|
قراءة فى واقع التعليم الحالى..هل يعمل لاعداد قادة المستقبل؟
|
* رغم توصيات البنك الدولي الا ان التعليم غير الربحي أخذ يشهد طريقه بقوة * كثير من الدول النامية ربطت بين العلوم الجامعية والعلوم التطبيقية وتخلت عن منهج التلقين. * البحث العلمي الحر مغيّب فكيف نحقق التنمية؟
ملحق اعلاني من ثلاثين ورقة مرفق مع مجلة نيوزويك عدد 17 يوليو 2007م الصادرة باللغة العربية اصابني بالحزن على واقع التعليم العالي في بلادنا. فالملحق يروج لافضل 50 جامعة في العالم ورغم أن الملحق يسوّق لبرامج الجامعات باتجاه ان يدفع الطلاب للالتحاق بها مقابل رسوم، الا ان روح الدعابة لم تستطع ان تخفي روح الاحتفاء بالعلم والعلماء، باعتبار العلم هو الطريق الوحيد للتحديث وتحقيق التنمية البشرية المادية للمجتمعات واذا كنا الآن نتطلع لتحقيق الديمقراطية والتنمية والسلام، فهل يستطيع التعليم العالي بواقعه الحالي ان يؤهل الكوادر العلمية التي تمثل مفتاح الوصول لتلك الاهداف، ام نحن بحاجة لوقفة لوضع معالجة جذرية لوضع التعليم بما يفسح امامه المجال للقيام بدوره الرائد؟ هذا التقرير محاولة للاجابة على ذلك السؤال. خياران أمام التعليم: يسود اعتقاد في كثير من المجتمعات بان التعليم يواجه صعوبات عدة خاصة في الدول النامية التي تدخل البنك الدولي في اعادة هيكلة اقتصادياتها، والدفاع باتجاه ان تقلل الحلول من الاعباء المالية المترتبة على ميزان مدفوعاتها للتعليم، وافسح ذلك المجال للقطاع الخاص للاستثمار في مجال التعليم العالي. ولكن منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي طرح السؤال بقوة حول الخيار امام قطاع التعليم الجامعي بين الربحية والمجانية. ومنذ ذلك الوقت بدا ان التعليم غير الربحي يشق طريقه بقوة. ويأتي ذلك من حقيقة ان الجامعات هي اداة المستقبل لتوفير الكوادر العلمية التي تقوم على اكتافها النهضة الاقتصادية وهي بمثابة معامل الاكتشافات العلمية، وتوفر البيئة للابداع العلمي والتكنولوجي وألفكري. وفي الوقت الحاضر ما عادت الجامعات مؤسسات محلية، اذ اصبحت الجامعات عالمية الطابع، فهي تذهب للطلاب حيث هم يقيمون، كما تبعث بطلابها لارتياد مناطق مختلفة من العالم لتهيئتهم لمهن عالمية، وتقدم مواد دراسية تتناول تحديات العالم المترابط وبرامج بحث تعاونية من اجل دفع العلم الى الامام لمصلحة كل البشر كما جاء في مقدمة ملحق النيوزويك. ومهما كانت طبيعة الذهنية التي تبشر بذلك وطبيعة مرجعيتها الرأسمالية فان العلم وتطوره يمثل عماد اي تطور غض النظر عن وجهته الاجتماعية. ان البلدان التي تربط بين التعليم وصناعة المستقبل تدرك ان طلاب اليوم هم قادة المستقبل، فعل سبيل المثال يجري تنظيم منتدى التبادل الامريكي الصيني في جامعة ستانفورد الذي يديره الطلاب الذين جرى اختيارهم لمناقشة العلاقات الصينية الامريكية مع خبراء بارزين، ويتم تبادل الاراء وسطهم عبر الوسائط الالكترونية المتطورة، ويقف من وراء ذلك هدف محدد، وهو ان يتيح ذلك الحوار امكانية فلقد جسر التفاهم بين قادة المستقبل المحتملين. لقد ادركت البلدان المتقدمة ومنذ بداية الثورة الصناعية ان التغييرات التكنولوجية هي المصدر الاساسي للنمو الاقتصادي وارتفاع مستوى المعيشة ولكن في السنوات الخمسين الاخيرة اصبح التقدم التكنولوجي يعتمد على التقدم العلمي وممارسته التطبيقية، ونتيجة لتفوقها في مجال العلوم كانت الولايات المتحدة الرائدة دوماً في الترويج للتقنيات الجديدة المهمة بدءاً من الكمبيوتر الكبير والدائرة المتكاملة في ستينيات القرن الماضي وصولاً الى البنية التحتية لشبكة الانترنت والبرمجيات التطبيقية في تسعينيات القرن الماضي، ويجري مباشرة الربط بين العلوم الجامعية والتطبيقات الصناعية وتسير على ذات الطريق كل من الصين واليابان. واخذت الجامعات في تلك البلدان في التخلي عن منهج الحفظ والتلقين واستبداله بالتفاعل في قاعات الدراسة الذي يشجع الطلاب على التفكير بشكل مستقل. لذلك ليس من المستغرب ان نجد الدول الصناعية تنفق 3% من اجمالي الناتج المحلي على البحث العلمي. وتأتي الولايات المتحدة في مقدمة البلدان التي تحتل جامعاتها موقع الصدارة فالجامعات العالمية العشر الاولى تتضمن ثماني جامعات امريكية، اضافة لاكسفورد وكامبريدج، ومن بين الجامعات الاربعين التالية نجد اثنتن وعشرين جامعة امريكية، وخمس جامعات بريطانية وخمس جامعات سويسرية، وثلاث جامعات كندية، وجامعتان يابانيتين، وجامعتين استراليتين وواحدة سنغافورية. ولعل الاهم من ذلك كله ان المفاهيم حول التعليم في حالة مراجعة مستمرة، فلقد اخذ شعار أن التعليم ليس بضاعة ويجب الدفاع عنه كخدمة اجتماعية أخذ يحتل مكانه من جديد عقب موجة اعادة هيكلة الاقتصاديات ووصفات البنك الدولي حول تكلفة الخدمات الاجتماعية فنجد ان روز ماري بلوز الامينة العامة لمبادرة التعليم للجميع في معهد البنك الدولي اكدت احتمال تعثر (56) دولة في تحقيق اهداف التعليم للجميع بنهاية عام 2015م وان التمويل واحد من اربعة عوائق اساسية تقف في طريق تحقيق هذه الاهداف، وأخذ الخيار القاضي بتبني التعليم غير الربحي يشق طريقه بالعمل على إعادة إحياء مفهوم التعليم غير الربحي والمستعار من النجاحات التي حققها قطاع المنظمات الاهلية، والواقع ان اكبر دولة رأسمالية وهي امريكا تملك تجربة حية حول قطاع التعليم غير الربحي اذ توجد بها حوالي مائة جامعة تقدم خدمات تعليم غير ربحي وتستفيد الكثير من الاسر الامريكية من المنح التي توفرها هذه الجامعات، بل ان الجامعات المرموقة والتي تحظى بالسمعة العالمية مثل هارفرد وستانفورد وبيل ودوك وغيرها صاح هي جامعات اهلية غير ربحية انشئت من قبل مؤسسات وافراد واصبحت لها اوقاف واستثمارات ضخمة مما جعلها تتطور وتصبح من اهم مراكز التدريس وإعداد القادة السياسيين والاقتصاديين في الولايات المتحدة. وعلى النطاق العربي تقف الامارات العربية المتحدة كنموذج عربي لتبني ذلك الخيار، اذ بادرت الجامعة الامريكية في الشارقة في العام 1995م بتبني مفهوم غير الربحية في التعليم الجامعي وتبعتها بعد ذلك العديد من الجامعات، ويقول د. سلطان بن كايد القاسمي رئيس مجلس امناء جامعة الاتحاد في أماراة رأس الخيمة (إن مفهوم غير الربحية القائمة عليها جامعة الاتحاد يتجاوز قضايا استدامة القدرات التشغيلية للجامعة من خلال إقرار رسوم دراسية متوافقة مع هذا الامر، بل يمتد الى تقديم منح للطلاب غير القادرين على الالتحاق بالتعليم الجامعي مما يساهم في توسيع نطاق التعليم في الامارات، ونحن نشهد اقبالاً متزايد من الطلاب للالتحاق بجامعتنا). ويقول الرئيس التنفيذي لجامعة ابوظبي على بن حرمل الظاهري: نعمل باستمرار لردم ألفجوة بين المخرجات الجامعية ومتطلبات سوق العمل. تزايد في أعداد الطلاب ماذا أعددنا لهم؟ وفي السودان تتزايد عاما بعد عام اعداد الطلاب الذين تتاح لهم فرص القبول بالجامعات الحكومية والاهلية، فلقد حددت ادارة القبول للجامعات هذا العام 200 ألف مقعد لمؤسسات التعليم الحكومي والاهلي من جملة عدد الناجحين البالغ عددهم (250) ألف طالب وطالبة، كما حددت نسبة 5% من مقاعد الجامعات لابناء الولايات. دفعة جديدة من ابناء وبنات السودان يملؤهم ألفرح بالنجاح ويحلمون بالتأهيل تطلعاً لمستقبل أفضل، فهل يجدون ما يتطلعون اليه بالنظر للحال الماثل للجامعات؟ التعليم كأداة تمكين: لن يكن العلم وحرية البحث العلمي هماً لدى الحكومات الوطنية المتعاقبة، ولكن حكومة ما بعد الثلاثين من يونيو 1989م نظرت لساحات العلم باعتبارها أداة جيدة لترسيخ آيديولوجيتها، وتصفية الحسابات مع المعارضين. وجرى ذلك بعدة خطوات، فبعد حوالي خمسة اشهر من تغيير النظام تم الاعلان عن ثورة التعليم العالي وكان أهم اهداف تلك الثورة: التأصيل النابع من المعتقدات والموروثات الاسلامية العربية والافريقية. أسلمة المعرفة واعداد قيادات فكرية مؤمنة بربها ومتمسكة بعقيدتها وتراثها الحضاري، ووضع برنامج للتعريب وادخال مقررات في الثقافة الاسلامية واللغة العربية في كل الكليات، مضاعفة القبول في الجامعة الحكومية، تشجيع قيام جامعات جديدة تحت شعار جامعة لكل ولاية، الغاء نظام السكن والاعاشة المجاني وفرض رسوم مالية عليها، تشجيع البحث العلمي، والنشر وتوجيه برامج التدريس والبحث للاهتمام بالبيئة المحلية وحاجات المجتمع واعتماد اللغة العربية لغة التدريس في مؤسسات التعليم العالي. والواقع الماثل الآن يوضح ان كل تلك الاهداف تم تنفيذها بدقة، عدا البند الخاص بتشجيع البحث العلمي والنشر مع ملاحظة ان البند تفادى الاشارة لحرية البحث العلمي تلك الكفيلة بتحقيق الهدف من العلم. كما قنن قانون تنظيم التعليم العالي لعام 1990م سيطرة الحكومة على مؤسسات التعليم العالي فمنح وزير التعليم العالي والبحث العلمي صلاحيات واسعة لاخضاع مؤسسات التعليم العالي لاشرافه المباشر وله سلطة الاشراف على كل التعينيات الادارية والاكاديمية بالجامعات واخضع المجلس القومي للتعليم العالي لسلطة رأس الدولة بل اصبح لوزير التعليم العالي سلطة تحديد الاعداد المخططة للقبول مع تشاور غير ملزم مع ادارات الجامعات، وهو عملياً غير عابئ بالامكانيات العقلية المتوافرة لتلك الجامعات كما يقول مهدي امين التوم في ورقة أعدها حول تنظيم التعليم العالي في السودان لمؤتمر (مستقبل التعليم العالي في السودان) الذي نظمته رابطة الاكاديميين السودانيين في القاهرة 1998م. البحث العلمي.. تغييب معتمد: لقد كتب الكثيرون عن الاثار التي ترتبت عن سياسة التعليم العالي التي وضعت اسسها حكومة الثلاثين من يونيو، ولكن من المهم الاشارة الى الحساسية العالية التي تستقبل بها حكومة الانقاذ أي درجة من النقد لتلك السياسة حتى ولو جاء النقد من داخل المؤسسة الحزبية للانقاذ. جاء في مداولات اعمال اللجنة التحضيرية لمؤتمر (واقع ومستقبل التعليم العالي في السودان) ان دكتور مدثر التنقاري أُقيل من منصبه كمدير لجامعة الخرطوم بعد اقل من عامين من توليه المنصب لعدم قدرته على السير في تنفيذ تلك السياسة الى نهايتها. اما دكتور مامون حميدة والذي كان احد اشد المتحمسين لسياسة التعليم العالي تلك فلقد كتب في صحيفة الانقاذ الحكومية بتاريخ 21 مارس 1994م يقول (أصبح ماثلاً للعيان ان ما قصد به تفجير ثورة التعليم العالي لا يعدو ان يكون مجرد معاول هدم لا تبقى ولا تذر من موروثات هذه الامة من جامعات ومعاهد عليا يشهد لها بالتمييز) وتعرض لقضية هجرة الاساتذة الجامعيين قائلاً (اذا استمرت هجرة الاساتذة على هذا المنوال فاننا نجد انفسنا في وضع لا يمكن تلافيه وسنضطر لان نستعين بطلبة السنوات النهائية في الجامعة لتدريس اخوانهم بالسنوات الاولى). وعند تصاعد النقد لثورة التعليم العالي تمت اقالة وزير التعليم العالي د. ابراهيم احمد عمر، وعُين احد اساتذة جامعة الخرطوم من غير المنتمين لحزب الانقاذ الدكتور عبد الوهاب عبد الرحيم بدلاً عنه، وكانت المهمة الاولى التي اضطلع بها الوزير وبموافقة من الحكومة ان قام بتعيين لجنة من كبار الاساتذة برئاسة الدكتور مدثر التنقاري بتاريخ 2/6/1996م كلفها بدراسة الاوضاع الاكاديمية والمالية والهياكل التحتية وتجهيزاتها بالجامعات الجديدة، كما تم تكليف لجنة مماثلة لنفس المهمة للنظر في أوضاع الجامعات الاهلية والخاصة، وحينما اصدرت اللجنة تقريرها في نوفمبر من ذات العام قام الوزير بتقديم خلاصة من التقرير للمجلس الوطني،واعلنت اللجنة عن مؤتمر صحفي في اليوم الثاني من ديسمبر لعرض خلاصة التقرير. غير ان المدعوين فوجئوا بمحاصرة القاعة المعدة للمؤتمر والغائه بواسطة الاجهزة الأمنية التي قامت بمصادرة نسخ التقرير منهم، وأُعلن في اليوم التالي عن اعادة تعيين الوزير السابق الدكتور ابراهيم احمد عمر وزيراً للتعليم العالي. ويوضح ذلك مدى حساسية الانقاذ تجاه نقد سياسة التعليم العالي تلك المرتبطة بالتمكين الإيديولوجي لسلطتها. والواقع ان ذلك التقرير الذي اثار حفيظة الحكومة كشف حقيقة الاوضاع بعد مرور سبع سنوات على تطبيق ما أُطلق عليه ثورة التعليم العالي، فلقد اشار التقرير للعجز في تمويل الجامعات. موضحاً ان جملة ما تلقته الجامعات الجديدة للنصف الاول من العام 1996م بلغ 2.6 مليار جنيه مقابل 6.5 مليارات لنفس ألفترة اي بنسبة 39.4% واقترحت اللجنة ربط القبول بالجامعات بتوفير الاعتمادات الضرورية لها. كما أُشار التقرير إلى وضعية الاساتذة مبيناً (هناك من منح مرتبة علمية تفوق تأهيله وعطاءه، وهنالك كثير من حديثي التأهيل بدرجات الماجستير والبكالريوس قد أُسندت اليهم مهام ادارية على مستوى رئاسة الاقسام وعمادات الكليات، بل وكُلف البعض ممن لم تتوفر فيهم خبرة سابقة بمهام اكاديمية او ادارية قيادية على مستوى رئاسة الجامعات. واشار التقرير الى ان شروط خدمة الاساتذة محبطة وطاردة ومتدنية مقارنة بشروط خدمة فئات اجتماعية اخرى. كما تطرق التقرير لسكن الطلاب في الجامعات فاشار الى ان السكن وباستثناء وجود مستويات جيدة في عدد قليل من الجامعات، إلا أنه معظمه عبارة عن عنابر سكنية او فصول بالمدارس المتوسطة او الثانوية تم تجفيفها مع ازدحام الطلاب في العنابر، في وجود بيئة سكن غير صالحة مع الافتقار للاشراف التربوي، كما تعاني معظم الجامعات الجديدة من نقص كبير في الكتب المنهجية والمراجع والدوريات كما ونوعاً. اما البحث العلمي فلقد اشار التقرير الى ان الجانب البحثي أُسقط من حسابات كل الجامعات الجديدة وأن المعامل البحثية لا وجود لها في هذه الجامعات ناهيك عن تجهيزاتها. تلك هي بعض ملامح عامة من التقرير الذي صودر بواسطة الاجهزة الامنية منعاً لان يقف الرأي العام على حقيقة أوضاع الجامعات الجديدة. وغنى عن القول ان واقع الجامعات بعد مرور اكثر من عشر سنوات من إعداد ذلك التقرير لم يختلف ان لم نقل انه مضى للأسوأ. وعلى ذلك فان اي حديث عن التحديث والتنمية والديمقراطية لن يجدي ما لم نبدأ باصلاح جذري لنظام التعليم العام والعالي وعلى اسس علمانية بحيث تشق المؤسسات التعليمية طريقها مستقلة وبمنهج يهدف لخلق عقول حرة تملك القدرة على الابداع والابتكار والتفرد. ودون ذلك سنبقى في أسفل قائمة الامم المنغلقة والمنكفئة على ذاتها.
|
|
|
|
|
|
|
|
|