان يعاملنا بقساوة وشراسة وهو المعروف بعنجهيته وهستيريا تركب رأسه دون سبب كنا نكرهه ونعانده احيانا كنا نبكي وهو يسبنا والشرر يتطاير من عينيه انهارا من الجنون نفسه خياله يلاحقنا في الصحو والمنام وحتى وان ذهبنا للسوق بعيدا او المدرسة نعتقد انه يشاهدنا وعندما تزوج وانجب دستة من البنين والبنات لم يعاملهم ما عاملنا نحن كان يرأف عليهم بحنية زائدة .
في الصباح تثور المشاكل لان الشاي دون حليب او فتات خبز جاف ونتناول وجبة الافطار المكون من عصيدة الذرة بالماء والبصل لم نعرف معين الادام الا في الاعياد حين يتصدق علينا بعض المعارف باللحم . المنزل عبارة عن عشة صغيرة والدتي انهكها التعب تعمل الزلابيا والطعمية وتبيعها في الاسواق كما انها تصنع البروش والقفاف والاطباق من السعف الملون .
كنت اعتقد انني سأصير رجلا مهما في يوم ما .. اشياء تتراءى لي كفقاعات الصابون ولا امسكها .. كان عمي ابراهيم يقول لامي ان هذا الولد ذو الرأس الكبير سيكون له شأن.
وجبة الغداء غالبا ما يفوت وقتها ومن ثم تأتي امي من السوق ونتعشى حينا ينام من السابعة الفقر هنا عشعش وترك له ابناء وبنات .. الفقراء كثيري الانجاب ولكن ابناءهم مهازيل تزوجت خالاتي الاثنين اللائى كن يسكن معنا في نفس العشة صرنا سبعة خفت المكان نوعا ما حظهن التعس رماهن في ازواج فقراء لا احد استشارنا في مثل هذه الزيجات البائسة ! سنوات قلائل وامتلأن بالبنين والبنات.
شاهدت ختان سارة الصغيرة جارتنا التي كنا نلعب معها سويا شئ من الخوف والرهبة تملكنا انه اذن ختان البنات سارة الصغيرة الجميلة تتلوى في اسي بين يدي نساء بحجم شجرة التبلدي وتصرخ صراخا يفطر القلب.
كنا اثنين اختي وانا وعندما بلغت السادسة جاء رجل يطلب يد امي وافق اخ امي على عجل ليتخلص منا اخبرني ان بذلك سيكون لي اخوان عندما اكبر سيساندوني واتى لنا اختين واخوين فرحت بهم وان كانت امي كثيرة الشكوي والضجر وهي مازالت تشقي في العمل تحيك الملابس القديمة وتزور مقابر الصالحين تضع عليها بعض النقود وقطع القماش الملونة وتأخذ البركة .
اعلام ترفرف على ضريح والدي كان رجل دين وقور ومهاب هكذا كانوا يقولون لم احضر كل ذلك .
كنا احيانا نأكل البليلة اللوبيا او الدخن ونكتفي بها بقية يومنا ذاك اطفال الحي يخطفون مني الحلوي والبلح الذي كنت اشتريه من الدكان البعيد.
في مرة كل عام يزور قريتنا المداح انهم يمدحون النبي والمهدي الامام ومن ينزلهم ويحسن اكرامهم يذبح لهم الخراف كنا نسهر نسمع المديح بخشوع وننتظر حتى يتعشون لنأكل ما تبقى من وجبة دسمة .
كنا نسرق النبق والليمون والجوافة من منزل منصور احد التجار اعيان البلدة درية ابنته رشيقة الجسم في لون المانجو الطازجة وجهها الجميل قوامها الممتلئ بالعافية عندما اراها يدق قلبي بشدة قال لي احمد صديق انه الحب ما اتعسك انه من طرف واحد تلعثمت عندما هممت ان ارد عليها السلام طاطأت رأسها خجلا قميصها الموشى بورد احمر المشدود على جسدها اللادن لم يفارق مخيلتي طيلة السنوات خالتي عيشة اخذت عهدا مني ان لا اسرق الفواكه من منزل درية منصور .. وافقتها وامي تشد من شعري وتقرص اذني.
تقسم زوجة خالي زينب ان لا تلد غير هذه المرة وماهو الاعام وتنتفخ بطنها من جديد النساء لا موقف لهن ولا اسرار يحتفظن بها عرفت كل ذلك واكثر يضحكن ليمررن بعض اشيائهن وكذلك يبكين حتى يستجاب لطلباتهن كالاطفال تماما.
كنا نسأل اسئلة لا اجابة لها من اين اتينا ان يصار بنا لا احد يعرف الرد عندما كبرت عرفت ان السرقة حرام كنا نفعلها كنوع من شقاوة الاطفال النساء يكذبن وعندما يكنا وحدهن يقلنا احاديث لا تكتب.
الرجال يذهبون للعمل نهارا وانا استحم في الشهر مرة واذهب مع امي لزيارة جاراتها كن يضممني في الفة ويسلمن على في خدى تارة وفي رأسي اخرى كنت اشعر بلطفهن واتمنى ان اظل هنالك لمدة اطول واتساءل لماذا هن هكذا قويات كالموج رقيقات كالنسيم .. زينب زوجة خالي ممشوقة القوام طويلة وبشعر مموج لونها كما القمح في اكتمال نضوجه.
وخالي قمي شديد السواد وقصير ومجعد الشعر افطس الانف كانت النساء يقلن ماذا حببها فيه حتى اولدته سبعة من الابناء والبنات.
اخي من ابي اخذه النهر يوم العيد لم يعرف السباحة ركب المركب مع الاولاد الاشقياء وعندما صاح الصبية بان صاحب المركز قد اتى هربوا هم ناحية الشاي وذهب هوناحية النهر وابتلعه اليم كان ذلك يوم حزن شديد رحلنا من القرية للمدينة ولم يفارقنا الفقر امي اشتعل منها الرأس شيبا وتوفي زوجها الاخير وذهب الابناء للمدارس كنت اعمل في العطلات الصيفية النهار بطوله واساعدهم في عيشة المنزل.
عند زواج خالي الثاني حضرنا حفلته وطقوس «قطع الرهط» الخاصة وهو وزوجته داخل غطاء من الحرير والنسوة فقط يغنين لامكان للرجال هنا بغطاء الحرير المنزلق العريس والعروس وكان ان دلق عليها اللبن الحليب ونثر عليها التمر والحلوى وحبوب القمح تيمنا بالرفاء والبنين.
لقد امسك عروسته الفارعةفي الوسط تماما الا انها افلتت قالن له النسوة ان لا يستعجل كنت متشوقا ليوم مثل هذا نديا كورد طاعما كسمك الثلبويه يرفرف الفرح في صدري ويطير بجناحين من السرور غرقت في لذة منقطعة النظير انبهرت بالاضواء اللامعة بلعت ريقي ورحت في حلم طويل.
عصافير تصيح ونباح كلاب ومواء قطط ..
والليل طويل تتعرى فيه ذاكرتي سارة يلتئم جسدها سريعا وتأتي للشارع بخطوات متعثرة سألتها عن ذاك الشئ وعن تجاربنا الفطيرة في اللمس .. ضحكت وازداد حنيني لضحكتها الصافية صارت اكثر جمالا بعد سنوات عندما طلبها احد المغتربين للزواج فرح كثيرون واندهشت ان ما اجمل سارة صارت احلى بعد تهيؤها للعرس كثيرون تحسروا ان لم يكن قد خطبوها للزواج.
كنا نسبح معا ونلعب في الليالي المقمرة لعبات مشتركة وننام في الرمل حتى الصباح... تلك ايام للبراءة لن تعود واحيانا يأخذنا النعاس النساء يحلمن بالرجال والرجال يحلمون بالنساء كنا نحلم ونحن صغار نعرف كل شئ يحاول ان يخبيه الكبار.
من يحبنا بلطف من يعبس في وجهنا كان لنا تفسير مغاير للعالم .. نندهش لفراشة طائرة ونعطف لعصفور مهيض الجناح ويستغرقنا الكون ومافيه خاصة فصل الخريف.
النساء يضعن نقاط من لون السكن على جبين الطفل الذي انهكته الحمى لكم قتلت الحمى كثيراً من الصغار والنسا هنا يؤمن بالشيوخ الصالحين طاردي الارواح الشريرة كنت اقص كثيراً من الحكايا الخيالية للاطفال في مثل عمري كانوايسمعون باندهاش ويصدقون في سرعة اما الكبار فكانوا يستهجنون حكاياتي غير المستساغة.
كنا نطارد الكلاب والقطط ليلا ونتجنب ذات اللون الاسود ونراقب حركات الجراد والصراصير والخريف فصل شيق باعشابه النابتة وحشراته العديدة التي كنا نفصل رأسها عن بقية الجسد لنعرف ماذا يتم بعد ذلك .
وعندما ذهبوا بنا للمدارس لاول مرة كنا نرى ان الحصص اقل تشويقا مما تعلمناه من الحياة.
ليلا يتحلق الاطفال يحكون القصص ما صحيح منها ومنها الذي لا اساس له من الصحة يحكون اشياء دافئة ولذيذة وعن اشياء ليست بالجميلة ولكنها تزيل السأم ان تسمع بالمعيدي خير من ان تراه.
كنا نسمع باحمد عبد الله احاديثه الناضجة افكاره المنتقاه بعناية تجاربه التي لا تكمل خلطه الجد باللعب والصدق بالكذب ولا يرمش له جفن .. احمد عبد الله يقول انهن كلهن في الليل سواء ونغالطه ملء افواهنا انه يحب الجمال المتواضع ويقول ان القبيحات دائما غير مرغوبات فهن الافضل والجميلات متكبرات لتكن لطيفا معهن وستكسب تلك نصائحه التي ينثرها كالدرر علينا ونتلقفها نصونها كقانون مقدس يجب الاستجابة له والدفاع عنه.
ذهبت الى السوق حيث كنت اعمل في محلج للقطن في المدينة ليلا ومعي عشرات الصبية كنا نعاكس صاحب المحلج كثيراً ويوميتنا لا تتعدي ربع جنيه كانت كافية لدخول السينما ومستلزماتها واشياء اخرً كثيرة حيث البيوت الواطئة مهد الحنان والحب !
عدت الى المنزل وجدت عشرات النسوة ان في بيتنا احتفال يا للمناسبة السعيدة حيث لم يخبرني احد امي فاطمة تتصدر الجمع انه يوم «دق الشفاه» لخالتي سعيدة الابر الحديدية تنغرز في الشفة السفلى لخالتي سعيدة دق الدفوف واغاني كلماتها تحث على الشجاعة الدم ينزل غزيرا وهن ممسكات بها ومن ثم يضعن لها السناج المأخوذ من دخان الصندل واللبان العدني وهي تتأوه صامتة انه نوع من الجمال للزوجة الجديدة هل هي عادة فرعونية ام عربية لست ادري.
خالتي ام الحسن تشرف على هذه الطقوس وهي التي تزوجت خمسة عشر رجلا بالتمام والكمال وطلقتهم الواحد تلو الآخر لانهم رجال تيوس على حسب قولها وهي لا تحب التقيد .
جدتي شمة كانت تزغرد ونحن نشهد ختان ابن اختها الزين... الزين صبي باهر الجمال اتو له بالمطهر محمود الثمل دائما تجمع الناس بعد وجبة غداء دسمة في بيت الشيخ البشير زوج جدتي كلتومة وبعد العصر خرجت النساء وفي معيتهن الزين يزينه الهلال الذهب روعة ووسامة جاء محمود السكير بدل ان يجز الجلدة الخارجية جز العضو من اساسه وصار هناك هرج ومرج وصياح اتو باللوري ملأ الناس العربة حتى آخرها ذهبوا للطبيب المختص .. عالج الطبيب الزين في الزمن الضائع.
واقسم الشيخ البشير ان يجز رأس محمود السكير ولكنه لم يفعل.كذلك اقسم عمي ابراهيم اخ البشير ان يزوجه ابنته الجميلة اميرة ولكنه بمرور الايام نسي الامر وانتهى موضوع الزين وحسرة كبيرة تملأ الافق. . لم يخلخل حياتنا الساكنة الا موت ابن خالتي سعيدة الفاضل بعد سنوات عديدة.
الفاضل نظراته الوديعة جسده الناحل نابه وذكي تعلم حتى سافر للخارج كنا نسميه «الفتى القزحي» وعندما اتى رفض والده ان يواصل تعليمه التهب جسده بالنار يوم زواج اخته سكينه انقلب العرس الى مأتم صارت الدنيا بائسة في نظرنا لاول مرة اعرف معنى الالم الذي يمزق القلب ان تحزن حتى البكاء كأننا لم نذهب لنجدته عندما استغاث عقدة الذنب اخذتنا لماذا لم نر انه في طريقه للموت وكيف اننا لم ننقذه.
الأيام اضحت كئيبة تفتقر للحنان والحب اثر فينا ذلك لزمن طويل.
واتت الأحداث تترى
كلام كثير صرنا نسمعه تربينا عليه ولكن ما يخترق أرواحنا ذلك ما نشأنا عليه والحياة هناك جريئة وتجري على نسق شفيف انه واقع متميز وصادق.
|
|
 
|
|
|
|
siddig elhilo
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست