|
حلاوة القرطاس وبلدوسة بت بنداس ..!!
|
خالد الشيخ
غمرتني السعادة عندما علمت بأن صحيفة (السوداني) وملحقها الأسبوعي أصبح يحمل على ظهور الإبل قاطعا الفيافي والرهود والوهاد والقلوع مما عاد للأذهان ذكرى طيبة حينما كان الراديو يحمل في خمسينات القرن الماضي على ظهر الهجين ويشدو فيه الخالدون أمثال كرومة وسرور والكاشف وعبد الحميد يوسف وأبو داؤد وغيرهم، الشيء الذي أثر على حكامة الجراري والتي صدت أحد خطابها بقولها:
يا أب قرشين تُر غادي وجاتك عيناً صادي
كل قصدي ومرادي نسكن البيت أبو رادي
لذلك تملكني إحساس بالفخر عندما هاتفني الأديب الباحث دوليب محمود دوليب قبل يومين من قرية الشراتي التي تقع شمال مدينة النهود لاسيما وأن ذلك قد كان في حضرة المغنية الشعبية المشهورة بمنطقة حمر الشاعرة (فاطمة ابراهيم بنداس)
المشهور بـ(بلدوسة) وهي شاعرة ومغنية أغنية (حلاوة القرطاس) والتي لزمتها الفنية أندريا كما أشرت في مقالي السابق من خلال العدد الأسبوعي بصحيفة السوداني وقد اشادت تلك المغنية بتناولي للأغنية ولكن عندما سألتها عن سبب تسميتها ببلدوسة قالت بأن كلمة بلدوسة عند الحمر تعني الرقيقة الطويلة ذت الشعر الأسود الطويل وكذلك تعني الجرداء من الشوائب أي الصافية علماً بأن الشاعرة بلدوسة من أسرة حمرية من الغريسية وقد ولدت بمنطقة الشراتي شياخة (فرح الدور محمود) الملقب بـ(حِبو) ولها أخوة معروفون بالفراسة والشجاعة ومنهم المرحوم الضي الملقب بـ(دود الغابة) والمرحوم محمود وهو سائق عربة تجارية وكان صديقاً للسائق المشهور كباشي راشد الذي مدحته الشاعرة المرحومة (حبيبة بت حمدان) في رائعتها (كباشي كان برضى) ومن إخوانها أيضاً (جمعة) والذي يقيم في منطقة فاصول، ووالدتها هي (ماكنة بت ضي النعيم) موجودة بالنهود وقد رحلت بلدوسة وأسرتها في عام 1960م إلى منطقة (عديد عبد الرازق) وذلك بسبب الزراعة وتزوجت وأنجبت أولادها خلال الستينات من القرن الماضي وتعتبر من أشهر مغنيات الجراري بالمنطقة. ومن زميلاتها المغنيات اللائي غنن معها (أم جور بت عمر ابو دقل وفاطمة حبيب الله مفرح وعمتها فاطمة بت حبيب وفاطمة التجاني وآمنة حميدة ود جابر ومستورة بت عبد الخير وأم جمعة محمد نور سلامة وقسمة بت بورة والشيكة بت عمر وغيرهن) وكان يصاحبهن بالكرير مجموعة من الشبان منهم (عبد الله الدودو وعبد الله ود مفرح وأحمد سليمان قريب وأحمد جاد السيد والضي ابراهيم) وقالت بلدوسة بأنها غنت أغنية حلاوة القرطاس التي لزمتها اندريا في عام 1962م وذاك إبان بداية حفر الآبار بالمنطقة بواسطة عربة الجيولوجيا كما أشرت سابقاً، وتقول بأن مربع الأغنية الأساسي والذي كانت تبدأ به الأغنية تقول فيه:
الفقراء يا الفراس خاطاكم فوق الراس حلاوة القرطاس الفي الخشيم تتماص اندريا
وكان الكورس من خلفها يردد أحياناً مفردة (أيوا عشان كده تيرابا بنضما) وأوردت بلدوسة في حديثها المطول للأستاذ دوليب بأن أغنية حلاوة القرطاس كانت في زمن الشباب وأشارت للفقراء الذين قصدتهم ومنهم جد حمر (حمد أبو الساري) والذي ذكره الشاعر المرحوم عبد الله الكاظم في قصيدته التي غناها البلوم المطرب عبد الرحمن عبد الله (بسطونة الببيع إلبل) حيث يقول الشاعر:
بسطونة الببيع إلبل شبه خله بجي بقدل
الشيك المن مصر جابو ومن لندن عني موسكو
شيخي يا ابو الساري تجيبو لي في جواري
ولعل ذلك كان في عهد الرئيس المرحوم عبد الناصر عندما كانت حوالة الإبل في ذلك الزمان تأتي للسودان عن طريق موسكو وذلك للعلاقة الطيبة بينه والروس والتي تغيرت في عهد الرئيس أنور السادات بعد حرب الاستنزاف في عام 1967م، ومن الفقراء الحراس الذين أشارت لهم بلدوسة (الفكي الطاهر ود سلومة وفكي أيوب وأبو ماطي الرقيق وحامد ود عيسى) وذلك حسب اعتقادها بهم حيث وضعتهم بمنزلة التقرب إلى الله بأن ينجدوها في تحقيق أمنيتها في الزواج والذي وصفته بـ(حلاوة القرطاس) وربحه أولادها وقد قالت بلدوسة انفعالاً في البداية:
قول لي خالد خليني نتكلم عشان المسكينة ما تندم
كلام الريدة ما بنتم شوق وعذاب فوقا الهم
وذلك بعدما عرفت بأن الفنانة نانسي عجاج غنت أغنيتها تلك ومعلوم بأن فنانات الجراري فيهن الكثير من الحماسة لذلك يجيء اهتمامهن بالحق الأدبي كحق أصيل يجب إبرازه لذلك قالت بلدوسة:
يا خالد قول ليها قبال المصيبة ما تجيها كان بقّت حواليها تحرق اليابس كمان فيها
ولعلها ارادت أن تحملني رسالة للمطربة نانسي عجاج عندما قالت:
يا دوليب شنو المصيبة الجات اندريا غنيتها معايا بنات
دريب اللهيجة الفات الحي معــاي ما مات
وقد ادخلت المغنية بلدوسة بعض أغنياتها ضمن أغنية حلاوة القرطاس بلزمة اندريا وذلك بمصاحبة زميلاتها والكرارين ومن بعض المقاطع التي لم يرد ذكرها في المقال السابق قولها:
لمّو ناس الدين والفقراء الصالحين الأمراء يا المارين قولوا بس آمين
مطيرق الليون عاجبني فيهو اللون الدهب المفتون برقاً شلع في عيون
العويلا يا الفراس ما تكترو الدواس الزول ############ احساس كان مات اخير من حاس
دنقر فويطرا كشم زاد قليبي عشم الليد البتكلم ما سرحو بي بهم
فركة القرمصيص وراها كابي الديس يا الشلتي كلامي رخيص قلبي وراكي هريس
حلاوة القرطاس همك عمل هلواس برجلتي لي الراس قريافاً عايز أمباس
ولأن منطقة الأبالة والغنامة بدار حمر والكبابيش ودار حامد تعتبر موطناً للجراري لذلك ظهرن مطربات كثيرات منهن الشاعرة والمغنية الكباشية (حنانه بت احمد ود شيخ عبد الرحمن ) والتي ألفت وغنت الأغنية المشهورة (أم قجة) وذلك قبل أن يصدح بها كروان كردفان المطرب (صديق عباس) وهي أغنية مرحال مشهورة تتناول مسارهم في الشتاء عندما يتجهون شمالاً حتى منطقة الجزو في أبو سفيان وفي الصيف يتجهون جنوباً صوب بحر العرب بالمسارات في شرق دارفور ويسمى ذلك المسار بالشريط الأحمر لما فيه من مخاطر وصعاب وذلك طلباً للماء والمرعى خاصة وأن تلك المنطقة يوجد فيها قش السنقد والسعدان والحنتوت والبغيل الذي تحبه الإبل لذا قالت الشاعرة حنانة:
طالت بيك المدة وجافت بيك أم قجة الزول أبو سناً فضة مالو السلام ما برده
عدن بيكي شواقر وفاتن بيكي أم بادر يا ربي الظاهر قادر دمعي اللجَّ بوادر
الدعاش الهب وجانا شايل نفوحو سمانا آه لو يطرانا ريدك كلاش جبخانة
يا الكملتي أم بادر يا الفلستي التاجر وكم كاتلالك راجل في الوادي المتكاجر
كما توجد الشاعرة والمغنية (قسم الله بت بور) في منطقة رغيوة بدار حمر والتي شدت بأغنيات جميلة منها:
المطر الكب في الأبيض أب قبة السلف أبو حبة في خشيمي ما غبّ
المراح الفي الجبيل رهيداً منيل نيل نزرع الهبيل عديدنا هناك عديل
حظي القبيل مهل وداني لي ام عسل الليد خفيف نحل من تركة أبو دقل
قدنك دواديب في الشراتي ما قريب نشرب الحليب في حلة ود دوليب
ومن غنائها الجميل في العشق والشجن أغنية الليمونة والتي تفتتحها بقولها:
الليمونة المحروسة في قلوبنا مدسوسة البنية المعروسة الساكنة في سوسة
المنقة والاناناس مروية بالإحساس يا وليدي ود الناس ريدك بقالي اساس
الشدر الضليل تحتا رتع الريل ود عمي دا السجيل نتعدي معاهو عديل
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه لماذا لم يجد الجراري حظه في الانتشار على المستوى العالمي رغماً عن ثرائه في مجال المفردات والألحان والإيقاع والرقص كما حدث ذلك للمردوم وكل إيقاعات البقارة بصفة عامة؟ ويرى الأستاذ المطرب عبد الرحمن عبد الله وهو أحد الذين غنوا على ايقاع الجراري بأنهم كمغنين لم يقوموا بنشر هذا الغناء على المستوى الدولي كما فعل الدكتور المطرب عبد القادر سالم الذي طاف أوربا بألحانه وايقاعاته الشعبية المصحوبة برقص المردوم والدرملي، لذلك وقف الجراري في محطة الاستماع فقط لكن الباحث الأستاذ دوليب محمود دوليب يقول بأنه عندما كان بحاراً في اليونان في ثمانينيات القرن الماضي كانت لهم فرقة شعبية من أبناء حمر في أثينا وكانوا يقيمون ليالي ساهرة في الاحتفالات والمناسبات الاجتماعية ويترجمون بعض أغنيات الجراري والكدنداية للإنجليزية واليونانية خاصة أغنية (الكنيتة) والتي تقول:
يا أرنب الكنيتة يا حرامية الليلة وين مبيتة مبيتة في الكنيتة شايلة الريدة خيتة
ويرى الباحث دوليب بأن أهل الريف لم يعرفوا اتصالاً بالمدينة إلا متأخراً حيث كانت تأتي لوازمهم للريف مباشرة في سالف الزمان لذلك ظل الجراري حصراً على سكان البوادي ولكن الاغتراب جعل أبناء المنطقة يحملون معهم أشرطة الجراري والتي فيها الكثير من التحنان. ويقول دوليب بأن الخواجات في اليونان أعجبهم الكرير في الجراري لذلك ظنوه منبعثاً من آلة موسيقية وليس من حناجر الكرارين. ولم يتأكدوا من تلك الحقيقة إلا عندما شاهدوا الجراري صورة ماثلة أمامهم والذي أعجبهم فيه الحركة المصحوبة بالأداء والرقص، وقد ساهم الجراري في عودة الكثيرين لأهلهم لأنه أدب المحنة وذلك مثلما قالت الشاعرة آمنة محمد دوليب وهي ترجو من زوجها دوليب محمود أن يعود لأهله وبيته عندما قالت:
الغربة ما بتندار عاصر عليها الحار بنركب الطيار ومنقادم أبو نزار
كما كان لدخول الآلات الموسيقية على ايقاع الجراري أثرها البالغ لاسيما وأن الجراري على عدة أنواع منها (العوالي والحرد والعنقالي والحنبيلي وغيرهم) ولأن الحماسة تمثل أساس نظمه لذلك ألفت الشاعرة بلدوسة بعض المربعات القوية عندما قرأت مقالي بجريدة السوداني قالت فيها:
جابو لي الأكايد ليهو القليب عايد اسمي القبيل قايد في نشرة الجرايد
نس ناسي الفوق الراس داير حجب قاس يا نانسي كفاك خلاص سببتي لي هلواس
جابو الكلام مدروس منقرش ماكلا السوس كما العليّ بحوس الامريكان يدوسو الروس
جابو الكلام مكتوب زاد العليّ مقلوب أصل القبيل منسوب حرق حشاي يا دوب
الشراتي دار جدي فيها الحمام بدّي كان دايرة لي ودي أرجوكي عني أتعدي
ولأني أعرف صفاء ونقاء الحكامات ومغنيات الجراري لذلك يلزمنا ان نحفظ لهن ذلك الحق والذي هو عرق وخدمة يمين لاسيما وأن غناءهن الجميل ينسرب للدواخل ويشجي الأعماق بدون كلفة وتصنع لذا يحتم علينا الأمر الاهتمام بالتوثيق وجمع ذلك الموروث حتى لا يندثر ويصبح نسياً منسيا خاصة وأن التراث الغنائي هو ما واكب خمسة أجيال بمعنى أكمل فترة القرن من الزمان، و يعتبر غناء الجراري ملكا لمؤلفيه وكل ما نرجوه ألا يحسب الناس بأن كل أغنية مجهولة الهوية والمصدر هي أغنية تراثية والصحيح أن الأغنية التراثية هي التي تخرج من قالب شعبي وفق الآلة والكلمة والإيقاع مصحوبة بحياة الناس وقيمهم الفاضلة.
|
|
|
|
|
|
|
|
|