|
Re: منصور خالد وعبد الله على اراهيم وانقلاب الفريق عبود /د. عبد الله محمد قسم السيد/السويد (Re: بكرى ابوبكر)
|
منصور خالد وعبد الله على اراهيم
وانقلاب الفريق عبود
د. عبد الله محمد قسم السيد/السويد
ما جاء به الباحث القدير عبد الله علي ابراهيم في محاولاته اثبات ما ظللنا نسمعه عن عمالة منصور خالد للولايات المتحدة ومخابراتها بجانب عشرة آخرين لم يذكرهم، لا بد أن يكون له ما بعده فيما يتعلق بكثير من السياسات السودانية بعد الاستقلال. ويقف انقلاب الفريق عبود كأهم حدث سيتأثر بتلك البراهين التى أتى بها عبد الله على ابراهيم اذ ما زلنا نعتمد على أقوال شفهية تقول بأن رئيس الوزراء عبد الله خليل قد قام بتسليم السلطة بايعاذ من حزب الأمة. فما هو دور منصور خالد في هذا الانقلاب في ضوء هذه المعلومة والتي تقول بعمالته للمخابرات الأمريكية وما هو السبب الذي جعل منصور خالد ينتقل من صف المنادين بفرض الهوية العربية على كل أهل السودان، الى صف الحركة الشعبية لتحرير السودان وهي المتهمة من قبل البعض بالعمل على ازالة الوجود العربي في السودان. وما هو تأثير ذلك في اتفاقيات نظام الانقاذ مع الحركة الشعبية وكثرة الاتهامات المتبادية بينهم فيما يتعلق بتنفيذ اتفاقية نيفاشا؟؟؟ ولماذا يعمل منصور خالد وبعض قيادات الشمال المنضمين الى الحركة في ابعاد الحركة الشعبية عن حزب الأمة؟؟؟ بل الى أي مدى يمكن ربط ما توصل اليه الباحث عبد الله على ابراهبم بانقلاب نميري عام 1969م والمجذرة التي نفذها نظامه ضد الانصار في الجزيرة أبا وودنوباوي؟؟؟ ما علاقة كل ذلك بالعزل المتعمد لحزب الأمة والأنصار عن الساحة السياسية السودانية وهو الحزب الذي يتم اختياره من قبل الشعب في الانتخابات، عن طريق الانقلابات العسكرية وابعاده المتعمد من لعب أي دور فيما يتعلق بالسلام في السودان خاصة اذا علمنا ان تدمير الاتحاد السوفيتي من قبل أمريكا احتاج الى أكثر من خمسين عاما ولعبت فيه دول عربية عديدة متنافرة الهوى الفكري والسياسي، دورا بارزا من خلال الدعم المادي والبشري المتمثل في المجاهدين العرب الأفغان؟؟؟ يقول برجنسكي مستشار الرئيس الأمريكي للأمن القومي عن هدف حربهم في أفغانستان هو الانتقام لسمعتهم العسكرية التي انهزمت في فيتنام من جهة والى شن حرب عسكرية على الاتحاد السوفيتي دون أن يظهروا فيها من جهة ثانية. " ( وكل المطلوب من أمريكا هو) " اثارة همة الوكالة الاسلامية التي ستحارب الاتحاد السوفيتي بدلا عن أمريكا، وتطوير وسائلها وتنشيط خططها وتركيز فعلها وتعبئته في اطار "جهاد اسلامي" صريح ومعلن ضد (الالحاد في) الاتحاد السوفيتي".[1] بالفعل تحقق لهم ذلك حينما قامت هذه المجتمعات الاسلامية بتقديم العنصر البشري والمالي كما قدمت الغطاء الديني باعتباره ملاذا روحيا وانتمائيا في محاربتها. وجدت أمريكا هذا الغطاء الديني والسياسي والاعلامي من السودان والسعودية والباكستان والأردن ومصر والذي كان رئيسها يرى أن 99% من أوراق قضية الشرق الأوسط في يدها، والذي وافق متحمسا عندما قيل له ان مصر لن تتكلف شيئا بل ستقوم أمريكا والسعودية بانشاء صندوق خاص للجهاد في أفغانستان وعلى مصر تقديم الفتاوى التي تؤيد وتزكي أسبقية الجهاد ضد الالحاد.[2] وفي المقابل فان مصر ستحصل على 1100 مليون دولار لتسليح الجيش المصري من المصانع الأمريكية.[3]وفت السعودية بالتزاماتها المادية ولكن أمريكا دفعت التزاماتها والتي كلفت 45 بليون دولار "للجهاد في سبيل الله" ، من تجارة المخدرات بموافقة رئيسها رونالد ريجان كما جاء في كتاب الحروب غير المقدسة.[4] لم تكتف امريكا بالزج بالعرب في حربها ضد السوفيت وانما مكنت لعدو العرب اسرائيل من الاستفادة من ذلك حينما قامت اسرائيل ببيع سلاح سوفيتي الصنع قبضت ثمنه من الصندوق المشترك لحرب الجهاد الاسلامي، تقول انه استولت عليه في حرب 1967.[5]
اذن ليس بمستبعد أن يخطط لابعاد حزب يستند في وجوده على حب الوطن ولم يبخل في حبه أن يقدم مئآت الشهداء تلو المئآت من الشهداء في نكران ذات لم يشهدها العالم الا في حرب كرري وأم دبيكرات التي خاضها أجدادهم كما يقول تشرشل في كتابه "حرب النهر". كما انه حزب ما زال يتمتع المنتمون اليه والمناصرين له في كل ركن من أركان السودان برؤية شاملة ومتجددة في كيفية تحقيق وحدة السودان رغم الاختلافات العرقية والاثنية التي تميزه. ولكي نصل الى مؤشرات تعيد توضيح بعض ما خفي فاننا نربط الماضي القريب بالحاضر المأزوم حتي يتبين الأمر للمواطن السوداني.
ان عقلية السياسي السوداني كانت في الحكم أو المعارضة لا تدرك الأبعاد الاستراتيجية لأفعالها لأسباب مختلفة ومتعددة لذلك كثيرا ما وقعت القيادات السياسية في مأزق أجل وأعظم فيما يتعلق بمستقبل السودان. ولا يجد المرء كبير عناء في اثبات ما يقول في الحالتين الحكومة والمعارضة. فمثلا التجاهل المتواصل لما تتفق عليه هذه القيادات فيما يتعلق بوحدة السودان منذ مؤتمر عام 1947م مرورا باتفاقيات الحكم الذاتي لجنوب السودان والمائدة المستديرة وأديس أبابا عام 1972م وحتى اتفاقية نيفاشا جميعها لم يتم تنفيذها لأسباب لم تتعلق بمصلحة البلاد ووحدتها وانما لأسباب في غالبها شخصي أو حزبي. كذلك فعندما انضمت الحركة الشعبية للتجمع الوطني الديمقراطي وحينما انضمت القيادات السياسية في جبال النوبة أو عندما اندمجت وذابت قوات التحالف وبعض قيادات الحزب الشيوعي في الحركة الشعبية، كان الدافع الغيرة السياسية أو الغل الشخصي ومن ثم ازالة نظام الانقاذ المستند ظلما على التوجه الاسلامي، ولم ينتبه من السياسيين الى رد الفعل اذا ما تحولت الحركة الشعبية لجنوب السودان لأي سبب الى حركة انفصالية تنادي بحق تقرير المصير لجنوب السودان.
منذ استقلال السودان عملت القيادات السياسية في ظل تلك العقلية الضيقة على استبعاد معظم أهل السودان كانوا في الجنوب أو الشمال، في الغرب أو الشرق اذ انهم جميعا يعانون من ظلم قياداتهم وهم يتنقلون من أقصى اليمين الى أقصى اليسار دون وازع أخلاقي أو سياسي وانما تحكمها مصالحها الضيقة حول ذاتها. فمثلا ومنذ الاستقلال كثير من السياسات لدى القيادات السياسية ارتبطت بالنظرة العربية الاستعلائية مما عرض السودان الى ما نعيشه اليوم من تمزق. غير أن أهم ما نتج من هذه السياسات الموجهة نحو العروبة هو قيام أول انقلاب عسكري في السودان والذي ما زال البعض يعزيه الى حزب الأمة عندما قام رئيس الوزراء عبد الله خليل بتسليم السلطة الى الجيش. هذا الانقلاب جاء على خلفية قبول الحكومة لمشروع ايزنهاور الأمريكي والقاضي بتقديم مساعدات تنموية للسودان ولكن تم رفضه لاعتبارات لم تخرج من النظرة الضيقة للهوية السودانية والمنحصرة في الهوية العربية الاسلامية. فقرار هذا "التسليم" لم يكن لرغبة لدي عبد الله خليل باعتباره عسكري ولكنه قرار تم بناء على استشارة جاءته من مستشاره المدني منصور خالد والذي قدم مشورته عكس ما يؤمن به منذ انضمامه الى الحركة الشعبية لجنوب السودان ففي ذلك الوقت كان منصور خالد مدافعا عن الهوية العربية الاسلامية كما سنوضح بعد قليل. فقد كان منصور مستشارا لرئيس الوزراء عبد الله خليل عندما سلم الأخير السلطة الى الجيش وبالطبع كمستشار له قد وافق على قبول المساعدات وفق هذا المشروع وهو المشروع الذي مثل بدايات الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي. في تلك الفترة كانت الحرب الباردة بين الروس والأمريكان في أوجها وكما أثبتت أحداث حرب أفغانستان التي مثلت بداية الانهيار للاتحاد السوفيتي، لهذا يمكن الاستنتاج ان مشروع ايزنهاور المقدم من الحكومة الأمريكية في تلك الفترة هو الرشوة الخفية التي قدمتها الادارة الأمريكية ضمن سياستها محاربة الروس. في هذا الوقت الذي قدمت فيه هذه الرشوة كان العداء سافرا بين مصر وأمريكا حين رفضت الأخيرة توفير الدعم لبناء السد العالي وقبل بذلك الاتحاد السوفيتي. قبول السودان للمعونة الأمريكية في راي مصر عندئذ سيوفر لأمريكا موطئ قدم في السودان وموقعه الإستراتيجي مما يؤثر مستقبلا على أمنها القومي ولا أدري ماذا نسمي قبول مصر لمساعدة الاتحاد السوفيتي ولماذ لم تعتبره توفير موطئ قدم للروس في المنطقة العربية.
لقد رفضت الأحزاب السياسية وعلى رأسهم حزب الشعب وزعيمه الشيخ علي عبد الرحمن مشروع ايزنهاور انطلاقا من تلك الفرضية التي تربط ما بين أمن مصر وأمن السودان في اطار الهوية العربية الاسلامية، وهي فرضية تقوم على تعاون يتم لفرض الهوية العربية الاسلامية على أهل السودان دون التمعن في مستقبل ذلك على وحدة البلاد. أما الشيوعيون فقد رفضوا هذا المشروع ليس بسبب الهوية وانما بسبب توجهاتهم الآيديولوجية المرتبطة بالاتحاد السوفيتي والتي كانت تقف ضد أي تعاون يربط السودان بالغرب خاصة أمريكا العدو الأول للاتحاد السوفيتي. رفض المشروع الذي قبله عبد الله خليل وبالتالي حزب الأمة ورفضته أحزاب الاتحادي والشيوعي ومن خلفهم مصر، لم يكن بسبب مصلحة السودان وشعبه ولكن خوفا من أن تقود المساعدات الى تقوية نفوذ حزب الأمة وسياساته الرامية الى استقلال السودان والتي سيدعمها المشروع الأمريكي مما سينعكس على تنمية البلاد وقتئذ. وهو بالفعل ما حدث بعد انقلاب عبود العسكري والذي استفاد المشروع وأقام مشاريع زراعية وصناعية كانت عضد الاقتصاد السوداني وما زالت على الرغم من تدهورها. اذن تسليم عبد الله خليل السلطة السياسية للجيش لعبت فيه عومل عدة على رأسها السياسة الاقليمية والدولية غير أن أن أهم تلك العوامل على الاطلاق تبقى التوجهات الرامية الى فرض الهوية العربية الاسلامية المسيطرة على الساحة السياسية وقتئذ. خاصة أن النظام المصري ينطلق من القومية العربية كمحور استراتيجي هدفه تغيير المنطقة العربية. وهي الرؤيا التي حدثت من خلالها تغيير الحكم لاحقا في اليمن والسودان وليبيا بعد انهيار الوحدة بين مصر وسوريا. الانقلاب على أو" تسليم" السلطة للجيش من قبل عبد الله خليل وجد تأييد ان لم يكن تخطيطا له من قبل مصر سيتكرر بعد كل الحكومات التي أتت بانتخابات حرة وترأسها حزب الأمة يفرض السؤال عن مدى ارتباط مصر الرسمية بالانقلابات في السودان خاصة اذا علمنا أن مصر لا تقف عند مساندتها للانقلابيين حتى قبل ن تعرف توجهاتهم الفكرية، وانما تدعو الآخرين من الحكام في الدول العربية لتأييدها ودعمها.
بعد انقلاب مايو العسكري بتأييد من القوي الاشتراكية وعلى رأسها الحزب الشيوعي السوداني، وتحت راية القومية العربية المدعومة من النظام الناصري والذي تقلد فيه منصور خالد العديد من الوزارات، تم الغاء نظام الادارة الأهلية باعتباره نظام يتناقض مع التغيرات الثورية التي يتطلع النظام العسكري تحت توجهات الحزب الشيوعي الى تطبيقها. والهدف هو انهاء ما تعارفوا عليه بالرجعية والطائفية ومصادر قوتها وهي قوى يقصد بها في المقام الأول حزب الأمة والأنصار ثم طائفة الختمية. ولكن هذا التغيير في الادارة الأهلية قاد الى صراعات قبلية في كل أقاليم السودان بسبب اعادة الهيكلة الادارية أو انتزاع الحواكير والأراضي من أصحابها لتصبح مشاعة للكل. فمثلا حدثت نزاعات في غرب السودان بين قبائل دارفور الكبيرة مثل الفور والمساليت والزغاوة والقبائل الصغيرة مثل قبائل المحاميد والعريقات والعطيفات والتعالبة والمهادي والحواطية وغيرها[6] وفي كردفان بين الرزيقات وبني هلبة والبرقو والداجو. وفي شرق السودان بين قبائل البجة من جانب وقبائل أخرى نزحت الى المنطقة مؤخرا مثل قبيلة الرشايدة وفي جبال النوبة بين القبائل العربية وقبائل جبال النوبة وفي الجزيرة بين الكواهلة والعقليين عام 1987م.[7] هذه النزاعات القبلية والتي قادت الى نزاعات بين المزارعين والرعاة من نفس القبيلة أو بين القبائل لم تكن بسبب التباين الثقافي والعرقي كما يتبادر الى الذهن بالنسة للرجل العادي وانما بسبب " عدم التساوي في القدرة على الوصول الى الموارد الشحيحة وعدم التكافؤ في التنافس عليها كما يشير حامد في دراسته عن النوبة."[8]
تميزت الفترة التي أعقبت ثورة أكتوبر بتوجهات عديدة نحو الثقافة الأفريقية ولكن تجدر الاشارة الى أن العقلية العروبية وسط القيادات السياسية المايوية سرعان ما بدأت تلتف حول ما تم انجازه من سلام تدريجيا فظهرت توجهات فرض الهوية العربية الاسلامية من جديد رغم صعود ما عرف بالسودانوية التي تمزج ما هو عربي بما هو أفريقي لتؤكد بها الشخصية السودانية. والمقصود بذلك ازدواجية الهوية السودانية بين الثقافة العربية والثقافة الأفريقية وبالتالي الدعوة الى النظر الى الهوية السودانية من خلال ذلك. ساعد فى تصاعد هذا التيار العروبي وجود بعض القيادات المؤمنة بسيادة العنصر العربى وثقافته يومئذ مدفوعة بما تحقق لها من مصالح شخصية استنادا على الخط الأيديولوجى العربى الصاعد من جهة والخوف من أن يشكل الجنوب المتعدد الثقافات تهديدا للهوية العربية الاسلامية من جهة أخرى. كان على رأس تلك القيادات منصور خالد الذى تربع على عرش أكثر من وزارة فى تلك الفترة والذي كان يرى أن للتعليم دورا يجب أن يلعبه فى تأكيد الشخصية السودانية العربية من خلال التمهيد للسان العربى بالانتشار فى ربوع السودان بالتخطيط التربوى السليم فى تأكيد شخصية السودان العربية ولكيما تكون هناك شخصية عربية وكيان ثقافى عربى وحضارة عربية لابد أن يكون هناك لسان عربى."[9] ويذهب منصور الى أبعد من ذلك فى قوميته العربية حين دعا للاستقلال الثقافى الذى لن يتأتى فى نظره الا عن طريق استرداد الشخصية العربية فى مدارس السودان حين يقول " ان الشخصية القومية لن تكتمل ما لم ينطلق التخطيط الثقافى من تلك النقطة ( اللسان العربى أي تعريب التعليم ) لتحوير برامجه التعليمية ليدل الناشئة على جذورهم الحضارية وتغرس فى نفوسهم تقدير أمجادهم القومية"[10] يواصل منصور خالد حديثه عن أمجاد أمته العربية مطالبا أن تقوم الجامعة بدور أكبر فى محيطها من أجل " الاسهام النشط فى بناء الأمة وتنمية المجتمع، فى تعميق المحتوى الفكرى للاستقلال الوطنى عند المثقفين، فى تأكيد كيان السودان العربى"[11]
هذا التصور العروبي ظل يصاحب منصورا حتى بعد انضمامه الى الحركة الشعبية فقد ظل وفيا للحكم الشمولي أو ان شئت بكلمات أخرى الحكم العسكري والذي تثبته اشادته بقيادة الجيش وحكم عبود العسكري عندما رأى هذا الجيش يتقهقر أمام جيش الحركة الشعبية لتحرير السودان الذي انضم اليه ابان الفترة الأخيرة من حكم نميري بعد ابعاده عن السلطة المايوية. يقول منصور خالد في ذم الجيش السوداني وقياداته " وعلم الله إن ذلك لعوج كبير يتململ له في القبر أبطال بنوا للسودان جيشاً فاخر به أمة العرب في الكويت وفاخر به أفريقيا في الكنغو (هذا الخذي) تململ له الصنديدان أحمد عبد الوهاب وحسن بشير نصر"[12] ولا يفوت على القارئ المتابع لكتابات منصور خالد منذ تلك الفترة أن يدرك أن رؤيته كانت تصب وتدعم التوجهات الفكرية الشمولية لهذا لن يستغرب اشادته بأحمد عبد الوهاب وحسن بشير نصر الذين كانا أعمدة النظام العسكري الذي فرض أسلمة وتعريب الجنوب بهدف فرض الهوية العربية الاسلامية. تلك السياسة كانت الشرارة التي اندلعت بعدها الحرب الأهلية في الجنوب ثم امتدت نارها الى دارفور وشرق السودان تحت حكم الانقاذ. هذا المدح لساسة الحكم العسكري الأول التي عزلت الجنوب وأرادت حرق غاباته بانسانها ثم انخراطه في نظام نميري وبعدها هندسته لدستور السودان بعد اتفاقية نيفاشا الثنائية والمعزز للحكم الشمولي، كلها توضح أن منصور في نظرته للآخر المختلف عنه عرقيا لم تكن بهدف المساواة بين أعراق السودان والحكم الديموقراطي الذي يجد فيه المواطن السوداني حقوقه، وإنما بهدف تحقيق مصالح شخصية محورها السلطة.
فمثلا في فترة حكم مايو العسكري لم يكن منصور خالد القانوني الضليع بعيدا عما يجرى فى الساحة السودانية من جدال حول وحدة السودان وتحقيق السلام كما كان من المهندسين والموقعين على اتفاقية أديس أبابا عام 1972[13] ولكنه وقع على ذلك الدستور مدفوعا بما تحقق له من سلطة فى الاطار القومى العربى الذي استبعد معظم أهل السودان ممثلين في أحزابهم "التقليدية". فالدستور الذي وضع في ضوء اتفاقية أديس أبابا قنن شرعية نظام حكم عسكري ديكتاتوري وبذلك فتح الباب ليلج منه المثقفون السودانيون عندئذ والذين بدأوا ينخرطون تدريجيا فيه حتى أصبح رئيسه يفتخر بتسمية دولته بدولة العلم الحديثة كناية بأنه نظام يضم بين جنباته المتعلمين والمثقفين. وحقيقة الأمر قد كان ذلك كذلك فقد تحققت لهولاء المثقفين المتعلمين مصالحهم الذاتية الممثلة في شهوات السلطة بعيدا عن مصالح الشعب ووحدة السودان. أما الآخرون من رجالات الأحزاب "التقليدية" وقواعدهم فقد حافظوا على معارضتهم للنظام العسكري فمنهم من استشهد دون ذلك ومنهم من واصل نضاله حتى سقط النظام. لقد حققت بالفعل اتفاقية أديس أبابا عام 1972م السلام والذى قام على الاعتراف بالتعدد الدينى والخصائص الثقافية وحكم الجنوب من قبل أهله ولكن علينا طرح العديد من الأسئلة التي تحتاج الى اجابة من منصور ماذا حدث بعد هذا الاعتراف وماذا أنتج من ثمار على أرض الواقع خلال العشرة أعوام من السلام؟ أين التنمية فى الجنوب والشمال؟ واين المساواة فى الحقوق والواجبات التى تحققت وهو يتنقل من وزارة لأخرى فيما عرف بدولة العلم الحديث؟ لم يقل منصور خالد شيئا عن مشاريع التنمية الوهمية التى كان هو وعرابيه من أهل مايو يقومون بافتتاحها أمام جموع أهل الريف وهم يهتفون لهم. ولم يحدثنا منصور عن والى أين ذهبت أموال التنمية التى ادعاها وكم كان نصيب الريف منها وأين تم استثمارها.
بعد خروجه من نظام مايو والتحاقه بالحركة الشعبية كمستشار لرئيسه، ظل هم العروبة وهويتها يؤرق منصور خالد كغيره من المستعربين من أهل الوسط خاصة بعد انهيار كل أمل في التنمية في ظل نظام مايو. كما أصبح الخوف من تلوث بيئتهم العربية بعد نزوح أهل الريف والأطراف الى المدن الكبيرة في أواسط السودان يشغل حيزا كبيرا في مخيلة منصور مما يثير في النفس الكثير من التساؤلات حول مواقفه الفكرية. ففى نظر منصور خالد أن افرازات النزوح لها آثار مباشرة عليه وعلى أهله العرب الميامين حين يقول " يؤذينا السكن العشوائى فى أطراف المدينة، ويؤذينا ازدحام الأسواق والطرقات بالوافدين من الغرب والجنوب، وتؤذينا ضغوط هؤلاء على الخدمات"[14] لم يقل منصور شيئا عن سبب نزوح هؤلاء البؤساء وما اذا كان الأذى الذي لحق به وبغيره من المستعربين يسبب لهؤلاء النازحين الما أم متعة وهم يمدون يدا لم تمتد من قبل الا للواحد القهار وفي نفس الوقت يركضون خوفا من "الكشة" لابعادهم من المدينة بسبب لونهم وتمزق ملابسهم.
منصور خالد كغيره من أهل الساسة السودانيين جاءه التفكير العقلانى والرؤية الصائبة فيما يتعلق بوحدة السودان وتنميته مع نهايات القرن العشرين حين يؤكد على أن مصدر أزمة السودان " هو ظن أهل الحكم فى الشمال فى ذلك الزمان بأن جميع مظاهر التمايز العرقى والثقافى والدينى فى بلادنا يمكن ان تزول بفرض الهوية العربية الاسلاميية"[15] هذا الحديث لم يجف مداده حتى وقع منصور خالد مع رئيسه في الحركة الشعبية اتفاقية ماشاكوس ثم اتفاقية نيفاشا مع الحكم العسكري للحركة الاسلامية وهو اتفاق ثنائي هدف الى ابعاد الآخرين الذين كانوا معه في التجمع الوطني الديموقراطي يطالبون بحل شامل يضم كل أهل السودان. وعلى الرغم من أن العقدين الأخيرين من القرن العشرين قد صقلت منصور خالد وألهمته حكمة وزادته خبرة أو كما يقول عن نفسه " فما هو حال رجل قضى جل عمره الراشد يعمل فى منظمات دولية تبشر بالمساواة بين الشعوب، وتستصدر العهود والمواثيق لحماية حقوق الانسان وتدين سياسات التميز العرقى والنوعى التى تمارسها بعض الحكومات ضد شعوبها، أهو الرضاء فى بلده بكل ما فيه شبهة اهدار لحقوق الانسان أو ما فيه مظنة تنكر لمبادئ المساواة؟ أم هو التآمر بالصمت على ابانة الحق؟ أمر لا تقدم عليه الا الشياطين الخرس"[16]، الا انه ما زال متشبثا بالشمولية ونفي الآخر بسبب بريق السلطة وهيبتها وامتيازاتها. ولم تنقذه منها نظرته الى قضايا السودان الشائكة ومهاجمته للمثقفين السودانيين الذين ما زالوا يفكرون بعقلية العقد الثانى والثالث من القرن العشرين فيما يتعلق بخوفهم على عروبة واسلامية السودان والمخاطر التى تهددهما. هؤلاء المثقفون كما يقول منصور محقا لا يقصدون الا "عذرية عربية عرقية يكذبها الواقع. العذرية هذه انتهكت منذ زمان طويل منذ أن انداحت على أرض السودان شعوب وقبائل من العرب والزنج والنوبيين، وتلاقت وتلاقحت فيها ثقافات تولدت منها ثقافة سودانية"[17]
لقد كان واضحا من اتفاقية نيفاشا مدى التزام الانقاذ والحركة الشعبية لجنوب السودان على نفي الآخر. فالدستور الانتقالي والموقع عليه في التاسع من يوليو 2005 بين الطرفين يحرم على القوى السياسية التي لا تعترف بهذا الدستور وبالاتفاقية ممارسة العمل السياسي على الرغم من أن تلك القوى لم تشارك في وضع الدستور ولم تكن طرفا في الاتفاقية. هذا التحريم والعزل للآخر وضع البلاد في كماشة الشمولية من جديد معززة هذه المرة بشمولية الحركة الشعبية التي كثيرا ما رفضت شمولية الحكم في الشمال خاصة دستور 1998 والذي كان يحرم على القوى السياسية التي لا تعترف بثوابت الانقاذ الخمس التي كان من بينها تطبيق الشريعة الاسلامية. تبرير الحركة الشعبية على لسان الناطق باسمها ياسر عرمان، لهذا التحريم في قوله ان "الدستور هو القانون الأسمى للدولة واذا لم يكن هناك اعتراف به الى جانب اتفاقية السلام يعني أنك (القوى السياسية) لا تعترف بالنظام السياسي" وهو نفس التصور لدى الحكومة حين يقول الدرديري محمد أحمد المتحدث باسمها داخل مفوضية الدستور " ان القوى السياسية التي لا تعلن قبولها باتفاقية السلام وبالدستور لا يمكنها من المشاركة في الانتخابات."[18]الجدير بالذكر أن المادة 5/1 من الدستور الانتقالي تشير الى تطبيق الشريعة في الشمال وهي تعني الشريعة التي تراها الانقاذ حسب مفهوم الترابي كما نص عليها دستور عام 1998م الذي رفضته قوى التجمع بما فيها الحركة الشعبية لجنوب السودان. كذلك فان حزب المؤتمر الوطني وحكومته لا تمثل سكان الشمال بالاضافة الى أن بالشمال أقليات ليست بمسلمة مما يجعل هذه المادة في الدستور تناقض المادة 7/1 والتي تنص على "أن تكون المواطنة أساسا للحقوق والواجبات لكل السودانيين". بهذا فان منصور خالد يدخل في تناقض فكري وعملي حين اهتم بمعاناة أهله المستعربين دون مصلحة المواطن أو مصلحة السودان وهو بذلك يعيد انتاج تفكير المستعربة رغم أنه يعتمد على بندقية الأطراف والمهمشين التى يرفعها الجيش الشعبي للحركة الشعبية ومن انضم اليه من سكان أطراف السودان المهمشة.
لكل ذلك نستطيع القول ان الاتهامات المتبادلة بين الحركة الشعبية وحزب المؤتمر الوطني بعرقلة تنفيذ عناصر أساسية في الاتفاق مثلا بروتوكول منطقة أبيي ورسم الحدود بين الشمال والجنوب، أمر متوقع حدوثه ولكن أن يهدد باقان باللجوء الى أمريكا كلما حدث خلاف، فهو الأمر غير المتوقع بل والغريب. نعم ان أمريكا هي القوة التي رعت هذه الاتفاقية والتي رحبنا بها جميعا رغم القصور الذي ما زال يلازمها ولكن هذا الدور لا يعطي الحق لقيادات الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني أن يسلموا أمر البلاد لأمريكا أو غيرها. فمثلا يقول باقان أموم عن رفض حزب المؤتمر الوطني تقريرا للجنة أبيي، " السبب الوحيد الذي نراه لهذا الموقف المشين وغير المبرر هو المصالح المادية الضيقة للموارد النفطية التي لا يريد حزب المؤتمر الوطني اقتسامها." لم يوضح باقان هنا لمن تلك المصالح الضيقة هل هي لشمال السودان أم للفئة المنتمية للمؤتمر الوطني أو لمن يقسمها هل لسكان اقليم الجنوب أم لمن تحالفوا معه ممن تتمركز القوة العسكرية في يده. أما نظرته لحل مشاكل بلاده حول الاستعانة بالولايات المتحد أو غيرها كما يقول اموم كثيرا فهي ليست نظرة فردية وانما يشاركه فيها قادة ومستشارون داخل الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني مما يجعل القرار السوداني بالفعل في أيدي خارجية برضى الجكومة الحالية العازلة للقوى السياسية التي تختلف رؤيتها. يقول باقان " إذا لم نتمكن من إحراز تقدم (في تنفيذ اتفاقية نيفاشا) فقد اتفق الحزبان على اللجوء للتحكيم، وأعتقد ان الولايات المتحدة ستكون أول جهة تحكيم نلجأ اليها"
الاخ بكري عن إذنك
للتسهيل
مع التحيات
| |
|
|
|
|
|
|
|