|
كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه
|
مقدمة الكتاب
الكتابة فن جميل على غير الطبيعة التي تبدو أول وهلة، فقد ارتبطت الكتابة بالمعلومة والخبر والأمر والنهي، كما ظهرت من خلالها الحكمة والصورة الجمالية والموسيقى والدلالات الخفية المتوارية والمظاهر الصارخة، كل هذا من خلال الحروف والكلمات وأصول اللغة وقواعدها مَرَّت حقب كثيرة ونمط الكتابة الأدبية والفنية يسير وفق أسلوب شديد الواقعية قليل الخيال، ثم تدفَّق الخيال في فترات تالية حتى كادت الكتابة أن تكون تجريداً بحتاً، بين هذا وذلك رأيت شاباً يقف في قارعة طريق الكتابة كانت له أربع عيون، عين ممعنة في الخيال، وثانية تهتم بالرسالة والموضوع، وثالثة مجردة النظر، ورابعة ترى أن الحرف لغة والجملة لغة والنص لغة. محمد المصطفى بشّار كاتب له جاذبية خاصة، ومن الواضح لي أنها نتيجة جهد وتفكُّر، ونتيجة تجارب ومخزونات من عدة أمور فيها ما هو عادي وما هو غير عادي، الطرافة والتواضع والذكاء يتخلَّل أعمال بشَّار في الكتابة، كما أنه تمكَّن من أن يشكل مادته دون أن يكون الموضوع هاجساً مضراً للإبداع، ويبدو الموضوع لديه كقطعة الذهب لدى الصائغ الماهر يمكن أن ينتج منها خاتماً جميلاً أو عقداً أخَّاذاً. كتب محمد المصطفى بشار عن رحلاته، وعن مصادفاته في ضروب شتّى من المواقف والتأملات، وقد تمكن من أن يدفق فيها شيئاً من الحيوية والبشاشة، وكأنه يكتب لكل قارئ علي حدة مما يترك علاقة ممتدة بين القارئ والنص والكاتب، ومن خلال هذا المناخ المبدع، تتجدّد الرؤى وترتوي الأحاسيس وتتمدد وتتآصر العلاقة الإنسانية في زمن ما، وشعور ما متكبر الهيئات والأرواح وتتواصل. الكاتب محمد المصطفى بشار، هو في الأصل مصمم صناعي، ودارس لعلوم التربية الفنية، وله ضلع في التشكيل مديد، ولَمَّا كان التصميم الصناعي يُعنى بالغرض والاستخدام والاستهلاك والقياسات، فهاهو يتفلّت من هذا السياج، ولكنه انفلات متزايد ومنساب، وكما عرف قواعد القياسات والهدف والغرض، تمكن من استخدام المكونات الفنية في مادة الكتابة، وسبح بها صوب الأفق الجميل. هنالك جانب آخر عن علاقة الكاتب بالكتابة، حيث إنه مارس الصحافة مهنة واحترافاً فهو صحافي مسجَّل ولديه عضوية في اتحاد الصحافيين السودانيين والصحافيين العرب، وعضو في برنامج الصحافيين المتجوّلين التابع للجنة المنظمات غير الحكومية في نزع السلاح وهي جهة طوعية مقرها نيويورك. المادة التي أقدمها للقارئ تتركّز في أجواء المدن والسفر، وما يتخلل ذلك من تأمل ومصادفات وقد تمكّن الكاتب من تناول أفكار وزوايا خاصة جداً، في جسد المدن وعناء السفر، ومن خلال ذلك تمكّن من أن يقدّم نماذج حياتية، وأن يستعرض مواقف جادة ومحددة تجاه قضايا مختلفة، تمكّن من أن يطرحها بأسلوب أدبي ممتع وجديد من حيث الإيقاع والعبارة والمضمون. يبدو واضحاً أن محمد المصطفى بشّار، قد أدرك أن القارئ ذكي وأنه متفاوت الثقافة والفكر، وقد أمعن في أن يفاجئ القارئ بلمسات ذكية وطريفة وذات مدلولات فنية، تنم عن حب للآخر، وهذا هو غاية التحضر وحسن العلاقة الإنسانية. عبد الباسط عبد الله الخاتم أستاذ جامعي، كاتب، وفنان تشكيلي
بورتسودان: وجه مدينة لا تعرف التجاعيد
كان الجو لطيفاً وعابقاً بمشموماته العطرة، ونحن نترجّل من على ظهر طائرة بوينج 737، تابعة لطيران السودان في مطار بورتسودان، والمعاطف علي أكتافنا، ومتدليات الكتف من حقائب "الهاندباك"، وأمامنا رهط من القساوسة في ثيابهم الفضفاضة، وكان على ما يبدو أنهم سيؤدون قداساً على الهواء الطلق في بورتسودان. تغمرك الأحاسيس أجملها حينما تتخَلَّل تلك الطائرة العتيقة ركام السُحب، فيبدو السحاب كالقطن المندوف، كان على شمالي راكبٌ يسافر لأول مرة، فسألني السؤال التقليدي الذي يفصح فيه عن معيّته. كان يفصلنا عن درجة "VIP" ستار من القماش سميك، وحين تُحرك الستارة نفسها بين آونة وأخرى، نلمح رُكّاباً على درجة من الأناقة مُفرطة. وهكذا كنا نحاول، في ثالثة الدرجات. صوت المضيفة يأتي إلينا صادقاً بدُعاء السفر، وتحايا "كابتن السر" والطاقم، ويتحوَّل إلى الإنجليزية وإلي لغة أخرى لا أدري من أحرفها إلا ما علمتني. ويترصدك خوف الانفجار أو سقوط الطائرة، فالمضيف يشير إلى مخارج الطوارئ وأماكن كمامات الأكسجين، وبزة النجاة تحت المقاعد، تحسست أسفل مقعدي فلم ألمس شيئاً لدناً، وتدحرجت بنا قمراتها. عجلاتها داست على كبد المطار، وتفجّر الشجن الذي يسبق حنين الطائرين من المقار. كان قبل ذلك أن اربطوا أحزمتكم علي البطون، ودعوا رئاتكم تكف عن التدخين. فبدت لي تلك الخرطوم مُقَسَّمة، والنيل ثعبان عجوز، والمباني مثل صناديق البسكويت، فلمحت حاجّة عَشَّة بائعة الكسرة، تقبع في نفس الركن الذي تركتها فيه أمس، وبعد ذلك لم أرَ شيئاً ويتحسس المضيف مُكَبِّر الصوت. تتأكد أن الكارثة لا بُد وشيكة، والقفز من هذا الارتفاع متعة حقيقية. لم أحضر إلى بورتسودان هذه المرة كاتباً، بل أتيت مصمِّماً لإحدى شركات النفط، في ذاك الصباح دار في مخيلتي الكثير والمثير، والقطط التي تهز أزيالها وتحتك ببنطلونك، والأدروب والقهوة ولواري "BEDFORD" وشمسها اللافحة، إنها تراكمات رحلتي السابقة، كنت طالباً أدرس الفنون وفي رحلة علمية، الهاجس السابق كان لونياً أما هذه المرة فغير ذلك. مُدهش وجه المدينة، والناس والصبايا وفوجة الموانئ مالح، ولغة البحارة دخان كثيف وموج، وكثير من الأغنيات أعادت إلى ذاكرتي قبطاناً متقاعداً كان قد تخرَّج في الأكاديمية البحرية اليونانية، وأبحر في كل الموانئ من "ممبسا" إلى "بريستول". كان حين يحكي لي كُنت أظن نفسي مساعداً له في قراءة الخرائط، وتوجيه الدفة وقياس سرعة الريح، وتبيين مواقع الجنادل. الموانئ ضاجّة بالسفن والوجوه السمر تتدحرج على حافة الإسفلت. "باووت" هكذا يسميها الأدروب وحين يغنون لها بحنين دفَّاق، وحُب جارف ويدعون الناس للمكوث بها. صبايا فرنسيات علي ما يبدو، يحملن حقائبهن على ظهورهن، ذَكَّرنني نشيداً قديماً، كنَّا نردده بشغف لكثرة نون النسوة فيه، بيض الحمائم حسبهن، أني أُرَدِّد سجعهن. شهورهن مسدلة، وعيونهن خُضر يتجوّلن، ولا تُلاحقهن الأنظار، الناس هناك من دفء الموانئ ودفق الريح على المشربيات والنوافذ، تخال المباني خالية، وأظن سيدنا سليمان قد مرّ من هناك إلى سواكن. الأزقة والحواري وألوان الثياب، والصديري يزامن الجلباب في لغة التضاد القديم بين الأبيض والأسود، إني آسف جداً لأن شعري قصير، كنت أتمنى له "خُلالاً" خشبياً مزدحماً بالنقوش. وليت لي دابة أضرب بها في الخلاء البعيد، بعيداً عن زحمة العولمة ووالدها المُسَمَّى "تكنولوجيا". كانت الطرقات رغم سفلتتها تتحايل عليى ذاكرتي الخَرِبة، فقد نجحت كثيراً، وتختلط عليّ الدروب، لا ينقذني منها إلا أصدقائي الثلاثة، عاصم وحسين ودقنة. ودقنة هذا غير عثمان دقنة كوكب الشرق، له خبرة عشرين عاماً في "بورتسودان" رغم أنه من "كتيلة" إحدى مدن الغرب المنسية إلا أن أحمد دقنة مشهور في غير مدينته. على كلٍّ عاصم وحسين شابَّان رائعان، ولا يخلو كلاهما من مرح المغتربين على ضفاف الموانئ. صَحِبوني جميعهم في مهمتي التصميمية فلهم شُكري حتى يرضوا. لك أن تسأل عن تعبير الوجوه والجمال قيمة مطلقة، والاناث يتبدين في ازدهاء الحسن، لكن رائحة القهوة أجمل، ولون الـ"أوفرول" أزرق، ولا أقول لك إن هذه المدينة مثل بطن "الراديو" لكن "الراديو" أصغر. والصباح الثاني يأتي، والمذاق في فمي أطيب، والثلاجة تزفر بحنق في فناء "الشقَّة" إلا أنني ذاهب إلى البعيد البعيد، وجسمي معلق بكبد أختيّ الصغيرتين، حين ألمح من تشبههن. كلنا نمضي سريعاً علي واجهات الزمان، والمحال التجارية والبيوت، أخشابها تعتّقت من رائحة الملح، لو كانت له رائحة. ربّاه إني قد أتيت تجاوزاً، أثأر بحلمي ومن شبق المواسم، من ضيعة الأسفار في التاريخ من الزمن المخَلَّل بالتجاوز، والتباريح وخدر الدخان، والمراكب الصغيرة ماذا يريد الموج منها؟ الباعة الجائلون بمختلف الأصناف والأقمشة، ونظارتي المظلَّلة، يحق لك أن تكون ماشياً علي رجليك وتتخيّل أنك تمتطي عربة مظللة، والوقود مدفوع القيمة بكمية ما تناولت من أسماك أو "أفوال". أقوال لدقنة دعنا "نستشوي" أي نشرب شاياً، اللغة مباحة فنحن بعيدون جداً عن إمرء القيس أو الخليل بن أحمد، و"نستشوي" وتروح علينا القهوة كثيراً في الصباح الثاني، تدحرجنا نحن الأربعة وقصدنا بائعة الشاي، وحسين المهندس الزراعي، أتي بـ"زلابيا" أظنها بمائة ألف جنيه ليس غير. بالتأكيد التهمناها ووضعنا الباقي في المخزن بشروط جيدة "وألا أقول ليك.. أكلناها كلها". حسين ودقنة من هواة الراديو، وهما يسكنان غرفة واحدة، يتناولان نفس الغذاء، ولهما نفس المدير، كما أنَّ لكل واحد منهما جهاز راديو، والراديو الخاص بحسين لا يلتقط بث إذاعة أمدرمان، رغم أن الماركة واحده ونفس حجارة البطارية، يُصر حسين ويُلح لا بُد من استبدال هذا الراديو. ويمضي حسين إلى بائع "الراديوهات" ويأتي بجهاز يكاد أن يكون بنفس الـ"SERIAL NUMBER"، ولكن هنا أمدرمان لا تأتي، لا ندري أين ذهب أصدقائي القدامى علي الأمين ومحمد جابر، علي أية حال أمضي إلى سوق الحبال وأشتري حبلاً بطول ستين متراً لرفع مجموعة أعلام. وكلنا بالشوق وفعل الغربة نسأل، إنني آسف جداً لأنَّ شعري قصير وجسمي متعب. "سوكرتا" أو حي العرب يهزم هلال العاصمة، المشجعون منتشون لحد الصباح، والرقص علي طول الطريق، وعلى ظهور العربات والمركبات واللواري وأسطح البنايات. يوقدون شموعاً من ورق الجرائد فرحةً بالنصر، إنّه فعل سكّان السواحل، للمهرجانات طقوس مثل شُرب القهوة، ومثل الصديري مصاحباً الجلباب. إن بورتسودان وجه ساحلي لا يعرف التجاعيد، كل الهموم هناك تُرْمَى للموج كي يفعل بها ما يشاء. تذَكّرت وجه "مندي" رغم أنني لم أرها، طفلة بعامين اثنين لكنها تماماً كالكبار حين تقف أو تجلس أمام "الكاميرا"، والدها يا صديقي، صار لي صديقاً، البحر في عينيها كان صافياً وبغير مُلوحة، "عفواً لا أقصد طعاماً". خلف ذاك المستودع الكبير الغاص بالشجيرات الشوكية، صنع لنا أدروب قهوة ذاك الليل، وكانت الساعة تتخَطَّى التاسعة ليلاً، والبوابة تبعد عنا ثلاثة كيلو مترات، وبورتسودان خمس وأربعون كيلو متراً، وأدروب يحكي لنا بلغة "البجا" ويتخَلّل حديثه مفردات عربية، وإنه يمتلك عدد "2"، بطاقة يعمل بها في الميناء فهو حين يشرب القهوة يتسع الكون أمامه، وتُتاح له فرص عمل في مكانه، بل يأتي إليه ضابط شؤون الأفراد الذي لا يعرفه، ويجرُّه من يده بأن هناك وظيفة، ويُركبه معه في سيارته، ويصرف له مرتب "كم" شهر قبل أن يستلم وظيفته، كل هذا بفعل تأثير القهوة، فإنها تجلب الحظ وتوفِّر المال، ولا تتسبب في ارتفاع ضغط الدم. ولا يخالفنا الراوي أن "الزين" ومصطفى سعيد يمكن أن يكونا معنا دائماً ويومياً، إنا موجة أخطات في المد فلفظها البحر على ساحل هذه المدينة. ونعود إلى "باووت" لا شفقاً يواري الشمس، لا أُطراً تسع خواطر المشتاق للتاريخ، للبهاء الرابض في صمت البيوت، في السكون الصعب، في لحظة الهدنة، وشجر الليل عانق الأوتار، فانسكبت كل حشرجات الجن في أذني، وهم يتسلقون علي ظهر السفينة، إنني الآن لا أخشى إلا على عرش أمنياتي أن يُغَوَّض. أن تكون أنت مسحوراً بعرائس "الأولمب"، هناك قد تنسى ادّكارك، كلما عبثت بك النجوى أو تخطّفك السهر. إننا نأتي إليك، وتشدنا نحوك زحمة المبُعدين طواعية عن العواصم وعن "الهامبيرجر" و"الفرانكفورتر". أرجو أن أعود إلى "باووت" في أكثر فصولها حرارة، لكي أستحم كثيراً وأصاحب لي "دلفيناً"، فأنا كائن برمائي، حينها يمكن أن يكون السفر بلا وثائق ولا عبارة شُوهد عند الدخول. تحتم عليك الرتابة أن تكسر ايقاعها البليد، فتتجَوَّل، أنت متعب، محاصر بكوابيس أن لا تجد حجزاً في تلك الطائرة العائدة إلى الخرطوم العاصمة، ويعدك أصدقاؤك إن بقيت معنا حتى الغد، سنقيم لك رحلة، وقد نذبح لك "عنبلوك"، والذهن يختمر بتحولات المكان بعيداً عن الجغرافيا ولون الأرض، والتاريخ. وأذهب إلى المنطقة الحرة يوم الافتتاح لكي "أعاين" الذي صمَّمته، هل مازال يقاوم رياح الهبباي؟ شيء مؤسف أن تخر الأعلام فهذه سيادة دول قد قاومت الرياح وما زالت رغم ارتفاعها. كل السودان يجتمع هناك بكل ألوانه وملابسه وملابساته، وسحناته الداكنة والفاتحة والوسيطة، هذا علم جديد في علم ألوان الأجناس. والراقصون والراقصات يوزعون غبارهم علينا، و"خلاخيلهم" ترتج مع ضربات أقدامهم الحافية أو اللابسة "كبك"، ويعرضون علينا مزيداً من الرقصات حتى رقصة التويا "TOYA" "راقصين التويا، .. كلّموا لي أبويا".. والإرهاق بادٍ، والأدروبات بكل فصائلهم وأنواع جِمالهم يتسابقون، إن أشجع الأطفال هم الذين علي ظهور الإبل بلا سروج. تمنيت أن أكون سابحاً في موجة الوطيس، تذكرني علي الأقل بجدي يونس الدكيم الذي أوشك أن يتزوج الملكة "فكتوريا" التي لاتحتاج إلى تعريف، "لكن ما بتدّي حريف". ونعود إلى بورتسودان العاصمة، حيث النهار أُتوناً متقد الجمر، مدمن لروائح الشواء من يتجهم وجهه أمام صالات الجزّارين. ونتجوَّل جولة الوداع في ذاك السوق الزاهي الألوان والأقمشة، بحثاً عن أي شيء يمكن أن يشتري بالمال القليل، أو يقبل أن يكون مسوحاً على شقوق القدمين. هذا بعد أن حجزت لي مقعداً في طائرة الصباح، سأكون أرِقاً جداً.. لأني أود أن ألمس السحاب، ولكن يحول الزجاج، ونظرات المضيفين المريبة، كأنهم هم الذين سيخطفونها، وليس نحن الركاب. عليهم أن يلقموك طعاماً خفيفاً وشاياً، وأن يخبروك بمخارج الطوارئ، ويزيدون من روعك، ولا يُخَفِّف عليك إلا دعاء السفر. ونعود إلى "الميس" وأصدقائي الثلاثة حزانى، لأني سبَّبت لهم برنامجاً غريباً، وإنكساراً في بؤرة العمل الدؤوب، وقالوا.. ابقَ معنا.. ابقَ معنا. ردّدنا الهتاف، وتبادلنا كورس الصور الفوتوغرافية، في دكنة ذلك الليل، الذي كان أخيراً، وحفيف الشجر يُلقي على مسامعي شعراً جميلاً، وأغصان تتأوَّد، وحسان يتناجين في غيبة البدر الذي هو في الأمس قد اضمحلّ. ودقنة يصحو في الأذان الأول، أصحو معه ويحمل لي حقيبتي إلى موقف بص الخطوط الجوية السودانية، فتجد المكان مغلقاً، لا أحد سوانا يخيط في تلك الشوارع ليلاً عدا جنود أتمُّوا نَوْبَة الحراسة الليلية، وهم موعودون بنوم ثقيل. ونشرب شاياً علي أُنس الكيك بعد أن كان على همس الزلابيا أول أمس، ويعانقني أحمد عثمان دقنة عناقاً طويلاً حتى فكّرت في أن ألغي سفري في هذا الصباح، إن الذين نقابلهم صدفة في هذا الزمان يمكن أن يكونوا لنا أصدقاء وإلى الأبد. وفي مطار بورتسودان، لمحت أحد الزملاء ومعه طفلهم الصغير، وركبنا الطائرة العملاقة من بابها الخلفي، والعلامات داخلها تؤكد لك أنها روسية الصُنع من لون الطاقم وحديثهم وشعرهم الأسود وعيونهم "اللازوردية"، ونَفْس أولئك المضيفون، وتجري بنا طويلاً وتعلو رويداً رويداً، ونحن مربوطين على المقاعد، ودخان يدخل علينا من جهة ما. قرأت دعاء السفر، وآية قرآنية لقَّنتني إيَّاها والدتي منذ الحادث السابق، والطمأنينة تفرش ثوبها، وأنا ملتصق على النافذة، أراقب مبنى المطار من عل، والناس قد صاروا مثل أقلام "البيك". ونروح في دوامة الحنين لمن نحب، ومن تحب وأنت معلق بكبد السماء؟ وأزيز الطائرة، والغابات في الأسفل تبدو طحلبية ومرتفعات بلون "تركوازي" باهت، ومشاعرنا بنفسجية من الإثارة والتحديق في فراغ السودان، حمدت الله في سري وجذبت نفساً عميقاً. ورحت في ثبات طويل، حتى أفزعني صوت المضيف بأننا وصلنا الخرطوم وعلينا أن نكون مربوطين بالأحزمة وأننا سنهبط بعد قليل "يا خي ما تخلّينا طايرين".
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
"ودمدني" الزمن يتوقف مبتسماً
وتنقل بصرك في كل اتجاهات الجغرافيا كلنا في الهم شرق، لا تدري أي حنين يسوقك، والمباني في ذلك المساء مضاءة بمصابيح ضؤها خافت، وسَمَّاك ينشر شباكه على وجه المدينة، فلعله يصطاد سمكة تبيض ذهباً. وبائعو الأقمشة، ومؤجِّر العجلات للصبية يتنافسون في ركوبها والقيام بها "سَدَّاري" يصطدمون ولكن جراحات الصغار تندمل سريعاً. والبكاسي المغلقة "البرينسات"، واللواري وطرائف السائقين وهمومهم حيث يحنّون للبلد، وتذكارات الوحل قبل مجيء "الزلط" والحميمية بين المساعد و"الصاجات" حين تغوص اللساتك في الرمال، والكتابات على مؤخرات اللواري "يا نونو" و"من عيونك يا غزالي".. و"الدكتورة"، الأمنيات تكتب بمثل ما يجيء بها الخاطر، "قتلتها كي نكون أو عاشقين تلاقينا يوم الحساب"، قَتْل عَمْد 153. ووراء ظهرك تلك المعدية السلحفائية تكتنز بالقديم والجديد من حديد "اليابان" غير الخام. وحتى الناس في كلامهم سمرة محببة وخُدرة "دُقَاقة" كما يغني المغني، والقمر محتجبٌ عن السواح الذين يمشطون شوارع المدينة، ويمشطون شعرها المتهدل، كانت تقول لي أين سنبيت في هذا المساء؟ الليل عندي ليس كما هو عندك، الناس شعورهم وأظافرهم تطول، والدجاج يرتدي "غوايشَ" و"حلقاناً"؛ والعيون توقد جمرتها مثل كهرمان الليل؛ النيل ليس سوى ثعبان عجوز؛ يقتلنا حين يريد إغراقنا، وأرجله تلاطم موج الأزرق، حب الأزرق لا يجيئه إلا أصوات "المراكبيه"، وقتار قدورهم أو دعواتهم الوهمية داخل النيل، ورائحة الخبز من الأفران التي صارت تشبه الصيدليات بزجاجها، ونظافة بائعيها واختفاء ما يسمى بـ"الطاولجي"، بقي البائع وحده يوزّع الرغيف والابتسامات. في الحواري والأزقة مدينة تجيئها علي عجل وتنسى أي ميعاد، وكل المواقيت عندك سيان دينار أو جنيه. الزمن تعبير يخص "الحيكومات" وحدها فلكل منا زمنه الخاص، ويزيد من اغترابك "أظنك عرفتي هموم الرحيل". وداخل الحواري الصبايا استنفدن السمرة وأطلن لها الشعور، بالموج المموسق وحر "الجنزبيل"، تسمو ثم تصوغ الغبار في اعتساف الأسئلة، جوراً من صداك على الأفئدة، أبواباً من الأسى موصدة، هل أتاك حديث النزال، والأجوبة الكالحة السؤال؟ بمثل حزننا على الذين يرحلون من خارطة مدينتي، نعي للحياة والناس والعصافير لذاك المغني. أغنيات المنافي تظل أعلق وأعمق في شجوها المحزون، على القلوب التي تحب ذاك التراب، مثل نشيد العلم وذاك الأخير. "صه يا كنار.. فبعض شدوك موجع، البندقية في بداد بيوتها طلعت بمجد ليس بالمتجدد، سأذود عن وطني، وأهلَك دونه يوماً يجي، فيا ملائكة فاشهدي"، كأنه كان يقول ذلك، هذه رائعة الصاغ محمود أبو بكر، كل الذي يقال يكرس لعشق التراب، ولكن من أين لي قصيدة تخصني، من أين لي ذلك الثوب لكي أتلفّع به؟ إن وجدت العباءة فأين سوق عكاظ. وتقول من لا تحبني كثيراً: وغداً تسافر حيثما اتّجه الأمل، مهلاً غرامك سيدي، فأنا نبذت العُرف بالتشهير في زمن الضنى، يا سيدي أحتاج نبضك مرتين، مرة للعشق في ثوب المساء، وثانية تحين مع الصلاة، مدد "يا برعــى" مدد. الجذب والفيض يطوقه بالشفافية، والشفافية كلمة استنفذت أغراضها عند الحكومة ومرادفتها بالإنجليزية Transparency. كل هذا والنظر يتمدَّد نحو الشرق. أم مغتربة كما يبدو مع صغارها، وأياديها تضج بالحلي، وتبدو شبعة جداً، ويدها حتى الكوع غارقة في "الشعيرية"، والشعيرية هي رمز الرفاهية لإحدى قبائل غرب السودان، وحقائب أنيقة تمتلئ بالهدايا، والصغار يستفزهم ولع أمهم بالمعدية، وهم ساهمون عنها أو يكاد الواحد منهم أن يقول لك إن ثقافته خليجية. هذا هو حال كل المدن، الاغتراب الطويل، والعودة بأمثال هؤلاء الصغار الرائعين، لا يفهمون كثيراً في التعب، ومعنى الجوع، وركوب العربات "ملح" مثلما يفعل أهلنا الأعراب. يناضلون لك في حقك، يذكرني ولعي بالسفر في إحدى اتجاهات النيل الأبيض حيث البص "ديناصور" يتبع لشركة "إنجليزية"، وهذا الباص يأتي قبل صلاة الصبح، ما يجعل جميع الركاب في عجلة من أمرهم، فلا يستحمون ويتوافدون نحو البص يحملون "مساويكهم" ليكملوا سواكهم داخل البص، والغبار يأتي إليك من كل مكان، الأغنام والضان و"السخلان" تحت المقاعد، والدجاج معلق "up side down"، أعالية أسافله، والبص ممتلئ حتى النخاع، أناس يتنفسون في وجهك، ووجهك تحت إبط أحدهم، تنتابك حالات إغماء بين فينة وأخرى، ومتى ما لفح وجهك من رائحتها، تتساقط عليك شظايا "المسواك" فتنفضها عنك، وتمد يدك خارج البص الخَرِب، في محاولة لتحريك جسمك من ضغط الكراسي الحديدية، فينقدك الدجاج المعلَّق بأعواد "القنا" على جانبي البص، فتسحب يدك إلى الداخل مرة أخرى، حالة صعبة، هذا يتم رغم أنف الألفية الثالثة والرابعة أيضاً. إننا نسكب شجون المدن مع بعضها، ونعمل منها عجيناً أو مزيجاً ليتحوّل إلى كسرة أو عصيدة أو لقيمات صباحية. ود مدني متميزة الاستدارة والاكتناز، ليت من يعرفونها يقيمون فيها مهرجاناً على ذلك الشاطئ. فالمدن الإفريقية من صفيح وأخشاب، والزمهرير يجتاح غرف المنازل، والصفيح يصدأ ويأخذ لوننا نحن، ورائحة تنفُّسنا. والصبية يجرون وراء كرة من قماش، يلعبون في جو "المغيرب"، حيث الشمس تميل إلى الأفول، بأرديتهم القصيرة، وأجسامهم الغضة، لا يعرفون إلا نقاء اللعبة، يتسامرون ويضحكون وتلمح أسنانهم بيضاء، ورئاتهم وردية لا تعرف لون الدخّان. لكن الفاجعة في الملاريا التي تطيح بأولئك الصغار، الذين يسافرون إلينا بحبهم، وبحبهم تطمئن قلوبنا كثيراً. الرائعون في بلادي مثل أسمائهم وعظمة تلك المدينة، حين يحصدنا الأسف ونظرة المحُب للمحُب، وإيقاع السفر علي ذلك الطريق القارّي، والذين يعبرون عليه سريعاً أيضاً يبقون في ذاكرتنا، وحين يودّعوننا ولا نسمع إلا أصواتهم عبر الهواتف، والرسائل القصيرة وفحوى الإهداءات، قد نكون لا نعي ماذا نهوى بالضبط، هل المدائن وحدها هي التي تشكل فينا هذا الفعل الناعس؟ والشاي لا يزيد المزاج إلا اعتلالاً وخدراً شفيفاً، به تدلق على الناس وحياتهم، والمباني التي تقف وحيدة، والذين يسكنونها، ومن نغيب عنهم ولا يذكرونا. فبُكاء المدن استقطاع حقيقي من مخزون العواطف، وحين يصعب علينا السداد، بالأقساط والمجادعة، والمجادعة سنفرد لها حيّزاً في مرة قادمة لتفسيرها، كانت تصاحبني إلى ذلك المطار. الصقيع والثلج يترامى على أكتافنا، الجو عابق بأطيب الروائح "ليل غربة ومطر"، "هايدي" أحبك رغم تعتيم الزجاج، وصوت المذيع الداخلي يقطر وقاراً حازماً، يلقننا بيان الهجر من كل اللغات، من أزيز الطائرات، الله من فوح الحقائب، وحالة التدقيق في وجه الوثائق، والعوينات استقرَّت في مدارك ماهيّة الأشياء، تستدعي انفصالك عن مشاهد في الحانات والليل الثقيل، والشعور مهدّلات لو تغامر، ما لهذا "الكستناء" من لون المفاتن، يرجعني زماني عوداً قبل اكتشاف الكهرباء، كنا نضيئك بـ"الرتائن"، ونستدفئ قوام الليل من طلح الكمائن، قد أحار بريقك الوضَّاء كل خلجات السفائن، تلكم هي "ود مدني" في أدب المطارات، وأدب المطارات نوع جديد من الكتابة، والنقش على أجواء المدن المعاصرة، وحين يحملنا الليل على صدغيه، يكحل عيوننا لنغدو كالقطط، وقدر الأبصار في حلكة الديجور، ولقطط المدائن اشتباه في التحول، في كل صور المطاعم، والتسلق في حيطان الليل، واللصوص ملثمون يدفنون الملح أثناء الليل، ليسرق أهل الدار النوم، وبعدها يجهزون علي حاجياتهم ويخلّوا "خشومهم" ملح ملح. سنعود إليها مرة أخرى، سنختبئ جوار "اللبخات" العتيقة، يطاردنا شبح العودة لأم المدائن، بالإضاءة الخافتة، بالشموع الموقدة، على كعكة هذا الليل، وعلى "ودسلفاب" أغنية الرحيل البكر من غابة "النيون"، قد ينهتك سر البهاء مجدداً، فعل الطواويس الزهو، من فعل شوقك غارباً، عصفت به شمس الورى، قد يؤوب مودعاً وملوّحاً ذاك الفتى، في سحره لغة الغناء تغرّبت، وتضاعف الأسف الوبيل لدى سماعك أغنية، وحل النزف بنسوة الأيك، واحتمت الفصول، وظل ضؤك باهراً حجبت به كفي لو تناديك الشجون.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
"الكـَــوَّة" مآذن الضفّة الأخرى وقِبابها
الموج لا يغادر الضفة، والمعدية جاثمة على المرسى، أشجار عملاقة، أخذت الطبيعة في تجريدها بعسف وعُنجهية، والمراكب الرأسية تعلو وتهبط، والأصيل عنده تبرز مآذن الضفة الأخرى وقِبابها. تمتلكك الحَيْرة، فلا تدري لأي زمان أو مكان تنتمي، المباني بطوبها المتطاول علي الأسمنت يبرز بحمرة طوبية، طُوبى لها تلك المباني، والأنفاس اللاهثة حولها وبداخلها. السكون المهيب يُحدث على وجه المدينة "شلوخاً" باختلاف أعراقها وأنسابها، وعظماء البلدة، ما يحيرني أن كلُ أهل البلدة عُظماء، وكل أطفالها في تراتيب الصفوف هم الأوائل، حنانيك أي مدينة تقصد؟ الحواري والأزقة والصبية يلعبون الكرة أو "البِّلْي"، لا يخدش سكونهم إلا غبار خفيف، والأمهات في ثيابهن المزركشة، والكل لا يرضى أن تغادره دون أن تتناول شيئاً حتى ولو كانت ذكرى. و"الكناتين" ودكاكين الأحياء تحتشد بالبسكويت والمعطيات الصغيرة، وبضوء "رتائنها" يعلو ضوءاً آخر، يُبَدِّد كل ظلام مكتبة البلدة. الشباب المتزوجون يزدحمون مع صغارهم في ذاك المساء على أبواب منازلهم، ما أجمل أبوتهم في هذا الليل وفي هجعات الأُنس. السكون آية عظمى، والهدوء المستمر على عصب المباني يُشيد كل ملامحه المتحفزة لكي تستدير على واجهة الفرحة. كل شيء مستقر، كل دفاتر الأحوال هادئة، كل مستور فيها يتوارى، وفي لحظات الانكشاف، والغموض الأبدي يلف الانكشاف نفسه. إن شكل الحياة هنا مثالي ونموذجي، ولا تعاجلك أية منيَّة، إلا التي تقصدك من عنده. والبيوت عند خاصرة خط الاستواء، يتمعَّن فيها البحر ويخفق، يتجَلَّى السكان بأجمعهم، بجمال تكوين، وحس متقدم، وألوان تُشرق منها شمس الغد، وعمامات وجلاليب بيض. كان هناك شيئاً مستطيلاً، كثير الاستطالة على هيئته التي يجب أن يكون عليها، وبلون أخضر "كاكي" كلون ملابس الجند، يبرز كنقطة مستطيلة، أمام البيوت بطوبها وطينها، ونجيء إلى الأقرب ثم الأقرب. يبدو الشيء "الكاكي" اللون كأنَّه جسم عربة عتيقة، وندور عليها فهي تقف وبغير حِرَاك، وداخلها خارجها يظهر للأعين صدئاً، جسم سيارة أمريكية من نوع "أبراهام لونكولن" طويلة القامة، وبست إسطوانات، تبدو كسيارة رئاسية. كانت تطوي الأرض على ما يبدو نحو الخرطوم، امتلكتني دهشتها، فهي تقف غريبة ووحيدة وبلا أقدام. يبدو أنها وقفت للذكرى، إن كان وقوفاً للذكرى فليحيا "أبراهام لونكولن". الأرض خالصة الدفء، ودواوين الحكومة "اسبتاليتها" دائماً في مقدِّمة المدن. يتناثر نبات صحراوي ذو هامة، والبيوت في تصالح وطيب، والناس عاديون جداً، ومن أفواههم يتناثر حديث حلو، لغة الاستقبال حارَّة جداً، والكراسي واقفة. تحايا للقلب الذي يهفو، ويعشق كل الرسوم على الجدار، والأشجار الظليلة، والصغار المشاغبون بغير صوت، والخِراف المذبوحة، والخيام بألوانها تحت مظلَّة العُرس البهي. والجلاليب والعصي القصيرة ساعة الغناء، إن المواويل التي تهوي أسماعنا إليها، تجلعنا نتراقص مثل نجوم الليل، مثل دموع الحُب مثل شجون الصَّب. السكون خيمة نصبها ربك العليم عليها ثم أهداهم ضفة النيل، وملّكهم حقيقة الذات التي تهوى التقاءك بالمكان، بالحضور الخصب، في الزمان الجدب. وصغار الراقصين والراقصات، يتمايلون مع ايقاعنا المؤثِّر، والنشاز لنا أن صاحبناه مع الأورغ، تلك الآلة الكنسية، والعازف لم يكن ماهراً على أي حال، لكن يهمنا إيقاع الناس وحركتهم في الليل. بين تزاحمهم ظلال ساقطة، الرقص والإضاءة الخافتة، أشباح فيما بيننا تقوم وتغفو، الأرجل عليها الغبار الناعم، إلا أنَّ النشوة غالبة علينا وعليهم. الجدات والعمَّات لا بد أن يُعَبِّرن عن سرورهن، فلِمَ لا يدخلن حَلْقات الرقص؟ ذلك الرقص لا يُنقص من الوقار شيئاً، نوع من التعبير، الفرح الداخلي، كل الجدات هنا جداتك، والراقصون إخوتك وأخواتك، والضيوف مكان احتفاء من كل البلدة، والبلدة في ذاك الليل مشغولة في تسريح غدائرها وضفائرها، الليل ساج، أجمل أشباح الليل ما يأتي بغير عيون، تلحظه أنت وشخصك، قصير جداً في طول أقلام الرصاص، أو في طول مئذنة الجامع هذه الأشباح أنت أو نحن، لا يهم الجدران والنوافذ المغلقة، وحفيف شجر "النيم" وألواح "الزنك" وقطع "التوتيا"، والشجر المُعَمِّر مثل جداتي، يظلّل كل الأقبية، يطل علينا من كل الأبنية، وبهدوء لا يشبه إلا الليل، والليل قطعة من الدقيق والفحم. الهم لا يزاول أي مهنة هنا، سافر إلى العاصمة البعيدة يبحث عن شخص يشغله، حتى هَمِّي سافر عني. قد نستقبل كل بعثات النوم، كل بعثات الحج إلى المجهول، كن مسكوناً بالألفة ونقاء القلب، قد تظفتر بلحظة هنا لا يمكن أن تتكرَّر في أي شاطئ آخر، إلا شاطئ "الكوة". يمكنك في ذاك الغروب أن تأخذ الشمس من يدها، وتقودها إلى المغيب أنت وحدك هنا، إلا عصف الموج، إلا نداءات الصيادين، وما حاجة المرء في هذا الحضور إلا الإصغاء، إلا الهجود، إلا النشيد، إلا كل قادر على أن يحتوي وجه الحقيقة "سيدي عبد القادر عمر". يقيني أنّ الذات التي تعرف مكنوناتها حتماً ستبدع، سيكون لها اليد الطولى مثلما كان في القديم، "أليس" فاكهة الشتاء تمدني لون الحياة وسحرها . لو كان لي سر الخيار رجوتهم، لأكون ساحرها القديم، وأكون ساقيها النديم، قرباناً من النشوة، وأكون عند غروبها طائر النار الذي يهوى الحريق، والكاهن الممرض تغشاه نداوة حسنها. لوجال خاطره بها أو قد تمسّح بالندى لوكان لي سر الخيار رجوتهم لدفعت عمري هاهنا وابتعثت من القرين ثلة ليهوّموا في مفرق الطرق التي أحيا بها وأحبها وأظل أشرب من كؤوسكم الندية لربما. جادت قريحة عاشق متمرد، "أليس" اعذريني فإني راحل، وبكل شوق قد كتبت مواجدي. وأطلقت من دنياك طائر نشوتي كي يجيء مع الشتاء. "أليس" إني زفرت حشاشتي، وأطلقت كل مخاوفي في حضنها، فلعل دفئاً يحتويني والسنا. أو ترديت من خصر المنى وانتحرت على محاريب اشتياقي مرة. فلعل مواجعي تخبو ويغشاني السكون. ويهيم بي شجني علي قبة المولى، فأسجد مرة وبمرة أسقي زهورك بالحياة، لطالما نبضت بها ذكرى المحب وارتوى. يطول الوقوف بحضرة ذاك الجلوس العظيم، إننا في الكوة، وبعمر جديد، وبطاقة نغزو بها عالم البحر الجميل.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
الخرطوم، الروتين ورائحة الديتول -(الريكمندوما الغطست حجر التومه)
وتنام الخرطوم مستغربة علي قفا من يشيل مستشفاها العتيق، أم الروائح تسكن تلك الأقبية والزواحف الصغيرة، والقطط المبططة الجوانب، عيونها عسلية أيضاً. وسط ذلك الزحام، حتى عجلات النقّالة صارت أقصر من أخواتها الثلاث الأخريات. صارت تعرج بغير عصا، ومحمولاً عليها يئن أنين السنين، ورائحة الديتول، ومشتقاته الأخرى، تنسكب عليك لعنات عُمَّال النظافة وصافرات عربات الإسعاف، إنها مدينة لا تكف عن الأنين. المرضى جميعهم مشروع لسوق خيري يُعقد صباحاً، بائع الشاي و"اللقيمات"، والجلابيب علي كتف بائع آخر، وبائعة البخور وصمغ اللبان. كل تلك الجَلَبة تأخذ محلها بوسط المستشفىعند الفجر، قبل قدوم الأخصائي، وهذا الأخير يأتي مرتين أسبوعياً، السبت والثلاثاء، هكذا عوّدتنا المدارس الأولية أيام النظافة ذينك اليومين المذكورين، أمَّا ما عداهما فصفقة و"رقيص". وأنّى يتأتَّى لك "الرقيص"؟ شارع الحوادث مشغول بحوادثه، ليس له سانحة خالية ليحدثك عن همومه. إنه شارع مزاجي، ولكن ما يُمَيِّزه عن غيره أنه يأتي بأناس مرضى ومجروحين ودماء تسيل، وبكاسي تحيض بالمرضى وأخرى تُحبل بهم، وتتناسل الحوانيت تبدأ طبالٍ ثم أرففٌ، ثم بقّالةٌ وأشياء أخرى من دون اسم. وطَفْح المجاري علي وجه الشارع، مثل النتوءات التي تتركها كاوية اللحام على طربيزة الحديد. الصيادلة ملفوفون بعناية داخل معاطفهم البيضاء، يكادون أن يقفوا على رفوف الدواء ومرافقي المرضى يتجوَّلون في شارع الحوادث بلا بوصلة، يحملون وصفات طبية، و"روشتات" ما بين صيدلية وأخرى "كانيولا" مقاس 20، و"أوميقا إتش ثري Omega H 3"، "بامبرز للكبار" يبدو أن كل المرضى مصابون في الأجزاء السفلى من أجسامهم. تلك "الاستبالية" تُعَدُّ معبراً قصيراً إلى الآخرة، ليس قصوراً من أطبائها أو "بيروقراطية" في إجراءاتها، بل يبدو ذلك من قدر الذي جاءها. تدخل ماشياً على رجليك وتخرج محمولاً يُبكى عليك، أقول ليس ذلك قصوراً من أطبائها، أو "بيروقراطية" من إجراءاتها بل قدر الذي جاءها. وتمر النقالات الواحدة تلو الأخرى، عندما يمر موكب النقالة نقف له، لا أدري أإجلالاً أم رهبة من المرض؟ أم عادة تعودناها عندما يمر ضابط عظيم. ونُشَيِّع موكب النقالة بنظرات متباينة وهو داخلٌ إلى العنبر، أو خارجٌ لصورة موجات صوتية في شارع الحوادث، الألم يمكن أن يتحوَّل إلى معادلة صعبة التوفيق على جانبيها، عندما يمر الألم، يتخلل جيوبك الفارغة، ويستدعيك الجوع الماكث على كنبات انتظارك. الممرضة تتفَقَّد قطيعها من المريضات اللائي هربن من داخل العنبر ورقدن خارجه، تتحدث معك عبر النافذه : (في "بيشناية" راقدة بي بَرَّة لو سمحت ناديها معاك) .. تحوَّلت كلمة "Patient" الإنجليزية لتغدو وكأنها غنماية. العنابر الممتدة تذكرني بقطار نيالا، سرعان ما يصير كل المرضى والمرافقين من أعز أصدقائك، إن المصائب يجمعن المصابينا. تحوَّلتُ من ذلك العنبر إلى جناح خاص، يزهو بوروده ورياحينه، والطقس في شهر يناير أي أواسط الشتاء، غرفهم الغالية الإيجار مثل ثلاجة الموز، أصحو صباحاً أتودد للمقاعد الإسمنتية، وأمد يديّ للورود الزاهية، بمعطفي السميك. أتخيل نفسي وكأني رواية كُتبت في زمن "تولستوي" بلحيتي المدبّبة، التي تتداخل فيها شعيرات حمراء ورمادية، يبدو أنها من نُثالة البطانية، وطاقية الصوف، وعلى يميني مدخنة لا تكف عن نفث الدخان في فضاء نقي بارد. المرافق وسط تلك الأجواء قد يتحول ويكون أنصارياً من المدرسة "الرومانتيكية"، أما المريض من فرط العزلة يمكن أن يموت "فطيس". الأبواب الخارجية محكمة الإغلاق عليها زبانية غلاظ شداد، لا يسمحون لك بالدخول إلا الساعة الثالثة، والتذكرة بألفين جنيه، لتدخل ثلاجة الموز، أختزن مشاهد عدة لأطباء يعملون بجد واجتهاد، ومرضى يستجيبون للعلاج في سرعة ولكن لا أدري ما هي المشكلة؟ لمحت وفداً من فئة "الجلاليب" يحتسون كمية من العصائر المثلَّجة، ويعبون منها عَبَّاً، وتدور عليهم علب "حلاوة بقرة" حتى بَانَ الورم في جيوب جلاليبهم نصف البيضاء، لا أدري هل المستشفى أنجبت لهم ولداً أم المريض هو العمدة نفسه؟ وبالخارج ينتظرهم عدد مقدّر من البكاسي موديل 78، ليقلهم على ما أظن ناحية تفتيش سوبا. اسألوا "العنبة" أو د. طارق الشايب. تشكّلَت مفكرتي اليومية بأن أصحو مع أذان الصبح، وأذهب إلى مسجد المستشفى، وأصلي الصبح "كاش"، ثم أغفو قليلاً علي "موكيت" المسجد ريثما يبزغ الفجر، بائعة الشاي أمام المسجد "تظبط" شاياً "كارباً" باللقيمات، وأهرول في اتجاه الغرفة لكي أحمل الشاي لوالدتي المريضة، التي هي الآن في رحمة الله. تكون كل الوفود قد تقاطرت، فأذهب في اتجاه المدخل نحو بائع الصحف أو بالأحرى، جرائد. شخص ملتحٍ وبجلباب في حجم ورقة "A4" ويؤدي عدة أدوار، من بواب رئيسي إلى بائع جرائد، يتميَّز بنظرة غير مرحبة على الإطلاق، حتى أحياناً قد لا تشفع لك التذكرة التي اشتريتها من حر مالك أمامه، لكي تلج إلى المستشفى. يبدو أن إدارة المستشفى قد توفقت جداً في اختياره بواباً أو بائعاً للجرائد، أكثر من توفيقها في اختيار أولئك الأطباء. ويحمل كمية من الغبن كأنه شارك في حرب فيتنام، لا يبيع لك من جرائده إلا إذا كانت معك "فكّة"، وهو غير مستعد حتى لأن يرجع لك باقي نقودك. القهوة والشاي لهما سوق يمتد جوار الصيدلية الشعبية، ومجمع النساء والتوليد حيث تكثر الزغاريد، مازالت هناك جاهلية في ذلك المكان. يزغردون للمولود الذكر دون الأنثى. وطابع المكان ريفي للحد الذي تعتقد أنك في أحد المقاهي على طريق الموت ما بين الخرطوم وود مدني. حتي أسطوانات الأكسجين البليدة تكمم أنوفها وهي مصفوفة جوار باب العملية تنتظر دورها في لعبة الفناء والموت. رغم ذلك تُشرق الشمس، والمرضى في الأدوار العليا من المبنى يأخذون حَمَّاماً شمسياً و"حصرياً"، بكل أمراضهم حيث يواجهون فضاء رحباً ورَبَّاً رحيماً. تسلَّلت خارجاً من الزحام أبحث عن شخص سليم، وأن يكون غير مرافق لمريض، لكي أتبادل معه حديثاً لأنَّ الحديث مع المرافقين لا يخلو من جرعات الدواء، ومواعيد حضور الطبيب المناوب، والنقَّالة لا يمكن استلافها إلا بالبطاقة، كأنها في المكتبة، يا لعظمة تلك النقّالة. مبنى غسيل الكُلَى أبيض وناصعٌ، يُخفي بداخله ما يفعل بكُلَى المرضى. يحاكي ملاكاً يربض بحافتيه علي أرض المستشفى، يتردّد في الاختيار، أيُّهم سيسافر معه إلى الأعالي، يوشك أن يقلع بروح أحد المرضى لكن المريض يصيح. كنت أتردد مساء بصحبة رفيقي مجاهد، نلمح والدته ومرضى آخرين، وهم على سرائر الغسيل، نتسلَّل من وراء المبنى، وخلال الزجاج نرى أشباحاً مكمّمة تحقن المرضى وهم رقود، وعلى جنوبهم. عظيم من يسهر على راحتنا تاركاً البقية يقهقهون في "كافتيرياتهم" ويسجل علي دفتر خاص الكميات والمقادير المحقونة للمرضى، الله لهم كلهم رقود، ووجوههم نائمة، أشبه بحالة بيات، قبل الطور الكامل. ونتساءل "البولينا" انخفضت إلى حد معقول 106، يمكن يُخَرِّجوها، وتموت حاجة النعمة ممرضة من الرعيل الأول، من الجيل الذهبي للسودان. تسافر برحمة ربها إلى أعلى الفراديس. ولكن ما مصيرنا نحن؟ الذين ما زالت هناك جرعات دواء لم نتناولها، أو نوبات ألم لم نتحَصَّل عليها، أو وصفات دواء لم نجد لها "روشتاتها"، أو شيكات لم نجد لها غطاء. صرت أرمق تلك الورود من مكان عال، الله ما أجمل الحرية، ما فائدة الورد في ظل تلك القيود، والمقاعد الإسمنتية لا أحد يجلس عليها، نشروا عليها ملايات السراير كيما تجف، ضحكت طويلاً من ذلك الورد السجين، ومن المرضى المغفلين الذين ارتادوا ذاك المكان، وشخصي كان منهم، يؤجرون لك الغرفة كأنك في شهر عسل مرضي. أجمل ما في هذا الوطن "الروتين". كنا سنموت قبل يومنا إذا لم يكن هناك "روتين"، فإذا انقضت الأشياء بسرعة، ماذا نفعل بالزمن المتبقي، الله أكرمنا في هذا السودان بـ"الروتين"، ونسأله أن يزيدنا حُبَّاً فيه، ونصلي ونسلم على حبيبنا المصطفى "ص". الألم يتدفق من النوافذ، ويزحف تحت الأسرّة، ويتعلق بأشعة الشمس، ويطلي حوائط الغرف كما يفعل "البوماستك" في بيوتنا يوم الوقفة. سعادة مدير طبي الحوادث المتأفِّف، يرفض أن يختم ورقة عربة الإسعاف، بدعوى أنَّ زميلة الطبيب المناوب خاطبها بالإنجليزية كتابة، وتعود لطبيبك: "يا خي الدكتور بتاع الحوادث قال ليك تكتب ليهو بالعربي.. يا أخي الفرق شنو مش هو فهم غرض الروشتة"، استدركت أن سعادة مدير طبي الحوادث في ذلك اليوم لا يعرف الإنجليزية، قد يكون درس الطب في إحدى دول محور الشر.. أبهة.. في أثواب حمل كاذب مثل الموز الكاذب. علي أية حال مازال الأمر معقداً من ناحية تقنية بالنسبة لي، أطباء يؤدون عملهم بجد وإتقان، وإنسانيين لحد الدهشة، ليسوا كلهم طبعاً. ومرضى يستجيبون للعلاج رغم اختلاف مشارب علاجهم، سواءً كان علاجاً اقتصادياً أو تأميناً صحياً، لكن لا أدري ما المشكلة بالضبط؟ في ذاك المساء المدلهم، وفي الممر الذي يربط غرف عنبر B2، "لاحظ اسم العنبر مطابق لاسم قاذفة قنابل أمريكية مثل التي أسقطت قنبلة "هيروشيما"، لمحت شخصاً ضخماً يتجوَّل، تبيّنت ملامحه في تلك العتمة، بعد ابتسامة مشعَّة فضحته علي الفور، كان ذلك الزائر الليلي الأستاذ ضياء الدين بلال. أظنه تشبَّع بحزمة أنين وأكوام ألم في تلك الزيارة، إلا أنّه مؤدب في الاسترسال الفكري. ومصرف الدم أو "بنك" الدم، كل الناس متبرعون أو غير متبرعين يتوجسون في صمت، من شكة الإبرة علي الإبهام، ومن العيّنات التي سترسل إلى السيد "استاك" المعمل العتيق، ومن رجل النظام العام الذي يستلم الدم، ويقيده في دفتره، ورقم بطاقة الطبيب، واسم المريض والمتبرِّع وعنوانه، طبيب الوحدة، جملة من الإجراءات التي تجعل رجل النظام العام، يوشك أن يكون "فحّيصاً" لأنه أجاد فصائل الدم حفظاً وتسميعاً. ويبدأ المريض في التعافي حتى ولو ظاهرياً لكي يغادر هذا المكان، قبل أن يصادفه هادم اللذّات ومُفَرِّق الجماعات بين العنابر. وفي ثاني أيام العيد وعند الصبح، أرجعت والدتي -يرحمها الله الآن- إلى الحوادث في ذلك المستشفى العتيق. ظللنا وقوفاً إلى جانبها، وكانت ترقد على نقَّالة من ذوات الأرجل الثلاث. إجراءات في غير محلها تم اتخاذها بأن يذهب بها إلى عنبر النساء والتوليد رغم أن الكرت المرفق لها يبيِّن أن تلك الحالة تؤخذ إلى الباطنية، وأن جلطة حادثة في الأوردة العميقة. والحوادث يوم العيد ملأى بعدد غير قليل من المرضى وطوارئ الأضحية ومن تمادوا في لحم الخراف السواكنية وغير السواكنية. وإعياء تام يصيب كاهل المستشفى العتيق أصلاً، فلا تقدر على حمل هذا العدد من المرضى، والمرضى على السرائر اثنان اثنان، وميزان قياس الضغط واحد لكل هذا العدد المهول، كل يوم في شارع الحوادث إضافة مؤلمة، مرضى وعواجيز يجرّون أرجلهم جرّاً، بحثاً عن "النيتروجلسرين" و"الديكلوفيناك" والمرضى يرقدون علي الأرض، وعلى البلاط وفي كل فراغ أرضي داخل قسم الحوادث. ويمتد شارع الحوادث بلافتات لـ"بُروفّات"، أقصد صيغة الجمع لكلمة بروفيسور، مرافقون كثر ومرضى أكثر، وتباغت عيونك غرائب التخصصات، كل ذلك الكم من التخصصات يوجد في هذا الشارع السحري، وشهادات جاؤوا بها من أقصى العواصم التي لا يفارقها ضباب. تصادف في ذات المساء، أن الأخصائي قد باغت أطباء الأمتياز على حين غرّة، مباركاً لهم العيد الكريم، ومتفقِّداً الغائبين منهم والحاضرين، وهو الذي يعمل في مستشفى خارج العاصمة الخرطوم، وهو داخل جلابية فارهة وبيده عصا أنيقة تلمع في استحياء، وبمركوب "نمري" خالص من ماركة "أبو كديس"، ويشكو من عافية مفرطة، باركنا العيد عسى ولعلّ بمقدمه يكون شفاء ومحبة لأمّنا العزيزة، قرّروا أن ينقلونا إلى ذلك المستشفى الريفي في الصباح بعد انقضاء 24 سـاعة حسوماً. وتم حشرنا جميعاً في عربة إسعاف خالية من المقاعد أشبه بطائرة "أنتينوف" من داخلها، من فرط ما نقلت من أغراض، ومن فرط ما نقل الإسعاف من مرضى مختلفي الأعراض والأمراض والأغراض. أدار سائق الإسعاف شريطاً هابطاً لأحد الفنانين المحدثين، وبإيعاز من الممرضة المرافقة لموكب المرضى، وقد منّوا علينا بأن ركبنا سيارة الإسعاف مكرمة منهم، وكأننا ليسوا مرافقين لمريضنا، والإسعاف يعوي والشريط الهابط لنا جميعاً مرضى ومرافقين، والسائق يتخطّى العربات والمركبات في رعونة، كان أجدى لو كان ذلك الفنان يغني "البنسلين يا تمرجي - تاح تاح ترح يا تمرجي" لكنا وجدنا شفاءاً مجازياً، ومن الغناء ما فيه الشفاء، ماذا يفعل تمساح "أب كريق" في هذه اللحظة؟ الجو يحاول أن يبدو جميلاً ولكنه "ما قادر"، جَوٌّ يدعوك للفرجة، وتتسكع في شارع الحوادث بحثاً عن أحد "الدسايسة" العظام - والدسايسة ومفردها دِسِّيس بكسر الأحرف الثلاثة الأولى -أي جذَّاب و"آرتفيشيال". ومن الأحياء العريقة بالمناقل، ونقصد في هذه العجالة د. طارق الشايب "أبو السارة" على وزن "أبو مازن"، سنعود إليه لاحقاً عندما نتناول أدب المجادعة، وتعني البيع بالأقساط والتجزئة، وهو مجادع ضليع لا يشق له موج. وله باب كامل في رف "المجادعات الممهولة في غياب السيولة"، وكلمة المجادعة تعني أن تشتري بأقساط فائقة الراحة، نفعنا الله بعلومه آمين ثم آمين. وولجنا باب المستشفى، من على البعد تبدو مبانيه بلون بني فاتح كصناديق الطماطم، ونافورته تشبه "كوريك" البلاستيك، ينعدم الإبداع تماماً في تلك النافورة خشنة الملامح، وصعدنا بمصعدهم للطابق الثاني، كنت أزاوج بين مناظر أفلتت من الحشد، ورود يانعة صفراء بلون بهيج وحمراء وبنفسجية، في زحمة المشهد يولد التقاء الهوى، يروح منا الزمان الذي كانت فيه والدتي تحنو علينا كثيراً كثيراً، كانت تدري بت الحاج توفيق بأنها ستغادر عالمنا إلى حيث الفراديس وحيث يصعب اللقاء. مستشفاهم مصقول "المزايكو" ولامعه، ولكن معملهم لا يعمل في الأعياد، وتأخذ عينة وتركب بها في بساطة الريح لتحضر إلى شارع الحوادث، لتأخذ القناني الفارغة كيما تُؤخذ العيِّنات فيها، وتعود من جديد دوامة من الوهن للمرافق نفسه، وتمني مريضك بالشفاء العاجل. رهط من الحسناوات يهبط فجأة، من أين؟ لا أدري، ولكن يبدو أنهن سقطن سهواً من مجلة سيدتي أو من قناة فضائية، لمسات "أوريفليم" واضحة. استعدوا الغزو قادم … آكشن. كانت أختاي الصغيرتان وجلتان، وكانتا تعلمان أن والدتنا تتألَّم ألماً عظيماً، وليس يُرجى من الطبيب شفاءها لأنّ الشفاء بيد الله، ولكن المطلوب المتابعة والشفقة حين يستدعي الأمر ذلك، المسألة لا تخرج من نطاق الروتين، وإبداء حسن المبادرة بدلاً عن مطاردة الطبيب في الكافتيريا، يا أطباء الامتياز والعموميين، عودوا إلى العنابر، أهلكم في انتظاركم. تعود بنا الذاكرة إلى "الريكمندوما" وهي توليف من كلمة "ريكومنديشن" أو التوصية في فقه الضرورة، بأن التومة كانت زوجة أحد المسؤولين المتنَفِّذين في البلد، وتبارى الأطباء في وضع الوصفات، كل منهم يُدلي بدلوه لعل التومة تشفى. أوردت التومة في حيثياتها بأنها تعاني صداعاً خفيفاً وآلام علي جانبيها، الطبيب أوصى بأن لا بد من صورة بأشعة "إكس" للصدر، وأخرى من نوع "مكس"، وأخرى ملونة لزوم أن التومة زوجة المتنفذ فلا بد من أن تأخذ كل الفحوص الممكنة والمتوقعة والمفترضة. لأن ذلك جزء من الرفاهية و الـ"MUMAN COMFORT" باعتبار أنها زوجة المسؤول فلان الفلاني. صادف أن هناك تومة أخرى من الكوادر المُصَفَّحة، كانت تزحزح أرجلها وهي تسحب جسدها جانبياً من على الصف، وصادف دورها وصول السيدة التومة، فتم عمل كل تلك الفحوصات الآنف ذكرها علي التومة نمرة "2"، التي كانت أحد الذين وصلوا وترقوا من الصف. علي اعتبار أنها التومة زوجة المسؤول المتنفِّذ. ولم يكن القصد إلا إضفاء مزيد من التأكد وسلامة التشخيص، وأتخموا حقيبتها بكل الأدوية، مع شرح وافر لطريقة الاستعمال، كما أعطوها أرقام هواتفهم النقّالة، نوع من توصيل الخدمة للمنازل علي طريقة "الدليفري"، للاستشارات العاجلة غير المدفوعة الأجر. ماتت التومة نمرة "2"، أي التومة العادية، وجرى المثل "الريكمندوما الغطّست بالتومة" باعتبار أن الذهاب إلى طبيب لا تعرفه خير من طبيب تعرفه كي لا يعطيك تشخيصاً زائداً "OVER DIAGNOSIS". وتعود لتستطرد فلا تجد ما تستطرد فيه، لم يتركوا لك ما تقول، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، المفتقر إلى مولاه.. مصطفى بشّار
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
كل الخريجين في ذلك اليوم ملائكة وحوريات
أحاول هذا الصباح أن أكون جاداً ومبتسماً، بعد أن بدأ السفر يخلخل أوصالي، فحقيقة أنا من طين صلصال، ومن بذور الأماني التي تُزرع سراعاً ثم تنمو، ولا يبقى لديها إلا شتات الذاكرة. فلماذا أبدو آسفاً في هذا الصباح، وفي هذا اليوم سنتخرّج عرفياً من الجامعة، والطلاب جميعهم والطالبات كلٌّ يرتدي "الروب"، سأكون مشاهداً من مقاعد المتفرجين، وكبار الزوار العظام، حتى لو سمعت اسمي يتسلَّل خلال مكبرات الصوت لن أصعد إلى أي منصَّة، رغم أني غسلت جسدي جيداً هذا الصباح، وطليته من بقايا زيت فول عشاء أمس في ذلك الكيس النايلون، فبدأ جسمي يلمع كـ"الزلابيا" وهي محمولة علي طست من الصفيح، وهززت قارورة العطر حتى يأتي العطر كثيفاً وممجوجاً، ونثرته تحت إبطي وعنقي ومسحت قليلاً منه فوق شاربي حتى أتنفّس الصعداء حقيقة. ففي محطات الانتظار يغدو التلويح والعناق لغة سائدة، ونزف الدموع أيضاً. وتبعثر العَمّات والخالات ذوات الشلوخ العراض الزغاريد والحلوى المُغَلّفة، والصغار الذين ينظرون بحنان إلى إخوانهم الخريجين وأخواتهم الخريجات، لا يفهمون ماذا يجري في ذلك الأثناء وهم يلمسون "الروب" ويتحسّسون نعومته، ولكن ما معنى هذا في أفئدة الصغار، وإنها أسئلة كثيرة تجوب عقولهم المتقدة، والأمهات يراقبن بلحاظ ممتلئة دفئاً وتحناناً أبناءهن الخريجين، ويتمنين لهم في السر اغتراباً عاجلاً، وكميات من الدنانير ترزح تحت ثقلها سواعدهم الممتلئة عافية تفاحية. الأمهات يحلمن بسرعة أثناء التخريج، ويكنّ قد خطبن لأولادهن، وتخيّلن العروسة تختال في أثوابها ومهرجان التخريج يتواصل. والخريجون قد أنجبوا أولادهم وأطلقوا عليهم الأسماء، ثم تأتي الأمهات وقد صرن حبوبات، ومهرجان التخرج لم ينته بعد، وأولاد الخريجين قد تم قبولهم بالمدرسة وصاروا مهندسين مثل آبائهم أو تشكيليين، ومهرجان التخريج لم ينتهِ بعد. الكل مشغول بتلميع ابنه أو ابنته أمام الحضور، بأنَّه كان جاداً وأنها كانت تطيل الصلاة، كل الخريجين في ذلك اليوم ملائكة وحوريات. كنا قبل فترة نحاول أن نرتاد هذا المكان مع مرافقتي، كانت الأرضية من بلاط لامع، وللأحذية ذات الكعوب صدى في ملامستها للبلاط. لقد دخلنا من أبواب متفرِّقة مثلما دخل إخوة يوسف مصر. عندما قابلت مرافقتي في الداخل كان اسمها "تانا"، وإن حذاءها عندما لامس تلك الأرضية، أحست وكأنها تمضي داخل مطار ربضت الطائرات علي أنحائه، حكت لي ما خامرها من شجون، ضحكنا كثيراً ثم قلت في سري: "اللهم إنا نعوذ بك من مخاض السفر". تجوَّلنا كثيراً وقابلنا أصدقاء كثراً، وأرسلنا النظر طويلاً ناحية الشرق، هالنا كثيراً، لقد تحَقَّق حلم "تانا" وأننا بالجامعة، وأن طائرتين تربضان على تراب الجامعة، أي هذا الحسن الذي سماه ربك إنني.. إننا في كلية الهندسة بجامعة السودان أسرعنا نحو الطائرتين، والسكون يلف صمتهما، لا أحد يبدو قريباً منها، أظنهم مَلّوا رؤيتها، لا بد لي أن أركب طائرة حتى وهي متوقّفة، عندما كنت صغيراً، كنت أتمنى أن أكون ملاحاً كونياً مثل "كوماروف" لأنني ركبت الدفار كثيراً، لم أجد صعوبة في اعتلاء الطائرة، وبدأ بكري ود المدير يلوح لنا بيده من كابينه القيادة، وبدأ وكانه طيَّار يزمع القيام بطلعة جوية في ذاك الأصيل، تلك الطائرة أكثر شبهاً بالحمامة إلا أن لونها أخضر زيتي باهت من كثرة الطيران. لقد عايشت حلماً يوشك على النفاذ، لولا أنني عاجلته باعتلاء الطائرة الأخرى، تلك المروحية أكثر شبهاً بالضفدعة العجوز بيد أن عينيها مستطيلتان وجسمها خشن، وزعانفها قوية بالله كيف تطير تلك الضفدعة. وترجَّلنا عنها، ونفخنا غبار السفر وقلنا: "آيبون حامدون لربنا عابدون"، وحملنا حقائبنا، واتجهنا صوب كافتريا الجامعة، وبعد قليل عاينت في اتجاه المربض الترابي حيث ترقد الطائرتان رقدتهما الأخيرة، فإذا بي ألمح العشرات يستظلون بجناح الطائرة، كأنه في هذا اليوم ليس هناك ظل غير ظلها، وآخرون يلمسونها حذار "البرلمة" إنهم يتمنون أن يقتربوا منها، ولكنهم يخجلون من ذلك، يا لمهابة الطائرات حتى وهي ميتة. ويتردَّد صوت مجسم من مكبرات الصوت المعلقة على قوائم ثلاثية الأرجل، يتفضل الآن السيد مدير الجامعة لتوزيع الدرجات العلمية علي الخريجين. رغم أني تمسحت بزيت ذلك الفول فأكسبت جسدي لمعة زجاجية، وبدلتي العتيقة معلَّقة علي مسمار في ذلك الجدار، وأني سأقابل "تانا" في ذلك الصباح ولما تأخرت بدأت أكتب لكم، وعندما حضرت تحدثنا كثيراً، وبعد قليل وجدت أن الشمس غابت، فما كان علي إلا أن أقوم بتوصيلها لميدان أبو جنزير، إنني لم أحضر ذلك التخريج في ذلك النهار، كنت متكئاً على حائط ليس ببعيد عن مقرن النيلين.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
حتى أخصائي العرديب صار "عمومــياً" يومها
الشمس تلهب ظهور المارة بترف، والناس يجرون في اتجاه البرندات و"السوق العربي" صار اسمه غير ذلك. قلت لك سابقاً إن السوق العربي قد تحوَّل إلى أقمشة مموهة الألوان. والناس يهرولون في كل اتجاه، إن أشد العذاب هو أن ترى الشمس تغيب خلف أتون الخرطوم، وأنت تمشط الأرض من مقر صحيفة "الوفاق" إلى مواصلات الموردة، الناس كالأدغال، حقيقة قول الزرقاء حيث أطلقت تحذيرها الشهير "أرى شجراً يسير"، كان من وسط السوق العربي. إن الشجن الذي يتملكني كمتردد على مقار المواصلات، الطلاب والطالبات يجتهدون أكثر من اللازم، يذاكرون دروسهم باجتهاد على ظهر البصات المتهالكة ويتركون خلفهم جو المكتبات "المكندش" ويأتون آخر العام يبحثون عن "الباص". عذراً لكل الذين يقرؤون شجوننا وهواجسنا، ونحن نتمايل ونتقاصر، ونلوذ ذات اليمين وذات الشمال، بالأشجار الشوكية المغروسة على الدوام في امتداد الشارع، الناس يقفون بلا انحناء أياديهم تلوِّح بالأقمصة الـ"سكند هاند" وأحياناً مكاوي كهربائية صدئة، ومعاجين الحلاقة والأسنان والمرايات، ينادون بإلحاح على الـ"اسموكي" مسحوق أبيض عديم الفائدة، يدّعى بأنه يزيل عن الأسنان ترسبات الدخان، لا أحد يشتري من الباعة المتجولين، ويرضى بما اشتراه، لأنه عندما يصل مسكنه سيجد أن المكواة تحتاج "مايكاً"، والمسحوق المستخدم لنظافة الأسنان صار "باكنج باودر" فهنيئاً للزلابية بعد غياب. أحتاج لآلات تصوير كثيرة العدد ومتعددة الأغراض، لترصد لنا تعبير الوجوه وإحساسات الدواخل. الخرطوم تُحبل دائماً وكثيراً ويومياً بوجوه جديدة ناعمة، تظهر نعومتها من أثر التكييف المركّز واللغة المستخدمة والابتسامات المصطنعة، ووجوه أخرى هَدَّها السهر وتحوّلت فيها كل خطوط الاستواء، والشحوب الملازم للعوز الغذائي وإدمان لغة "الكداري". ففي محطة السوق العربي ممالك كثيرة وألوان وأجساد، والتعَرُّق الظاهر على مساند الكراسي، وجبروت الكمساري عند انعدام "الفكّة". وأماكن الأطعمة تطفح بالمغنيين الذين يبحثون عن الجلاليب المكوية "أو حبيبي بيسحروك لي"، "والعربية" فلم نكن في تلك الحالة نقصد العربة التي تصنع في اليابان. العربية الفارهة التي تتثنَّى في طرقات عاصمتي، إن الإفراط في البدانة يجب أن يقابله طردياً اتساع في الفهم، وبعد الرؤية والحكمة "جِني وجن المرة الرأسها كبير وما بتفهم" هكذا قالها د. عبد الحافظ في الجامعة ثم انفجر الطلاب في موجة من الضحك. الخرطوم كما قلت لك في ذلك النهار الساخن متصالحة تماماً مع نفسها. الصيدليات برائحة الأناقة "نعم إنّ الأناقة لها رائحة"، تبيع أدويتها جنباً إلى جنب مع بائعي الأدوية الشعبية، والأحجبة وقراء البخت و"العروق"، ياخي أدّينا عِرق محبّة.. "نهي يوسف مهبتكي". عندهم لكل داء دواء وممارسو الدجل يفتحون كتبهم الصفراء في وجهك باطمئنان يقرؤون لك حظك، وقد يخبرونك باسم التي كتبتك. ويدعمون اجتهادهم بأن يصنعوا لك حجاباً تلبسه على يدك اليمنى وشكله أسطواني مثل حجر البطارية. ربطات العنق تتجوّل وحدها في ذلك الجو الساخن، السحائي يعلن عن نفسه في كل المزادات، لكن لا أحد يشتري منه؟ الناس يتجشؤون مناعة طبيعية أمام وجهك وفي فمك وفي... المركبات تشحن بالناس شحناً، مسافرون إلى سوق ليبيا، وآخرون في اتجاه أمدرمان، والشمس تلاحق بسياطها كل ماشٍ علي قدمين أو على أربع في ذلك اليوم، السوق العربي لا يحتاج إلى "كَشَّة"، الشمس تخطر المارة بأن الخرطوم عاصمة حضارية، لا داعي للتسكُّع في أنحاء أسواقها، والأمصال الخاصة بالسحائي تتعجَّب من أولئك الذي يستحمون بعرق الظهيرة، ولا يصيبهم السحائي، إن هذه الأرض تبدو كأنها محطة استثنائية وكذلك المارة. في تلك اللحظات كنت أتخلَّل المارة وسط هذا الزحام مثل كيس نايلون، يعلق بكل ما يقابله حتى يلاقيه سلك شائك فيعلق به عُلوقه الأخير. الركاب والمارة يخلصون من زراير قمصانهم، ويحاولون وبكل المحاولات اليائسة أن يطفئوا حرارة أجسامهم ولو قليلاً، باعة الماء صاروا في ذلك اليوم أباطرة يتخيّرون من سيصبون له كوب ماء، هذا النهار يبدو متصالحاً جداً بين الباعة المتجولين وشرطة النظام العام. ومازلت أسير في تؤدة، خطواتي واسعة جداً وبنطالي الرمادي ترفَّق بي في ذاك النهار ويبدو متصالحاً أيضاً. لم أكن أقصد أن أغير أي شيء في حياتي في مثل هذا اليوم، نفس الطريق، وغالباً نفس الوجوه، نظارتي لا تقاسمني هذه السعادة التي أحس بها. وفي هذا الأثناء، دلفت إلى أخصائي البصريات، أعاد لي كشف نظري، رمقني طويلاً وقال لي "من الذي أعطاك هذه النظارة؟" سردت له طويلاً كل التفاصيل المملة، حتى كَلَّ ثم قال لي: "إن القياس الكمبيوتري الذي أجريته، به خطأ سأحذف بعض الدرجات التي أعطاك إياها الكمبيوتر من خلال الكشف السابق، وأن نظرك كان سيكون شيئاً آخر إذا استمرَّ هذا الحال" فحملقت فيه طويلاً وتخيلت نفسي "جرادة" لأن عيوني مركّبة، ولي أجنحة غشائية شفافة، وكم زوج من الأرجل وأن دورة حياتي ناقصة. ونزف قلبي أربعين ألف من الجنيهات للعدسة والإطار، ولبستها على الفور وشكرتُه علي نزف قلبي لآلافي الأربعين. أظلمت الأرض أمامي رغم أن درجة الحرارة فاقت الأربعين بدرجات، وبعدها ارتد لي بصري، وأنا في حالة "فانتازية" خالصة أشكر ربي عليها، وتحول السوق العربي أمامي إلى جلابيب بيضاء مكوية وأقمصة فاقعة الألوان، وبلوزات تمشي الهوينا ولكن ليس في داخلها شيء، وإسكيرتات مختلفة التدريج اللوني والوزني، وبنطلونات من جنسيات مختلفة. كنت أطول شخص يمر بذلك الشارع علي مر التاريخ، الحافلات الأنيقة من فئة "الميتسوبيشي" تمر بجانبي وأنا أرمقها من عَلٍ، يبدو ارتفاعها أقل من مستوى كتفي، ورجلاي تواصلان الايقاع الزرافي الركض، وأتخلل المارة والناس يبدون عجافاً كأنهم خرجوا للتو من مجاعة سنة "ستة". ذهبت إلى الصحيفة، صافحت كل من قابلته، وكنت أراه حسب نظارتي الجديدة التي لم تتماهَ بعد مع نظري وعيوني، رأيت الأستاذ "ضياء الدين بلال" فبدأ لي كالأستاذ "محمد طه" وعندما عاينت في اتجاه سكرتير التحرير، رأيت مدير التحرير. يا لله، ماذا يجري في ذاكرتي؟ إنّ أصعب ما يتخيله المرء حالة الجرد السنوي الذي يتم للذاكرة. وخرجت من الصحيفة أكثر انزعاجاً وسروراً، وأرسلت النظر في دكاكين الأوقاف، الله الله، حتى أخصائي العرديب صار "عمومياً". بدأت أبحث عن إطار ذاتي أندغم خلاله، حتى أتبيّن حقيقتي وموقفي من الناس والحياة والسوق العربي. قلت لنفسي، هذه الحالة إذا استعصى علاجها لا بد من المضي إلى الجامعة، لأنَّ هنالك أشخاص يمكن أن أُقايس نظري بهم، باعتبار أنهم أوزان في حالة ثبات. ذهبت إلى المواصلات جوار الأستاد، وامتطيت الحافلة والنظّارة على عيوني، وجدت أن يديّ تلامسان الأرض، ويبدو أن فمي قد علاه تراب، والحافلة مثل دولاب العدة، كمية من الحلي المغشوشة والأساور "الفالصو"، والساعات "السوقية". دفعت للكمساري ألف وخمسمائة جنيه ولم يسأل أحد في الحافلة. واندهش في كرم هذا الراكب الذي دفع لكل الحافلة، يبدو أنه أتى من الأقاليم حديثاً، وسألني عن الأهل وأخبارهم وأنَّهم بخير، إذا كنت تقصد من بالداخل والذين بالخارج كذلك، وقال إن الراكب بمائة وخمسين جنيهاً، قلت له إنني اليوم في حالة استثنائية لم يفهم ما أقصد إلا أنه أرجع لي ما زاد عن قيمة التذكرة. وترجَّلت عن الحافلة ووضعت يدي علي قمة عمود الكهرباء، ووجدت نفسي متزوجاً خلعت نظارتي، عدت أيِّماً كما كنت. خرجت من هذا الإطار ولبست نظارتي، ودخلت من الباب الرئيس، أفراد الحرس الجامعي قصار القامة ومنفوخي الأوداج، أبرزت بطاقتي فحجبت عنهم الشمس، لا بد أن بطاقتي بحجم باب الغرفة، إذن أين كنت أضعها؟ بالطبع في جيبي، إذن كيف يكون حجم جيبي، إذن كيف حال حجمي أنا؟ خلعت نظارتي عادت الأشياء كما كانت. وجدت أصدقائي وزميلاتي، تبيَّنت ملامح وجوههم بصعوبة، أنظر إلى "تانا" فأجدها "أمل" وأتجه إلى جمال فأجده "وهبي" ما هذا الذي يحدث، قلت يجب أن أذهب إلى مكتب المدير، وقفت أمام مكتب المدير كنت متأكد أنه هو، لأن هناك جماعة اصطحبوني إلى هناك، وجامعتنا لها مدير واحد، وعندما لبست نظارتي صار ذلك المكتب "مكتب نائب المدير" يبدو أن هنالك عطل ما.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
"جبيت" أينما سرنا الرمال ترقش في وجه النهارات
وترتفع بنا الأرض في جبيت كما تقول لافتة ظاهرة تعلو مبني المحطة بلغة إنجليزية بليغة "2600 FEET OVER THE SEA LEVEL" بلغنا تلك البؤرة، وقد تسرّبنا عبر خلايا القاطرة، متسخون متشحون بأكاليل الغبار، وانتقلنا عبر تصفح الدوريات، والسراب في مدى الأبصار يُزَجِّج الرؤية بخطوط مائية ملتوية، وتترقق الأحجبة دون هول، لأن الآماد متسعة والنهاية لا يعلمها أحد، إلا من اختبر المسافة عبر تجربة سابقة على هذا الخط الحديدي المهترئ، في رحلة الهول الضنين الغارق في التأسي والملتزج بفتون الاغتراب في الذات، والرحيل إلى الأبعاد المطلقة عبر مساحة النافذة والفلوات، إنها رحلة مضنية غلب عليها الأسى. الجبال طَوَّقتني قبل أن تطوق البلدة، والجزئيات الصغيرة تخالها في كل مكان وأظنها متوافرة حتى في قمة هوائي الإرسال، والأمتعة في ذاك الجزء من الصحراء تبدو ترفاً، وتغدو طريقة البحث عن منفذ الخلاص منها أملاً أمثل، وفي ذاكرتي تغدو التذكارات طافحة كلما خالجتني خطرفات السفر، خصوصاً عندما تبدو المغاليق أكثر إيغالاً في التغليق، فلا تجد مفتاحاً لحل الرمز والتصاوير، جزافاً أن نبقى تحت الهجير منذ الثامنة صباحاً، وشخص مكتنز الجسم يصدر لنا أوامره فلا ندري من هو؟ ولماذا يبدو متآخياً مع هذا الأسلوب القمئ في التعامل، فلعله ظن أننا سنكون تحت رحمته، بعد أن يفتح علينا صنابير الهواء الحار التي تنهشنا من أطول شَعْرَه في الرؤوس إلى ظفر القدم، إنها جبيت والحرارة توزَّع مجاناً. وهذه اللحظة أنا أدوِّن ما أشاهد مستظلاً بالهجير من الهجير، تحت عربة قاطرة، والظل صار أقصر من ركبتي، وأمامي تمتد القضبان إلى ما لا علم لي به. والمباني أدمنت الكلوحة، ولم تر الطلاء ولم تسعد بلمساته الباردة على جدرانها، وقطار تعوي صافرته وحيداً، وقطيع من الإبل يمر على جانب منه، قد صرنا بؤرة من القذارة وترسب الغبار في دمائنا، فتعطل التفكير، إن أقصى أمنية أتمناها الآن، أن أُسعد جسدي بحمام بارد يعيد لي لوني المسلوب. لقد صرت حجراً رغم اشتعالي بهاجس الكتابة، فلم تهمني الشمس ولم تغزوني زُرقة الجبال. يجاورني في المرقد رجل مشعوذ، أعلى أسنانه السفلية مرصوف بـ"التمباك"، وتعابير وجهه تنم عن تخثر الجراحات بداخله من جراء التهاب عاطفي، أو هوى جائر التصق به في زحمة الخرطوم وضوضائها، وغادرنا محطة "بحري" ولافتتها تحكي "Khartoum North" وكلنا مشبوبون بزخم الخواطر لأن التبريح جزء من معيّتنا. وانفلتنا من طوق الخرطوم نُمَنِّي النفس بهجة نرجوها علي ظهر قطار يقصم المسافات، ويفتتها غباراً اقتسمه الجميع بالتساوي، فبدت بعض وجوه الذين اغتنموا سانحة الحصول علي مقعد جوار النافذة، صاروا أشبه بمجسمات منحوتة غائرة التفاصيل، وقد اعتراها هول الترميم، فبدأ الهول ملحاحاً يكتري النظرات الناشزة من حدق الركاب واختلاجاتهم. سافرنا وسافر معنا النهار بطوله، والمشاهد تأسف أن تلاقينا بما تبدو به، فتبعثر الخضرة حيناً في وجوهنا، وحيناً آخر تبدو كما هي يابسة كيباس الخبز الذي نحمله معنا، تلاقيك الطفولة تركض في تسارع خطى القطار، ليسألونك خبزاً أو أي شيء يؤكل، وخلفهم تبدو المنازل واجمة من تحرُّج السؤال، والحوائط مغطاة بروث الماشية اتقاءً لزحف الخريف، هذا إذا كان يأتي. وطفلة أطلقت حزمة شعرها يتلاعب بها هوى الريح، وهي ترجوك أن ترميها بقطعة خبز، البؤساء في كل الصرخات وتأوهات الحناجر سواء، والأرصفة لا تتسع لجميعهم والأفضلية لأبأس البؤساء. أينما سرنا والرمال ترقش في وجه النهارات، في شمس يونيو في السابع منه والمحطات تبدو بعيداً، وتدنو ويخرج الناس في جلباباتهم، يسألونك عن جريدة، إنها حمى الثقافة تجتاحهم رغم التوازي، عندما ترى عبس الوجوه، وشروخ الزمن والمسافة على طيات الملابس التي فقدت عذرية الابيضاض. وقطار الشرق لا يمل من الوثوب على القضبان راكلاً محطاته الصغيرة، ويأخذ قطارنا نَفَساً عميقاً في شندي، وتبعثرك الطلاءات الصفر، وتشتت ذهنك المكدود من طول المسافة، وبائعة الدمور في طبق من الجريد تُقَدِّم لك نسيجها، "شالاً" غارقاً في بدائية الصنع إلا أنك تحس بأنفاس صاحبته، أو قل ناسجته، وأنت تفرده لكي تتسع عيناك باتساعه، وناظر المحطة أو قل مفتشها فأنا لا أفهم في القطارات إلا قطار الغرب، متوسداً سدة التاريخ يملأ شدقية بهواء الصافرة، قبل أن يطلقها ممتدة طويلة، ترتعد العربات المقطورة جزعاً تتبع القطار في رحلته المجهولة نحو "بورتسودان". وفي جزيرة "أم علي"، النيل على حافة القضبان والنخيل يطوق خصرها النحيل، ويتصدر مقدمتها، وفجأة تظلم الأرض داخل فجوة نفق، فبدت شخوص الركبان أشباحاً، وعلو الهامات كشواهد مقابر "الكمنولث" ستفزع لأن التشبيه مقرون بالنهايات والهواجس تغدو صدئة، لأنّ احتمال النهاية يبدو وشيكاً. وتعود بعد ثوان أضواء النهار تغمرنا، والشمس أزمعت المغيب. وفي عطبرة لافتتها ترحب بكم دائماً وأينما حللتم، وتُجتزأ مقدمة القطار وتُستبدل بآخر، فنلاقي بعض الزميلات اللائي يدرسن معنا، ومعهن أسرهن في التوديع وتحميل الوصايا. ونغيب في سترة الليل، والقطار مثلما يوزِّع الغبار يستحث نفسه فيضيئ لنا ثالثة الدرجات، ونمر بمحطات كثر فلا نرى أضواء إلا مشاعل الركاب حينما ينسلون من أبواب القطار، في وقفاته الاعتباطية في ذاك الخلاء الموحش، يلتحفون الأرض، ويحتمون من بدائع الأنسام بزفرات دخان التبوغ، والبحث عن "سَفَّة" يشغل المرء باله بها لحين قيام هذا المارد. وفي إحدى المحطات الليلية تطول وقفة القطار، فأنزل بالمصلاة، وأصلي في إحدى القبلات الأربع، والرمال الناعمة تغدو لحافاً بملمسها الصافي. ويواصل قطار الشرق رحلة الأمل المغلوب على التنفيذ، والغناء يتواصل والغبار كما هو يستوطن الفراغات، ويهرب منا ملك النوم، وأتوسد لحافاً إسفنجياً هزيلاً ورجلاي خارج النافذة، وأنام مثلما ينام الديك على الحبل، وأصحو على صوت ارتجاج كوابح القطار. نحن هذا الصباح أحياء في تقاطع "هيا"، فلا نتذوّق طعماً للنوم والأعين مطلية بلون السهر، ترعش ألماً فتسرع في الإغماض. ونحتسي شاياً مالحاً على أنغام البسكويت والصباح ينزع في آخر غلالات الليل. والجبال تبدو بنفسيجة، وفي انحناءات القطار وهو يتلوَّى بين سلاسل الجبال، أمل مضيّع وعشق تركناه في طلاوة أمدرمان، رغم دروبها وفيوض ماء الغسيل على أزقتها. وفي الثامنة صباحاً يوم 8/6/1994م، تبدو "جبيت" ماسخة عجوز، ونُسرع في إنزال أمتعتنا من على ظهر القطار، لا أحد يجيء ليتجشم مشقة الاستقبال. ونتحرك في أنحاء محطتها بحثاً عن ماء للشرب، وبعد أن يسترسل العطش في تجفيف الحلوق، نرتوي ماء بعلبة بلاستيكية، إنها أحد قناني المحاليل الوريدية لا يهمك عزيزي القارئ أنت لم تشرب بها، بل أنا الذي شربت، شكراً لتقذذك.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
" سنكات" الشعور طليقةٌ والصديري يزامل الجلباب
وفي أركويت يعز علينا المزار، فنخترق الجبال على ظهر إحدى عربات الجيش، والمناظر تبدأ في التبدُّل، وفي منبسط هناك سهل فسيح وإشارات وخطوط بيضاء منقَّطة إنه أثر لمطار كان هناك. وأطلال المخيم تولّد البؤس والضنى، والجبال العوالي تكون قد شَهِدت ضجيج محركات نفّاثة، وهي تردّد صداها المقيت، وهي تنقل اليهود الفلاشا، في إحدى أشهر عمليات نقل لليهود وإعادة توطينهم في إسرائيل، والتي عُرفت باسم "عملية موسى"، الطريق ممتلئ ببياض العلامات، وتوضِّح إحدى المقروءات الموضوعة في أول الدرب سنكات أركويت 40 كيلو، ونحن معَلَّقون بسقف الشاحنة والزكائب تملأ مؤخرتها. الإحساسات لصيقة بالداوخل، وتفريغها على وجه الصفحات مضنٍ وممل، لأنَّ الترابط الحسي تتخلّله هواجسنا المتعبة ونحن نحكيها، ومن فرط التزاحم المشهدي والمخيّلي، تئد الأفكار بعضها، وتمتشق أوضح المشاهد حسام الرواية. ومن مبنى مرتفع يتبع لمحافظة سنكات، أكتب من هناك أمامي الصخور وقد استلذّت بالصمت المحيّر، ونبات الصبار يظهر لك أهدابه الإبرية، والمبنى غاص بالضجيج والضحكات، إلا أنا، فقد رفضت نسيانك، والضجيج يخدش في مخيلتي صورتك، تمنيتك هنا خصوصاً عندما تصطدم الرؤية بالجبال ترتد لاهثة، وتظمأ في كمون اللون جميع الحكايات، وتصدأ الذكرى كما قلت، لأن التهويم لا يجددها بسهولة. ويدعونا المرحوم الأستاذ محمد أحمد أبو بكر من مدرسة بنات أركويت الابتدائية في 13/6/1994م لحفل شاي بالمدرسة، لقد أعدّوا لنا مهرجاناً يليق بنا كان بسيطاً في بنيته التركيبية إلا أنه كان حافلاً بتكدّس فني رائع، وبرُقي منقطع النظير في الحس الإيقاعي، ودارت علينا فناجين القهوة، "أونور" كان رائعاً في التقديم والاستضافة، تقدمت إحدى التلميذات أمام كواليس المسرح وألقت كلمة ترحيب بلغة عربية تشوبها لكنة "بجاوية"، وأعقبتها مجموعة غنائية من طالبات المدرسة في نشيد يرحّبن فيه بنا، الانسجام الإيقاعي لا تسأل عنه هنا، لأننا في منبت الإيقاع. في إحدى قمم أركويت، يرقد سيدي ومولاي الأمير عثمان دقنة "روميل المهدية" ونجم الشرق، وأسطورته التي لا تُنسى -داخل ضريح أبيض سداسي الشكل، وبقربه طلل لمبنى كان على ما يبدو تُدار من داخل أقبيته خُطط المعارك. قرأنا داخل الضريح في لافتة مكتوبة بالأبيض على أرضية سوداء أربع عشرة موقعة كان له فيها القدح المعلا، وقصب السبق لهذا البطل العظيم، هذا السودان لم يتحرر بهيّن من قبضة المحتل. المبنى عابق بالطيب، والمبخرة تكاد لا تستنفد وقودها من صمغ اللبان، وستارة مستطيلة الشكل تغطي الشواهد بلون أخضر، عليها سيفان على ما أعتقد، إلا أن تكويناتها غير واضحة، وما يجدر ذكره أن جثمان الأمير عثمان دقنة كانت رفاته قد نقلت من وادي حلفا عام 1964م إلى موضعها الحالي في إحدى قمم جبل أركويت. كنت أقف بجلال مهيب أمام هذا الضريح لذلك الأسد المهدوي، الله لأجدادنا جميعاً بصدورهم المكشوفة قهروا الضيم، واقتطعوا لنا أسماء في ذلك التاريخ الحافل بكل قيم ومعان، مَرَّ الشريط من أمامي، الأمير يونس الدكيم جدي وأنا حفيده. الأمير عثمان الدكيم، الأمير الزاكي طمل، حشد من الأمراء يتخلَّل الذاكرة، تمَلَّكتني رتابة المكان في أركويت رغم ما يقال عنها إنها المصيف، ولكننا وجدنا الصيف ولم نجد المصيف، فلعل سفرنا له لم يكن في وقت اتشاحها بالخضرة. ففي كل مرمى حجر يكون هناك ألف مرقد لحجر له ألوانه الحارة الدافئة، وله الصمت الذي لا يقاسمه معه أحد. في عصر أمس مضينا إلى الشلال، وحوار متواصل بين الصخر ولون الماء، تنبعث الانكسارات شاهدة علينا، بأنا قد غافلنا الزمن الحاضر، وسرقنا منه ما يكفينا لكي نقف بين جانبي الشلال لنشهد عظمة الخالق، والتلوين الكائن بين طبقات الصخر، والصمت لم يبد مخيفاً في البداية، ولكن عندما توغَّلنا إلى أسفل الشلال والماء يتسرَّب بين شقوق الصخر، وتسرع آلة التصوير لتمحو انكساراتي، فتتجاوب الأنحاء بانعكاس الضوء، والماء لم يزل يخطو إلى فراغاته الأولى، والسحالي تطول ذيولها وتتعدَّد فيها الألوان بين برتقالي ولبني وأصفر. ويجيئك أناس تدهنوا بفنون الإيقاع، يعرفونك من سيمائك أنك تدرس الفنون، والصديري يزامل الجلباب دائماً والشعور مطلقة، و"الأخِلَّة" تتعقب جذورالشعر في منتصف الرأس، وسنكات رغم ما تحمل من تناقض في الحل والارتحال إلا أن الشعور تظل طليقة. وتخرق صافرة القطار أي مشيئة ترجوها للتوغل إلى أعماق الزمن، وعلى عرباته المتهالكة، ويظل "الأدروبات" يلاحقونك بنظراتهم حتى تقول "أدروب ولوف".
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
"المناقل" نزيف اللون عند الغروب
لك أن تهوى الكتابة عن المناقل تحت أضواء الشموع والكهارب قاطعة، الطريق إليها موغل في البعد وقريب للوجدان وغريب على التصور. أجمل ما في بقية المدن الارتحال على ظهر عربات الكارو. الفلاتة جنس إفريقي كان قد أتى قاصداً الكعبة ولكن تعطَّلت به الرواحل، فكسر "رُكبة" في المناقل. إني أغرق حتى الأذنين في وصف مكتب "65"، حتى كنت أحاول أن أستشعر شيئاً ما في ذاكرتي، خمس بعدك الستون… هل أمسى كنارك باسماً متودداً يجلو السنا من صنيعة الأسفار ما قبل الغروب. علاقتي بالمناقل امتداد سافر لا يرفض البوح بالأغاني النبوية "فاطمة بت النبي.. دار أبوك زي القمر ما بنطفي.. فقرا شيلوا جلالة.. لعلي ود زكريا.. الرسول خير البرية". الحكومات مكاتباً وبيوتاً كالعادة ترتدي لوناً أصفر باهتاً، يلعق من حمرة الشفق درجة من البرتقالي، آه من ذاك البرتقالي. كنت حيناً من الدهر أقطن بشمال المناقل في مكتب الهدى، أشجار البان أعجوبة لا تنتهي، وكنت أناجيها وأنا واقف أمامها: أيا غابة البان أفيقي برهة.. إذا مرت بك الرواحل تمرق، والفواصل تجيش بأنغام شتى حيال الوجود الكائن الجّواب في خصر الطبول.. دهان الكافور محمولاً علي أياد من أصل صيني "فكس .. فكس 150" يرتدين "بودي ماباً" ولا تطالهم "الكشة"، إذن، أحياناً أنا صيني. وعشقي للكرات الساقطة أمام المرمى أهلاوي يمتد من المناقل إلى مدني، كرات خفية، وألعاب أجمل أن تراها بين أقدام لاعبيها، وجمل تكتيكية واعية يأتي الهتاف متعالياً وصاخباً "حمد والديبة حاجة عجيبة"، التشكيليون لا يسألون عن هويتهم في التصور والدعابة واستنفار الأشجان حيال المناظر المؤثرة، والكتل التي لا تملك إلا ظلها. السوق ضاج بالحركة، أجيء إلى المناقل مغَبّراً لأني قطعت المسافة بين "ربك" إلى المناقل في ساعات أربع، يتخللني أسف المباني الرابضة في مكاتب المشروع، كان هناك هاجس يؤرقني، وكان ذلك الهاجس مدمناً في تخيل سكان تلك المكاتب، أناس قَدِموا من كل بقاع السودان واستزرعوا الأرض البِكْر، أكاد أسمع أصداء التضاحك والسعال من تلك المباني الخالية. الحنين يسوقني إلى اللااتجاه، والمدينة تمتد أفقاً خالصاً لحد الشوق، التزاوج بين مدينة وأخرى يشاع له بمسمَّى التؤامة. وقبل المناقل مكاتب زراعية تترامى على نهايات البصر. ومركبات شريدة تلاحق القرى بسياط الغبار، حينما تعتلي الجسور الساكنة. والأطفال يجرون طويلاً، والكلاب تُمَرِّن نفسها في محاولات اللحاق اليائسة بالعربات العابرة أمام القرى، ورهط من الرجال والنساء يودّعون شاباً سيسافر إلى السعودية، ساعَفَه الحظ، أحد أقاربه أرسل له "فيزا" ليعمل في وظيفة "كاوبوي"، وقد حمل معه حزاماً عريضاً لزوم تخزين الريالات، واحتياطاً لهجمات الشرطة التي تقصد غير المقيمين بصفة قانونية. الناس هناك يزرعون بشاشة الحضور على وجه المناقل. وأهلها يركنون إلى هدوء في الطبع، إلا أنه تغلب عليه نزعةٌ زراعية، وعشقٌ لصكوك "العمرة" واقتناء العربة "البوكس"، وخصوصاً البوكس "أبوزيق"، وهو ما يعرف في الأراضي الحضرية بموديل 1978، أمنية يتمنَّاها المرء منهم كلما جاءته فرصة المخارَجة إلى دول النفط. أحببت فيها حواريها وأزقتها، وكل جلباب أبيض أنت تلبسه هو لي، وأي عربة بوكسي موديل 78 كذلك. كان يجب على السيد "ريوتارو هاشيموتو" أن يسجّل شكراً خاصّاً للمناقل ولكل المكائن هناك، وكل ماكينة تجري على أربع هي صناعة يابانية. كان والدي يشغل مهنة موجِّه تربوي في ضاحية الهُدَى في بداية التسعينات من القرن الماضي، وهي من المدن التي لا تُنسى. الأغاني النبوية وصوت الساكسفون يتوهن في تلك الأغنية "عندي زيك كم أميرة وكم حبيبة" ويتحرّك الترومبيت التياعاً، "ما في زول أجبرني.. ما شاورت غيري" والنغم يتسرّب جداولَ أخَّاذة الجريان، ويرتفع منسوب الشجن، والقراءات تُسَجَّل تباعاً عند محطة "الديم" على الحدود السودانية الإثيوبية. الفيضان يمكن أن يكون نغماً، آه من ذاك المغني، وأي الصلوات أطول من تلك التي تُصلى على المختار "ص"، ربَّاه حلمك قد وأدت قصائدي، ورجوت لطفك للمحب ولمن يُنادَى له الطبيب. "الميرندا" حمراء اللون تذكرني دوماً بشراب الكحة المُسمّى "كولدال" وعند أي محطة يتوقّف فيها اللون ليقول كلمته، لأنها الكلمة التي تعطي المعنى، وتزرع في أسفلنا دهشة السفر عبر مكتب "131"، أو قادماً من الخرطوم عن طريق "العريجاء"، فياله من طريق وعر. ويفعل فيك التعب فعلته حتى تتذكر حارس مرمى "تونس" وأحد المنارات المضيئة "شكري الوعر" الربع الخالي يمكن أن يوجد بين "جبل أولياء" و"العَزَّازي"، فعندما يقال لك "طريقك بالعريجاء" فإنك ستسافر سفراً مضنياً، وتحتاج لعدة عمائم لتغلق فمك، وعينيك وتغطي شعرك، هذا إذا كنت أعطيته حَمّاماً زيتياً، من فرط الغبار الكثيف. والكنار مجرى مائي مهول الطول والاتساع، يتأكد لك أنه صناعة إنجليزية، ولكن بآلات كانت تخص ذلك الرئيس المسمّى "ريوتاروهاشيموتو". في تلك الفترة، أي عام 1988م كنت صبياً مولّهاً بمواقع النجوم، والوقوف على غابة البان، وبما أنني كنت أسكن "كوستي" لم أعهد أشجار بانٍ بهذه الكثافة، فكنت أتوحّد معها في حس شعوري غريب حتى إني قلت: إن ذكرتم غابة البان اذكروني فأنا البان والبان لا يُذكر بدوني لا تدعني أتجشأ تذكارات خالدة، لأنَّ الرجوع إلى حالة السكون صعب جداً في هذا الجو، ولأنّه سيجرني جَرَّاً إلى تلك المواقع لأقف عليها طويلاً، ودع الباقي لي، ملحوظة: غابة البان منطقة منزوعة المناديل، ومدينة المناقل تخطو بثبات نحو البدانة. الزُرَّاع يحصدون مواسم قمحية اللون والملمس. والإسراف في التداعي يدعوك أن تتقيأ صوراً خلاسية وأنغاماً، كيف بالله أتى بها ذاك المغني. "بخيت" هو الذي يسمع ذلك الـ"أبو عركي"، أنا والمناقل والساكسفون النازف أنغاماً تمشي على جنبات ذاك الحقل، يدغدغني أسى أن لا أعود، وكيف لا، والشجن يستدير حول معصم تلك المدينة وأنا أتأبّط ذراعها. ويشقني ويشق تلك المدينة، والنغم يرتاح على بال الكمنجات وهي عالقة بجرح الليل، ويصدأ نحاس الساكسفون وهو يهز كل فاصلة في تلك المناقل "كل كلمة تقولا بتريّح ضميري". والمؤذن يجوّد في الأذان، والجلبابات البيضاء تقصد المسجد الكبير في خشوع يفيض على القِباب جميعاً. والأمل طريق مسفلت، تجري عليه الحافلات وتخب تلك المسافة النجمية في سويعات أقل. وبعد ذلك تحتاج إلى عمامة واحدة فقط على رأسك لتكمل بها مظهر الجلباب. ألم أقل لك إن الطريق إلى المناقل يتقاسمه معنا ذلك الرئيس المسمى "ريوتاروهاشيموتو". إن التأمل يكمن خلف بوابة الألم، ولا تصمد النواميس أمام طيش الأزمنة الجائعة، وأرتال البعوض. الناس هناك أكسبوا تواجدنا هنا عمراً جديداً، وبطاقة حضور في مونديال المناقل القادم. إني أهدي الأصفياء هناك جهد المقل، في أزمنة النبض يزداد بريق العشق للمدن، ويكاد الفرح أن يستأصل جذوته من قلوب المسافرين ليدعهم لهول الرحلة القادمة انقطاعاً في محراب المعبود، وملاذاً دائماً في سطوة الزاد الصعب. توقفنا طويلاً ومعي "المناقل" في اتجاه الغرب، ونحن نرتق جرح الغروب بلحاظ مرتبك، ومقل أدماها الدمع انتهاكاً لقدسية المشهد، فعندما تشرق الشمس بالأشواق في "الدسيس" يجف المداد. ولطالما عبثت بنا الأشواق وعربد طورها في فواصلنا بكينا ثم ثرنا ثم غَضَّننا السراب، في محاذاة الرؤى المعبأة بالغرابة والانتظار. وتبقى الذكرى هي أصلب المعابر في طريق أحرف كتبناها، هنا لتبقى الزاد والرفيق في المحطات التوالي التي يتولَّد فيها الإحساس بالضياع والونى، شكراً لـ"ريوتاروهاشيموتو" من خلف الأجهزة الناسخة والطابعة وكل التكنولوجيا القادمة. شكراً للأستاذ ضياء الدين بلال عبد المحمود في استنفار الذاكرة واستبكاء المدن، شكراً لكم جميعاً.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
بين البطاطا الإيرلندية وجرجير الجزيرة والمحروسة
يدفعني توقي جداً، لكي أكون من سكان الجزر، وسكان الجزر الشمس قد أدمت بشرتهم، وخصوصاً من أحب أن أبحث عنهم في درجات الحلم. اطلبوا العلم ولو في الصين. وفي قوائم المدن الضبابية تواترنا انفلاتاً من حدة الطوق البهيمي، استعرنا كل خطرفات الليل. وكان مطارك في ذات المساء يستضيف طبيباً والهاً، وفناناً تشكيلياً متقاعداً، والليل فيك اجتاح حقل خصوبتي ضجراً، يعلق في التعاويذ سخاء. كنا نشق الأزقة في تلك الليلة، والأزقة ضيقة، تنبعث منها روائح مياه الغسيل، وتتداخل الروائح فتصنع بحراً من اللزوجة ويأتي طبيخ "البامية"، تعجز الكتاكيت ونحن في أن نمر بتلك الأزقة، والأكسجين مصاب بالقِلّة، كان معي شقيقي الأكبر وهو طبيب قادم للتو من أقاصي عاصمة الضباب، من مساء "دبلن" المائج بكل العطور، والطرقات التي تُطوى في الأصيل، ويعاد نشرها قبل الغسق، وموطن الـ"CLIFFS OF MOHER" أخصب البلدان بالمناظر وأكثرها عشقاً للبطاطا. علي شاطئ الجزيرة رجال كُثْر يرتدون جلبابات كانت بيضاء، وهم يغسلون "الجرجير" في قسوة، وليس عنهم ببعيد، زوارق تتعبأ بالركاب في لحظات، السمة الغالبة عليهم أشخاص تعبون جداً، ونساء مرهقات، وأطفال زائغو النظرات، ويمتد هول النيل إلى الأكثر. كان ذلك الإيرلندي أكثر استغراباً من مملكة الجرجير والفواكه الأخرى، وأن الخرطوم تعتلف بخضر لزجة، أطفأت لزوجتها مياه النيل الأزرق. القاعة بدت بمعمارها البسيط كخلية نحل، تحيا كل الوجوه الصفر والعيون الضيّقة. وانزلقت دون خوف في تصوري وأن الـ"CLIFFS OF MOHER" صخور تنحدر عليها المياه باسهاب، والسياح يرتدون نظارات شمسية وطواقي عريضة الجوانب، الجو عابق برطانات مختلفة، الفرنسية أعذب اللغات حين تنطق بها الحسان السمر، والشفتان لا تتباعدان كثيراً عن بعضهما، إنها الرقة المهذّبة.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
إن الذين احتفلوا في ذاك المساء تأبطوا حِسَاناً مترفات العطر، وشعورهن سابلات كقمحنا في مواسم الحصاد، الله من ذاك النسيم حين يُحَرِّك فينا كل الأزياء، تبدأ كل أعلام القاعة في الخفقان، وتنحدر الموسيقى شلالات وجداول، والبساط الأحمر يخنق عنق القاعة، جميل ذاك الوطن الأم.. بلا أسوار. ويتحدث ذاك الطبيب الآمل، قلت له كثيراً إنك تذكّرني بدكتور "زومنهوف" مخترع لغة "الأسبرانتو" كان يقول حتى ظُهر الأمس كنت أتكيء، على كرسي وثير في مطار "دبلن" كل العالم يمر من هناك، كل الجياد الفاتنات تعتلف من اصطبلات ذاك المطار، كل شيء هناك مزيج من الدهشة ومحمولاً فوق أعناق التوقُّع. الطريق والنوافذ والعيون، كل الزجاج أنواع تراهن في الخدوش. الحكايات التي تُروى لا تفيد إلا الذي رأى، ونعبر إلى داخل الجزيرة. وأهل الجزر معمرون، وتعتريهم نظرة احتراب لكل غريب في ذلك المكان. كنت عندما ألج داري هناك أغلق الباب، وأفتح النافذة، وأحدق في سماء بغير نجوم. ليدخل شيطان اللون لأن التشكيل هنا مؤود، والخضرة مبعثرة على نهايات الجزيرة. كنت حين أصحو صباحاً، وبعد أن أمارس الطقوس المعتادة في الاستحمام والملبس، وأدعو الله في سري وفي علني، من غبار الطريق، والسائقين الذين يهرولون خلف بعضهم، والمركبات المدجنة مكشوفة المؤخرة، فعندما تصل إلى شاطئ القاعة، يتأكد أنك تحتاج حَمَّاماً في الحال. وكان يقول لي إن مدينة "قولوي" في الجزء الجنوبي من إيرلندا تشبه كثيراً هذه الجزيرة من حيث الأزقة الضيقة، التي لا تتسع لأكثر من شخص، والإضاءة تشكل مزيجاً رائعاً من تداخل المباني، وجزيرتي هذه من تداخل أزقتها وحواريها ظننت نفسي في حالة أشبه بلعبة السلم والثعبان. هناك زقاق خاص أمرُّ به دوماً، وفي كل صباح أكون أكثر توجساً حين أواجه شباك مطبخ يطل على هذا الزقاق، أتوقع أن قدح ملوخية بائت سينسكب على قميصي الأبيض، أزيد الهرولة، مثلما يحدث في السعي بين العمودين الأخضرين. الوجوه جميلة والحسان فاتنات أحياناً، إذا ابتعدن عن سيرة الاكتناز والترهل.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
وهذه كرؤية تشكيلية، وجزء من مهمتي أن أصوغ الجمال، وأبحث عنه، التشكيل ليس وسادة من حرير، والقلق جزء من أي لوحة مهما كان الراسم إنساً أو جاناً، واللوحة حالة لا شعورية، واللون أحياناً طفل نابت الأسنان. وكنت كما قلت لك أغلق باب داري، وأتكئ على النافذة لعل عصفوراً يلج فيقنعني أن البلابل مازالت تغرد، "شكيت لي طيفك الأيام وحدثتك حديث الروح". وأتلفّت أي الطيوف هو الذي كسر حاجز الخلوة، وحَلَّق فوق حاجز الإمكان، أجمل ما في الجزر، المعمرون يمشون على ثلاث، وأرجل النسوة مقوّسة، فيصير الإيقاع الحركي أشبه بفرامة الملوخية. والقاعة في الليل الفاحم تضئ بإفراط، ينعكس الضوء خيوطاً فوق النيل الأزرق، قرمصيصاً و"رسالة لندن" وثياباً لم يتم ترخيصها بعد. سكان الجزر بعيدون تماماً عن إحساس الضوء وفعل اللون وظل الظل. والأجساد المرهقة، الليل فيها أكثر ازدحاماً بأكسيد الكربون الثاني، والرطوبة ملعقة من ذهب في أفواه العجزة. وقوام التشكيليين الخمس، الحقائب ترافق الفنانين من العام الأول بكلية الفنون وحتي اللحد، ويذكِّرني شقيقي بأن العَبَّارة هذي أجمل. نعتلي سلمها الحديدي إلى أعلاها، يمر نسيم عليل، تتشبَّث بنا ملابسنا وملابس النساء، وأنا أفكر في منزلنا بالجزيرة، استأجرناه رخيصاً وهو عبارة عن عدة أسِرَّة ولا توجد عناقريب، بضع ملاءات متسخة. وفضاء الحجرتين تشغله لوحة فنان يرسم بالأحبار على الأخشاب، تخص الفنان الراحل إدوارد حنين أو عمر خيري، اللوحة تفتر شفاهها عن ابتسامة حبيسة، ملحوظة (لا توجد "موناليزا" منطقة منزوعة "الجيوكندا"). لم أتعرف على الناس في تلك الجزيرة، إلا وهم شرهون في التهام الفول بالطعمية، يزدردون السمك، ولم يكن هناك فريق اسمه الموردة. في الأزقة يتجمهر شباب ليس لهم ما يهمهم إلا تسريحات شعورهم، أعاقب نفسي كثيراً بأني كنت مصمماً، أدوات القطع والمواد اللاصقة وسكرتير التحرير والناس في الجزر، كالنقش على الحجر.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
أجمل ما أتمناه الآن وبه أستبدل آلة تصويري، هو أن أستحم في هذا المساء مغتسلاً من غبار الصباح. أجمل العيون لا يمكن لها أن ترتدي مثل نظارتي وطول قامتي وجفاف حلقي وشفتيّ، ومن السيارة التي يشحن الركاب فيها شحناً، وشقيقي يقلب الأبعاد في كل اتجاه، وهو ساهم في هذا التحوُّل، فسبحان الذي أسرى بعبده من مطار "دبلن" إلى مكان جوار أمبدة، وصلى الله وسلم كثيراً على نبيه صلى الله عليه وسلم آمين ثم آمين. أطفال الجزر معمرون مثل أجدادهم، والأطفال في كل حضانات التاريخ ممتلئون براءة جغرافية وأفواههم الصغيرة تعانق أي حلوى. الدخان يشرد من كل الرئات، ويختنق المجال لأننا في هذا التاريخ نعبر البوابة الأولى في أقصى الأعماق، لذلك الشخص المخبول الذي يدور طويلاً جوار صينية القاعة. كلنا والله مخبولون، وكلنا نعشق الهلال لأنّ لاعبه والي الدين. يرتفع الهتاف في المدرجات فجأة وينهمر "يا والي .. يا والي …" ونحرق عمائمنا ونرجع إلى منازلنا بلا رؤوس. وبعد كل هذا يا أخي يا "كوتش" تقول: "اعملوا حيطة". كان يسرد لي تفاصيل مباراة جرت أحداثها في أستاد ميونخ. وأن الألمان شعب راق إلا أن لغتهم خشنة ولها فعل تكسير الخشب. وأنه كان يسكن في فيلابورسيج "VILA BORSIG" وأنه يصحو صباحاً، ويحدق في الشجيرات من خلال النافذة فيرى فتى وفتاة يقفان طويلاً أمام كل شجرة، كأنهما يقرأان عليها تعويذة الحياة، ويكتبان في دفتريهما ما تقول. عَلِم بعد ذلك أن هذا كشف يَومي يجرى لكل الشجيرات هناك لمعرفة معدّل النمو، ونسبة الإكثار الخضري وكمية الكلوروفيل. أنا مغرم بهذا النيل الأزرق حين يكون هائجاً ومائجاً ومضطرباً، وأحب مياهه مختلطة بالطمي، وأحب عواصفه وأمواجه. وأحبه وهو يلهو بالزوارق، وقد جللتها أثواب الركّاب وقمصانهم، وهذا مع عدم إجادتي للسباحة. وأحن للشراع حين يغزل المسافة والحريق، وأبحث بكل حواسي عن دائرة الألوان المخطوفة، ولون الأزياء لكل المصطافين على أرض الرحلات وفوق الماء.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
عندما تحوّل لوننا إلى لون أصفر كبريتي
تضيق علينا الفجوة، ونحن داخل حدوة حصان، والحصان يتهادى دون كلل، والحوزي يلهب ظهره بمزيد من السياط، يقع الحصان على وجهه في بِركة برتقالية اللون وتفوح منها رائحة عصير "التانك"، وتقتلع الحدوة التي نحن بداخلها من جراء ارتطام الحوافر بأرضية البركة التي هي أصلاً ذات مكوِّن صخري. وتبدأ الحدوة في التحلُّل، ويُسقط علينا الحصان مزيداً من الروث الذي اختلط بعصير "التانك"، فبدأ لونه يتحوَّل إلى محلول أخضر زيتي، بينما تحوَّل لوننا نحن الاثنين، إلى لون أصفر كبريتي وعيوننا تكَحَّلت بلون أصفر ليموني، وأهدابنا صارت كالسلك الشائك الذي تعمل به الحواجز، بينما الأظافر تحوَّلت إلى الألمونيوم وجلدينا تقشَّرا قشوراً مستديرة، وعلى ذلك القشر حلقات مفرغة وتجوس داخلها رقائق صغيرة الحجم، تتوهج بين فئة وأخرى، كان مئتان من الحشرات المضيئة تهبط على مطارات خلايانا. وعندما تدقق النظر نحو معصمك ترى الدم يجري، ولكنه محمولاً على عربات صغيرة أظنها "تيكو" ولكن في حجم حبة الدخن بلونها الأصفر، وهي تصعد وتهبط في مسارات كالأوردة، ولكنها ليست أوردة، وتنظر في اتجاه المعدة تراها تعمل في جد كطاحونة كهربائية لا يفلت منها ولا عود جرجير، أو دقائق بُدْرَة "التانك". في تلك البحيرة الأولى التي لم يكتمل ذوبانها، وفي تلك الأثناء، أنا نفسي لم أكن أنا، نظرت نحو جهة الصدر وجدته مملوءاً بباقات ورد حمراء وصفراء وبنفسجية، ولكنني لم أكن يوماً قد أحببت إلى هذه الدرجة من الأوسمة والورود العَطِرة. بدأت أتحسس عرقوبي لأني أتذكر أن والديّ حملاني عندما كنت صغيراً إلى عَرَّاف القرية، فقام مع طاقمه الجراحي بإجراء كَيْ عاجل في عرقوبي بدعوى إصابتي بمرض "اليرقان". فلم أجد هذه العلامة التي تميزني بأني أنا، إذاً فمن أكون؟ فعرقوباي سليمان وشفافان وممتلئان، كرجلي بلقيس عندما كشفت عن ساقيها في تلك السيرة المعروفة إبَّان عهد سليمان عليه السلام.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
وتوجَّهت بأنظاري إلى الأرض، أزرار مربعة لدنة الملمس، وتغطي كل السطح من الجهات الأربع، ولكن كلما لامست أقدامنا زراً من تلك الأزرار يتحول الزر إلى فتحة مربعة بنفس حجم الزرار، وتخرج منه صراصير تبدأ تتزاحم وتحلق وتدور حولنا، ونستخدم أيادينا في استجلاء الرؤية وإبعادها عن عيوننا، وكلما حاولنا الجري لمسنا مزيداً من الأزرار، وهذا يعني مزيداً من الصراصير تخرج وهي نظيفة أنيقة جديدة "لنج" فسرعان ما تتغير رائحتها، وتبدأ في تشغيل محركات إضافية وتطاردنا. نبدأ في السباحة في تلك البحيرة ذات اللون الأخضر الزيتي بنكهة "التانك"، مبعدين نفسينا عن ورطة الصراصير. وفجاة تبدأ هذه الحشرات تسقف الأفق وعلى سطح الماء، وتشرع في امتصاص هذا العصير بنهم، وكلما نقص منسوب العصير قليلاً جاءت أفواج أخرى من الصراصير، الأعمى منها يحمل المكسّر وتهجم على البحيرة، وكلما تناقص عصير البحيرة كلما زادت أعداد الصراصير المهاجمة، حتى جَفّ العصير والأفواج الأخيرة من الصراصير انقضَّت على وحل "التانك"، وبدأنا نبحث عن ملجأ آمن "طبعاً نسيت أي حاجة فيها يتعلق بشخصي المفقود" وفجأة اختفينا. أو في الحقيقة متنا ولكن عيوننا حية وعيوننا نبتت على الأرض الملأى بالأزرار، بدأت أعيننا تتغَطَّى بإفراز تلك الحشرات ويبدو أنها هاجمت مرة أخرى حقول البامية، والويكة مادة زالقة ذات خواص "سلسيونية"، وبدأت عيوننا تتخلل خيوط "البامية"، وتجر بذورها نحو أنفاق صغيرة تقف على أبوابها ملكات نمل "مُحَزّمات" من أوساطهن يرتدين خواتماً ويضعن على أعينهن من "الماسكرا" خَطَّاً رمادياً بإحساس دقيق "أسترالي". تبدأ الملكات في تناول الخيوط الهلامية الملتزجة بعصير "التانك"، وبقايا حيوانية ونفايات رغوية، وشظايا أنابيب اختبار، وزراير بدلة رسمية، وغطاء كفتيرة عادي، "الجلاي" أو السلك الناعم الذي تجلو به النسوة أواني الألمونيوم، وحقائب سمسونايت ممتلئة من بقايا العصير الذي انقضّت عليه الصراصير. وتدور الأرض، ويبدأ جهاز القوة الطاردة المركزية في فصل البلازما عن الدم، في عروق الجرجير، وتطل علينا ملكة النمل وقد مشطت شعرها، ووضعت على
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
جيوبها كمية من أقلام "الشيني" ذات اللون الأحمر، وبدأت في ترقيم خلايانا ثم وضعنا في "سرويس" كبير، وانهالت علينا بالشوكة والسكين ابتداءً من أمعائنا، وفي اتجاه الصدر. وعندما انغرست الشوكة في قلبي تلفّت على يميني في محاولة حصر قطرات الدم المتساقطة، وعندما لمست قلبي وجدت يداً ناعمة وأنيقة، تمسح برفق على قلبي، أقفز عالياً معقول دي يد نا.... لن تصدق ذلك حتى ولو قلت لك إني أحياناً أحلم.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
كاد جدي الأمير يونس الدكيم أن يتزوّج الملكة فكتوريا، لولا..
في مساء حالك الدُّهْمَة، أظنه مساء الحادي والعشرين من آخر شهور العام 1996م. والضجيج اللافح بالشرر المتطاير من إحدى أدوات القطع، تذكرتك وأنك سافرت دونما استئذان، وأن التأشيرات تُعطى من مكان آخر ليس عندي، وعبارة شُوهد عند الخروج، وأننا كما نظن معجبون بآراء بعض، ولكنك لا تدرين هذا العمق الذي أكتب لك من أغواره الآن، لا أقول إنك تلفظين أقوال شاهد على الحريق، سندعو المطافي. أكتب في ذات المساء الذي ذكرت لك تاريخه، وإني مازلتُ يا رفيقة متعب بهواجس سفر طويل، يستغرق زمناً أطول. عنوان خوفي في ابتعاد توتري، ولكل فنان هاجسٌ ما في أن يفتقد من يحب حتى ولو كان ذاك الفقد سفراً، ولا أظن أني في الرأي غير الأنا، وليس هناك من امتهن مهنة اللون، وعاش بلا هاجس أن يموت وتحيا التصورات والأخيلة، ويلهب وراء كل علاقات اللون وشكل انسجامها، ولا يبوح لك بالسر الذي كان قد أعلنه في إحدى الجلسات. وإنّ السفر في عيون من نهوى ليس بجريمة، وإن الغناء المباح والتغريد ليس حكراً على عصافير بعينها، قابلت صديقتك "غراديفيا" كانت رائعة في ذلك النهار وقبلة، هناك من نحس نحوهم بود وتقدير عميق، تأكد لي أنها صديقتك وأنك ستحضرين تباً لـ"كوستي" في هذا الأسبوع، وأظنك في هذا المساء نائمة على ما يبدو، هذا إذا لم يكن ببلدتكم حفل، ولا أقصد أنك لا تجيدين الرقص. خلعت بنطالي وقميصي الـ"xxl" وكذلك الـ"Western Cowboy" تباً لرعاة البقر بعد كوستي. وأظن أني لبست "الأوفرول" استعداداً لليلة صاخبة مع آلات القطع، وأني قبل قليل عدت من الجزيرة حيث كنت في زيارة لفنان مريض بـ"الباراتايفويد"، وأظنني طالعت جرائد هذا المساء، وتقول عن هذا الفنان المغلوب على أمره في المانشيت "أنباء متضاربة حول إصابة الفنان بمرض ما"، عموماً لا يهم نوع المرض حتى ولو كان "Nephrotic Sendrome" فقط المهم هو أن الأنباء متضاربة.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
وقالوا إن المسيح كان قد وُلِد أمس قبل ألف وتسعمائة وستة وتسعين عاماً، كان يجب أن نحتفل به. كنت مساء أمس ومعي صاحب السمو "معاوية بن حسّان" نعمل بالورشة، وبعدها تناولنا فولاً بالجبنة، ثم يمَّمنا شطر السوق العربي، وجلسنا في إحدى "برندات" الأخوة الصيّاغ، وطفقنا نراقب وجوه المارة. الخرطوم في كل مساء تفوح من ثيابها روائح متضاربة، وخَلّفنا صبية يلعقون ويشمّون "السلسيون" بنهم وبلا انقطاع. وإني في ذات المساء الذي أكتب فيه غافلتُ الجماعة، وتناولت حليباً أبيض ثقيل القِوام، وعلى أنغام "الباسطة" وعدت أشق دهمة المقرن، وأرجّل بنطالي تحتك مع بعضها البعض، وفمي يدندن بلحن عاطفي على ما يبدو يساير حالة التخمة التي أنا عليها. وأنا شبع جداً، وفي الخاطر دائماً أن جَدّي يونس الدكيم من جهة أمي كاد أن يتزوج الملكة "فكتوريا" ملكة بريطانيا في القرن التاسع عشر، فلولا "بيروقراطية" الإنجليز وأنهم طلبوا منه أن يتقدّم بطلب رسمي لكبير "الياوران"، وأن يكون الطلب مشفوعاً بدمغة فئة مائة سنت، ولم تكن مع جدي عملات معدنية، تمتم جدي وتحوقل وتبسّم وقال: "هاي ترا مامره؟" وسحب جدي طلبه. وعاد التاريخ يجرجر أذيال "فكتوريا" مرغماً، وأن العشق يسكن 10th Downing St، و"علي المك" كان يسكن أمدرمان.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
إني ألقاك كثيراً خارج مطارات الحروف وتواتر الحقائب(1)
الناسُ يُسافرون من "دبلن إلى لندن" وآخرون إلى "سواني الشخيب". إني أعشق السفر كثيراً خصوصاً في العواصم المحلية فلي معها شجون وذكريات، وأغاني الحافلات الهابطة. ففي عواصم الضباب يصير الحلم حقيقة، والحقيقة يصعب تصورها في مطار "دبلن" حيث الأناقة في البلاط، والمسافرون بالحقائب القليلة، حاجيات ضرورية وتقنية راقية في عوالم السفر الجوي، والزجاج المظلَّل، فواصلاً تميد خصل الشمس عن أعناق الحسان، المسافرون يعانقون مودعيهم، والمضيفات الجميلات يقسّمن الابتسامات حيثما حللن، ووجبات مغَلَّفة، وعصائر وشطائر من خبز خرافي، وموسيقى لا تدري من أين تنبعث. يقول لي إنه سيغادر غداً إلى "لندن" قادماً إليها من "دبلن"، والمسافة لا تزيد عن نصف ساعة، وإنهم سيحضرون عُرساً سودانياً هناك، وأظن أنهم سيغنون لها "بت القبائل" و"بت القبائل" تحمل جواز سفر بريطاني، ويغنون للعريس "الليلة فرحت أمو" وأمه متواجدة بالريف السوداني، والغناء يحمل تداعيات البلد، ورائحة الجلباب، ومذاق العمامة ومركوب النمر، ووسط تلك التقنية يمكن أن يحدث عطل ما لا أدري ماذا يحدث وراء الزجاج. كنت تواقاً جداً لكي ألحظ كل اختلاجات الوجوه، والهمس يصير لغة عالمية، المشروبات في قناني زجاجية، وأروع ما في المسألة أنك تعرف "البيبسي" ويمكنك أن تقرأه حتى باللغة الصينية. يا وجه "تانا" يحدق خلف نافذة القطار المشرئب إلى الفيافي، تتمني فرصة أن تختلي بالطيوف الباقيات، وتضع سماعة الهاتف متعجلاً، وتغسل ما تبقّى لك من ملابس فغداً تسافر إلى "سواني الشخيب"، يصير الإيقاع بطيئاً ومسكوناً بلون أبي القدح، الله ما أحلى النقوش على أيدي العرائس في زحمة المطارات، إنه سوداني وأنا، وجواز سفري بلون أخضر يحدّقون فيه، وكذلك مهنتي المسجّلة على إحدى صفحاته "فنان تشكيلي".
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
ويحملني "البيكاسو" ذلك البص الأخضر العملاق شارداً من زحمة الخرطوم في اتجاه جبل الأولياء، الناس تعبون ومرهقون ولا يمكنهم أن يتقبّلوا أي طرفة في ذلك السفر المميت، والروائح المختلفة من الأفواه إلى الأجساد، ورائحة الماكينة أيضاً، حنانيك أيها الطيف الذي يسكنني لو تغادر في انفلات البص عن خط المسير، ونصل إلى جبل الأولياء دائماً وكثيراً ويومياً ونمتطي عربات يابانية صغيرة حتى تصل إلى القرية، حيث يقابلك الأستاذ محمد أحمد سالم بشاي تاريخي من زمن صلاح الدين. فعندما تسافر عبر ليل "لندن" ومساء جبل أولياء، تجد الظلام في الأولى يهاجر عبر أضواء "النيون"، والوجوه التي تصفع خدك ببسمات سريعة، ومجاميع من الشبان أطلقوا شعورهم، وانسجموا في فعل أوركسترالي على إيقاع "القيثار" فانساب النغم مفرطاً وكثيفاً يسابق كل لحن إلى عيني "تانا"، ففي "دبلن" المشاهد تغافل الزمن، والطالبات في مدرستها، يرددون فعل "مريم هزي إليك الجزع" ليس لنخلة فارعة بل لشجرة مسكيت. والمسكيت شجر غامض التكوين ذو مناعة مفرطة، جَذَّاب المنظر ومر في حالة المضغ لطالبات المدرسة، المسؤولون يزوروننا أواخر كل عام وقد لا يأتون. كل الخيول الجامحات تلمع أجسادها في محاضرات "الديربي"، ويعرق "الجوكية" ونستمع في كل مساء إلى "زيغي مارلي" "وكيني جي" و"الفيس بريسلي" و"تريسي شابمان". والصلوات مستمرة، وإيقاع الشاي التاريخي وأستاذ الإنجليزي قد يهاجر إلى "قدير". الأجراس في لغة المدارس انتظام يفهم التبريح من رفض السياط على الظهور، أي شي هنا يُغْفَر التاريخ له ذلاته، الطلاب كسالى وكذلك الطالبات، يتوهمون اختراع "البخرة" فعل مباح في كل امتحان. وتظل "تانا" في كل نهار لها ترفل مستريحة في الجامعة، وفي لغات الحاسوب، وخطرفات الجبر، وحِدّة المزاج مع انبساط الروح والجسد، وتقهر كل ضجيج في "School of Math
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
يعلو صوت المدير بعمامته البيضاء وهو خارج للتو من صلاة التروايح، أواني الطعام تصطدم بعضها ببعض خارج حَلْبة الفطور الرمضاني، الناس هنا كرماء جداً، التشكيليون يسافرون كثيراً ويرمون لوحاتهم في أحداقنا، بهتان عظيم أن تنسى فعل اللوحات على الأفئدة. إني ألقاك كثيراً خارج زمن الحروف، وتواتر الأغنيات "أنا في قلبي واحد هو في قلبو مية، ميه لشنو، حنان الريد نسانا، نسانا لشنو" كان هذا مقطع من أغنية للفنان السوداني الراحل "خضر بشير" إننا نحب بإفراط ونسكن أطراف المدن ونسهر حتى بدايات الصباح. ويصيبنا شلل العواصم وملاريا التقهقر، كلها حُمَّى وأفضل الحميات حمى الساكسفون. جميل أن تموت في نهايات القرن العشرين بمرض ليس له علاج، ولكن يجب أن لا تموت بالملاريا لأنها ستحدد موقعك من خارطة الحضارة بأنك متخَلِّف.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
"أم رَوَّابه" يتواصل نزيف التداعي واستنفار الذاكرة
تغتالني تصاوير المدن وأنا آتٍ مسرعاً على ظهر "نيسان" لا يكف عن العواء. "أم رَوَّابه" مدينة تودع دون انحناء. ويأتي التأويل جزافاً من "تندلتي" لكم هجّستني تلك البلدة. تجدني وقد دلفت إلى الحروف أصوغها جزلاً فماذا بربك يا ترى للهائمين في المحطات التي تغدو زفيراً مالحاً، ولا يبقى لديَّ الولاهان إلا أن يُقبل في المدى كل المدن والأغنيات، إني أعشق كل المدن التي ترتدي في عينيها مثل نظارتي. أجيئها دوماً على استحياء، محموماً بهم المبيت، أنا في عادتي الأولى أرتدي نظارتي، وأصوغ ملمح الأشياء باللون المهيب، وللوجوه إشراق ونجوى وانبهار، وتسأل عن جلال الله في أيامه سبعاً، تخامرك الوجوه التي تجني التذاكر أو رسوم العابرات. قد كنت أبدو في خواطري ككل المحرومين من السكون، القلق ضفة أخرى يرسو عليها ذلك البنطون الذي ذكرت لك اسمه من قبل. كنت أخال أن النيل الأزرق قارة مائية تجفل من مرأى الوادي وتنساب عليه دون أن يكلّمني أحد، ما كنت يوماً كلمتني أغنياتي "اللبخات" عامرة بماسحي الأحذية والجند يلمّعون أحذيتهم ترفاً أو جزءاً من تفتيش "القرقول". كنت أدرك أنني في هذه الـ"أم روابه" لن يغمض لي جفن، رغم أنني لم أولد فيها. جزء من المدن تكتحل عيناك بمرآها سراعاً، تكاد تترنح وأنت تمسحها من أعلاها إلى أدناها. مبنى المحافظة كان صارماً في ذاك النهار. وأظن أنه كان في عطلة، عيناها لا تبارح المرسى طويلاً، يا لهول الانتظار. يا أيها القادم إليها من حفيف الشجر وكبرياء الفصول، ثم تغدو في زفيرها المجروح مثل سكِّير تداعى عند ربوة. بشار ما عاد الزمان يغني للطلول وإدمان المآقي للسهر، ولولا شيخي إمرؤ القيس قال قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل، كنت سأقولها في نهايات آخر مونديال القرن، وانبجس دونك أدب جديد اسمه استبكاء المدن، بدلاً من الوقوف على
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
الدمن. غريب فحوى الرسائل الصامتة، وأغرب منها عويل المدن، إن "أم روابه" صكوكاً من البهج المرويّ، وتزاوجاً صرفاً يدعو إلى الإمتاع والتذويق، وإنها تكاد أن تنشأ خيوطاً من دكنة الإسفلت، وكنت أميل في خضوع، ويسبقني انتشائي لكي أجثو زماناً على حافة القضبان، إنني أمضي إلى كل الخلايا وقد سَرَّبتني فجوة الإشفاق.. لا.. لا.. وكيف تمضي المواجع دون أن يكفكف أدمعها التخوف من المبيت على الخواء. وللعابرين كل التذاكر التي يلوح بها كل "كمساري" لحوح. آه لو تسافرين في القلب حتى تنسى حقائبك الملأى من أرق الفصول، وعذابات التأرُّق وحرب الحراز والمطر، وسباق التسلُّح، والأحذية التي أدماها الإسفلت، وليس الأقدام إني أقصد الأحذية المبطّنة علي وزن كلاركس "Clarks". وتحين مني التفاتة، المنحدرات لطيفة وكأنها تشق الجيوب، والخطوات لا تفلح في مرحلة القراءة الأولى، إنَّا نبحث عن "أم روابه" بلا خارطة. إن الأقلام التي لا تعرف الكتابة عن أخاديد المدن ستصدأ. لأنَّ العذوبة تلاحق رفع الصحف وجفاف المداد. التغزُّل في وجه "أم روابه" سورة واجمة، تبحث عمّن يرتلها، ثم يلهث في سياق المفردات. وتدعوك كل حبيبة لكي تبحث لها عن وردة، لا يهم لونها. آه من المدن التي تفلت من زمام الأخيلة، حين يصعب التواتر، ويكثر الرواة، فتُلغى الأحاديث الضعيفة، لتكون "أم رَوَّابه" أبلغ نبوءة وأعز مزاراً، حين يشيخ المغني وهو شاب "أظنك عرفتي هموم الرحيل" ويتشنّج اللون عواءً. كلنا نميل صيفاً نحو خط الاستواء، ونبوح نغماً حين يُعجزنا الصياح "هال.. هج هال" والزفرات أصدق احتراق للجوف في استنفار الذاكرة، والعودة إلى اغتيال التصابي بالتولّه واستبكاء المدن صار ولعاً حقيقياً. إن أكثر الحاضرين في ارتداء الخواطر لهو أنا، فكم من مدن كالنساء سابلات الروح يلعقن المزاج أشعلنني، فكتبت في مهابة البرازخ، أن الأرواح أصدقها فناء هي التي تُطيل العناق لصدر "أم رَوَّابه" حيث المدائن راكعة تصلي في حضرة الإطلاق وأخرى تخاتل في التياع، والمغني لا يكف عن النحيب "والله نحن مع
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
الطيور المابتعرف ليها خرطة" والجواز في "أم رَوَّابه" صالح للحظات كثيرة، والعبور من أعين المارة هو أقرب الطرق لوجداناتهم. وكلمت نفسك من كلامك القديم، وأنك تجتاحها مساء، والأنوار خافتة ووحيدة، والأنجم تلمع في استحياء، و"الدفَّار" الذي يقلكم يحتاج ماءً، ظمأ "اللديتر"، وبطونكم تنشد وجبة ملّحة في ذاك الجو الخريفي المبهر. وفي ذات المساء أزاحت "أم رَوَّابه" ثيابها عن ذاتها، بدت في ذاك الليل كتلا هلامية الإنشاء، النواهد فيها معصرة للزيوت، ومئذنة تنادي على النوَّم أن يتحرروا من نومهم، فتذكروا حمى البرازخ حين يعجز الأموات عن إضفاء شرعة الحضور في يوم انبعاث الأسئلة الكبرى. كنت ماراً بها.. "وادي عشانا" أحصيت بعض منازل من أبواب، ووجوه صبية صغار، وأقمشة ملوَّنة حول أجساد النساء. كل الخصور تنتحل حين تعانق وجه "أم رَوَّابه"، والسواد شعر أو طريق مسفلت تتساوى فيه درجة اللون الرمادي. لأن النوارس غفلت منذ أعوام عن المجئ، وأقلعت عن إفراز الريش في الطرقات، وأعلى هامات "اللبخ" أيها السمبر نحن الطيور ونحن كتاب الصف الثالث الابتدائي، ونحن أصدقاء المزارع. "أم رَوَّابه" محطة توقفت فيها حين كنت أمتطي قطار الجامعة، عائداً من رحلة علمية من جبال النوبة. وقطار الجامعة ديناصور عمره ثلاثة ألف عام، وبعد سنوات من السفر على ظهر ذاك القطار تترَجَّل عنه أحياناً على شكل مسافر آحادي الجزئيات، وحيناً مسافراً ومسافرة بلا حقائب، تضربون في الأرض على وجوهكم حتى يأذن الله لكم بالافتراق، وتحقنان نفسيكما بمضاد للعشق، لأنه في آخر المشوار أكذوبة، ولا يبقى لكما إلا استبكاء المدن خصوصاً عندما يكون اسمها "أم رَوَّابه".
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـر الالوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (الريكمندوما الغطّست حجر التومه) (Re: mustafa bashar)
|
أيها الراحل إلى سنار.. وحيداً
رتل بصدق سور العشق والملاريا "احموا أنفسكم بالنواميس". أيها الراحل في الليل وحيداً، أيها السناري الذي يخط دون علم اليراع أسى المدن، لا تخف أن يكبل جرح ماضيك الأنين، ووأدت بالاصغاء جور دهرك والسنين. وقبلها كنا قد أبحرنا إلى سنار عبر الليل، برهة واستيقظ مارد العشق، وخط سبابته على خد القصيدة نفسها. علميني كيف أنسى مثلما ابتدأ الشجر، حاصر الأنجم فبلّلها الأثر، أي الخدود أسطع من تلك التي لا تعرف الخدوش في وجه سنار. ليس كمثل سكّير ترنّح بوجه "تهارقا"، وغنَّى يا سيدي لك كل ما يرجو الفصول لكي تجيء بانجذاب.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
سنار يا أمل الحروف التي تجلو سناءك بالذهول، غريب في اندهاشك أيها المسافر الوحيد، فإذا الوجوه خامرت شوق الليالي، والكتابات الضائعة تحت ظلال "اللبخ" والرسائل الحيرى تشق دهمة الأفلاك، اللمعان يصير لغة ضائعة في مجرَّة درب "التبّانة". المسابح وحدها ترتل سورة العشق الذي يسري إليك مع الرسوم، وطوابع البريد، وملصقات الملاريا "احموا أنفسكم بالنواميس" وتوضؤوا بزيت "المسرجة". وكأننا قد التقينا كما تقول الشاعرة "ساجدة الموسوي" في بيوت من ضوء الله وهكذا كانت الحضرة شرخاً أزلياً في كبد تلك القصائد. بعيد في انسجامك مع كيمياء الحب الإلهي، وقد نسجنا بإفراط حبك للمدائن يا محمد عبد الحي حين تسفر مشيئة الإمكان عن معنى التوحُّد والخضوع. رباه عشقك قد يجيء تولُّهاً وتودداً. أمسى الزمان يغيب في إنسانه، يا لروعة المحبّين حين يجيء أصيل القصائد، فيكون عناق الحواشي أطهر تعبيراً وأشد معنى كساعة احتضار، يا سنار تزهو القصائد بالرنين ويشيخ إله الغاب تحت أضواء "النيون".
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
كان يتسرب لحنه فينا يبدد حمرة الضيق، وصفار القلق بأنشودة من "كيروسين"، قديم عشق الكهارب حين "يشلع" نور "الرتاين" في الفريق. كان العرس صاخباً، والخلق يمورون ويزعقون، وقدامى الجدات يطلقن الزغاريد، كان أولمبياداً مصغراً لغته فوق إدراك العابرين. ولكل الذين يصلون "سنار" فجأة ويذهبون، أو لو أن سندباداً حملني في بساطه الذي يطير بلا محركّات، وأن أتحدّى قوانين الجاذبية إلى حين، وأغيب في "سنار" أتلمّس خطاي، في هول أزقة القصائد ومنحنياتها، لأجدد ماء الحياة وعبث الدهور، وغيظ الأزمان في برهة عجلى، أي ميعاد فيه يكون اللون أغمق؟ وأي نجوى من الكهان تكون فيها السلوى أعمق؟ فأنا كشجرة الميلاد في "سنار" وقد باحت بأسرار الزهر ويشيخ في النظر المعمّى إكسير حسنك والظروف، نحن تلاقينا هنا مذ طيفك نجمة، سرقت حلم ذياك المعنى بالتعب، وغداً تسافر حيثما اتجه الأمل، مهلاً غرامك سيدي، فأنا في حضرة المعبود قد بعت الأسى، وطفقت أرقب في المدى كل أشرعة هناك، قد تمر في نيلك الأزرق أحبه ذاك النيل مضطرباً ومنتقماً من صخور الشواطئ. والأنّات الحبيسة في صدر ذاك الليل الذي يجفو الحسان، يا محمد عبد الحي في صور
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
القلائد، والجلبابات الخضر. أكاد أن أضيع في دوامة الحضرة نبياً. أي هذا السحر الذي سماه ربك إنني في هسهسات الطبل توقد جذوة الإحراق، وتغتال لهفة المشتاق إلى صدر القصائد بالنحيب المر. وجثوت عند حافة النيل الأزرق ألحظ الناس، هناك يستمكون بعيداً عن لهفتي كرجل يحب موج الأزرق منتقماً، وتكتحل عين الحضور في الطرقات والنساء ملفوفات الأثواب والتكوين. إن أجمل المعابر التي تحمل معها شجن المغني تؤوب إلى "سنار" في عودة الصوفي المعذب، خافض البوح في دنيا تعذبه زماناً علي خارطة الأشواق. الطريق إلى هناك يمر على قلوب محبّة للدفء والتحنان، فسِرْ على طرقاتها متمهّلاً، ودع ما يروعك إلى ما لا يروعك. انتقل بعمق الزمان والمكان، يا "الله في زمن العنف" .. يا "حديقة الورد الأخيرة"، يا كابوساً يطاردني هواه، فأغدو في الأصيل مجنّحاً أحلق مثلما يجيء التهويم في أغطية "المواعين"، وترحل مبتعداً عن ذاك النهر يملأني الخوف، الخوف من شجني فقد يسقطني على موجاته، فتتعلق بي الآمال التي ترجوني حياً، وبعد ذلك صاح فيا صديقي بأن أترجّل عن صمتي، ونسي أني أرسم النقوش على جدران انتظاري. ومضينا في الطرقات نلهب ظهرها بأغنية "الكداري" موسى ونيس، شافعي دفع الله، وآخرون فنانو البلدة أجمل ما في عالم التشكيليين تعبير الوجوه واستدامة
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
النظر والتحديق في الفراغ. لأنّ الفراغ عندهم يعني الكثير، والمثير، ومن أخصب لغات الشجر هو لونك الأسمر، "في صدك وهجرك يا نعيم الدنيا .. حظي زي لون هضليمك .. وانعش لي روحي" المغني في ذاك الوقت أيضاً كان يبحر ليلاً إلى سنار. والكمنجات تذرف شجوها المحزون دفقاً من لحون، ويصدأ نحاس "الساكسفون" والعازفون على الكمان يرتقون جرح موسيقى النحاس ويهربون، لأن عوالم الإمكان جاشت بالنشيد الغض، وفض بكارة النأي الرقيق. ونعود من شارع آخر ومزيد من الوجوه تتساقط علينا، حنانيك قافية العذاب لو انتهى، وأراق كل العازفين لحونهم وتفرقوا، وتركوني أقضي بقية عمرها في خاطري، وبعد ذلك ركبنا "لوري" واتجه بنا إلى "كوستي".
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
"سنار"، عــاصمـة أبديـة للتاريخ
ولمن نحن يا سنار حين ينقضي أمل المجيء، سلام عليك في الألواح والقصائد المعلّقة الحواشي، لا تخضع للبوح. وإني حرقت مراكبي في ذلك المحراب الذي شيدته، وإن خالتي تسكن بحي القلعة، ولم أرَ دون ذلك إلا نشوة الإنشاد لذلك الصوفي المعذّب، الله له حين يستتر الليل، والمغني يعذّب الكمنجات "الله.. الله تقصد شنو؟ ما عرفتها" إنك حي يا محمد يا عبد الحي، وإن نشوة الإحراق لهي جذوة الشوق الذي يأتي منك إليه، موزّع القلائد على أعناقنا ويسكن شوقك في أهدابنا، وتطبب كرائمك جرح ذاك الليل. والكلام يصبح نسكاً وتعاويذاً في تلكم الحديقة، وبصوتك يجيء التداعي أفقاً خافض البوح متوسداً سكينة الإحراق. يا سنار يا أغنية "الزُرّاع" التي تزحف نحو السنابل، ويحصد القمح نفسه ويختزل المناجل. وإن المكائن تخضع طوعاً أو كرهاً حين تغازل فيك هذا الغروب، وحتى "دفارنا" حين يتعطّل يصر والدي- يرحمه الله- إن قطع الغيار في "سنار" يا صاحبة في الزمن الصعب.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
"سنار"، عــاصمـة أبديـة للتاريخ
ولمن نحن يا سنار حين ينقضي أمل المجيء، سلام عليك في الألواح والقصائد المعلّقة الحواشي، لا تخضع للبوح. وإني حرقت مراكبي في ذلك المحراب الذي شيدته، وإن خالتي تسكن بحي القلعة، ولم أرَ دون ذلك إلا نشوة الإنشاد لذلك الصوفي المعذّب، الله له حين يستتر الليل، والمغني يعذّب الكمنجات "الله.. الله تقصد شنو؟ ما عرفتها" إنك حي يا محمد يا عبد الحي، وإن نشوة الإحراق لهي جذوة الشوق الذي يأتي منك إليه، موزّع القلائد على أعناقنا ويسكن شوقك في أهدابنا، وتطبب كرائمك جرح ذاك الليل. والكلام يصبح نسكاً وتعاويذاً في تلكم الحديقة، وبصوتك يجيء التداعي أفقاً خافض البوح متوسداً سكينة الإحراق. يا سنار يا أغنية "الزُرّاع" التي تزحف نحو السنابل، ويحصد القمح نفسه ويختزل المناجل. وإن المكائن تخضع طوعاً أو كرهاً حين تغازل فيك هذا الغروب، وحتى "دفارنا" حين يتعطّل يصر والدي- يرحمه الله- إن قطع الغيار في "سنار" يا صاحبة في الزمن الصعب.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
إن المدائن يعشقها أبناؤها وأهلوها، ولكنني أشكّل من ملوحة الصلصال تمثالاً لذلك الشهاب. حين تخر جذوة الإحراق في وجداننا وقد أبحرنا إلى سنار عبر الليل، وحبيبات المسابح تصطك ببعضها، ويرتجف جسدي الموهون والمدهون من عشق المدائن. وإن الحبيبة سنارية، والحكمة سنارية، والرواق الأزهري، كان طافحاً بشراً وحلوى وسمسمية. وإن الطواقي والمناديل في كل محطات قطار الغرب، حينما كان يُسمّى قطاراً، والمناديل مشفوعة بتوقيع الأحرف الأولى لذلك الحبيب الغائب، ولصديقنا د. نادر خوجلي، كناقد اقتحمنا "سنار" ذات صباح على صهوة "الدفّار"، ودائماً ما أكتب التداعيات، وتجيئني الأشواق على ذلك المارد الصغير "الدفَّار" ابن عم "النيسان"، ومن تلك العائلة المكتنزة أطفالاً خلاسيين "ميتسوبيشي"، وكنا مساء أمس نجتاح مدينة تلو الأخرى. وتزودنا بماء كما قلت سابقاً، ويتواصل نزيف التداعي عند استنفار الذاكرة بـ"الحصاحيصا"، وغادرناها بعد أن ارتوى ذاك المارد الصغير، وفي الصباح حوالي العاشرة، قلت لسائقي فلنزور ذاك
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
"سنار" يا أمل اللقاءات العابرة على مرفأ المقاهي على ذاك الطريق الموحش، سلامات يا محمد عبد الحي وعلى الآداب، سلام على اختلاس النظرات الرقمية، ترقد الأنامل وادعة على ملمس "الكيبورد"، مذهل ذلك العبد الذي اسمه "تكنولوجيا". وحي القلعة كانت ترتاده طيوف صلاح الدين، القلاع رائعة وهي تحمي "أمدرمان" من زخَّات مدفع المكسيم، ويموت "محمد أبو لكيلك" وتُولد ألف قصيدة على ملاعق ذهبية من فم ذلك السناري، يا حديقة الورد الأخيرة يا "الله في زمن العنف". مرفوع من التفويض في مهابة الإطراق، التجلي يسبق الحضرة، ويسوقنا التاريخ قُدَّامه قطيعاً من الحفاة لنبكي في حضرة الإطلاق، ويبيعنا بعد ذلك لكلية الهندسة أو العلوم. لا يهمني التحول أو التهويم في وجه المدن. لا أدري لماذا اختارت الحكومات ذلك اللون الأصفر الذي تطلي به جدران مبانيها؟ إن قطيع الماعز الذي يملكه مواطنون جوار الجامع من احتكاك الأغنام على الحائط، خط بلون أبيض لا أدري هل هو لون الطلاء الأول أم لون الصوف؟ وأسميك للتاريخ يا سنار عاصمة أبدية، وإن الشوارد من النصوص تتوافر في ذلك السوق، وفي وجوه المارة متسكعون أولئك الأطفال في الروضة، والزي اللبني يخطط وجه الميدان غبطة وانشراحاً، ما أجمل الأطفال في سنار كوجه القصائد، وهم يحملون حقائبهم المحمولة على الظهر، وتأتي إلى "سنّار التقاطع".
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
كنت أبيت ليلة هناك قبل أعوام مع أحد أصدقائي من كوستي، وكان قد أتى خاطباً لغادة هناك، "ريبا" الهوائي يلفظ إشارات ماسخة، وتوجيهات لكل بقاع العالم من سمع منكم نداءنا على الموجة الفلانية، لقد سمعت استغاثة من سفينة في عرض البحر كان ماجلان على ظهرها، نحيي كل القلوب المُحِبّة للسلام على كوكب الأرض وجماعة السلام الأخضر وسفينة قوس قزح المحارب "Rainbow Warior
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
إننا نبحر إلى سنار عبر الليل، يستوقفني أحد الحراس لتلك المغارة. كان الظلام دامساً يلف وجه طفلتي، واتكأت على وسادة الأشواك، حتى يصل لتلك المجنونة صوت تأوهي، إن عمق الجِراح في نفوسنا تلك التي تصنعها دهشة المدن، والزواحف "الممكننة" والوجوه التي تصافحك سريعاً، وهي تبسم بشاشة على ظهر ذلك الطريق المسفلت، إن أجمل الوجوه تلك التي تسافر معنا، وفي أحداقنا، وعلى نفس ذلك الطريق، إنها مواكب تصوغ دهشتنا في عوالم فوق مستوى إدراكنا، وإدراك كل الخلائق، سبحان من خلق المدن وهي تبدي محاسنها ولا تُبالي.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
وخوفي "مسبحة" و"تمائم"، والحافلة تخترق الطريق الجبلي وصوتها يمزق نياط الفيافي. وتسافر بلهفة من تلقى أو من تقابل، وأنت تعاين المشاهد، باهر طعم المدن وأنت تحاول أن تجيئها من جهة "كوستي". المخافر لا تنوم والأطفال يطلبون ماءً باستمرار، ويفرزونه على ثياب أمهاتهم، والبسكويت لا يرتاح إلا على أناملهم الغضة. فعندما تسافر سفراً طويلاً أو قصيراً، عليك بدعاء السفر، فلا تكلِّف نفسك كثيراً لأنَّ السائق يكون قد علق ملصقاً بهذا الخصوص على زجاج العربة أمامه، والفرق كبير جداً في السفر بين حالتك الآن وأنت طالب جامعي سابق، وقلنا سابقاً إن المخافر لا تنوم، والمساعدون يهرولون نحو المخافر بإيقاع بين الجري والهرولة، ومعه حركة من الكتوف والأرجل تلمس الأرض لمساً، والصديري منفوخ بفعل الهواء المعاكس لاتجاه الجري الخرافي.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
الخرطوم بعد العاشرة
سيناريو متخم بأحداث غريبة وشاذّة ولا يتخذ وضعاً مُرَتَّباً أو منطقياً في ترتيب أحداثه. البداية كاميرا في وضع أفقي تمسح شارع القصر من بداية شارع "بيويو كوان"، وحتي بوابة القصر حيث المنحوتة البارزة التي توضح رجلاً وإمرأة، يحملان مناجل مسجية على أعناق السنابل. أرتال من الناس والمارَّة في ذاك المساء يهرولون في اتجاهات مختلفة، مبتعدون عن مركز السوق العربي، يظهر مارة متطلعون يحملون كتباً وحقائباً معلقة على أكتافهم، منهكون ويحاولون أن يكونوا في حُلَّة رسمية، قميصاً وبنطلوناً وأحذية مهترئة يعوزها مسح الورنيش. موكب من المارة، كل شخص في اتجاه المواصلات التي ستأخذه إلى جوار سكنه، لم نقل منزله لأنَّ منزل كلمة أشمل وتحوي أسرّةً دافئة ومياهاً نقية، وجوّاً صحياً، ولا مظاهر لوجود براغيث أو بعوض، وإضاءة موزونة وغذاء متكاملاً وصحياً. الظلمة تعم المكان إضاءات تم تركيبها حديثاً، تحاول أن تبث الضوء بحكم جدتها إلى أبعد مدى بلون أصفر ساطع، تحوّلت وجوه المارّة إلى "مانيكان" متجولة، القيمة تصر أن تكون موجودة في الشوارع الجانبية، وأعلى أدوار المباني والعمارات غير المكتملة الإنشاء، وحركة مريبة تدور داخل أروقتها، وداخل مجاري الصرف الصحي، تستضيف سكاناً جدداً كل يوم، نزاعات مختلفة ومتفاوتة في شدتها بين صبية وشبان أكبر سناً منهم.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
أشباح متباعدة هنا وهناك، أشخاص واقفون يتربصون بشئ ما، أم هي حالة الدوار التي تعتريهم؟ في النهار بوصف الناس كلهم بأنهم جيدون، وأخلاقيون ويتعاظم إحساسهم بالناس والدين، هم يكادون أن يكونوا موسيقى تجري في جداول تلاصق المباني الفارهة بعيدة عن المياه الآسنة، والمجاري التي يسكن فيها أنصاف مشوهين ومعوزين ومدمني "السلسيون". نساء يتضاحكن في ثياب وغير ثياب، وفي بنطلونات طويلة الأرجل والأجل من قماش "الجينز"، وبلوزات وأقمصة زاهية، ينمو هذا النوع من النسوة جوار "الأستوب" وعلامات المرور، تتطاول الشعور، وتتقافز الأثداء تطل من وراء زجاج عربات فارهة، وضحكات تم حبك رنينها بمهارة. تبقَّى القليل من رواد "سينما كوليزيوم" من عَبَدة الطرقات، يتناومون حول الحدائق من الخارج، ينتظرون خروج الروّاد.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
الخرطوم عاصمة إفريقية مثل "جوهانسبيرج"، الناس لهم أجواء خاصة، خصوصاً المتنفذين هم في النهار جنس خلاق وطاهر، وفي الليل جنس يتحرَّى مواطن الانحلال، والتباري سمة بارزة في إقامة الطقوس واستطالة أطوارها وأدوارها. أحضان وهياج ونغم وظلمة لا شيء يقف أمام دوافع الناس والمارة إلا نقصان ما تمدهم به جيوبهم من نقود، النقود تصنع الدفء بالأجساد والرؤوس المغضنة بالتعب. الشوارع تأتي من خلفها آخر ما تبقى من حلقات الرهان، ومجموعات النصب شارع الحوادث جوار مستشفى الخرطوم، شارع ممتلئ بقامات مختلفة وثياب
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
جانب آخر من هذا الشارع، أناس مُعَمَّمون يدفعون أمامهم نقالة عليها جسد مسجّى خارج من المستشفى لمقابلة الأخصائي، الذي طلب استضافتهم بالمستشفى، يتقدم أحدهم منك مقدماً لك روشتات مطبَّقة ومهترئة الأطراف، لفرط ما تسوَّل بها. شارع له رائحة خاصة وزوَّار خاصُّون به، من الأرياف في عنابر الولادة والأطفال، وحضريون في عنبر الصدر والقلب، التخمة ظاهرة حتى في المرض. المبنى الخاص بالمستشفى متسع وعريض ومضاء بأنوار باهرة، وعليه أسوار عالية ومحروس بكثافة، والتخطي فيه ممنوع لبعض البوابات، والرحمة غائبة، الرحمة في السماء فقط! الرحمة غائبة! يتواصل استعراض غير خفي للملابس الزاهية بين مرافقات المرضى والمرافقين في العنابر. وفي فناء المستشفى، فهم الشخص السوداني عادة أن السوق قدح النبي. يمكن أن تبدأ خطوبة فتاة من المستشفى، وتنتهي بمنزلها، المستشفى أحد الأسواق التي تعقد فيها صفقات مختلفة.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
"الهلالية" أغداً ... ألقاك؟
"أي هذا السحر الذي سماه ربك أنني" ولكم جهدت لكي أرى يا سيدي، ولكي أعي معنى المثول. شتات ما بين المريد ومن يراد، ومن أشربوه الصرف من معنى الوداد، النيل شاهد على القضية، ويظل هو الشاهد الوحيد، رغم الشجيرات القصيرة التي تُدرك جيداً أين هي الآن؟ ولأي بقعة طاهرة تُنسب، وأي تاريخ نحن بصدده الآن، النيل الأزرق كان هائجاً ومضطرباً في ذلك اليوم، لأننا كنا نأتي لأداء مراسم عزاء، كنا مشبّعين بالأسى، مثلما يحدث دائماً للفقد المفاجئ للأحبة، للمرافئ الآمنة.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
فمشهد ميلاد المد يعني دعوة صريحة لعشق يتجدد، آمال جسام مثل ذلك الكتاب المسمَّى "Great Expectation"، لكن الناس لهم ظروفهم وإحباطاتهم وضيق ذات اليد، ورموز لا تنقطع وزخارف ونقوش حتى عاداتهم تشكيل، لكن المسخ العام الذي أصابها هوى الاغتراب والبحث عن السعة في العيش ما أضرَّ بالعادات والتقاليد ومحى التراث، لكن التراث "وينو". المشاهد أحياناً تأسف أن تلاقينا بما تبدو به، لكن تلك الهلالية وعي آخر وضمير يصحو في منتصف الليل، ويغدو التعبير للمسبحة العامرة بآلاف الحبات، والجلبابات الخضر، والتقويم الأزلى، السيماء البادية على وجوه الناس من ورع وصفاء، لا تعكر الأمزجة ولا يصدأ نحاس الطار. ويعتكف العباد سنينا في الغار، على بلحات وفصوص من ثمار القرض.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
ونحن في عصر اليوم نبتعد عن الزلط ورائحة الإسفلت، والحافلات التي ليس لها شجون، كل ما يهم سائقها (يا حاجة الفهم دا ما "ياباني" لكن اللوري هو "الياباني") تتساقط عليك كل اللعنات واللهجات والعينات "طبعاً يا هفصة دي الخديقا بتاات الحيوان، أي هيوان يجي بأد السااه هداشر، يتقطق لمن يأرف هاجة، وده النمر بأد الأسد توالى، كان أتاخر برضو الأسد بتقطقو" كان يصف لها حديقة الحيوان، وأن الأسد ملك الغابة، وأنه وأنه يبدو أنه كان يتحدث نيابة عن الأسد كانا يجاوراني عندما مررنا بجوار الحديقة، فانبجست تلك الضحكات، ضحك كل الركاب حتى الحافلة تمايلت من ضحكاتهم.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
دعنا من الخرطوم وحكايتها الممجوجة على أية حال سافرنا إلى الهلالية، وأخذنا موقعنا على الضفة الغربية ريثما تؤوب المعدية من الضفة الأخرى، تناولنا جوافة طازجة، ولم نهتم بتلك الوصايا: أن اغسلوا الفواكه بل تناولوها، على أية حال هي نصيحة طبية. والوقت ما قبل الزوال، والموج يهدر على تلك الضفة المتسعة، والجانب الآخر من النهر مجموعات من الناس، تتقاطر وتتزاحم وتتفرَّق لا تميزهم إلا الجلابيب والبنطلونات، والجو أغبش، والعلالة في السماء ونقصد بالعلالة يا "فراهيدي" الغبار، الغبار وعلى أبعد تقف الخيول وتهش بأذنابها علينا تكاد أن تقبلنا على هاماتنا، تستقبلنا الدهشة حين نجيء، ونحن نستقبل دهشتنا فرحين ومسرورين سعداء يغشانا التهويم، وست "أم كلثوم" يا ليل ياعين، يسمعونها تردد "أغداً ألقاك" و"أنت عمري" لا يفضحنا شيء، ولا يظهر مما نبطن إلا حبنا للآداب، والأدب سلعة غالية وكذلك امتلاك مهارة القريض، واجهات البلدة والبلد تستبطن تشكيليين يرسمون من فضاءاتها كل ممتع وغريب.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
نخليكم تجروا نفس شويه سمحوا لي في هذا الاثناء ان اقدم الشكر الي الآتيه اسماؤهم الذين وقفوا وراء هذا الجهد المتواضع . شكرا لأستاذي بروفيسور عبدالباسط الخاتم -تشكليلي واستاذ مشارك بقسم التلوين كليه الفنون الجميله والتطبيقيه علي كتابه المقدمه والرسوم الداخليه . - شكر خاص للشاعر والكاتب السوري نوري الجراح الذي اجاز طباعة الكتاب رغم انه لم يطبع حتي الآن. - شكر وفير للروائي السوداني الشهير محسن خالد الذي قام بمراجعة النصوص . - شكرا للتشكيلي موسي ونيس احمد والي الذي رسم لوحة الغلاف . - تصميم الغلاف التشكيلي السوداني جمال الدين الامين محمد عبدالله - الهلاليه .
اهداء اول: - الي روح والديّّّّّّّّّّّّ - الي اصدقائي في مشارق الارض ومغاربها - الي مجموعه نادوس الثقافيه بالامارات . - الي اصدقائي مجموعه الديم
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
الأخ العزيز محمد المصطفى الطيب بشار
التحية لك مقرونة بكل الود والشوق الدفين
كم هو فخر أن تتحف دواخلنا بهذه الإبداعات.. كم هي الفرحة أن نراك تحلق في سماوات الأدب الرصين..
Quote: ما زالت ليالي كتابي حبلي قلت انزل منه قليلا قليلا تذكروا ان السودان وطنا جميلا يحمل في داخله درجات من التنوع تحير فيك ايها تكتب وايها تختار؟ تتواصل المدن عند حافة التلاقي |
الأيام حبلى بالمزيد من إبداعاتك يا مصطفى.. وأنت تخرج من غارك تسرج الوحي.. نبيا تنشر الإبداعا وتسوقه لحنا مترفا بثرِ عطاءك
فلك التحية يا أخي
عبدالعزيز
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
وتسوقنا تلك الجياد المطهمة، والحوزي يُلهب ظهورها بالسياط لتكون في المقدمة، والمقدمة ليست سهلة على تلك الجياد لأنّ الطريق طويل، ومقدمة البلدة أبعد من أن تألفها عيونك للمرة الأولى، وفي الشاطئ الآخر تخال أن البيوت رديفة للنهر وملتصقة به ولا تحيد عنه، وتكون أقرب إليه منا، ونحن الوافدون للمرات الأولى نأتي متأخرون، ليتنا حضرنا قبلها لتستقر المشاهد في الأفئدة، مثل فيلم سينمائي قديم "Police always comes too late" والحوزي يستفز الحصان بمزيد من السياط، يخب الأرض خباً، يعدو بنا كما في حلبة السباق. "المضامير" أجملها هنا حيث كل الوقائع تجري بعفوية، والأحصنة لا يعلفونها جرعات منشطة، كل
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
المشاهد هنا حقوق النشر محفوظة للبلدة، والناس طيبون مثلما أخواي "جمال" و"معاوية الأمين" يكرمونك بوفرة وطيب نفس. أتتنا القهوة تمشي وفوح عبقها المميز، و"الشغال" و"الشرقرق" والفناجين وجلستها المعتبرة، كل ذلك لا يخرج من حمى الطقوس والفناجين تمشي إلينا، ثم نردها خالية، ونلحس سكرها المتراكم في القاع، و"نتمطَّق" في السر فجوهره حلوى. في الوهلة الأولى تظن أنه "أمازيغي" من عروش القبائل في "تيزي أوزو". وما هو " بامازيغي". وتقول في سرك لا بد أنه أتي من جمهورية "أنقوشيا" بلاد المستحيلات التسع، لا أعرف من أحصاها ولكنه غشي برورها، واستوطن حيث العمارات قد ربطوا لها "شوك أبزوربر" أو قل بالعامية الميكانيكية "مساعد ياي". و"مساعد الياي عمرو ما ببقى ياي" وأجاد "الهيريقانا" التي تشبه الحيرقان في ترادفها، وهي الكتابة اليابانية أو ذلك الحد من اللغة الذي يتوجب على أي شخص الإلمام به، وأجاد التقاط حبات الأرز بالأعواد الخشبية الصغيرة وخيطاً "أرزيا" من الصحن إلى فمه كخيط من "الدُّبَارة" في غلظته. صديقي جمال يوسف، ولدته "الهلالية"، وعصفت به الأشواق إلى "أوساكا" إحدى كبريات المدن اليابانية بعد العاصمة طوكيو، فامتهن حرفة تدريس اللغة الإنجليزية لمن يطلبها في ذلك الجو الزلزالي المرعب، إلا أنه بنهم، تعلم منهم اليابانية، فأوشك أن يكتب بها شعراً. لسعته سياط التكنولوجيا كإفريقي وفد إلى هناك وسيرة الإفريقي في الشرق البعيد، ليست محمودة في أنه يمكن أن يموت بدون أدنى سبب، وأنه سريع العطب ويموت بسهولة ولا يحتمل، واليابانيون لا يموتون إلا منتحرين أو في حوادث سير أو هزات زلزالية، وأوفياء إلى الحد الذي دفع بالسيد "ما سانوري أيتو" صديق شقيقي "الكبير" أن يمطرنا بالرسائل، ويدعونا إلى حضور زواجه في مدينة "هيروشيما" ونحن "قاعدين" في كوستي على بعد 500 كيلو متر من العاصمة السودانية الخرطوم.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كتاب سفـــر الالــــــــــوان- مصطفي بشار- كتابه عن مدن سودانيه (Re: mustafa bashar)
|
التشكيلي عبدالعزيز عيس سلامات يارائع الوانك تظهر حتي في حديثك عد الينا لنراك من قريب متوشحا خضر الثياب وانت ترفل في المدي انت تشرق كالسنا تحياتي لاخوتك التشكيليون الهادي عيس ومحمد عيسي اتزكر شارعكم الذي اكاد ان اسميه شارع التشكيليين اين التشكيلي جلال محمد احمد والتشكيلي كمال خميس وكل الاحبه الذين غادروا عالمنا وكل الاحبه الذين يسافرون تحياتي لك
| |
|
|
|
|
|
|
|