|
الإنقاذ.. سلطة بلا دولة.. د حيدر ابراهيم علي / الصحافة
|
مقال جدير بالأطلاع كعادة مقالات د حيدر ..
الصحافة اليوم7/7/2007
الإنقاذ.. سلطة بلا دولة
احتفلت حكومة الإنقاذ بعيدها الثامن عشر وهي في أسوأ احوالها، اذ جاء الاحتفال مباشرة بعد قبول آلاف من القوات الاجنبية ـ بغض النظر عن أية تسميات تخفي حقيقة وجود قوات غير سودانية على التراب الوطني السوداني. فقد كان الوطن خالياً تماماً من أية مظاهر نقص السيادة الوطنية رغم ضعف الحكومات الحزبية وحرج موقفها من الحرب الاهلية الدائرة. وتقلل هذه الحقيقة من صدقية أي حديث عن الانجازات؛ لأنها من كبائر التراجع الوطني، إذ لم يعد الاستقلال الذي ناله السودان مثل صحن الصيني بالا شق ولا طق ـ كما وصفه الزعيم الازهري ـ اذ ماذا يجدي الحديث عن النفط والاتصالات والطرق، وقد فقد الوطن مظاهر العزة والسيادة الوطنية. ورغم ان النظام كان يدرك خطورة وجود القوات الاجنبية ورفض شفاهة، إلا انه تراجع عن الموقف المبدئي. ويعود ذلك الى فقدان النظام التأييد القومي الذي يمكن ان يسند قرار الرفض. فالشعب والقوى السياسية معزولة تماماً عن ابداء الرأي والمشاركة في اتخاذ قرارات وطنية مصيرية تخص وجود ومستقبل الوطن وضمان استقلاله. السؤال: كيف أوصلت الانقاذ البلاد الى هذا الوضع المزري؟ من البداية جاءت الانقاذ لاقامة دولة الحزب الواحد وليس دولة كل السودانيين، وبالتالي حددت مبكراً مصير دولتها الناقصة. فالدولة تمثل عقل الامة ـ كما قال هيجل عن نابليون ـ وبالتالي تجمع كل المواطنين دون انحيازات عاطفية وغير موضوعية لاصحاب ايديولوجية معينة او دين او عرق. وجوهر الدولة عموميتها ورعايتها لجميع المواطنين بلا تفرقة واحتكار الامتيازات. فالدولة أب عادل يرعى كل ابنائه. ولكن الانقاذ بدأت بفصل المواطنين بسبب الانتماء السياسي تحت قانون الصالح العام. وهي تسمية مضللة؛ لأن المقصود الصالح الخاص جدا، أي مصلحة الحزب وتأمين سلطته الجديدة. وبدأ ضعف الدولة مع اختلال جهاز الدولة ـ الخدمة العامة او المدنية ـ اذ فقدت الفعالية والكفاءة في اداء مهام الدولة. فقد فضلت الانقاذ ما يسمى أهل الولاء على حساب شروط التأهيل والكفاءة والخبرة، وهذا خلل يصيب كل مرافق الدولة:- الاقتصاد، التعليم، الامن، الصحة، الثقافة.. الخ. علما بأن الجبهة الاسلامية القومية التي انقضت على السلطة صباح 30 يونيو هي حزب اقلية لا تملك اكثر من 5% من اصوات ناخبي عام 1986م. وهذا يعني انها لا تملك الكوادر التي يمكن ان توزعها على كل السودان، لذلك، تقلد مناصب جهاز الدولة كثير من غير المؤهلين بالاضافة لمؤهلين انتهازيين يخدمون نظام الجبهة دون ان تشركهم في اتخاذ القرار. رفع نظام الانقاذ شعارات ضخمة وأعلن عن مشروع حضاري اسلامي سوداني، ونصب نفسه كأول نموذج لدولة اسلامية في العصر الحديث، ولم يكتف بالسودان بل بشر العالم بتصدير نموذجه الحضاري. وكان تأسيس المؤتمر الشعبي العربي والاسلامي في ابريل 1991م هو الخطوة العملية لتكوين اممية اسلامية يحتضنها السودان، فقد ظن الاسلاميون عقب حرب الخليج ان الازمة الثورية قد نضجت وهم وحدهم القادرون على قطف ثمار هذا الوضع. وتبرع سودان المشروع الاسلامي بالقيام بمهمة استنهاض الامة الاسلامية والعربية. وكان للدولة الجديدة وجهها وتوجهها الاسلامي المعلن للجميع، واعتبرت ان المرجعية الايديولوجية النهائية للنظام بدءًا من تطبيق الشريعة حتى اعادة صياغة الانسان السوداني واسلامية المعرفة واسلمة البنوك. ونحن لا نتحدث هنا عن حقيقة مضمون هذا التوجه، ولكن ما يهمنا ان اختيار النظام كان واضحا ومحددا، بغض النظر عن التطبيق. الآن، نحن امام مشكلة حقيقية حين نحاول تعريف طبيعة النظام الحالي، فمن المعلوم ان اي طالب علوم سياسية حين يسأل عن طبيعة اي نظام قائم يستطيع ان يعطي صفة او سمة. فهل نستطيع تحديد طبيعة النظام الانقاذي؟ هل هو اسلامي ام ليبرالي ام شمولي ام ديمقراطي؟.. هل هو اشتراكي ام نظام اقتصادي حر أم مختلط؟ لم تعد هناك طبيعة سياسية للنظام، ولا يستند على أية ايدولوجية اسلامية او علمانية، ففي السنوات الخمس الاولى، كان النظام يعبر عن محاولات لأسلمة الدولة والمجتمع، وان يجاهد في الجنوب وان ينافح امريكا التي دنا عذابها، وان يجلد محمود عبد العزيز. ولكن الان ماذا تبقى من الايديولوجية الاسلامية للنظام؟ وكيف يعرف ويصنف النظام نفسه؟ وهذا وضع غريب ان تعجز عن معرفة طبيعة النظام السياسي الذي يحكمك، ويشاركك النظام نفسه في جهل طبيعته! ولم تعد هناك ايديولوجية سائدة لسبب بسيط هو ان حزب المؤتمر الوطني يتسع للجميع، وبالتالي هو جبهة فضفاضة مفتوحة للمسلمين والمسيحيين والاحيائيين. كما يمكن لأية مجموعة ان تنسلخ عن حزبها وتتحول بعد ساعات الى مؤتمر وطني. ظهر غياب طبيعة النظام والايديولوجية في المواقف المتناقضة والمتذبذبة التي ينتهجها النظام. فالدولة لم تعد تملك سياسة خارجية واضحة لفقدان البوصلة الفكرية، فقد رفعت الانقاذ في البداية شعارات العداء لأمريكا بسبب الحماس الايديولوجي، ولكن نفس هذه الدولة تعلم عداء أمريكا لها وتآمرها عليها ، ومع ذلك يصل التعاون او التنسيق الاستخباراتي حدا بعيدا، وقد صرح احد المسؤولين الامريكيين ان السودان اعطاهم معلومات في مجال الارهاب اكثر مما توقعنا وطلبنا حسب قوله. ويجهد السودان نفسه من اجل تحسين العلاقات مع امريكا ولكنها تتمنع وتزيد في المطالب والشروط. اضمحلت الدولة على المستوى الداخلي حين خصخصت الخدمات، وهذا واجب أية دولة: تلبية الحاجات الاساسية من تعليم وصحة وسكن وترفيه للمواطنين. وهذه الوظيفة هي التي تكسب الدولة هيبتها وسط المواطنين وتجبرهم على الارتباط بها واظهار الولاء لها. ولكن حين تغيب الدولة في كل هذه المجالات، فالمواطن لا يحس بها وهي بدورها لا ترى مواطنا. والعجيب في الامر ان المواطن يحس بوطأة سلطة تجبى الضرائب وتبيع خدمات الصحة والتعليم، ولكنه لا يرى دولة. اذ يفترض في الاوضاع العادية ان تكون الجهة التي تأخذ الضرائب والرسوم هي التي تقدم الخدمات في نفس الوقت. ولكن المواطن يعيش هذه الحالة الشاذة: عليه واجبات وليست له حقوق. تفسر النقطة الاخيرة عنوان المقال، فنحن لا نعيش تحت سلطة دولة تعامل مواطنيها بالمساواة والعدل وتسعى لرفاهيتهم ورفعة الوطن، ولكننا نعاني تحت سلطة السلطة بلا دولة، وهذه مهمة تقوم بها اجهزة تستمد شرعيتها من نفسها وليس من الشعب. لذلك، فسؤال والله نحن ما عارفين منو البحكم السودان؟ تعبير حقيقي عن حيرة المواطن السوداني والذي اصبح رعية يحكمه راع خفي، يحس بسلطته ولكن لا يستطيع أن يلمس حقوقه.
|
|
|
|
|
|