|
الجزء الرابع من حوار في الساعة الخامسة والعشرين مع باقان أموم بقلم فتحي الضـو
|
حوار في الساعة الخامسة والعشرين مع باقان أموم (4)
فتحي الضـو
[email protected]
إستكمالاً لحديث التناقضات الذي أنهينا به الحلقة الثالثة في هذه السلسة، توجه الصحفيان المحاوران للسيد أموم بسؤال له يدخل في سياق ما يلاحظه المراقبون في أداء الحركة الشعبية بشكل عام، وذلك من خلال التصريحات التي يدلي بها قادتها ومنهم أموم نفسه، قالا له «هناك قضايا استراتيجية ومهمة يتم التعامل معها بصورة تكتيكية؟» لكنه لم ينف ولم يثبت، وعوضاً عن ذلك لاذ بكهف التاريخ البالي وأعزي المسألة برمتها إلى خللٍ في ”الجينات السياسية“ السودانية – إن جاز التعبير – بقوله «التناول التكتيكي للقضايا الاستراتيجية هو سمة من سمات الواقع السوداني ومظهر من مظاهر المشكل السوداني..لقد تم تناول القضايا المصيرية بصورة تكتيكية منذ البداية، فعلى سبيل المثال عندما طالب نواب جنوب السودان في البرلمان الانتقالي الأول بنظام فيدرالي..تم التعامل مع هذا الطلب من قبل ما يسمي بالآباء المؤسسين للاستقلال بطريقة تكتيكية، قالوا أنهم سيعطون الاعتبار لهذا الطلب وأنهم سيناقشونه..وكان ذلك تناولاً تكتيكياً أفضى إلى الحرب قبل الاستقلال..ومنذ ذلك الحين استمر التناول التكتيكي للقضايا الاستراتيجية.. كلهم فعلوا ذلك، عبود والنميري والبشير..ونفس التناول لقضية مستقبل السودان حول الوحدة والانفصال يتم بصورة تكتيكية». كان ذلك قولاً صحيحاً لا ينقضه سوى مكابر، وطالما هي أخطاء إذن فمن غير الصحيح، بل غير الأخلاقي أن تسعى حركة ثورية رفعت شعارات تقدمية وناضلت بتضحيات جسام لأكثر من عقدين من الزمن إلى تكرار ذات الأخطاء التاريخية، لأن ذلك حينئذٍ يكون أشبه بمن راودته نفسه في الأكل من الشجرة المحرمة، وهو يعلم سلفاً المحاذير والعواقب الوخيمة التي ستلحق به أن فعلها! ويقيني أن أموم أقترب من ذلك، فهو حينما يؤكد أن التعامل الآن مع جدلية ”الوحدة والانفصال يتم بصورة تكتيكية“ يكون حينئذٍ قد أساء لتاريخه النضالي من جهة، وأساء للمسيرة النضالية للحركة الشعبية كلها من جهة أخري، ذلك لأننا منذ تأسيسها في 16/5/1983 لم نسمع من أحد قادتها أو نقرأ في أي من أدبياتها المنشورة أو غير المنشورة، أنها تتعامل مع ”أم القضايا“ المصيرية السودانية وهي (قضية الوحدة) بصورة تكتيكية، علماً بأن التعامل بصورة تكتيكية في أمهات القضايا السودانية هو سمة من سمات عُصبة الانقاذ منذ تَسَلُقها السلطة في العام 1989، وبالتالي إقراره أو تأكيده هو إقرار وتأكيد لحقيقة قائمة، والمفارقة أن بعض ذوي العصبة يعدونه شرفاً ضمن إنجازات التباهي وهم يجهلون معني المصطلح! أوغل أموم أيضاً في الاساءة بإضفاء صفة غير لائقة لغاية الوحدة النبيلة «السودان يلعب مباراة الوحدة في الوقت بدل الضائع» هي أيضاً لم تكن مباراة في يوم من الأيام ولن تكون، وبالتالي ليس هناك وقتاً أصلياً أو إضافياً، القضية برمتها كما ظللنا نتعلم من الراحل العظيم هي قضية سامية تتعلق بالمواطنة وحقوقها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، هي قضية حريات وإنحياز للمنهج الديمقراطي الغالب في التجارب الانسانية، هي إيمان بمصير مشترك وقدر واحد، هي حتمية تاريخية من أجل تكريس الهوية السودانوية مزيجاً يجمع الشتيتين! أما الذين حسبوها وسيلة للتسلية الدموية بشعيرة الجهاد فهم الذين يشاركهم أموم الحكم الآن، والذين عدُوها متعة من متع الدنيا الزائلة هم الذين يتظاهرون بالمسؤولية الوطنية الآن! فإن فرضت معادلات الواقع السياسي أن يشاركهم أموم السلطة، نحن نربأ به أن يشاركهم خطاياهم وأوزارهم! الموسي أن حديث أموم كثير الثقوب، فقد برزت منه أيضاً نقيصة أخري، إذ أغفل سهواً أو عمداً نضال القوي الوطنية والديمقراطية في الشمال، وكذلك مواقف قيادات تاريخية جنوبية، جميعهم آمنوا بالوحدة قدراً ينتظر الكيان السوداني، وهذه النضالات لم تجيىء بغتةً أو يوم أن تسورت الجبهة الاسلاموية حائط السلطة، بل هي سبقت الاستقلال وتواصلت بعده، وبالتالي تلك مواقف فرضت نفسها من قبل أن تطلق الحركة الشعبية الرصاصة الأولي، بل قبل أن يصرخ أموم نفسه صرخة الوجود الأولي، حتى وإن لم تأتِ أُكلها! ثمة خطأ آخر وقع فيه أموم وبإصرار شديد طيلة الحوار، فهو من حيث يدري أو لا يدري إعتبر شريك الأمر الواقع المسمي ”المؤتمر الوطني“ هو ممثل للشمال كله، أو قل لبقية السودان كله، وهو واقع إن كرسته نيفاشا وأذعنا له لإعتبارات أهمها ”سواد عيون“ الحركة نفسها، فلا أظن أن أي مناضل ديمقراطي شريف إستشعر النيران التى (شَوَتَ) بها العصبة لحم شعبها، يمكنه الاستسلام لتلك الفرضية، أي فرضية أنها الممثل لكيان الشمال كله، والمعروف أنهم ظلوا يلهثون من وراء هذا الشرف طوال سني حكمهم، ولكنهم لن يبلغوه حتي يدخل الجمل من سم الخياط، أو بلغة كبيرهم الموغلة في الابتذال لن ينالوه حتى ”ولو لحسوا كوعهم“! فهم عصبة سطت بليل علي السلطة وإغتصبت نظاماً منتخباً، وبالتالي أصبح عدم شرعيتها ماركة مسجلة! مع أنه ليس هناك أدني حرج أن نضيف للثلاثي الذي حكم السودان وأشار إليه أموم في حديثه أعلاه، آخرين إختلطت عليهم حسابات البيدر والحقل، أو التأرجح بين التكتيكي والاستراتيجي في جدلية الوحدة والانفصال. مع فارق أن هؤلاء نظل نحن مسؤولين عن أفعالهم هذه سواء توافقت مع رغباتنا في صراط الوحده، أو تضادت معها في إتجاه الانفصال، سواء نجحت أم خابت فنحن قد إنتخبناهم بِحُرِّ إرادتنا دون إكراه أو إجبار أو تزوير، لكننا بالطبع غير مسؤولين عن الذين ذكرهم لأنهم جاءوا للسلطة بطريقة غير ديمقراطية، وحكموا بوسائل تسلطية، وأدمنوا العذاب الذي ساموه شعبهم! بيد أنه رغم ذلك ظلت جمرة المقاومة الوطنية متقده على الدوام، وتلك من النقائص التي أغفلها أموم أيضاً في حواره حين جاء ذكر سلطة الأمر الواقع هذه، فهو يقول رداً على سؤال حول الواقع الذي تتحكم في مفاصله بقايا الجبهة الاسلاموية «السياسة التي كانت في السودان هي سياسة فرض آحادية دينية وثقافية..لذلك أصبحت دولة رسالية عندها رسالة لدين معين تحاول فرضه على الآخرين وتعلن عليهم الجهاد، هذا ما يجب أن يتم إلغائه حتى نتبنى مشروعاً ديمقراطياً يجري فيه حوار بين الثقافات السودانية» وبالطبع ذلك تفسير لنصف الآية، فإكمالها يفترض أن يذكر السيد أموم نضال القوي الوطنية والديمقراطية في مناهضة هذا المشروع والحركة جزءاً منه، لكن السكوت عليه يُشىء بطريق غير مباشر إلى أن هذه القوي إستسلمت للطغيان وخضعت للتدجين الذي مورس عليها طيلة العقدين الماضيين! الاشكالية التي نراها إن عصبة الانقاذ توهمت يومذاك أنه بمقدمها (الميمون) في الثلاثين من يونيو 1989 أن طلع البدر علينا من فوهات الدبابات، وزعموا أن السودانيين دخلوا دين الاسلام أفواجاً، ولكن بعد ما يقارب العقدين من التجريب القاسي للنظرية التي أثبتت خطلها من اليوم الأول، إكتشف المنقذون الجدد أنهم منذ مجيئهم بـ (الشباك) هرب الوطنيون والماسكون على جمرة دينهم بـ (الباب)! أخشي الآن أن يعتقد أموم بمجمل حديثه الذي يغفل فيه دور الآخرين ويُذكّي فيه دور الحركة الشعبية وحدها، أن يكون قد جاراهم في الخطيئة، فالنضال ضد القوي الظلامية لم يبدأ يوم أن ولدت الحركة الشعبية في العام 1983 ولا يوم أن جاءت الانقاذ في العام 1989 ولن تكون نيفاشا 2005 هي محطته النهائية! إن ما يزعج الديمقراطيون الآن ليست نيفاشا التي كرست الأمر الواقع، ولا الخضوع لها إمتثالاً ”لسواد عيون“ الحركة الشعبية، ولكن التكلفة الباهظة الثمن التي ترتبت على هذه الوضعية، فالسيد أموم ونتيجة للاشكالية القائمة بين الحركة الشعبية وشريك نيفاشا ”المؤتمر الوطني“ فهو يخلص بنظرة قاطعة إلى نتيجة مفادها أن «الوضع الحالي والعلاقات الحالية فإن الوحدة ليست في مصلحة الجنوب..الوحدة بشكلها الحالي مبنية على مصالح مجموعات صغيرة في شمال السودان..والجنوبيون متضررون منها هذه حقيقة» لكن الحقيقة أيضاً أنه بحديثه هذا يأخذ الشمال كله بجريرة عصبة الانقاذ، مع أنه كما ذكرنا لم ننتخبهم وتسلطوا على رقابنا بليل، فهل الركون للأمر الواقع في نيفاشا يعني تحمل تبعات كل بلاويهم؟ الغريب في الأمر أنه حتى لو حدث الانفصال تحت إبط العصبة الحاكمة فالسيد أموم يرهن العلاقة بين ”الدولتين المفترضين“ إلى حسن سير وسلوك العصبة نفسها، فرداً على سؤال من الصحفيين حول أن الحرب الأهلية يمكن أن تتحول إلى حرب بين دولتين شمالية وجنوبية، يقول «هذا يتوقف على عملية الانفصال نفسها، إذا كانت الصفوة الحاكمة في شمال السودان تحاول أن تقهر الجنوبيين وتفرض عليهم الوحدة لأنها تخدم مصالحهم، وفي نفس الوقت الذي يرفض فيه الجنوبيون هذه الوحدة لأنها لا تخدم مصالحهم، فإن الفرقة ستؤدي إلى ردة فعل من شأنها أن تشهد علاقات سيئة بين الدولتين، وستضر بمصالح الشعبين..وبالتالي وحتى تكون هناك علاقات طيبة بين الدولتين المفترضين، فمن الضروري أن نحترم رأي الجنوبيين حتى يقرروا مصيرهم دون ضغط أو تأثير عليهم» سيقول أحد ما أنه لا جناح ولا تثريب في هذا القول رغم غلظته، ولكن نقول للقائل أن في طياته تنكر لعلاقة رفاقية كان يفترض أن تسود بدلاً عن علاقة إنتهازية تدثرت بثوب الواقعية! إن العلاقة التي إفترضنا فيها أن تسود هي العلاقة بين القوي الثورية في الجنوب ممثلة في الحركة الشعبية والقوي الوطنية والديمقراطية في الشمال، ذلك لأنها تأسست سلفاً على أساس مناهضة المشروع الشمولي، وبالتالي فإن حِلفّاً بغايات نبيلة كهذا الحلف ينبغي أن يستمر بشتي الوسائل حتى يبلغ نهاياته المنطقية، ولا يعتقد أن ثمة نهاية سعيده مرجوة يمكن أن تكون غير عودة الديمقراطية كاملة وغير منقوصة، ففي ظلها يستطيع الجنوبيون أن يعملوا على تحقيق مصيرهم بإرادة حرة وبعيداً عن أساليب الفهلوة والهيمنة والاسترقاق السياسي، وأياً كانت وجهة الاستفتاء فلسوف تُحترم نتيجته بلا شك، ولكن أن يقر أموم بأن المؤتمر الوطني ليس في صالح الوحدة «حتى اليوم الذي أتحدث فيه معكم، فإن بقاءهم يضر بمصلحة وحدة السودان، إلا إذا غيروا برنامجهم، وإتفقوا على تنفيذ الاتفاقية بشكل جيد» فعلام إذاً يُعاقب الشمال بالانفصال، أو فلنقل لماذا يُعاقب الوحدويين في الشمال والجنوب بالانفصال المقيت! الغريب في الأمر أنه بذات القدر الذي إبتسر به أموم قضية الوحدة، إستهون أيضاً قضية الانفصال، فهو علاوة على كونه يفضله خياراً- مثلما أوردنا أعلاه - في ظل الوضع الحالي أي الوضع الذي تتحكم فيه عصبة الانقاذ ما لم تغير من منهجها، فها هو يحصر الأضرار التي يمكن أن يجنيها الجنوب من الانفصال في خسائر مادية فقط «أن يتحول الجنوب لدولة مغلقة لا منفذ لها على البحار وبالتالي يخسر بورتسودان كميناء» ثم يضيف ضرراً آخراً في التفكير بنفس الذهنية التي بدأت تسيطر على بعض قادة الحركة الشعبية ومنهم أموم نفسه بعد ظهور النفط ودخوله في معادلات الصراع «يضاف إليه أن إقتصاد الجنوب سينبني على سوق ضيق وصغير، وكان يمكن أن يكون الشمال سوقاً لما هو منتج في الجنوب وبالتالي فإن المنافع التي كان يمكن أن يجنيها الجنوب من السودان الواحد لن تكون موجودة..وحتى في نظرنا كحركة شعبية فإن السودان ككل سوق صغير، لأن الزمن تجاوز فكرة القومية والحدود التي تعوق التجارة» قد يتساءل بعض القراء وأنا منهم ما الذي تركه أموم ”لشيلوك“ الجبهة الاسلاموية بعد هذا الحديث؟ فقد عودونا الاتجار بقضايا الوطن بعقلية التاجر المُرابي تلك دون إحساس بالمكونات النفسية والروحية والعاطفية والفكرية التي تسهم في بناء الأوطان! إزاء إلحاح الصحفي المحاور في إستصعاب عملية الانفصال يلقى علينا أموم حجراً آخراً من شاهقٍ كأنه إستمرأ إستسهال قضية معقده «بالمناسبة الناس لديهم تصور عاطفي لموضوع الانفصال لأنهم مربوطون بالخارطة (بتاعة الاطلس)..لكن يجب أن نُبسِط العملية عبر الاجابة على السؤال ماذا يعني الانفصال» ويجيب هو على سؤاله بما هو أنكىء «الانفصال بصورة واقعية يعني أن يتحول الخط الوهمي بين الشمال والجنوب لخط وهمي دولي.. وحتى يقطع أي مواطن هذا الخط فلابد أن يكون حاملاً لجواز سفر، وبإمكانه أن يحصل على التأشيرة عند الحدود ويمكن ألا يسمح له بالدخول إلا إذا كان حاملاً لتأشيرة من السفارة.. ومن الممكن أن تصل الدولتان لاتفاق بالدخول دون تأشيرات كما هو الحاصل الآن (اتفاق الحريات الأربع) بين السودان ومصر..هناك موضوع البضائع المتحركة من الشمال إلى الجنوب أو العكس..هذه البضائع سيتم فرض جمارك وأتاوات عليها.. هذا كل ما يمكن أن يتغير إذا حدث الانفصال وليس هناك شيء آخر سيتغير..وإذا اتفقت الدولتان على إلغاء التأشيرات والجمارك فلن يكون هناك شيء قد حدث». يا سيدي ما العيب أن يكون للناس تصور عاطفي لموضوع الانفصال؟ أقرُّ أنا كاتب هذا المقال أمام القراء وبكامل قواي العقلية والبدنية أن لدي تصور عاطفي لهذا الانفصال منذ أن ذرّ به صديقنا (منقو زمبيري) على مسامعي، وهو تصور مربوط حقاً بالخارطة (بتاعة الأطلس)، لأحساسي بأنه منذ أن إلتقطتها عيناي في بواكير الصبا، فقد طفقت كما الشاعر الجاهلي (أحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري) فهل بمقدور متبتل مثلي أن ينزع أوردته الطبيعية ليضع مكانها أخرى صناعية؟ فمن ذا الذي يعيد سيفاً إلى غمده كان صاحبه قد إستله من أجل تبقي تلك الخارطة شامخة على الأرض؟ ومن ذا الذي يعيد قصيدة عصماء فرت من قسورة.. إلى سربها، كان شاعر مسكون بتلك الخارطة قد باح بها في لحظة صدق مع النفس! إذاً هكذا تحدث ”زرادشت“ أو الأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان، وايضاً بكل صدق يا سيدي من قال لك أن الانفصال هو محض ”خط وهمي“ فقد كذب!
عن صحيفة (الأحداث)
|
|
|
|
|
|