التفاصيل الكاملة لرحلة العلاج والمعاناة والتى قام بها الراحل مصطفى سيداحمد الى موسكو
يقول مصطفى بنفسه عن رحلة العلاج :-
شكرا لكل الاصدقاء الاوفياء الذين تابعوا ويتابعون معي هذه الرحلة المضنية ..وهي بدأت عام 1979 حيث اكتشفت اني مصاب بحالة تسمى " بوليسيستك كيدني "وعرفت ان الحل الوحيد في النهاية هو زراعة كلية . ومن حينها صرت أعالج أموري بناء على ظروفي الشخصية فليس لي شقيق يمكن أن يتبرع لي بكلية ، وفي العام 1984 سافرت للقاهرة والفحوصات فيها أاكدت من جديد ان لا علاج الا بزراعة . وتوصلت بعد ذلك الى ان رقماً فلكياً يقف بيني وبين هذه العملية ، ففضلت الاحتفاظ بهذا الأمرعلى المستوى الشخصي فلم أطلع عليه قريباً او صديقاً مراعاة لوالدتي واخواتي حاسباً الا أسبب لهم شعوراً بعدم الامن ، وكان لابد من جمع المال اللازم للعلاج ،
ومن حسن الطالع ان بدأ غنائي ينتشر ويُفهم ويجد رواجاً متواصلاً ، وذلك كان ثمرة لجهود فنية وتجريبية بدأت منذ العام 1978 وتفاءلت بأني قد انجح في حل مشكلة العلاج مما يعود لي من الحفلات العامة والتسجيلات ، وبالفعل نجحت في تدبير بعض المال على أيام الديمقراطية الثالثة ، الا ان انقلاب يونيو 89 بدأت معه كثير من المضايقات أحياناً بترغيبي في مسايرة النظام فنياً وأحياناً بتلويح سوط الارهاب :- فمثلاً عندما كنت أستعد للسفر الى روسيا للعلاج مُنعت الدعاية للحفل الاخير في أجهزة الاذاعة والتلفزيون وكل الصحف ، وبتحرينا عن السبب عرفنا أن سلطات الامن أمرت بذلك ولم نيأس بل نشرنا دعايتنا شفاهة وعلى ملصقات صغيرة وعلى ( التشيرتات ) التي لبسها بعض الطلاب والشباب
<
< وياللذكرى >
>
المهم ان الحفل تم وسجل نجاحاً معقولاً واضطرت سلطات الامن للتنازل عن محاولاتها لالغاء حجزنا بقاعة الصداقة ، وكان لابد من تمويه ما .. لاتمكن من السفر فأعلنت في نفس الحفل أني سأقيم حفلاً آخر بعد اسبوع وفي نفس المكان وفي اليوم التالي كنت وزوجتي في المطار حيث دبر أمر خروجنا بعض الاصدقاء وطرنا الى روسيا تاركين طفلينا بالسودان ، وبعد ثلاث اشهر تمكنا من الحاقهم بنا بموسكو …
**********
يواصل ويقول صديقه معاوية سليمان الذى كان هو المرافق لمصطفى فى رحلته الى موسكو فى والتى غادر اليها فى اول يوليو من العام 1990
بعد ان غادرنا مصطفى الى روسيا طلباً للعلاج ترافقه زوجته بثينة مع طفليه وبعد وصوله كان دائم الاتصال بى لمتابعة كل ما يتعلق بإجراءات علاجه من القمسيون الطبى واقامة حفلات يخصص عائدها لصالح علاجه , وبعد عدة أسابيع إستكملنا المبالغ المالية وبواسطة بنك السودان تم اعطائى شيكين أحدهما بإسم مصطفى والآخر باسم بثينة على ان يتم الصرف للمستفيد الاول ...
ويتابع معاوبة :-غادرت السودان لروسيا فى اكتوبر 1990 وكان مصطفى بانتظارى فى المطار رغم برودة الجو .وفى اليوم التالى بدأنا فى أولى خطوات صرف الشيكات بعد أن طلبت المستشفى توفير المبالغ المالية ولكن فشلنا فى صرفها لأن البنك الوحيد الخاص بإستلام العملة الاجنبية هو بنك التجارة والخارجية الروسى والذى أوضح أن مسالة صرف المبالغ قد يستغرق شهوراً لا سيما أن الشيكات موجهة مصرفياً عن طريق لندن , وكنا أمام خيارين إما سفر مصطفى وزوجته الى لندن للصرف خاصة وأن الشيكات كانت للمستفيد الاول فقط أو الخيار الثانى وهو العودة للسوادن وإستبدال الشيكات بأخرى سياحية , ذهبنا للسفارة البريطانية فى موسكو ولكنها رفض منحهما تاشيرات وعليه لم يكن أمامنا الا الخيار الثانى وعدت أدراجى من موسكو الى السودان , وبعد شد وجذب مع بنك السودان نجحت فى تحويل الشيكات الى سياحية ,
وكان مصطفى قد أوصانى بأن اذهب لاسرته بود سلفاب واطمإنهم عليه واحضار بعض اللوازم مثل الويكة والكركدى والملوخية المجففة كما طلب منى إحضار كمية معتبرة من الفسيخ , المهم عدت الى موسكو وكان مصطفى حينها فى غاية الفرح خاصة عندما وصلته اخبار والدته الحاجة ست الجيل وظل طوال الليل يقوم بتوجيه دعواته لكل السودانيين فى روسيا والطلاب لحضور الوجبات السودانية التى أحضرتها معى ,وبالفعل بدأت الوفود تتقاطر علينا يومياً , وبصبر يفوق حد التحمل كانت زوجته بثينة تقوم بإعداد الوجبات على مدار اليوم داخل المطبخ والابتسامة لا تفارقها ابداً رغم أنها هى الاخرى كان لها برنامج علاجى لعدة اسابيع .
بعد ذلك إستهل مصطفى الفحوصات تحت اشراف الطبيب المختص الذى وجهنا له الدعوة لتناول للعشاء السودانى وكان ان فوجئ بأن مريضه هو واحد من أشهر الفنانين السودانيين وقدم له مصطفى فاصلاً غنائياً بالعود الامر الذى زاد من إعجابه ..وظل مصطفى رغم الآلام يلبى كل طلبات المقيمين هناك ويملا برامجهم من خلال جلسات الاستماع .. ويقول معاوية أن مصطفى قد أتقن جزءاً كبيراً من اللغة الروسية لزوم الاستخدام فى المواصلات والاسواق وكنا نركب المترو فى تنقلاتنا ,أما اذا اصطحبنا سامر وسيد احمد فالروس يحبون الاطفال وتجدهم يقفون لاصطحابنا فى طريقهم
وبعد أيام وجهت لنا الدعوة من بعض الطلاب للحضور الى جمهورية "طاجاكستان "وتحديدا عاصمتها "دوشامبى" وفى الطائرة إشترى مصطفى زجاجة عطر وكرافتة وبعدها أعجبت احدى المضيفات بالعود الذى يحمله مصطفى وتحت إصرارها بدا مصطفى يغنى والتف حوله الركاب الروس وأبدوا إعجابهم بالمقاطع التى غناها مصطفى على هذا الارتفاع الشاهق ,
المهم وصلنا ووجدنا البرنامج معد لمدة 5 ايام زرنا خلالها معظم المعالم الاثرية بالاضافة الى مشاركة مصطفى بالغناء وفى طريق العودة بالطائرة ايضاً وبالقرب من موسكو فوجئ الركاب بخلل فى الطائرة حيث لم يستطيع الكابتن انزال العجلات وظل فى حالة دوران حول المطار وساد الهلع والزعر وسط الركاب مما دعاهم لترك مقاعدهم وأنا ايضاً معهم .. ماعدا مصطفى سيد احمد.. كان الوحيد بين الركاب الذى ظل جالساً فى مقعده بكل صلابة دون أن يحرك ساكناً .. وبعد هبوط الطائرة بسلام سالت مصطفى عن شعوره وقتها فقال ببروده المعهود
وكأن شيئا لم يحدث " سيب الجرسة يا خواف
"
بعدها قمنا بزيارة الى مدينة لليننجراد بالقطار فى رحلة كانت اكثر من رائعة ..
وفى يوم الثلاثاء الموافق 21/3/1991 رن جرس الهاتف ليلاً وكان الطبيب الروسى وقد أخبرنا أن الكلية المطلوبة قد وجدت وهى لحسناء روسية فى الثامنة والعشرين من عمرها وان علينا ان نحضر غداً باكراً لاجراء العملية .ولم ينم مصطفى فى تلك الليلة وكان فى حالة من البهجة والسرور لم نراها عليه من قبل وفى الصباح غادرنا الى المستشفى ووجدنا الطبيب والاخصائيين فى انتظارنا ودخل مصطفى الى غرفة العمليات وظللنا فى حالة ترقب مستمر حتى انتهاء العملية بنجاح بعد حوالى ثلاث ساعات وقمنا فوراً بإرسال برقيات الى السودان لطمأنة الناس خصوصا وان هنالك شائعة قد انطلقت بوفاته قبل اجراء العملية بيوم .
وبعد فترة سمح لمصطفى بالتجوال والحركة فى المستشفى مع وضع الكمامات وكنت ازوره مرتين صباحا ومساء وآخذ معى ما يحتاجه من أكل حسب توجيهات الطبيب خصوصاً وان مصطفى كان لا يميل الى اكل المستشفى وبعد ايام سمح له الطبيب باحضار آلته الموسيقية " العود" وعندما أحضرناها صدح مصطفى من داخل الغرفة رقم "5 " فى المستشفى بصورة أذهلت المرضى والاطباء والسسترات وقد كان شيئاً غريباً يرونه لاول مرة . ونشير الى أن الطبيب الروسى طلب من مصطفى الإنتظار لمدة عام كامل للاطمئنان على صحته, ولكن لبرودة الجو ولاسباب اخرى لم نتمكن من الانتظار فى روسيا .
وعندما قرر الاطباء مغادرته للمستشفى أحضرنا كاميرا فيديو وسجلنا شريطاً داخل المستشفى والمنزل وكانت اهمية الشريط هى عند عودتى للسودان وإصرار مصطفى على أن يعرض الشريط على والدته وأسرته وبعد ان اطمأنانى عليه قررت العودة للسودان وحملت الشريط وذهبت لود سلفاب وبعد مشاهدتهم له اختلطت دموعى بدموعهم .
بعدها اتصلت به ووعدنى أن نلتقى فى القاهرة فى يوليو 1991 وبالفعل انخرط مصطفى مع اجواء القاهرة والطلاب والوفود ملبياً كل الدعوات .. وظلت حالة مصطفى فى تحسن مستمر وعندما شعر بأنه أصبح قادراً على العطاء طلب منى العودة للسودان وتجهيز فرقته للحضور الى القاهرة وبالفعل عدت للخرطوم وبدأت فى إرسالهم الى القاهرة على دفعات
وبعد عودتى الى القاهرة وجدت مصطفى قد بدا تسجيلاً مع الموصلى ووردى وكانت تلك التسجيلات مرهقة للحد البعيد الشى الذى يتعارض مع توجيهات الطبيب الا أن مصطفى كان سعيداً جداً إذ إنه إعتبرها بداية جيدة لتوثيق أعماله وواصل بروفاته مع فرقته فى شقة بـ " عين شمس " وبدأنا فى الاعداد لاول حفل أقيم بمسرح "الجيزة " والذى حضره أعداد كبيرة من الطلاب والسودانين واستمر لفجر اليوم التالى , وعدت للسودان فى يناير 1992 .
ومن هناك إتجه مصطفى للجماهيرية الليبية تصحبه فرقته وقدم هناك عدة حفلات ولكن بدات الالام تشتد عليه وعاد للقاهرة برفقة أحد العازفين لمقابلة الطبيب ثم لحق بهم مرة اخرى واستكملوا برنامجهم وعادو جمعيا للقاهرة .
ويقول مصطفى بنفسه ويحكى ما بين موسكو القاهرة :-
تم الترويج لإشاعة بأني توفيت في الوقت الذي كنت مقبلاً فيه على العمليه الجراحية ، ونفس الاشاعة أوصلتها جهات غير معروفة لوالدتي بود سلفاب ، كانت إشاعة منظمة ومقصودة وقوية جداً للدرجة التي أغلق فيها إتحاد الفنانين أبوابه حداداً علي ، وكذلك نادي الخرطوم جنوب للموسيقى والغناء ، ونشرت الصحف تبعا لذلك خبر نعيي ، أما والدتي فأصابوها بصدمة ألزمتها الفراش شهراً كاملاً
وبعد خروجي من العملية بموسكو إتصل بي من لندن شخص يحمل لي وجهة نظر النظام لاقناعي بالرجوع للسودان وكنت على نية الرجوع للسودان بعد العملية مباشرة لكن ذلك الحديث مع هذا الشخص أشعرني بان الأمر أخطر مما كنت أتصور فأعدت حساباتي وقررت عدم الرجوع وكان الإغراء المطروح هو أن يعتذر المسؤلون بأنهم لم يكونوا يعلمون شيئاً عن ظروفي المرضية . والتنويه بأنني فنان قومي له وزنه وان وان .... والمسؤلون حريصون لاقوم بهذا الدور في السودان ويطرحون كل الضمانات ويسألونني عن الضمانات التي أطلبها لارجع سواء كانت مادية أم خلافه ويعدون بتغطية تكاليف العلاج باثر رجعي : الاعاشة والاقامة والعلاج الى اخره..
ورفضت بشكل لا يقبل التاويل ذلك العرض واعلنت عدم ثقتى في كلمة المسؤولين في السودان خاصة وأمامنا تجارب تعاملهم مع شعب بحاله ، وبعد سته أشهر غادرت روسيا الى مصر وأقمت تصحبني زوجتي واطفالي بالقاهرة وفيها بدأت رحلة جديدة مع صعوبات من طراز جديد فإمكانيات العمل صعبة ، وفي نفس الوقت عشت تشتتاً بين متابعة التحاليل والكشوفات من جهة وشؤؤني الخاصة في الانتاج الفني من جهة اخرى . بالاضافة الى ما يتتطلبه الدخول لتفهم واقع جديد من جهد ومتابعات ،
وكان أن عشت ظروفا مادية قاسية - وهي كما نعلم نفس الظروف التي يجابهها السواد الاعظم من السودانيين بالقاهرة في الوقت الحالي وكانت هناك صعوبة في إقامة الحفلات العامة كما أن الحفلات الخاصة تحوط بها كثير من المحازير ثم حاولنا التاسيس لعلاقة بين الوسطين الفنيين المصري والسوداني ، الا ان طبيعة وعلاقات الوسط الفني المصري وقصور كبار الفنانين في التاسيس لهذه المسالة لم يحقق ما انتويناه .. كما ان صعوبة ظروف الحياة هناك تتطلب اما عملاً مجزياً او مصدراً خارجياً يغطي الاحتياجات المادية وأحياناً كانت بعض الحفلات لا تغطي أكثر من أوجه الصرف اللازمة لاقامة الحفل نفسه ، هذا في الوقت الذي كنت فيه شخصياً أحتاج لصندوق من ال ساندميوم ـ sandimun وهو شراب لازم لمن يزرعون الكلى ، كل 23 يوما ويكلف حوالي 820 جنيه مصري ، هذا بخلاف تحاليل مستوى السايكلسبوريا في الدم زائدا حامض اليوريك وتحليل وظائف الكلى وفي نهاية الأمر بدأت أشعر بأعراض الرفض المزمن chronic rejection
وعانيت من متاعب صحية مرهقة وسط جو من عدم الاستقرار والاطمئنان
وحتى لا يدعي أحد من هؤلاء الكيزان انهم سيتولون أمر علاجي فاني اذكرهم بالمعاكسات والدسائس التي حاكتها لي السفارة السودانية بالقاهرة لمنع سفري الى المملكة العربية السعودية بعد أن قدم لي أصدقاء كرام من الاطباء دعوة وتذاكر سفر ووعدا بالعلاج بالمملكة ، ايضاً مخاطبتهم للسفارة الهندية وسعيهم الغريب الذي حجب عني تأشيرة دخول للهند حيث من المفترض ان اقيم احتفالا للطلاب السودانيين الدارسين هناك . واذكر ايضا ان السفارة البريطانية بالقاهرة لم توافق على منحي تاشيرة دخول لاغني في حفل لنقابة الاطباء السودانيين والمنظمة السودانية لحقوق الانسان بلندن وبصراحة بدوية قالوا : نحن نعتقد أنك لن ترجع من بريطانيا اذا دخلتها.
مصطفى وبثينة مع شخصين فى موسكو
...............................
مصطفى وبثينة امام احد معالم موسكو
..........................
مصطفى وبثينة وسامر وسيد احمد والاصدقاء فى لقطة جماعية بموسكو
رحل مصطفى فى 18 يناير 1996م ليؤرخ موته الى جوار الاستقلال فى بلد لم يعِ معنى الاستقلال ، تمشّى فى شرفات الموت جاعلاً للموت طعماً آخراً ، واحساساً مغايراً به ، وتاركا شلالات من الاغنيات الخلاسية تنثال كما ضفائر السمراوات معربدة فى الليل الافريقى الفاحم ، وبعدما اعاد تشكيل الجغرافية الوطنية بدماء الاغنيات .