Quote: تـنـقـورة، وحُـمـارة أُمـحُـومـد ود يـأسـيّـن البـيـضـاء...
الغربة قطعة من الجحيم. نستنشقها حميم وزفيرها زمهرير. كلما طالت الأيام والسنين في سواءها،
رمت بشررٍ كالقصر في مساحات النفس، فأهاجت الحنين وزادت الأنين جراء البعد عن مراتع
الصباء ومسارح اللهو الجميل.
الحنين للوطن والأهل ورائحة التراب، والمكان، والزمان، ما هو إلا خمر خندريس يزيدها الفراق
ولوعته تعتيق.
والله إنى ليعتصرني الحُزن والألم وتكتم العبرة أنفاسي، وتحتبس الدموع في محاجري عندما أخرج
من المنزل في الصباح الباكر وأجد أثآر المطر التي تكون قد هطلت ليلاً خِلسةً دون أن أستشعر
وقعها أو أسمع رعدها، أو يخطف بصري برقها...
السوق الكبير في اتبرا. دكان خدر الكعيك، أو دكان المدير ود الشيخ، مُلتقيان أو نقطتا تجمع للأهل
قبل التوجه لكلٍ من بربر، العبيدية، أو مُشرع الباوقة. يتركون ودائعهم هناك ويدخلوا السوق لِقضاء
حوائجهم، ثم يتجمعوا في إنتظار مواعيد قيام بص العبيدية الذي ليس له مواعيد مُحددة، إنما يبدأ
الرحلة بإكتمال جمعهم، وينصاع سائقه لِرغباتهم وطلباتهم...
: عليك الله، غشنا دار مالي النسوق البِنيات معانا.
: هوي يا ولدي، هوي لاتنسنى بعدين بدور لي سِميكات من مولود في بربر.
: عليك الله غشنى ناس فلان في القدواب، عندى عندهم غرد.
: يا ولدي لاتنسى وصيتى ليك، حِويجاتي الفى القمبرات.
: أو يكون في بِكاء في عنيبس. كل البص يغشو بى سواقن.
السواق يلبى الطلبات في صبر غريب، والركاب أكثر صبراً من السواق مستمتعين بالونسة والتعليق.
كثيرأً ما حملني هذا البص لمشرع بنطون الباوقة برفقة هاؤلاء الناس الطاعمين، أتحمل معهم عناء
ومشقة الرحلة. أستنشق رائحة الدخان المنبعث من البص وما زال أزيز ماكينته يدغدغ سمعي.
هناك تعامل مباشر مع الناس، وإلفة غريبة بيني وبين هذا البص العجوز الذي يضعنى فوق
المشرع بعد أن يكون قد إستنفذ طاقته كلها.
ما أن يقترب البص من المشرع، حتى تلوح الباوقة في الأفق البعيد. جنّة مُدهمة، تبدو وكأنها على
ربوة للناظر أليها من الشرق لِعلو القيفة. فوق المشرع يتواصل التعامل المباشر مع الناس والطبيعة.
ندخل الرواكيب، نشرب الشاي ونروى ظمأنا من الأزيار التي قد دُفِن نصفها في الأرض ونبتت
النجيلة في أطرافها، ونترقب وصول البنطون، الذي بمجرد وصوله تسمع:
: يا زول أوّعَ السِقالة.
: عليك الله يا جنا تعال نزّل معاي كراتين المنقة ديل.
: يا ناس ده شنو ده؟ ماتخلو اللوري ده ينزل.
وهكذا...
الأمواج تتلاطم على الشاطئ و(بدير) يحلق في الفضاء ونظره الحآد موجه للماء في حالة تأهُب
للإنقضاض على سمكة، ولايخلو الشاطئ في فصل الشتاء من (أُم قيردون) تركض خلف الحشرات
الصغيرة وتلعب بذنبها، وفجاة تطير مصحوبة رفرفة جناحيها بصوتها الجميل المألوف...
يشق البنطون عُباب النهر للضفة الغربية فتطأ أقدامنا أرض قريتنا الحبيبة، فنواصل مشوارنا سيراً
على الأقدام متجهين شمالاً مع مجرى النيل في شارع ضيّق وسط غابات النخيل وحيضان البرسيم
ونبات الحلفا الحآد الجوانب. نسمع شقشقة الطيور وقوقاي الدباس فينداح في أسماعنا كأحلى (سيمفونية)،
ونستنشق عبير نوار الليمون والبرتكان فيضاهئ أفخم العطور الباريسية. نتعايش مع الطبيعة مباشرة،
نحسها في كل شئ ونلمسها في كل الأشياء حولنا.
نصل ديار الأهل، نطايبهم ويطايبونا، نستقصى أخبارهم ونبثهم أخبارنا.
القرية يلفها الهدوء الذي تخترقه أصوات الطبيعة من حين إلى حين فتسمع نهيق حمار، ثمّ بعد صمت
خوار ثور في الجزيرة، قوقاي القماري وأصوات العصافير تطرق سمعك من حين إلى حين، مرور
النسيم العليل يأتيك بوشوشة جرايد النخيل. الطبيعة تحادثك وتناغمك، تتحدث اليك وأنت تصغى إليها.
حمارة أُمحومد ود ياسين البيضاء في مربطها، يعرفها جميع ناس البلد كأنما هي فرد منهم، وتنقورة حمارة
العوض ود حاج الخليفة أكثر شهرة منها. أعلام في البلد يتعامل معهن الناس بإلفة ومودة كأنهن فلذات أكبادهم.
إذا أصاب إحداهنَّ مكروه يحدثوك: تنقورة الليلة عيانة. أو البيضاء البارح قرصانة، ولا يهداء لهم بال حتى ينعمن بالشفاء.
الطبيعة وحيواناتها ونباتها تتجاوب معنا. تمرهندي ونبق (السِت) قطوفُه دآنية لايبخل علينا بشئ ، وقد علّقت
(أُم دال دلو) أعشاشها في أطرافه كما النجف. (السِت) كانت تدفن علب اللبن في الأرض وتملأها بالماء حتى
تشرب منها السحالى الهائمة في فناء دارها. تلحظنا دائماً ببسمة كانت مطبوعة على مُحياها الجميل.
في اليل عندما نستلقى فوق العناقريب في الحوش يتجلى القمر بينات الضفائر فنناجيه ويحكي لنا عن سنين مضت،
وناس سمحين قد عمروا الديار ثمّ مضو ليتركو بصماتهم على أشجار النخيل الباسقة. في اليل عندما نذهب للنيل
ينعكس القمر لُجيناً على صفحته، مغازلاً المياه الرقراقة والخُضرة المنبسطة على الضفاف.
أصوات الهوام والحشرات والحيوانات المتوحشة لاتخطئ سمعك، الصمت في ظلام اليل البهيم يهمس للأحاسيس
حتى تستشعره كائناً حي يسكن في أغوار كهوف النفس. الطبيعة بكلياتها تجاذبنا أطراف الحديث، تلمس أحاسيسنا
وتملاء نفوسنا إلفة وخوف، فنستشعرها في كُلّ الأشياء ونظل دوماً نتجاوب ونتفاعل معها. نسمات الفجر تدغدغ أرواحنا،
فتصحينا فجراً لِتصحى معنا الطبيعة بكلياتها، آذان الفجر، صياح الديكة، تغريد العصافير، النبات يفلق الأرض ويخرج
للفضاء الرحب، قطرات الندى تبلل ثغور الزهور الباسمة، أصوات الحيوانات أصوات الأهل في صباحات فجر جديد.
الطبيعة تتناغم وتتفاعل في أبهى وأجمل صورها مع إشراقات الصباح الباسم.
نودع الأهل والأحباب ونقفل راجعين إلى اتبرا ( المدينة القاطرة ).
صافرات الوابورات وأزيزها لايخطئ سمعنا، حركة العمال الدءوبة، العجلات، الروح الإجتماعية العالية.
عطبرة مدينة في هيئتها وقرية في تعاملها وإجتماعياتها.
الطبيعة تحشد جيشها بسحب دآكنة يحدوها صوت الرعد مزمجراً في الفضاء، وبرق ينير لها الطريق يرشدها إلى
مكان مدينتنا الحبيبة. ثمّ نبداء في الإستعداد كي نصد هجمة الطبيعة الجاسرة. نخشخش السباليق، ونفتّح المجاري،
ثمّ نضاير كلنا في أوضة وآحدة حتى القطط والبهائم. كلنا في إتصال مباشر مع الطبيعة التي تمطرنا بوابلها وعندما
يشتدّ وقعه علينا تسمع الحبوبات يجأرن بالدعاء ونده الأولياء الصالحين، ثمّ تهداء بعد أن تكون قد خلّفت سيول
جارفة لاتستطيع بعض حيط الجالوص الصمود في وجهها فتستسلم. يبداء الناس في تفقد أحوال بعضهم البعض،
وفتح المجاري مباشرةً لنهر النيل.
النيل نفتقده كثيراً في الغربة، طبيعته الساحرة ومناظره الخلابة.
الغربة عبارة عن مُدُن وآجمة وبلاد جآمدة مدلول الصنعة فيها يطغى على جمال الطبيعة. أكوام من بنايات
الأسمنت الشاهقة والأرض المسفلتة، والأنوار الباهرة، الجو الخانق المحشو بدخان عوادم السيارات. الغربة
ليست بها سماء، فالسماء قدحُجبت بسبب الأضواء الصارخة، وصوت الطبيعة إبتلعه زخم الغربة وهرجها
ومرجها. بلاد الغربة بلاد مسعورة لاترحم، لذلك لاتترك لك مجال للتفكير والتأمُل. فهي دائماً سالبة للأفكار
بهمومها ومتطلباتها التي لاتنقطع. الغربة ليست فيها أرض، فالأرض قد حجبتها طبقات الظلط والزفت
فمنعتها تتنفس وتنتشي عندما يصيبها وأبل أو طل. لذلك ليست هناك خيوط أشواق وحنين تشدنا إليها، أو
رائحة تراب تهيج الحنين في نفوسنا لأحضانها . نتمنى دوماً أن نفلت من براثنها وأن نخرج من تحت حُطامها.
للوطن رائحة تسرى في دواخلنا فيجرفنا الحنين ويطول بنا الأنين فنتكئ على أحزاننا
في الغربة ونحلم بالرجوع لنعانق الطبيعة في براحات الوطن الحبيب...
ود المدير ...