دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
من اوراق الجمعة (2) الأبيض ..أب قبة فحل الديوم
|
كانت الهجرة الى الابيض (اغتراب) داخل الوطن , بسبب الانتعاش الاقتصادي الذي تنعم به .. رافقه ثراء اجتماعي وثقافي بعد ان صارت قبلة لكل اهل السودان بمختلف سحناتهم وأعراقهم وانصهروا في قبيلة " ناس الأبيض" التي فتحت ذراعيها للجميع . من داخل المديرية هاجر اليها ابناء الدينكا(الجانقي) من منطقة أبيي الذي اختار الناظر دينق مجوك ان تنضم الى كردفان بدلاً عن بحر الغزال .. وقد أثبت القرار حكمة هذا الشيخ الحصيف وصارت منطقته مثالاً للتداخل بين العرب والزنج وصل حد المصاهرة ومشاركة المرعى وموارد المياه..شاركه هذا الانجاز صديقه الناظر بابو نمر ..جاء الدينكا الى الأبيض وتقاطروا اليها خاصة بعد كابوس الحرائق التي نشبت في السجن والقطار والتي لولا عناية المولى وحكمة الشيخين لاستمر الحريق حتى الآن.. وجدوا فيها الأمان والطمأنينة واقتربوا فيها أكثر من "المندكورو". جاء اليها ابناء جبال النوبة التي تقع في التخوم الجنوبية الغربية للمديرية لأنها عاصمتهم الاقليمية التي توفر لهم عملاً مناسباً يكفيهم شر العوز في الجبال أو التوغل شرقاً الى ما بعد ( بحر أبيض ) فهم يتوجسون من الهبوط من الجبال ويرون البعد عنها خياراً صعباً. أما قبائل البقارة فكان تأتي إليها في الخريف، تطوقها بمضاربها وتخومها بالحليب ومشتقاته إذ يصل سعر " بخسة " اللبن إلي حفنة من القروش، وهذه الفترة تعتبر فترة استجمام للعرب البقارة وأسرهم يستعدون بعدها "للنشوق" من جديد. كلهم .. النوبة والجانقي والعرب .. كانوا يرون في الأبيض ( فحل الديوم ) والبندر الكبير المتسامح الذي لا يرد أحداً ولا يشعرون فيه بالغربة أو التمييز وكثيراً ما يكسون صمت ليل المدينة الهادى، أصوات الطبول والنقارة .. فهناك قوم يرقصون. التأم فيها شمل الوافدين البهما من كل أنحاء السودان وكونوا نسيجاً اجتماعياً فريداً محاكاً علي خيوطه المحبة والسلام ولم يكن (الاغتراب) خارج الوطن حلماً يدغدغ الجميع مثلما نحن فيه الان. وكان السوداني بطبعه وفطرته يتوجس من الهجرة ويصعب عليه فراق مدينته أو قريته والهجرة الى ديار اخرى , فالذي يتجه غرباً قد لا يعود ابداًَ مثلما حدث للكثيرين ..تآلفوا مع المكان وأهله وبقوا فه وصارت لهم ذرية في دار رأوها خير من دارهم .. لم يكن السوداني يفكر في الهجرة إلا طلباً للعلم ولكنه الأن تائه في الموانئ والمطارات والقوارب التي تجوب بلاد العالم تبحث عن مرسي يوفر لركابها صك لجوء مرير ويبحث بعضهم عن "كرت أخضر " بدلاً عن جوزهم الأخضر ويسعي البعض للحصول علي جواز غيره باللجوء أو بالمنحة أو بـ(الجواز) .. المهم جنسية جديدة تكفيه شر أمة الأمجاد والذين على رأسها ولا بأس جواز "دولة أتير" ما دام يفي بالغرض. كل قبائل السودان اجتمعت هناك وكونوا نسيجاً اجتماعياً وثقافياً أشبه بمجتمع أمدرمان الفريد.. يفيضون بالحيوية والانسجام.. متآلفين.. متكافلين.. وتفيض القلوب مودة ورحمة مفعمة بالحب والشفافية.. فأهل الأبيض هم سر عبقريتها .. قوم شُم تسبقهم الحفاوة والندى والبشر وطيب المعشر.. ظرفاء.. وجهاء وبهاليل.. مقبلون علي الحياة ومهتمون بتفاصيلها.. يعشقون الفن والغناء والشعر. هذا المزيج الاجتماعي والثقافي جعل من عروس الرمال مدينة تحمل قسمات فتلة من البقارة.. رائعة الجمال تجدل شعرها بطريقة أهل الجبال.. تعفر في جبهتها وشم الجنوب و"تكرب" وسطها بفوطة "البادونا" تضع في اذنيها قرطين من "القمر بوبا" ويدلى من جيدها عقد من السكسك واسطته حبة من ذهب " شيبون" يتداخل فيها الهلال والصليب .. فهي متعددة القسمات واللكنات والرقصات تتهادى على ايقاع " النقرزان" في اغنيات الحقيبة .. تستمتع بطبل " المصمودي" في أغاني الست وتتقافز مع الطبول والنقاقيز في رقصات الكمبلا .والكيسا والمردوم ..وتدمع عيناها في اغاني الجراري والحداء اثناء تهادي الثور في رحلة البحث عن العشب ..هذا النقاء هو الذي جمع الناس حولها ..نوبة وهمج زنج وعرب وحلب وشوام وهنود وأقباط واغاريق ..حتى اليمن والحبش وأمبررو .!! هذه المدينة العبقرية يحفظ اهلها الشعر الجميل ويرددونه .. ويحتفظون في بيوتهم بالطرب الاصيل والغناء البديع .. كان صوت أم كلثوم في تلك الفترة ينطلق من المقاهي والأندية الرياضية والأذاعات المدرسية وجلسات العصاري وأمسيات الندامى . بجانب صوت الست أخذ الغناء السوداني الأمدرماني مكاناً خاصاً في قلوبهم إذ كانت تلك فترة العهد الذهبي للاغنية السوداني المشحونة بالكلم الجميل والألحان التي ابدعها عباقرة ذلك الجيل الرائع مما جعل الناس هناك أكثر شفافية وتذوقاً واحساساً بالجمال..اما حقيبة الفن فكانت عشقهم الكبير , أفسحوا لها مكاناً خاصاً في قلوبهم وولدت عندهم من جديد وأواصل
|
|
|
|
|
|
|
|
|