|
الملاط اللبناني وحكيم الموردة السوداني ... جمال محمد ابراهيم
|
منقول سودانايل
19 سبتمبر, 2007 08:14:04 PM
جمال محمد إبراهيم* [email protected] (1)
يحكى عن "فاكهاني " في سوق حيّ الموردة في أم درمان ، معروف بتحذلقه باللغة العربية ، يفصح بها ليل نهار ، أنه سقط في حفرة من حفر المجاري عمقتها أمطار عاصفة، وحدث أن مدّ له أحد المارة يده ليرفعه من سقطته ، قائلاً بعامية سودانية : " إديني ايدك يا زول !" ،ورفض صاحبنا الفاكهاني هذا العرض . عرف رجل آخر من أهل الحي سر الرفض ، فتقدم نحو الفاكهاني قائلاً : "ُمدّ لي يدك ، أنقذك يا رجل ! "، فصاح به الفاكهاني : "خذها بجدارة يا فتى ! " ، ولكنه كان وقتها قد أوغل في الوحل ، وأوشك على الغرق . . !
تلك قصة قد تكون ذات مغزى ، إن صبرتم على ما سأحكيه لكم عن اللبناني المرشح لرئاسة الجمهورية بين عشرات المرشحين ، وأمره عجبا !
(2 )
لربما لقصر عهدي بلبنان - فأنا في بيروت منذ أشهر – غير أني لم أسمع كثيراً بإسم شبلي الملاط ، ذلك الذي طرح نفسه ، مرشحاً لمنصب رئيس الجمهورية اللبنانية ، وآثر أن يبدأ حملته الإعلامية – أو هي الإعلانية؟ – بتصريحٍ قال فيه : " لا نريد وسطاء ممن تحوم حولهم شبهة مجازر في دارفور !" ذكرني الرجل برهطٍ من نجوم الساحات الدولية من العاملين في منظمات غير حكومية ، أو ممثلين من هوليوود ، يقفون في صف انتظار الحصول على لقب " سفير النوايا الحسنة " !
قرأت قبل نحو عام ، وإبان مساعي السودان في إطار رئاسته للقمة العربية عام 2006 ، مقالاً لصديقٍ سوداني عزيز ، تباينت رؤيته مع رؤيتي ، حول وساطة للسودان في لبنان، وآثرت أن أبعث إليه برسالة شخصية عجلى ، ولم تكن مقصودة للنشر، قبلها مني وبقي بيننا الود الإحترام بأكثر من ذي قبل ، وتوثقت الصلات بيننا أكثر وأعمق . . أما وأنا أقرأ تصريحات هذا المرشح اللبناني ، فقد راعني أنه لا يعرف عن السودان الذي بعث بموفد رئاسي ليساعد بما تيسر في حل الإستعصاء اللبناني ، إلا ما يتردد في الإعلام الغربي عن "مجازر دارفور". وأراد أن يجهر برأيٍ "شليق" ، وكأنه يقول للبنانيين : " تذكروا ..أننا نحن اللبنانيون ، لم نتحفظ على عضوية السودان في الجامعة العربية سدى ً، في أعوام الخمسينات ! " وتلك قصة ، يشغلني التحري عن مصداقيتها وأنا الآن سفير للسودان في لبنان ، وأريد مواصلة البحث حتى في أوراق وأضابير السفراء الذين سبقوني لتبوأ منصب السفير في بيروت ، مثل كبارنا السفير صلاح أحمد المقيم في القاهرة، أطال الله عمره ، أو السفير مصطفى مدني شفى الله ساقه وعافاه ، أو الجنرال السفير ميرغني سليمان خليل. أما السفير جلال عتباني المقيم بنصفه في بيروت ، في قسمة مناخية ضيزى مع الخرطوم، فقد وعدني بتفاصيل ، ولا أشك أنه سيفي بوعده ..
(3)
لكن لنعد لرسالتي إلى الصديق العزيز ، حول دور السودان ،وهو يسعى هذه الآونة لبذل المساعي لتقريب الرؤى بين أهل القيادة في لبنان ، وقد اختلطت عليهم السبل واشتبهت عليهم مواد دستور جمهوريتهم . ليس تحركاً أعزلا مشبوهاً لو استبصرنا الأمر ملياً، بل هو مسعىً يجيء في إطار مواصلة المسعى العربي العام ، وتحت راية الجامعة العربية ، والتي يجتهد دبلوماسيّ كبير ، ،وقف على أمانتها وأعطاها من عمره وجهده وروحه ، ما كاد أن يعيد للجامعة العربية ، السادرة في تاريخها القديم ، بريقًا لم يكن مألوفاً أن نراه فيها ، وهي توغل سنوات في عقدها السابع . وأرجو أن لا نسمع من يقول لنا : وهل يصلح العطار ما أعطب الدهر شكله ، وأفسد فحواه ! ؟
للجامعة دور في أمر دارفور، وفي النزاع الذي نشب فيها وتشعّب ، وما مؤتمر الأوضاع الإنسانية فيها والذي سيلتئم قبل نهاية أكتوبر 2007 برعاية الجامعة العربية ، إلا إشارة تؤكد جدية المسعى العربي تجاه السودان . وعن لبنان ، أتابع وأشارك وأسمع ، أن مساعي دكتور مصطفى عثمان إسماعيل ، وتلاقيها مع مساعي الأمين العام والسعودية صاحبة القمة العربية ، هي مؤشر لدور عربي مفقود في الساحة اللبنانية ، التي ُيخشى أن تنحدر حثيثاً نحو هوة لا قرار لها ، إلا أن يكون تفتت الكيان اللبناني لطوائف وملل ونحل وعصابات ،هو غاية منتهاها !
(4)
كتبت للصديق العزيز في ديسمبر الماضي ، ما يلي ، بقليل تعديلٍ بقصد تركيز الإضاءة على الرؤية :
(( لثلاثة اعتبارات يسعى السودان لرأب الصدع السياسي الماثل في لبنان :
أولها : تماثل التنوع الذي في لبنان مع التنوع الذي في السودان ، مع الفارق النوعي كون العامل الإثني أعلى في حالة السودان ، بينما العامل الطائفي الديني أوضح في حالة لبنان . و في مرحلة تاريخية من عمر كلا البلدين ، كان هذا التنوع نقمة وكارثياً ، و لكن بعد اتباع سياسات التعقل و التزام الحوار ، صيغة للتوصل لصيغ للتعايش المشترك ، أمكن تحويل هذا التنوع ، وإن لم تكتمل مراحله بعد ، إلى نعمة وخيرٍ وصلاح ٍ . . .
ثانيها : أن السودان قد اكتسب خبرات في التفاوض الداخلي ، مثل توقيعه اتفاقية عام 1972 ، التي أوقفت نزيف الحرب بين الشمال و الجنوب ، فشهد السودان استقراراً لما يقارب العقد الكامل من الزمان . و بعد نشوب الحرب ثانية ، بين الحكومة لمركزية و الحركة الشعبية التي تمردت عليها في عام 1983 ، تواصل القتال لقرابة عقدين من الزمان ،ولكن أمكن الجلوس إلى موائد التفاوض بين مختلف العواصم القريبة في الأقليم أو البعيدة خارجه ، و بوساطات و جهود "ميسرين" ، أمكن التوصل إلى السلام من جديد بين الجنوب و الشمال ،في الإتفاق التاريخي المعروف بإتفاقية السلام الشامل . في الأزمة التي نشبت في دارفور تمكن المتفاوضون من انجاز اتفاقية للسلام في دارفور ، برغم عدم اكتمال عناصرها إلا أنها أكسبت السودان قدراً كبيراً من الخبرة في فضّ النزاعات . ثم في شرق السودان أمكن أيضاً التوصل لإتفاقٍ ، جنب البلاد نزاعاً ، كان سيتسع و يحدث نزيفاً آخر في شرق السودان . هذه الخبرات الممهورة بالدم ، هي التي يقدمها السودان للأشقاء في دوائر انتمائه العربي والأفريقي والإسلامي ، حسب مقتضى الحال ..
ثالثها : كون السودان يرأس دورة القمة العربية في دورتها لعام 2006 ، فإنه يتحمل مسئولية سياسية وأخلاقية ، تتصل ببذل المساعي للتصدي لأيّ مشاكل تطرأ في الساحة العربية إبان هذه الرئاسة . و لن يكون لمسعى الجامعة العربية من غطاء ومصداقية ، إلا إذا التمست دعماً عربياً لتحركها . ولا يغيب عن بصر أي متابع أن الآزمة الناشبة في لبنان تحمل أبعادا خارجية و تتشابك مع أجندات دول كثيرة ، كبيرة و صغيرة ومتوسطة ، لو جاز أن أرمز لبعض لاعبين في الساحة اللبنانية )) .
إنتهت رسالتي للصديق هنا .
(5)
ولعلي أضيف لفائدة صديقنا اللبناني ، الذي ساءه أن يسعى السودان بين الإخوة في لبنان ، بصوت الحسنى والصلاح ، فيرى الوسيط السوداني ينوء بثقل مجازر دارفور ، وهو في سوء ظنه ذاك ، لا يختلف صياحه عن صياح الآخرين ، الذين يهولون أمر النزاع هناك ، ولا يرون نفعا في التفاوض ، قصد إعلاء أجندات خاصة ، وفي حساباتهم أن "غباءنا" التاريخي ، يمنعنا من رصدها . ليس دفاعاً ولا دعاية لحكومة تبذل قصارى الجهد لتصل عبر التفاوض والحوار إلى إستقرار ، يعيد الأمل لأبناء البلاد، بل هو كلام يصدر عن قناعة بوطنٍ جديرٍ أن نلتف حوله ونرمم إنكساراته نحن ، لا الآخرون . نقوّم إعوجاج أساليب إدارته ، بما ينفع ناسه وإنسانه ، نحن لا الآخرون . لن تنفعنا الجيوش الأجنبية ، ولا المنظمات الأجنبية، ولا الأجندات الأجنبية . بين هؤلاء وأولئك ، من يبتغي لجهود لمنظمته الطوعية شرعية تبيح له وتتيح ، جنى الأرباح من أموال المتبرعين والمتبرعات . ومن بين أهل الحماسة الرعناء أولئك، من يحرقه الإنتظار للحصول على لقب سفير النوايا (أهي حسنة يا ترى ؟ )، ومنهم – وكما سمعنا عن هذا اللبناني الذي لم يسمع به أهلوه – من يطمع في الحصول على منصب رئيس الجمهورية في لبنان ، مثله مثل غيره ممن زايدوا بالنزاع ، فظفروا بالرئاسات وأنتم تعرفونهم ، وبالنجومية الهوليوودية (دان شيدل ، وأنجلينا جولي )، وأنتم شاهدتم تسللهم ولهاثهم في دارفور عبر تشاد. أمور مؤسفة ويشقّ على الواحد ، بل يحزن أن يرى العالم يدار كله عبر الشاشات والسينما ، ليصل تأثيره على من يجلسون خمسة عشر نجماً حول طاولة مجلس الأمن . في قبول السودان بكل هذا العدد المهول من قوات أجنبية فوق أراضيه ، ينقطع دابر التمويه والتشاطر الإعلامي ،حين يرون بأعينهم حال دارفور . لسنا على عجلة من أمرنا ، بل هم يعجلون
وأهمس للمرشح الرئاسي اللبناني ، المحامي الملاط ، حتى لا يلتبس عنوان المقال على القراء ، أن الأمل أن يكون جهد السودان ومسعى الجامعة العربية ، هو جهد ومسعى الشقيق للشقيق ، يمدّ يده بلا مطامع ، بلا أجندات خفية . الخيوط الأجنبية تتقاطع وتتناطح في لبنان ، ولم يبقَ غير بصيصٍ من أمل ،وربما محض يدٍ ممدودة وحيدة .ترى ، أهو الفتى يلهج بعامية لن يقبلها الفاكهاني الساقط في الوحل ؟
(6)
ولو أن اليد السودانية الممدودة جاءت من فراغ ، لسلمنا لصديقنا الملاط ، غير أن اليد جاءت وهي مثقلة بإرث الدبلوماسية السودانية بتراكماتها الإيجابية الفاعلة على الساحة العربية ، وتشكل امتداداً لها ، وليست وقفاً على حكومة سودانية بعينها ، أو مسئول سوداني محدد. أرجو أن يتذكر صديقنا اللبناني حدثين غير بعيدين عن ذاكرته ، مثلما هما غير بعيدين عن موقعه الجغرافي . أول الحدثين عن تفاصيل دور السودان في الأردن عام 1970 ، وعبد الناصر حي يرزق وقتذاك ، وقد رأس القمة العربية في القاهرة والتي أوكلت لرئيس السودان أعسر مهمة يمكن أن توكل لرئيس في منعرجٍ صعبٍ ، في علاقة المنظمة الفلسطينية مع المملكة الأردنية . مقاتلة أشرس مما يمكن أن يقع بين العرب وإسرائيل . لقد خرج الراحل عرفات حياً من عمان ، بدبابةٍ تولى توجيهها بعيداً عن نيران الجيش الأردني ، الرئيس السوداني جعفر نميري !
ثاني الحدثين : أن كتيبة للسودان عملت ضمن قوات الردع العربية إبان الحرب الأهلية في لبنان ، كانت هي جسر الأمان بين المتقاتلين والقناصة ، ترابط بين "بيروتين" ، سالت بينهما دماء مسلمة وأخرى مسيحية . لو كانت ذاكرة الرجل لا تذهب إلى أبعد مما يتلقف عن "مجازر في دارفور " ، فلتكن هاتين الحادثتين تذكرانه الآن ، وخلال الصمت العربي الطويل ولأشهر مريرة ، منذ ديسمبر 2006 والأزمة تتصاعد في لبنان ، لم يبرز الآن ، إلا صوت عربي واحد حاضر من بين أصوات خافتة ، ينطق بصدق الإخوة ، يمدّ يده للقادة في لبنان، حضوراً قوياً ، وهم على شفير "شرور مستطيرة " . السودان الذي بعث بكتيبة عسكرية بين "بيروتين" ،هو الآن يبعث "بكتيبة دبلوماسية" ، قوامها رجلٌ واحد ، ومسعىً واحد ، برغم الجنوب ،وبرغم الشرق ،وبرغم دارفور ، يظل السودان تاريخاً ناصعاً لدبلوماسيةوسطية تنقذ على الدوام الصوت العربي ، ساعة يحيق به التغييب ، وتترصده الهيمنة البغيضة .
تذكر أيها المرشح المغمور ، الطامع في رئاسة جمهورية لبنان ، أن السودان وفي ظرف لن ينساه التاريخ ، أمسك بيديه الجمر العربي وحده ، فتماسك عبره العرب في قمة معروفة شهيرة .. عُقدت في عاصمته الخرطوم . يعرف الكبار جميل السودان ، أيها المرشح غفر الله لك .. وليتك لا تكون مثل صديقنا الفاكهاني الذي حدثتك عنه أول المقال . . !
*كاتب وسفير السودان في لبنان
بيروت - سبتمبر 2007
|
|
|
|
|
|