لفظتني الخرطوم ، كالجيفة . و رفضتْ أن تمنحني مأوى ، يقيني برد التشرد ، ثم انها ، لا تحتمل فجاجة أسئلتي ، و ثقالة همي الموبوء بالإنشطار و التشظي ، و لعناتي التي اسكبها سرا في المركبات العامة و المحطات الوسطى ، و التحريض الخائب ، الذي ابحث كثيرا عمن يلتقط اشارته المنكسرة ..!
و حينما أشتاق أن اقول كلمتي جهرا ، ضد الراهن ، ضد السلطة ، ضد القيم ، اتقهقر نحو مسارب الجامعة ، ألتحف أسئلتي الخاسرة ، و اصرخ في وجوه زملائي الطلاب : لابد من فعل شئ ، أي شئ ، الظلم يحيق بالآفاق ، و الكذب صار ملح الحياة ، النفاق زينة تغلف الوجوه الملتحية ، و الإبتسامات المبطنة بالسم الزعاف..! يثقلني كثيرا مثل هذا الهم .. و انا و الخرطوم ضدين ..هي المدينة ، و انا الفرد..! هي العاصمة ، و انا الريف ..! هي السلطة ، و انا المواطن ..! تختبئ خلف عهرها المفضوح ، و تمارس الخيانات الصغيرة ضدي..! و انا ، أنا ادعي الوفاء ، الصدق ، و كلها من الأشياء التي لا يرغب احد في شراءها ولو بمليم مقدود في عهود الغيبوبة و أزمنة الإستهلاك النضاحة..! تغرقني في اوحالها ، و اللغة بيني و بينها رطين ..! ثم.. أخالني احتاج كثيرا فسحة من الرهق ، لأمارس الحلم المسكون بالكوابيس ..! لحظة واحدة .. واحدة فقط ، أسكب فيها هدير اللعنة المنسابة في دواخلي ..! لأنجز هذا التخطيط ، نعم .. تخطيط جانبي لوجهها ، و ما فعله صوتها ، حينما نادت سرب القماري..!
كبر
05-31-2010, 04:50 AM
Kabar
Kabar
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 18547
أبنوسية ، علمني وجهها ، اسئلة هويتي الأولى . صوتها ، حالم يتخلل مسارب الذات القصية و قيعانها البعيدة ، يجوب مراكز الحس و القشعريرة ، و الآكلان الهلامي اللذيذ . يجلجل ، احيانا ، و يعربد أحيانا في دواخلي ، يفيض في مدارت سمعي ، و يسكنني كلعنة الآلهة التي نسيت عبدها تماما .. " من الأفق الداكن ، جئت يا حماد ، و اليه سوف تذهب "..!
استحضرتُ نبوءاتها في أكثر لحظات العمر اٍنعطافا ، ثم اعطتني ، هي ، بشارة للركض الكبير الخاسر ..! كانت تكتب الصمت ، و تعلم الصبايا ، بدايات الحرف. المدينة تعرفها ، ولا تعرفها . تحسها ، ولا تحسها ، تعشقها سرا مثلي ، ولا تعشقها ..!
قال لي حسن ملاك ، في وصفها : " كانت تدلي ستار قرمذي ، ليفصل مكتبها عن سريرها ..! تجلب الدلكة و المحلب و الخُمرة ، و تهب الجسد بلا تردد لكل عابر سبيل ، و طالب المتعة الحرام .. انها فاجرة يا صاحبي ..!! " ابتلعتُ تفاصيل هذا الوصف/ التعريف المحرج للغاية ، و المدينة لا تسعني في وجودها ..! بيني و بينها انفجار الترقب ، و عواصف اسئلة النزوح الشرسة ..! قالت سابلة المدينة ، عنها ، انها علمتْ يوسف الخير مبادئ الكمان ، ثم ألهمته بعض القصائد ، ووهبها ، هو ، طفلة من الحرام ..! و لكن اين يوسف الآن ؟ أنه صار اصوليا متطرفا ، ثم أن السلطة قد منحته منصبا كبيرا ..! لمه ، تحتمل المدينه مثل هذى التفاصيل ؟ أرهقتني صورتها ، حينما تجاسرتْ على ابواب الذاكرة ..! تتوارب ، صمتا مخاتلا ، و تجوس في الأعماق لوعة و لهفة ..! قال مصطفى الشفيع ، ذلك الوغد المترهل فجورا و غيّّ : اٍنها ترسمُ ..! و هي من اروع النساء الراسمات في المدينه ..!
أوصدتُ درب الخوف ، و التحفتُ مرارة التسآل .. صرختُ فيها لأول مرة ، و انا اقول : أرجوك لا تقتربي ..! و لكنها ضحكتْ ..! حينما ضحكتْ هي ، نسى سرب السمبر المسافر نحو السافل ، معالم دربه . ثم أوى الى الجبل العريق ، يرغب أن تمنحه الصبر على مغبات الزمن الزنيم ..!
تبتبتني هي ، نمة و غنوة للأطفال الصغار ، هودنا .. يا هودنا القشاية الخضيرة ، بفركي ، بشيفكي بشيف شباب الفيكي ، حمرة بالبوادي ، بقارة حاربونا ، شدوا تيرانهم جونا جلبنا ليهم سمسم ، السمسم ما كفاهم كفاهم جودة الله جودة الله ابو رخية ، رخية بت اهلنا ، ام شعرا متنى الكوك كجروك على الجنه
نمة ، و غنوة ، و توهان شارد يعذبني حسرة على الزمن الجميل ..! لماذا كانت تقام الأسبار في ديار جبال نوبة؟ من أين ، جاءت هي بهذا الإسم ، و عطرها الفصيح يجتث من الخبايا بقايا الصمود و الصبر على محجات الزمان ؟ قال لي أحمد ابوهم ، انها سهلة ، لكنها عميقة ، باهرة ، تحيط نفسها بسياج من الأسئلة الغامضة ..! ثم اضاف : انها على علاقة وثيقة بحمدان ..! و لكني حينما تأملتُ وجه حمدان ، فيما بعد ، ألفيته سطحيًّ لا تغري رعونته الرعوية بالإقتراب منه ..! قلتُ في نفسي ، لا مفر من المواجهة ، مواجهتها هي ، و بالتالي مواجهة نفسي، و لكن أي المداخل أنسب ؟ علمني الجبل معنى الإقدام ، و السير المضني ، حتى لو نهشتني أنياب السباع ..!
وجهها ، غارق في ابتسامتها الصافية . قلت لها ، و هي تعمل مديرة للمدرسة المتوسطة للبنات حينها : أتعبتني ملامح وجهك ..! ضحكت هي .. قالت : كنتُ أمارس الرسم ، و لكن أسئلة الراهن سلبتني تلك الميزة الحميمة ..! ثم بدأت تحكي لي عن كسلا ، اسمرا ، اديس ابابا ، القاهرة ، نيروبي ، و جوهانسبيرج ..! متى ذهبت؟..متى طافت بكل هذه المدن ؟.. ترنح السؤال في دواخلي ، مغبونا ، يبحث عن معشوقته الإجابة ..!
قبعتُ داخل الخيبة ، الممتدة في اعماقي . أشحتُ عنها وجهي ، و احتقبتُ خيالاتي اليقظة ..! جال النهار التموزي ، و تبدتْ معالم الرُشاش زاهية وضيئة . كنتُ قد مزقتُ أحذيتي ذهابا و مجيئا في الدرب الغض الليّن . حقا انها ورطة عظمى أن توهم نفسك بالقدرة على العطاء ، ثم أن تدريس البنات في المرحلة الثانوية ، و لو من باب التطوع مثل حالك ، لا يخلو من خبث ..و لكن اهلك يحتاجونك ، عليك أن تعطي تدريسا و تدليسا لتأخذ حفنة النقود ، و لقد بان خبثك عندما علمت أن مدرسة الأولاد الثانوية ايضا تحتاج جهدك ، و لكنك زغت ، و فضلت البنات على الأولاد ، تناسيت حكمة اهلك الرصينة و الواضحة الى حد الفضيحة : البنات ما هن سعاية .ز! ربما كانت هي حالة اللاتوازن فيك ، تجبرك على أن ترافق البنات . صوتك الداخلي الهادر : البنات رقيقات و كلهن زوق ..! و لكن .. ! ايضا ، كلهن حب و عواطف صغيرة ، و مساحة للظهور و اثبات وعي الفحولة المتجذر فيك ..! انه حالة ، أو قل هو تأريخ لست أنت المسئول عنه ، و لكنك تجذر ، بوعي و بلا وعي ، صيرورته القصوى ..! جدلك الهائف عن صحبة البنات و ما ادراك ما صحبة البنات ، الرغبة الفاجرة ، و المغبات الإنكسار ، لن يقاومها الصدق اللعين ..! خلعتُ جوخ احلام اليقظة ، و قررتُ في ذاتي ، سعيا مبرورا نحوها ..!
كبر
05-31-2010, 04:57 AM
Kabar
Kabar
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 18547
عزمتني هي ، ان ازروها في منزلها بالرديف ..!..حددنا الموعد ، الثلاثاء مساءا عند اٍكتمال القمر ..!!
لم اذهب اليها في تلك الثلاثاء ، عند اكتمال القمر ، وانما ذهبتُ الى احمد ابوهم ، قرأنا درويش ، و ذهبنا الى اسماعيل زمام ، و كان في تلك الأيام مشغول بامور النقد كثير ، و كان قد حضّر قائمة من الأسئلة عن ملامح البنوية و بعض التساؤلات عن مداخل النقد الحديث .. ضحكت ، و قلت له : من ادراك بأنني اعرف في هذه المجالات ؟
ابتسم اسماعيل بانسانية فياضة ، ثم حكي لي عن نشاطاتهم في جامعة وادي النيل ، و هو يختبر مبدأ ( اطلبوا العلم و لو في الصين ) ، فجامعة النيل هي عندنا لا تقل بعدا عن الصين في تلك الظروف القاسية التي تتطلب من مواطن السفر طلبا للعلم ..!
قررنا ثلاثتنا أن نذهب الى الزين سلمان ، الذي قدم لتوه من الخرطوم ، و هو يحمل اخبار العاصمة . قرأ لنا الزين بعض من نصوصه الشعرية ، و حكاياته مع هويدا ، تلك التي جاءت الى العاصمة و هي تريد أن تحولها الى البحر الأحمر ، حتى تتمكن من تعلم خصلة تأمل البحر ..!
و كان الزين يناكفها بأن الجبال هي أول من علم الإنسان خصلة التأمل ، ثم جاءت البحار بعد ذلك و اختطفت الأضواء .. !
في دروب المدينة الصغيرة ، كنت اهرب من درب صغير الى آخر ، و من وجه صديق الى اخر ، و لكني لم أذهب اليها ..!.. هل هو الخوف ؟ .. هل هو التردد ؟..
في اخر الليل ، عدتُ اجرجر خطواتي ، و بقايا الأحاديث ترن في دماغي كأجراس الكنائس في اعياد الميلاد المجيد . رقدتُ على سريري ، و أنا اتأمل قبة الأنجم الكثيفة ، جاءتني دوامة الأسئلة الشرسة تجر قوافل جيوشها و تداهمني برعب ..و كانت هي ..
في اليوم التالي ، قابلتها في مدخل مدرسة الأميرية المتوسطة للبنات ، حاولت أن اعتذر لها عن عدم زيارتي لها ..لم تضحك ضحكتها الرنانة ، التي يسكب الرجل سنينا من العمر لكي ينالها صافية و تامة ، و قالت : كنت اتوقع عدم حضورك ، انك سوف تقصّر اجلي ..! و كنت كمن يتوقع مثل تلك الإشارة الغامضة منها ..!
خرجتُ من المدرسة ، و لم تكن بي رغبة لكي أواصل بقية مشواري الى داخل المدينة . داهمتني رغبة عظيمة في أن اذهب الى الجبل . ذهبتُ الى جبل بيلا الصغير ، قابلتُ كجور الجبل ، عمي رحال . جلستُ داخل قطيته الأنيقة ، و كانت نظيفة و هي تتهيأ لمعانقة الأرواح المتبعثرة في عمق الزمن ..! شرب هو بعض من الشاي ، و عزمني على قرعة المريسة ، اعتذرت ، ثم قدم لي شيئا من اللبن ، و قال لي : نحن لا نمنح شئ ، و لكن اولاد المدارس خربوا عقول اتباعنا ..! قلتُ ، ساهما : هل تؤمن بالله ؟ قال ، باسما : نعم أؤمن بوجود الله ..! قلتُ : و لمه انت كجور ؟ ضحك ، و قال لي : اٍياك أن تسئ بي الظن مثل الآخرين ، ما انا الى وسيط ، امنح البركة ، و اسأل الله أن يساعد الناس ..! أخذتُ أتأمل في رمحه الكبير ، كان مركوزا كقطر الدائرة على الجانب الأيسر من مدخل القطية الواسعة ، تتدلى منه خرزات بيضاء جميلة و نسيج من السكسك الأصفر ، و في نهاية عوده ، الممشوق من شجرة القناء ، تنقرز صامولة اسطوانية الشكل . كان الكجور رحال قد مسح ذاك الرمح بزيت السمسم النقي فصار العود املسا ناعما ، يلمع بغموض و تلمع فيه اسرار السنين الطويلة ..! حكي لي عمي رحال الكجور ، قصة ذلك الرمح ، و كيف توراثته الأجيال ، و قال لي : عمره ، أي الرمح ، خمسامئة سنة ..! قلتُ له : لو أني لي عمرا مديدا مثل عمر هذا الرمح ، لأدعيتُ الألوهية ..! قال لي : الأشياء النادرة ، تدعوني لإحترامها و تقديسها ..! لم يكن ، هو ، يملك الوعي بما يفعله ، و لكنه كان يتميز بالخبرة الإنسانية الكثيفة و الذكاء المفارق ..! قرأ لي بعض التعاويذ القديمة ، ثم نظر في بخسته .. تجهم وجهه .. قلتُ ، أسأله : اهي نبوءة تخصني ؟ قال : ليس بالضبط .. قلت : ماهي ؟ قال : البئر الغريقة ، ابتلعتْ الفرسان ..! قلت : بلا شك ، انا لستُ بفارس يا عمي ..! قال : الحية تطاردك و تحاصرك أمام البئر ..! صمت برهة و اضاف : قريبا ، و لكن ارجوك الأ تقترب منها ..! قلت : أين هي ؟ و كيف استطيع التعرف عليها ؟ قال : انها نذرتْ أن تذبحك قربانا ..!
كبر
05-31-2010, 05:19 AM
Kabar
Kabar
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 18547
حدقتُ في الأفق . البيوت على سفح الجبل هادئة ، تمارس صفائها ، كلحظة عناق صامتة ، لها اسرارها الصغيرة التي تحتويها بحميمية مفرطة ..!
قلتُ له : أحكي لي عن طقس الموت ..! اخذ ينسج حبله الطويل من لحاء شجرة التبلدي ، ثم تنفس بعمق ، و شرب من قرعة المريسة التي امامه .. و تحدث ..
" يموت الإنسان عندنا ، فنغني و نرقص لمدة ثلاثة أيام ، و نحن نحتفي بمآثره و حبه للحياة ، ثم نلبسه حلته كاملة و زينته ، و نزوده ببخسة بها زيت سمسم نقي ، و نترك معه لوازمه ، فان كان رجل نضع معه رمحه الأثير ، و ان كانت امرأة نضع معها ريكة و مخارز الشفاية ، و ان كان طفل ذكر ، نضع معه عصاة القنا ، و هي عنوان الرعي ، و اٍن كانت طفلة ، نلبسها أسورة الفضة ، نلبس الأنسان أحذيته ، فنحن نؤمن بأن الإنسان قد يحتاج مثل هذه الأشياء في الحياة الأخرى ،و هي كما تعلم مليئة بالأشواك مثل الحياة الدنيا ، ثم نذبح القرابين و النذور ، الشبان الذين يملكون البنادق ، يطلقون الرصاص تجاه السماء ، املا أن يتمكنوا من قتل الموت ..!"
قلتُ : لكن الموت خبيث ، يجيد التخفي ..! قال : كل ما له القدرة على أن يقهرك ، فهو اٍله ..! قلتُ : هل تؤمن بآلهة الموت ؟ قال : ولى زمن تعدد الآلهة ..!
شمس الظهيرة تتباهى بصفائها و هي تعبر السماء غربا ، نحو المغيب ..! قررتُ أن أذهب ، حملت قرعة المريسة بين يدي و انا اشدد قبضتها ، و شربتُ منها ..! و اكلتُ بعض من السمسم المسحون ، و خرجتُ ..! احجار الجبل تمارس صلاتها الفاتنة ، و تسبح و هي تمارس عبادتها ، أن تعبد و تعبد الى أن تتلاشى ..!
في سفح الجبل ، من الناحية الغربية ، قابلتُ امرأة عجوز ، تبركت على يدي ، ظنا منها باني كجور صغير ..! نفضتُ يدي عنها ، و قلت لها : كنت في زيارة عمي رحال الكجور ..! قالت : و لكنك مكثت معه مدة طويلة ، ظننتُ أن الكجور منحك وصاياه ..! افترقنا ، هي تواصل مسيرها نحو السفح الشرقي ، و انا اواصل مسيري نحو السفح الغربي ..!
داهمني احساس بالدوار و الفتور ، احسستُ بأن الشمس باتتْ قريبة من جبهتي و هي تتهادي في الأفق الغربي ، فكرت أن اركض و الحق بها لأقبضها من وجهها ..اطاردها ، اطاردها ، حتى أمسكها من خصلات اشعتها الناصعة التي تدلت كالضفائر الحرة الطليقة ..!!
بالقرب من حفرة التراب الأحمر ، قابلتُ سرب من بنات حلة الدلنج ، كن يتجولن في العصاري ، يتأملن حوافي الجبل في نزهة وقت العصاري .. تحدثتُ اليهن عن الشمس و مطاردتها ، و انها كيف اقتربتْ من جبهتي ..!
قالت هاجر موسى : انه تعاطى البنقو و ركب الفيل في وضح النهار ..! اقتربت جديّة التوم من وجهي ، و هي تتأملني بفتوة ، ظننتُ أنها سوف تقبلني ، و انفاسها تلهب وجهي بلطف ، ثم جفلتْ ، صرخت و هي تقول : ووب علي ، شرب المريسة من قرعة الكجور ..!ولد ده ..دي مريسة معتقة ليها سنين ..! لماذا تصرخ هي بهذه الطريقة الفجة ؟
مضيت ، و خطوي اخذ في الترنح ، تدحرجتُ نحو الشمس اطاردها ، و انا اترنم بالشعر ، صوت دوريش يسكنني كاللعنة المقدسة ..! يوما ما ، قالت كوثر صالح ، أن المريسة فرح اختياري ..! و لكن هل نحيا نحن في زمن الإختيارات ؟.. انه القهر السرمدي ، و لن نملك الإ أن نركع له ..! ظلي ، يتابعني كالكـلب الأمين ، و الدوار قد تمكن مني ..! صوتي اخذ يتعته و انا اصرخ ، صرخة باهتة : أين هي الحية ؟ أنا احتاجها الآن أن تنفث فيّ سمها و تمنحني مرة واحدة معنى أن أختار ..!
وجهها الأسمر اليانع اللادن ، يسد عليّ مناكب الأفق . يتشكل غمامات في البعيد البعيد ، و يوعد الأرض سر الخصوبة و العطاء ..! اترنح تحت التبلدية الضخمة ، جذورها ناتئة تمتد كشرايين الجحيم ، و احاول للمرة الأخيرة أن اغني بتناسق ، و تموت ملامح الأغنية ..! أجرب الركض ، احاول أن أركض ، خطاي تشدها سلاسل الدوار ..!!
في ميدان ، بالقرب مني و من التبلدية ، الأطفال يتقاذفون الكرة ، و كل منهم يحلم أنه ماردونا أو باوليني أو بلاتيني ، تنمو الكرة و تغدو صرخة ، يتقاذفون صرخة الإنتصار المؤقتة ..! سرب الأبقار ، قادما من الشمال يتهادي و يمارس قدلة العودة المسائية ..! الشمس بنت الكـلب ..! .. اللعينة ، تتهيأ للإختفاء ، قبل أن تسمع ترانيمي الموبوءة بالسؤال و الخيبة ..! أف.. ! ماذا لو داهمني القئ حينها ؟!! واضحا خوفي تبدى ، و كنتُ قد مزقتُ ، بخطاي ، المدينة شارعا شارعا ، اتحاشى الطرقات المأهولة بالمارة و سابلة الناس الهوام ..! بهذه الحالة ، ستحدني محكمة المدينة بحد الخمر ، و انا لا ارغب في مزيد من الخيبة ، و لتذهب كوثر صالح و فلسفتها في الإختيار الى الجحيم ..!
الأبواب الصغيرة تنغلق على أسرارها الشرسة . المجاعات تداهم هذه النواحي كثيرا ، و لكن ألسنة الإعلام المنمقة تؤجلها و تجيد كيفية اٍخفاء انبائها ..!..الدولة تخشى أن تعلن المجاعة ، و لن يضير حتى لو ماتت الأهالي جوعا من اجل حفظ ماء وجه الدولة و كرامتها الهائفة..!
آهـ .. لستُ في حال تؤهلني على الصدام ، و لو سرا في دواخلي ..!
كبّـر
05-31-2010, 04:58 AM
Tragie Mustafa
Tragie Mustafa
تاريخ التسجيل: 03-29-2005
مجموع المشاركات: 49964
خور أبو حبل ، فجأة تمطى أمامي ، كثعبان عريض و طويل ، ذيله في الجبال و راسه عند مدينة الرهد أبو دكنة ..!
ضحكت و انا اتأمله .. تذكرت فرح سعيد ، و هو يحدثني ذات مرة رواية عن ابيه عن جده ، و هو يقول : " كانت الدلنج قبيلة تملك الأسرار لذلك وهبها الله جبالا صغيرة ، أما القبائل الأخرى ، مُنحتْ جبالا كبيرة بلا أسرار ..! واحد من تلك الأسرار ، أن هذه الجبال الصغيرة الأربعة ، جبال الدلنج ، كان يحرسها ثعبانا ضخما طويل . عند المساء ، بعد زمن العشاء ، يمتد جسد الثعبان ، و يشكل سورا منيعا ، اشبه بسور الصين العظيم ، حول هذه الجبال ليحرسها حتى طلوع الفجر ..! و ان جاء عدو لا يستطيع أن يتخطي جسد الثعبان ذاك ، لأنه يرتفع يرتفع ، حتى يمنع القادم من الدخول ..! حينما مات ذاك الثعبان ، حزنت الناس عليه كثيرا ، و ظلت جثته ممتدة ، و بعد مرور السنين ، صار مكان الجثة هو خور ابوحبل ..! اما سلالته ، فقد صارت صغيرة الحجم ، و صار افراد قبيلة الدلنج لا يقتلون هذه الفصيلة من الثعابين ..!! " تلاشي صوت فرح سعيد ، و تلاشت معه تفاصيل تلك الحكاية الأسطورة ، و انا اعبر خور ابوحبل .. كنت لآ احب الجسور الصغيرة المعلقة على صدر الخور ، و لكني دائما افضل عبوره مشيا على الأقدام ، لكي تغوص اقدامي في رماله الفضية الباردة ..! اشجار المهوقني على ضفتيه ، قوية و متشابكة أغصانها ، تتراقض لضوء البدر المكتمل ، عنفوانا و بهاء..! المغيب ينثر مداخله على المدينة . الدوار تضاءل قليلا.. و اغنيات درويش غابت في اصقاع الذاكرة البعيدة ..!
الطرقات في أول حي الرديف ، تضيق .. تضيق ، و تصير دروبا صغيرة ، يسعدها كثيرا أن تروي حكاوي العشق و الغرام في اطراف المدينة ..! خطاي تحفظ ملامح الدرب جيدا ، و انا اتحاشى الإضاءات الخافتة على جانبي الدرب . أحاول أن ابتدر أغنية ما ، فتخرج زفرة حارة التفاصيل ..! كنت أحسُ بالإختناق ، و انا اقف أمام الباب الصغير ..تراجعتُ ، ولا ادري لماذا خانتني يدي و رفضتْ أن تطرق على الباب ..!
ما هذا الذي فعلته ؟.. خرجتُ من منزلي في الناحية الشرقية من المدينة ، ثم ذهبت الى الكجور رحال في شمال غرب المدينة ، و شربت عنده المريسة ، و مارست التسكع ، لتتنتهي بي خطاي في الناحية الجنوبية من المدينة ، بالضبط عند اطرافها ، ثم تطير السكرة ، و يظل الخوف ، و تأبى يدي أن تطرق باب منزلها ..بالله عليّ ما هذا الذي افعله ؟!!
بالقرب من الميدان ، في الركن الشرقي ، تبدتْ شجرة المانجو الضخمة . . قالت وداد ، تحدثني ذات يوم عنها ، أنها تقع داخل قطعة أرض أملكها ، سابني فيها منزلي الخاص . ستكون به غرفة لهواة الرسم ، و اخرى لمن يعزفون الكمان ، و اخرى منتدى لهواة الشعر و القصة و الرواية و النقد ، والأخيرة ، ستكون لطفل تتبندق في عينيه الطرقات ، يعرف جيدا كيف يدغدغ خلايا الحس في دواخلي ..! و قتها ، قلت لها : بالتأكيد ، هذا الطفل ، ليس أنا ..!
تعالتْ حوائط البناء ، و امتد خيالي نحو عنان الوهم الطليقة ..!
داهمتني رغبة قوية في أن ادخن سيجارة ، هبشتُ جيوبي ، اين ذهبت علبة السجائر اللعينة ؟..البرنجي اختفى من جيوبي ، و الولاعة الذهبية ، التي احضرتها لي مشاعر سعيد من امستردام ، هي الأخرى اختفت ..! فكرت ، و انا اتساءل في دواخلي ، كم هي الساعة الآن ..! كان معصمي طليق ، و خاصم ساعة يدي الستيزن .. أين ذهبت أشيائي الحميمة اللصيقة بي ؟ في مثل هذا الوقت من زمن البحث اللجوج ، داهمتني نصوص ادونيس ، أهي شبيهة باللاتوازن الى هذا الحد من الرعب ؟
كبّر
05-31-2010, 03:01 PM
Kabar
Kabar
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 18547
الكنتين الصغير ، يبدو بهيا بضوء الرتينة الجاهر .. صاح صوت نسائي ، رقيق ، يناديني و يهمس همسا جديرا بهذا المساء : استاذ حماد ..!
التفتُ ، لمحتُ شبح يتضاءل تحت ظلال شجرة المانجو الضخمة ، المنتصبة في قلب قطعة ارض وداد ..! قلتُ : اهلا .. يا مرحبا ..! شيئان اخاف منهما بشدة عند فصل الخريف ، في الليالي المقمرة في قيزان كردفان و رباها ، ووهادها : ضوء القمر و اشجار العشر الخبيثة ، التي تجيد المراوغة بتفاصيل مرعبة ..! انتفضت خلايا الحس البدوي في دواخلي ، و تعالت اصوات قوانين الحذر عند اهلي البدو ، و هي ترن بقوة في ذاكرتي المتعبة . القاعدة الأولى : اياك أن تحاول الإقتراب من اصوات الليل قبل التأكد من هويتها ..! .. القاعدة الثانية : وسع خطاك نحو الفضاءات الأرحب ، لتجرجر الصوت الغريب الى ساحة تعرف انت ملامحها بصورة جيدة ..! .. القاعدة الثالثة : لا تترك لأصوات الليل فرصة أن تجرك الى مواقعها ، فتدخل غابة الأشواك و الحسكنيت ، فتندم على قلة حذرك ..!! خلايا الذهن ، كانت في اقصى حالات ترقبها ..! جفلتُ ، حاولتُ أن أوسع الخطى نحو درب مهجور قليل المارة . توقفت في ظل ليلي ، و في موقع يمكنني جيدا من تحديد ملامح الدهمة العابرة بثبات نحوي ..! و الصوت النسائي يناديني : استاذ حماد ..! لو كنتُ أملك على الدهر امرا ، لجعلت كل الفصول مساءا ، يدندن فيه هذا الصوت النسائي الرقيق بحروف اسمي ..!! قلتُ : مرحبا ..! اقتربت الدهمة مني ، و كانت امرأة ممتلئة الجسم ، تتلفع بثوب لا ادري الوانه ، لكنها بالتأكيد ستكون الوان الفرح و الحياة و الجمال ..! مدت يدها ، تصافحني بسؤال تمدد كالإبر في جسدي : انتا ما عرفتني ولا شنو؟ أنا فتحية ..! قلتُ ، مندهشا : اٍنتي ..؟!! [ حاشية : بالمناسبة فتحية هذى ، كنت اطاردها لمدة اربع سنوات و لم اظفر منها بشئ ] قالت ، بغنج : نوّرت الحي ..! قلتُ : نور الله عليك كل الدروب ..! قالت : جيت زيارة ولا شنو؟ طارت مداخل الكلامي عني ، و فتحية مع سبق الإصرار تريد غواية ما ، تجرجرني نجو زرائب حديثها الماسخ ، المرتب المقاصد ..! صاح صوت في دواخلي بقوة ، انت لا تحتاج الى مثل هذه الأشياء الجانبية العرضية ..! تحدثت اليها عن الدوري العام ، و توقفنا كثيرا عند واقعة انهزام الهلال امام الموردة ، اخر قرارات السلطة حول الغاء مجانية التعليم ، و اعلان الزامية الخدمة العسكرية على كافة الشباب ، ذكورا و اناثا ، و اخر اخبار الحرب في الجنوب ، و محاولات مجلس الأمن في فرض عقوبات اقتصادية على السودان ، و معسكرات الدفاع الشعبي ، و احوال النازحين في اطراف المدن الكبيرة ، و ارتفاع اسعار تذاكر السفر من الخرطوم الى الأقاليم ، و تدنيها من الأقاليم الى الخرطوم ، و اخر ما فعله احد المغتربين في المدينة ، حينما خطف حسناء يانعة كانت تهب قلبها الى أحد اصدقائي المقربين ، و ضياع ذاك الصديق ، الذي اخذ هو الأخر يغترب في زجاجات العرقي و سب الدين و لعنة البترول و دول البترول ، تلك التي تفرّخ مستهلكين جبناء تغريهم نقودهم النتنة ..! بلا شك ، لم تكن فتحية تتوقع مثل هذا الهذيان الإسهال .. أي و الله اٍسهال .. ، و هو الوصف الذي وصفتني به أمل الضي ذات مرة بلا رحمة ، حينما قالت عني : انه مصاب باٍسهال الكلام ..! فتحية معروقة ، تقف امامي ، و هي تتمنى لو أني ذكرت شئيا اخر ، مثلا ، النزول الى خور ابو حبل ، أو الدعوة للتجوال في غابة المهوقني المنظمة ، أو الذهاب الى احد بيوت الأصدقاء ، تلك المفتوحة اوكارا للعشق حلالا و حراما ..! أنا ، لم اكن ارغب في فتحية في تلك اللحظة ، ولا غيرها من النساء ..! قالت هي ، بنفاد صبر : اتفضل معاي البيت ..! قلت : أفو .. يا تو بيت يا بت الناس ؟ قالت : بيتنا ..! .. نحن على بعد خطوتين من البيت ..! قلتُ : و انتي ، جاية من وين ؟ قالت ، بخبث : من عند الجيران ..!! قلت في نفسي ، أها ..! عند الجيران دي اسطوانة جميلة جدا ، كل واحدة تود الخروج ، تعلن لناس بيتها انها ماشة للجيران ، خصوصا الأم ، و قد تكون من قبل ، في ايام شبابها ، كانت تمشي للجيران ، و الكل يعلم أو يكون قد مرّ ، و لو مرة واحدة في حياته ، بقصة عند الجيران تلك ..! قلتُ لفتحية ، المنتصبة أمامي كواحدة من اقوى ادوات النصب في النحو العربي : شكرا ، مرة تانية ..! قالت ، و هي تشهق بدلال : مرة تانية ؟.. يا اخي انتا اندر من الكبريت الأحمر ..!!.. على كل حال أنا قررت أختطفك ، و اعتقلك لمدة مقدارها هذه الليلة ..! قلت : يا خي ، قولي كلام تاني ..! ابتسمت فتحية ، و جذبتني من يدي اليسرى ، و لبس صوتها اقصى ثياب التهديد و الوعيد ، و هي تقول : ح أصرخ و الم فيك ناس الحلة ، و اقول ليهم ده شروع في الإغتصاب ..! قلت باستهزاء : أنا جادي ، خليها مرة تانية ..! قالت بجدية : لأ .. الآن ..! ثم ذهبنا .. المنزل كان خاليا ، يمارس تسبيحة الصمت و الإغواء . على جنباته ، تفوح رائحة السكينة ، القادرة على اٍحتواء أي نوع من انواع الهروب الصغيرة . .! جلستُ أنا ، على كرسي مريح في وسط الحوش ، القمر يداعب الأغصان ، و الرقراق يتسلل ناعما خلف المسارب الصغيرة ..! شربت القهوة المرة ، و جلبت لي فتحية سجائر البرنجي ..! ثم جلستْ تحت قدمي على برش مزركش ، و كثير الألوان ..! بعد ساعتين من الصمت المتواصل ، استأذنتها الذهاب ..! قالت ، بدلال مملوء باقصى حالات الغواية : لسع ما شفنا حاجة ..! قلت ، متهربا : انا تعبان شوية ..! قالت بسخرية : دي على فتحية يا هامان ..!
في مثل تلك الحالات ، كثيرا ما يعجبني التنزه في ذاكرتي و استحضار بعض الحكاوي العجيبة . مرة حكي لي محجوب ، قصة رائعة عن حوار لغادة السمان ، كان يحاورها مفيد فوزي في مجلة صباح الخير ، و يبدو أنه كان يسألها بعض الأسئلة الواضحة للغاية ، مثلا عن عذريتها ، و كيف فقدتها ، و معنى العذرية في حد ذاته ..! وجد محجوب الحوار على صفحة ممزقة ، في الكوشة بالقرب من احد المنازل ، و لأن الحوار كان مملوءا بالتوتر و الإنعطافات الحاسمة ، فقد تمزق في نقطة اكثر حسما ..! فلم يملك محجوب الإ و أن يتتبع مسار الدرب نحو البيت الذي جاءت منه تلك الصفحة ..! و لقدرته الفائقة في قص الدروب و تتبع الأثر ، فلقد توفق في التعرف على المنزل الذي جاءت منه صفحة الحوار تلك ..! وجد حسناء بذلك المنزل العجيب ، و منحته ما تبقى من عدد مجلة " صباح الخير " تلك ، و مشروب من التبلدي المثلج ، و حديث مذهل ، و اشياء اخرى ، افاد منها محجوب كثيرا ، اقلها حسم توتر جسده المشبوب ..!! تذكرت تلك الحكاية ، و فتحية تحاصرني باصرارها اللئيم .. قلتُ لها : عاوز ابريق امشي بيهو بيت الأدب ..! قالت : جدا ، نخدمك في كل حاجة يا استاذ ، بس ادينا رضاك و اجبر بخاطرنا ياخي ..! قلتُ : ما عندك مشكلة تب ..!
كـبّر
05-31-2010, 03:08 PM
Kabar
Kabar
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 18547
بيت الأدب ، يقبع في الركن الجنوبي ، بالقرب من الدرب الصغير المظلم ، و هو يقف بالقرب من الحائط . يبدو اقل ارتفاعا . وقفت ، افك القيود عني . كنت ارتدي تحت بنطال الجينز ، بنطال صوف اخر ، يساعدني على التدفئة ، و لكنه معوق في اللحظات الحاسمة ..! لم اكن ادري بالضبط ماذا اريد أن افعل في بيت الأدب ..! اشعلت سيجارة ، عساها أن تروق هدير دماغي و ترتب مداخل التفكير عندي . تجئ الروائح النتنة ، دافئة ،و هي تنبعث من فتحة بئر بيت الأدب الصغيرة ..! تذكرت الطفولة ، و ما يحتاجه الصغار من زمن مسروق ، مملوء بالخصوصية ..! تناهى الى سمعي صوت دراجات نارية تعبر الدرب . تتبعتها بأذني ، تماهى صوت محركها نحو الغرب ، عند نهاية الدرب الصغير ..!
اصوات الدراجات النارية في مدينة الدلنج ، كفيلة بأن تفجر دوائر الخوف و الرعب و الحذر ، فاجود الأنواع تمتلكها دوائر الأمن . بالتأكيد هذا احد افراد الأمن ، يتجول في هذه الناحية ..! قبل أن اكمل هذا التصور الإفتراضي ، عادتْ الدراجات النارية ، هذه المرة تتجه شرقا . ضوئها الجاهر ، يجتاح اعلا سقف بيت الأدب في منزل فتحية . تقاصرتُ قليلا ، لأخفي قامتي و ملامح رأسي المتلصص ، لكي أكون في وضع مأمون ، و يتيح لي التلصص بصورة أفضل . توقفت احدى الدراجات النارية امام المنزل الجنوبي ، قريبا من موقعي . نزل منها شخصان ، و هما يتوشحان مدافع سريعة الطلقات ، و كعادة رجال الأمن ، الذين يجيدون الصمت الملتبس ، لم يتحدث أي منهما بأي عبارة كانت ، و دخلا المنزل الجنوبي ..! هو منزل مبني بالطوب الأحمر ، و يبدو فاخرا في مظهره قياسا بالمنازل التي تقف من حوله . تقف بالقرب منه شاحنة ضخمة ، مغطاة بمشمع كبير يتدلى على جنباتها . تقف تلك الشاحنة ، بالضبط امام باب المنزل الجنوبي ، و تخفي ملامح الداخل أو الخارج .
لا توجد اضواء على جنبات الدرب ، الناحية مظلمة ، ظلمة تبعث الخوف و تغيّب الملامح ..! حتى الآن ، لم استطع بالضبط تحديد ما اريد أن افعله في بيت الأدب ..! بعد هنيهة ، تناهتْ الى اصوات غريبة من داخل المنزل الجنوبي . حوار مبتور التفاصيل ، لكمات تنهال على جسد انسان ، يرد عليها بأنين مكتوم ..! صوت الأنين ، يعلو و يخفت ..! بعد جهد تبينت من ملامح الصوت/الأنين ..رجل تحت وطأة التعذيب..! كل لكمة لئيمة ، يرد عليها قائلا : يا الله ..آهـ ..! تلفتُ ، الدروب الصغيرة في الحي ، صارت أكثر خواءا . أصوات الكلاب تنبح في اطراف الحي ، تضامنا سريا و تواطؤا مع تلك اللحظة النتنة ..! اقتربت فتحية من باب بيت الأدب ، و هي تقول بصوت هامسا : يا استاذ انتا نمتا ولا شنو ؟ قلتُ لها ، بوضوح : دقيقة ..أنا خلاص انتهيت و جاي ..! صوت الأنين ، في المنزل الجنوبي الفاخر ، اخذ يزداد وضوحا ..! رفعتُ قامتي قليلا . بالمنزل الجنوبي ما يربو على الخمس غرف عددا ، و هذا الجزء القريب مني ، يبدو أنه صالونا . و كان هناك تل من تراب البناء يتكوم بالقرب من الشاحنة الضخمة . فكرتُ ، و أنا اتساءل في نفسي : يا تري من يكون هذا الرجل الذي يئن ؟ هل اعرفه ؟ هل هو سياسي ؟ هل هو احد اتباع حركة التمرد ؟ ماذا فعل ؟ متى تم اعتقاله ؟ هل هو من الدلنج ، كادقلي ، الأبيض ؟ الهواجس تمددتْ برعب في دواخلي ..!
بدأتُ افعل شيئا . لحظات الخيبة و مرارة الإنكسار ، لا يستطيع الإنسان أن يفعل فيها شئ سوى الإستمناء ..! هل ابحث عن راحة مؤقتة ، و احساس بالإنتصار ؟..و لماذا لا اواجه جسد فتحية الواعد ، الذي يرابض خلف باب بيت الأدب ، يقتل ملل الإنتظار بأغنية رقيقة العتاب ..! بعد أن انتهيت من الفعل اللعين اياه ، أشعلتُ سيجارة ..! و أعدتُ القيود حول خصري ، بالترتيب الممل . غسلتُ يدي ، ثم قفزتُ فوق الحائط ، في الجزء الأقل ارتفاعا . وجدتُ نفسي وجها لوجه ، امام الشاحنة الضخمة ، المنتصبة عند باب المنزل الجنوبي . طفتُ حول المنزل ، و الدراجة النارية ترابض خلف الشاحنة ، باردة ، هادئة . الدروب خالية تماما ، نباح الكلاب عند اول الحي يزداد و يعلو..! احتجتُ أن افعل شيئا . دعكت على آلتي القابعة عند نهاية أوراكي ، فعلتُ شيئا ، و هل يستطيع الإنسان أن يفعل شئ اخر في مثل هذه اللحظة سوى الإستمناء ..! مددتُ راسي حذرا فوق الحائط الشرقي من المنزل الجنوبي . تذكرتُ نبوءة الكجور رحال . هل هذه هي البئر الغريقة ؟ هل فتحية هي تلك الحية التي نذرت أن تقتلني قربانا ؟ المنزل صامتا ، و يبدو خاليا . ابواب الغرف موصدة . قفزتُ فوق الحائط ، و دخلت المنزل الجنوبي . تسللتُ حذرا ، و أنا امشي تحت الحائط . لمحت اضواء خافتة تنبعث من غرفة في الركن الغربي . ابتعدتُ نحو الأركان الأكثر اظلاما . وقفتُ بالقرب من شباك احد الغرف ، و اسختُ السمع . صوت الأنين بدأ يعلو ، رجل تحت وطأة التعذيب يصرخ بأنين مكتوم ، يرد على اللكمات الخرساء بعبارة مبتورة ، مخنوقة : يا الله .. آهـ ..آخ ..! لم استطع تحديد ما يفعل بذاك الرجل ، هل هي ركلات أرجل ، ام لكمات أيدي ، ام سياط عنج..! في مثل تلك اللحظات ، دوما ما تخطر على بالي بعض الحكاوي . في السيرة النبوية ، قصة سيدنا بلال بن رباح ، و الذي كان يرد على تعذيب جلاديه بعبارة : احد .. احد ..! تذكرت قصة سيدنا عمار بن ياسر ..! التعذيب فن ، له جذوره الضاربة في التأريخ ..!
كـبـّر
06-01-2010, 11:20 AM
Kabar
Kabar
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 18547
هبشتُ جيوبي ، و انا افتشها . أحتجتُ أن ادخن سيجارة ، نسيت تماما أنني في وضع قد يشكل ركن اساسي من اركان جريمة التعدي الجنائي ، ان لم يكن جريمة سرقة ..! عدلتُ عن فكرة تدخين سيجارة . سمعت احد الأبواب يفتح ، و يخرج شخص ، ثاني ، و ثالث ..! موقفي يزداد حرجا ..! قال احد الأشخاص هامسا للبقية : امشوا اتعشوا ، و نتلاقى الساعة واحدة ..! هبشتُ معصمي ، اتحسس ساعة يدي ، و لم تكن هي الأخرى على معصمي ..!
حاولت أن استحثُ خاصية احساسي بالزمن . تذكرت مقولة زميلي مصطفى أبشر ، ذاك الفلاح القادم من اقاصي الشمال ، ناحية قرية الشريق في دار الرباطاب ، متمردا على ادوات البندر و حاجات اولاد البندر ، رافضا أن يضع ساعة على معصمه ، ليس لأن معصمه اكثر جمالا من الساعة لتزينه ، و لكن لأن الزمن عنده احساس داخلي لا يحتاج الى آلة معطوبة تحسب تفاصيله ..!!
بناء على تلك الخاطرة ، جددتُ احساسي بالزمن ، و قدّرته ، الساعة الآن هي الحادية عشر مساءا بتوقيت السودان المحلي ، بعد قليل سيبدأ برنامج "حصاد اليوم الإخباري " في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية ، و بعد قليل ، ستبدأ اذاعة مونت كارلو في بث اغنية لفيروز ، و بعدها مباشرة سيتحول البث الى راديو كندا الدولي . أما اذاعة امدرمان ، فسوف تبدأ بث برامج السهرة ، و غالبا هذا المساء ستعيد بث سهرة الجمعة ..!
خرج الأشخاص الثلاثة ، تتبعتُ صوت الدراجة النارية ، و هي تتجه نحو قلب المدينة . بالتأكيد يمتطيها شخصان ، و لكن أين ذهب الشخص الثالث؟ هل هو من سكان الحي ؟ بالتأكيد لأ .. لأن ذلك يتعارض مع ابسط قواعد رجال الأمن ، فلابد أن يكون الشخص غير معروف لأهل المنطقة التي يعمل فيها ، ناهيك عن أن يسكن فيها ، و هو يشرف أو يؤدي مثل هذا العمل الذي يحتاج الى خفاش ، يعرف جيدا تفاصيل الظلام ..! صوت الأنين ، داخل الغرفة ، بدأ يخفت تماما .. ثم بدأ الصوت المكسور يعلو مخنوقا بالظلم : موية..!! .. يا اخونا أنا عطشان عاوز كباية موية ..! فكرتُ أن افعل شئ ، لكن الموقع غير مناسب ..!.. تقهقرتُ داخل نفسي ، اكثر خيبة و انكسارا .. قفزتُ الحائط . الدروب خالية تماما . و اغرب مافي الأمر ، خفت نباح الكلاب و استكانتْ عند اول الحي ..! تنفستُ ريح الصعيد الباردة ، الدعاش يسكن المدينة ، و البرق في الأفق الشرقي يتراقص كعروس في ليلة الدُخلة ..! لم استطع تحديد وجهتي . احتجتُ ان اذهب الى بيت الأدب ..! تبولتُ في قارعة الطريق ، و شعرتُ بأني احتاج التغوط بقوة رهيبة ..! جلستُ ، المغص يحرق احشائي و اسهلتُ .. أسهلت ُ بشدة ..! توجهتُ نحو منزل فتحية ، صوت والدها يرتل قرآن ركعات العشاء . طفتُ حول منزلها ، غرفتها مضاءة ، طرقتُ على شباكها ، فتحته قليلا و هي تتساءل : ده منو ؟ قلتُ : ده انا استاذ حماد ..! قالت : حماد منو ؟ قلت : فتحية ، بالله عليك ، لا داعي لهذا ..! قالت بوعيد : تمشي ، ولا انادي ليك ابوي ..!! لا ادري ، بالضبط ، بالذي كان يدور في خلدها ، لكنها حزمتْ امرها ، و باغتتني و باغتتة كل أهل الحي ، و اطراف المدينة . صرختْ فتحية بقوة و هي تستغيث : ووب عليّ ، الحقوني ، الحرامي ..! تعقد موقفي بصورة لا تسمح بالتفكير المتأمل ، و بغريزة الدفاع الرهيبة ، تراجعتُ الى الخلف و قفزتُ فوق حائط المنزل الجنوبي الفاخر . تسللت محاذرا تحت الحوائط في داخله . أصوات اهل الحي ، خارج المنزل تتضارب و هي تبدي المشورة .. : انا شفتا الزول جاري ..! : على وين ..؟ : مشى قدام بيت ناس بريمة ..! : انت يا زول ما بتشوف كويس ، الزول تلب جوه الحوش ده ..! : يا تو حوش ؟ : الحوش القدامو اللوري ده ..! : يا زول انتا جنيت ولا شنو ؟.. ده بيت ناس الأمني ، أوعك تاني تقول كلام زي ده ، احسن تجيك داهية ..! : سلامة ، انشاء الله ما سرق حاجة ؟ : يا فتحية الجاتك في مالك سامحتك ..! : يا اخوانا أسلم حاجة نبلغ ناس البوليس..! : يا اخونا البت مضروبة ؟ : فتحية ، انتي كويسة ؟ : سلامة ، الحمد لله ..!
بعد ساعة بالتقريب ، عاد اهل الحي الى بيوتهم ، ليواصلوا ما تبقى من احلامهم الليلية ، و كوابيسهم الخاصة ، متناسيين أمر الحرامي الذي داهم منزل فتحية ..! في الواقع ، ما اجبرهم على التفرق و عدم مواصلة التجمهر ، هو ضوء الدراجة النارية الباهر ، القادمة بسرعة نحو الحي ..! هذه المرة ، فعلتْ الدراجات النارية امر عجيب . طافتْ سبع مرات حول المنزل الجنوبي الفاخر ، ثم توقفتْ اخيرا أمام الشاحنة و خلفها ، عددها كان اكثر من اثنين . سمعت صوت المفتاح ، يكشكش على الباب الرئيسي . و دخل الأفراد ، واحد ، اثنين ، ثلاثة ، اربعة ، خمسة ، ستة ..! اٍذن هي ثلاثة دراجات ..! قبعت تحت الحائط ، في ركن مظلم . لم يحتاج احدهم أن يفعل فعل التفتيش الإحتياطي داخل المنزل ، و ذلك لثقتهم الكافية بعدم قدرة احد على دخول ذلك المنزل جهرا أم سرا ..! بدأ صوت الأنين يعلو .. موية ..! يا أخوانا ، أنا عطشان ، عاوز موية ..! رد عليه صوت خافت ، مملوء باللؤم ، و هو يقول : الأزيار فاضية ، و المأسورة قاطعة ، انتظر شوية المطرة ح تصب ..! تكورتُ أنا في دواخلي ، بحثا عن أقصى نقطة تتيح لي الإختباء في الذات ..! تأكدتُ تماما ، بأن الأفراد جميعا اصبحوا في داخل الغرف . بدأوا حديثهم همسا ، كانهم يتلون تقارير شفاهية . فجأة ، سمعتُ صوت خبطة قوية على تربيزة مكتب حديدية ، بعدها صاح احدهم بالأمر القاطع ، و هو يقول : تمشي هسع ده ، تجيب الكـلب ده .. من السماء ، من الأرض ، المهم تجيبو ، و الإ ح تشوف في نفسك ..! بعدها خيم الصمت ..! حتى صوت الأنين ، هو الآخر هدأ .. الموقف امتلأ بالتوتر ..! خرج احد الأفراد ، ادار محرك احدى الدراجات النارية ، و اسرع ناحية وسط المدينة ..!
كــبّر
06-03-2010, 02:48 AM
Kabar
Kabar
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 18547
فكرتُ بالخروج ، انتظرت لحظة أن ارتفعت أصواتهم الهامسة بالتقارير الشفاهية . لم تكن لدي رغبة لسماع ما يدور بينهم من حديث ، و قفزتُ خارجا عن المنزل الجنوبي الفاخر ..! كان هناك كـلب ، ضخم الجثة ، عند الركن الشرقي . نبح في وجهي بقوة ، لكني تجاهلته و اوسعت الخطى ، و الدروب قد نامت تماما ..!
وجدتُ نفسي واقفا تحت شجرة المانجو الضخمة ، المنتصبة في قلب قطعة أرض وداد . شعرتُ بالدوار . أشعلتُ سيجارة ، و ركبتيّ ترتجف بقوة . جلستُ على الأرض ، الكلاب تتقاطع بالقرب مني ، مستكينة و لم تمارس النباح في وجهي . ريح الدعاش تزداد بقوة ، البروق تكاثفت ، الوضع ينذر بالمطر ..! بعد نصف ساعة ، تحركتُ نحو منزلها ..!
لم تخونني ارادتي في هذه المرة . طرقتُ الباب . جائني صوت نسائي حذر ، يتساءل : ده منو ؟ قلتُ : السلام عليكم ..!
و لأن وداد اقنعتني بأنها تستطيع أن تميز نبض كتابتي و نبرات صوتي ، فقد جاء صوتها من اخر غرفة بالحوش ، آمرا شقيقتها بالقول : خلي يتفضل جوه ، و بعدين أسأليه ..! فقالت شقيقتها ، كالصدى : اتفضل .. اهلا و سهلا ..! وراتْ هي الباب قليلا ، فدخلتُ انا . بعد أول خطوة داخل المنزل ، داهمني القئ ، فتقيأت بحرقة. كانت وداد تسند رأسي ، و تربتْ بقوة على اكتافي ..! أحضرتْ شقيقتها ابريق الماء و طست واسع كبير ، غسلتْ وداد رأسي بالماء البارد ، و بعد أن فرغت من القئ ، قادتني هي الى غرفة الصالون ..!
بدأ المطر ينهمر بشدة . الأمطار الليلية في مدينة الدلنج ، هادرة كالشلالات . صوت المطر على السقف يطرقع ، و الرعود صاخبة كأصوات المظاهرات الغاضبة و هي تبث اصوات احتجاجها غصبا عن طلقات الرصاص..! ادخلتني وداد داخل الصالون ، و هي تسندني حتى لا اسقط ، ارقدتني على سرير مرتب بعناية فائقة . أحضرت لي جلبابا و هي تقول : هاك البس الجلباب ده ..! قلتُ ، باسما : جلابية ولا جلباب ؟ ردتْ بصوت ملؤه الجدية الصارمة : انتا عارف كويس انو البيت ده مافيهو راجل ..!! قلتُ لها : داير قهوة مُرة ، و داير استحم لو امكن ..! قالت وداد : ما عندك مشكلة ، لكن قول لي ، انتا جاي من وين ؟ قلتُ : من بلاد الله الواسعة ..! غزل الصمت ملامح اللحظة التالية ، احتضنتُ وداد بقوة ، ضممتها على صدري ، بحثا عن دفء آمن ، و لم أقبلها ..! بكيتُ بحرقة ، و لا ادري لماذا..! قلتُ لها : اريد العرق ..! قالت : كفاية كده ..! قلتُ : اريد العرق ..! قالت: لا شئ يستدعي الهروب و الغيبوبة ..!
صفعتها على وجهها ، و شعرتُ بالندم مباشرة ..! بعد لحظة صمت قاتلة ، قلتُ لها : عاوز اٍبريق امشي بيت الأدب .. قالت هي : المطرة ..ّ و تجاهلتها و تجاهلتُ اٍفادتها الإخيرة عن المطر ، و خرجتُ من الغرفة . كان المطر ينهمر بقوة. ذهبتُ الى بيت الأدب ، و لم أكن أدري بالضبط ما أحتاج أن افعله على وجه التحديد ..! أشعلتُ سيجارة ، و بعد أن دخنتها ، عدتُ الى الصالون . أعدتْ وداد القهوة ، ثم ناولتين حبتين . قلتُ ، و انا انظر الى الحبتين بين اصابعي : ده شنو يا وداد ؟ قالت : فاليوم 10 ..! ابتسمتُ ، و قلت لها : أنا لا احتاج الى النوم الآن ..! احضرتْ لي مصدر اٍضاءة ، لمبة كهربية ، هي مظهر من مظاهر الرفاهية و دليل على أن هذه الأسرة لديها فرد مغترب في دول البترول الفارهة اٍياها ..! مع تلك اللمبة ، احضرت وداد رواية " الزيني بركات " لجمال الغيطاني . قلتُ لها : الآن ، بالضبط ، اريد أن اعيد قراءة رواية " شرق المتوسط " لعبد الرحمن منيف ..! قالت : حينما تصحو الصباح ، و تغادرك دوامة الهذيان و الإنكسار ، سوف امنحك ما طلبت..! زودتني وداد بدراسة عن رواية القمع في العالم العربي . هل أحستْ هي بتفاصيل ما حدث لي في هذا المساء اللعين ؟ لأ أظن ..!
لكنها ، أحيانا ، تقدر جيدا اٍحتياجاتي النفسية ، و توفر لي ما تستطيع توفيره لمواساتي ..! جلستْ وداد على كرسي ، في قبالتي . كانت ترتدي جلبابا ورديا ، و ثوبا هادئ اللون ، و هي في كامل زيها الرسمي ، كأنها خارجة الى مشوار مجاملة رسمي ..! لم أستطع تتبع مسار السطور ، غالبني شئ أشبه بالنعاس و الخدر الزاحف في مسامي . تضامنتْ وداد مع تلك اللحظة المنكسرة و أمرتني أن اتناول حبة المنوّم . قلتُ لها : اريد أن اتعاطى الحديث معك ..! قالت ، و هي تأمرني بالنوم : نم ، و عند الصبح ، اٍن شاء الله ، سوف نتحدث أكثر..! جذبتْ البطانية الناعمة فوق جسدي ، و غطتني تماما ، ثم عادتْ لجلستها تلك ..!
بعض الكوابيس بدأت تنهشني . ألواح زجاج تتهشم ، تتناثر ، و شظاياها تملأ عيوني . و حيّات عديدة تتلوى تحت أقدامي . وحوش ضارية تطاردني . بدأ جسمي يرتجف ، و الحمى تداهمني . قطة عوراء ، تطارد جرذ كبير استطاب الركض داخل سراويلي . اٍبر النحل الأسود ، تنغرز في جسدي ، بصورة منظمة ، و تسبب لي حالة هرش عارمة . عيوني مفتوحة و غير مفتوحة ، الكلمات ثقيلة تتكسر فوق شفاهي ..! كل ذلك ، و وداد تتأملني بنظرة متآمرة ..!
قامت هي ، وقفت على طولها . قامتها طويلة ، طويلة . تطاولتْ الى أن لامست السقف الأعلا لغرفة صالونها . تحركتْ ، حركتها اشبه بحركة الإنسان الآلي . خطواتها ثقيلة و متباعدة ، تباعدت كالمساحات بين الكواكب و الأجرام السماوية . جلستْ على حافة السرير ، بالقرب مني . وجهها استطال ، ثم تربع ، ثم استدار دائرة كبيرة ، تمردت على مركزها ، و تمددت في الظلمة الهلام ، ثم صار مثلثا ، اشبه بوجوه بيكاسو ..! وضعت يدها على جبيني ، و هي تتحسس درجة الحمى في جسمي ، و اقتربت بوجهها مني ، ثم همستْ و هي تقول : أي رعب هذا الذي رأيت ؟
تحدرتْ دمعة على خدها ، و اراها كأنما هي نهر صغير يرعبني بخريره . همستُ ، و انا اغالب الإبتسامة المبتورة : لم أراه ، و لكني سمعته ..! آهتها المكتومة ، دمدمت كأزيز قطار البضائع العابر من الشرق الى الغرب ..! مالتْ عليّ ، انكفأت فوق صدري ، و بكتْ بحرقة ، بكتْ بحرقة ..! و لم أعي أنا ، جيدا ، تفاصيل تلك اللحظة ، و نمتُ ..!
عند ظهر اليوم التالي ، صحوتُ ، لأجد نفسي داخل غرفة وداد الخاصة ، في اخر الحوش الواسع . الساعة كانت عند الثانية ظهرا . رأسي ثقيل ، كاد أن يسقط مني . الأستريو الفخم ، يرسل الأنغام المفضلة ، تتسرب في قيعان الحس في دواخلي ، و تشكل خدر الراحة اللذيذة . نشوة خفيفة تسري في جسدي ..! كنت عاريا تماما ، كما ولدتني أمي ، تفوح من جسدي رائحة شامبو فارهة ، يانعة تخلق في نفسي النشاط و العنفوان ..! أغنية جملية ترتلها حنجرة مصطفى سيد احمد بدقة و انضباط ، أرددُ مقاطعها بصوت داخلي متماسك . أغمض عينيّ ، اقمار تتناثر في ردهة الكون العريضة ..! دخلتْ وداد ، عند تلك الظهيرة . ابتسامتها الوضيئة ، تمنح الذات بعض رحمن . سكون من الأمن و الطمأنينة ، تلك التي يشتهيها القلب في مغبات الزمن و مساغبه المجانية . قالت ، مستأذنة و هي تتكئ على حافة باب الغرفة : ممكن أدخل ..! قلتُ لها : أولا ، أين أنا الآن ؟ ضحكتْ و هي تقول : في مركز الكون ، عند قلب الأشياء..! قلتُ : بلاش كلام الكتب ده ، أنا عارف اني دخلت الحوش ده ، ثم تقيأت ، ثم ذهبت بي انتي الى غرفة الصالون ..ثم .. قالت ، تقاطعني : حبيت أخليك تنوم في غرفتي الخاصة ..! قلتُ : مؤكد ، لم أجئ الى هنا بنفسي ..! قالت : بالضبط ، حملتك أنا و شقيقتي نوال ..! قلت : انتي مجبورة عليّ ، لكن ما ذنب نوال ، و الدنيا مطرة ..؟!! قالت : الدنيا ، مش محتاجة عشان اقدم تبرير لما فعلته ، مافعلته فعلته و السلام ..!
كـبـّر
06-03-2010, 06:10 AM
الفاتح ميرغني
الفاتح ميرغني
تاريخ التسجيل: 03-01-2007
مجموع المشاركات: 7488
عندما يكتب كبر عن القانون، فإن المرء يكاد يرى الحق ومفهوم العدل يتخلقان ويمشيان على قدمين، وعندما يكتب في الأدب فإنه بلا شك يأخذكم إلى تخوم في وجدان غير مسبورة. _____________ الدلنج مدينة ساحرة فهي فعلا عروس الجبال، لي فيها ذكريات طفولة صادقة وجميلة، عندما كنت أقضي إجازاتي المدرسية فيها مع خالي الذي كان يعمل في المؤسسة العامة للطرق والكباري:قعر الحجر وحي القوز الملكية ومهرجان السبر والكجور وتسلق جبل الكجور.وشخصيات مثل الاسطورة كانت تتردد على الألسن:آدم كرمتي والخواجة شامي صاحب سينما الدلنج الشهيرة،إن لم تخني الذاكرة!
Quote: عندما يكتب كبر عن القانون، فإن المرء يكاد يرى الحق ومفهوم العدل يتخلقان ويمشيان على قدمين، وعندما يكتب في الأدب فإنه بلا شك يأخذكم إلى تخوم في الوجدان غير مسبورة.
فوووق
حضور واستمتاع بالنصوص الرائعة.. وشكرا على تعريفنا بهذا الجانب الابداعي .. خالص التحايا والمحبة الصادقة..استاذ/ كبر
Quote: عندما يكتب كبر عن القانون، فإن المرء يكاد يرى الحق ومفهوم العدل يتخلقان ويمشيان على قدمين، وعندما يكتب في الأدب فإنه بلا شك يأخذكم إلى تخوم في وجدان غير مسبورة. _____________ الدلنج مدينة ساحرة فهي فعلا عروس الجبال، لي فيها ذكريات طفولة صادقة وجميلة، عندما كنت أقضي إجازاتي المدرسية فيها مع خالي الذي كان يعمل في المؤسسة العامة للطرق والكباري:قعر الحجر وحي القوز الملكية ومهرجان السبر والكجور وتسلق جبل الكجور.وشخصيات مثل الاسطورة كانت تتردد على الألسن:آدم كرمتي والخواجة شامي صاحب سينما الدلنج الشهيرة،إن لم تخني الذاكرة!
محبتي الوافرة يا صديقي
صديقي الفاتح ميرغني.. حبابك كتر خيرك على الإشادة و الشهادة في حقنا و في حق ما نكتب..و صدقني ده يا الفاتح يا اخوي ..شعرا ما عندنا ليهو رقبة..!
كتر خيرك على المرور من هنا..بعض المدائن ، مثل وجوه الحبيبات الصديقات .. تظل ابد الدهر تتسكع في فيافي الذاكرة..و هو تسكع مستحق تفرضه الواحدة منهن (المداين) بتفاصيلها المدهشة..كتبت عن الدلنج بعض الخواطر المتناثرة..و اكثرها واحدة تعجبني حيث قلت عنها (اسبارها قصائد لا تنتهي)..و هو عنوان مستلف من قصيدة للشاعر حسن فتح الباب (وجهها قصائد لا تنتهي).. ايام كان الشعر يخرج من فم المطابع..و يصل الدلنج طازجا كخبز طابونة عمنا يوسف في شارع الظلط قبالة مدخل السوق في الدلنج..فهي تسكن من عشقها قبل أن يسكنها..و دونك الخواجة خبير التعليم في زمن الإستعمار.. الذي اختارها لتكون احضان تحتضن معهد المعلمين السابق..و الذي ظل يرفدها بشعوب السودان من كل النواحي..و كانت متعتنا يا صديقي ، و نحن يفع ايام الشهادة السودانية.. حينما يسألنا السائل في امتحانات الأدب عن تبلدية جعفر عثمان..و بلبصة نقاد الأدب في تكييف القصيدة.. هل هي رومانتكية أم هي رمزية..!
هي مدينة يا صديقي ، رغم عمرها الطويل..ولازالت صبية..و هو عين ما قاله عنها صديقي محجوب على عثمان ..حينما سماها (طفلة المدائن و ام القرى)..و كثيرون و كثيرات كتبوها خواطرا شتى..و للحزن يا صديقي لم تكن وسائل النشر متيسرة وقتها.. فكانت المنتديات التي يؤمها الشباب و الشبات..و هم يكتسون حلل البراءة و النقاء و يكتبونها و هم يكتبون تواريخ الوجدان في الفيافي البعيدة اياها..
كل من ذكرتهم كان لهم و للآخرين الفضل في كتابة اسمائهم في ذاكرة المدينة..و اظنك عاصرت اخونا نزار عوض حامد في الجامعة.. أو كان بعدك بقليل..فسنما الدلنج الوحيدة (تأسست 1957) مالكها هو مالك سنما كردفان في الأبيض.. السيد عوض حامد..و المكتبة الرئيسية فيها هي مكتبة الجبال..و مالكها الأستاذ احمد عبد الله الصفراوي..و اظنها تأسست سنة 1958.. فكنا يا صديقي سنة نؤسس سنما..و السنة التالية نؤسس مكتبة..و في كل سنة مشروع جديد..
تصيبني الحسرة على بواقي كازينو الدلنج و منتزها العائلي الذي كان اخر عهده بالخدمة في منتصف السبعينات.. ثم خوى على عروشه.. في التسعينات.. قام نفر من الشباب و قاد حملة لإحياء ذاك الموقع التقليد.. فكانت الفكرة أن يكون مسرحا..و بعد بناء المسرح و لحظة افتتاحه.. غمت على محافظ المدينة وقتها فكرة غريبة.. و كان اصوليا صادقا..و اعتبر أن المسرح مضيعة و فساد للعقول.. اي و الله يا الفاتح.. المسرح الذي يقول عنه دقاهنته ( اعطني مسرحا.. أعطيك أمة).. فكان ذاك الصاحب الأصولي.. اتخذ قرارا بتحويل المسرح الى سوق للمحاصيل.. يبيع السمسم و الفول و الغلة الماريق..و هي الواقعة التي احزنت الشباب.. فأرخها كل منهم على طريقته الخاصة.. فكتبت البنات..و كتب الشباب عنها..و منهم قصيدة الشاعر الفنان المتكامل ( يكتب الشعر و يرسم اللوحة و يعزف الكمان و يبني الطوب الأحمر و يدرس في المدارس بالدلنج) صديقنا و استاذنا سيد منوفل..و الذي قال (لم ارى دبابة تجرها الخيولا..و لم ارى مسرحا يبيع سمسما و فولا)..و حينما عاد الصديق ابكر ادم من الجامعة..ووجد المشغلة امامه.. فلم يستطع أن يفعل شيئا سوى أن يكتب تأريخ اللحظة.. كما ظهر في روايته الأولى ( الطريق الى المدن المستحيلة)..و حفظ لنا ما تبقى من حرقة نغالط بها اهل الصوالين في دار ام سودان..
في حقبة الثمانينات.. فتحنا أعيننا على الحياة..و كانت لنا بداية اختبارات قاسية في تأسيس رؤيتنا للكون..و حينما نرى في معارض الفنون التشكيلية لوحات لأكثر من شابة ترسم في تلك البيئة القاسية البعيدة..و تعرض رسمها على الجمهور.. فكنا نقول هذه مدينة يجب أن يكتبها الناس..!!
كتر خيرك يا الفاتح..و نشوفك طوالي.. كبر
06-05-2010, 02:48 PM
Kabar
Kabar
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 18547
حضور واستمتاع بالنصوص الرائعة.. وشكرا على تعريفنا بهذا الجانب الابداعي .. خالص التحايا والمحبة الصادقة..استاذ/ كبر
حسن محمود
صديقي حسن..حبابك كتر خيرك على المرور من هنا..
هي تفاصيل يا صديقي قليلة..و كان رهاننا في السابق.. انها مدينة مهما قلت عنها ، فان الخيال لا يستطيع القبض بكل تفاصيلها المدهشة..تقوم حول سلسلة صغيرة من الجبال.. بعكس كادقلي التي تحيطها الجبال..و في حوافيها غابة المهوقني..و هي التي كنت ازعم انها تصلح لبناء منتجع كبير فيها..و لكن الوعي السياحي هناك يا صديقي من اخر الأولويات الرسمية..!
كتر خيرك يا حسن..و نشوفك تاني..
كـبّر
06-05-2010, 02:50 PM
Kabar
Kabar
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 18547
شكرا لكل هذا الحكي الجميل والنصوص الموغلة في الابداع .. حد الدهشة
التقدير كله لمحاولتك الرائعة لتزيين صدر هذا المنير
غاب الكثيرون من هذا المنبر وبقي قلمك الانيق جدا
الود اقصاه
عبد الله جعفر
يآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه.. صديقي عبد الله جعفر..حبابك لينا طولة يا اخي.. كتر خيرك على المرور من هنا..و والإشادة الأنيقة..
عارف يا عبد الله.. على قول اهلنا ( الشكية لي اب ايدا قوية)..
فالمنبر يا صديقي حيرنا و فلفل افكارنا ذاتو.. كل يوم حكوة عن الغياب و عدم السلاسة..و في لحظات اليأس نسأل انفسنا ( اهلنا ديل دايرين شنو بالضبط)..لكن اهو تاني بنرجع و نقول (نحن دايرين شنو؟)..و من باب هذا السؤال الأخير دلفنا عبر هذا الحكي.. دايرين نحكي عن المدائن البعيدة التي لا تخطر ببال اهل الثقافة و الأدب و عالم المتكلمين و المتكلمات..لكن ليه الصمت تجاه هذه الكتابة.. فهذا هو المحزن يا صديقي..!
مافي طريقة يا صديقي غير أن نظل هنا..و صدقني لو المنبر فتح لناس الدلنج باب العضوية..و جونا كم نفر.. نساء و رجال.. تكون رسالتنا وصلت..و لن يكون هناك ما يدعونا للكتابة هنا..! قالها ذات مرة الكوميدي الآفريكان امريكان كريس روك.. في فيلمه النبوءة (رئيس الدولة..و هو فيلم تنبأ بحدوث ظاهرة اول رئيس امريكي اسود في امريكا..و انتج الفيلم في سنة 2004)..حيث قال لمن يطالبه بالإنسحاب (انت ترى أن الإنسحاب بالنسبة لك امر هين و ساهل..و انا انسحابي يعني خذلان امة و عرق و ثقافة.. و لو تم سيكون قتل لغيري قبل أن يكون قتل لي..!)..
و نحن كذا.. لن يعني غيابنا من هذا المنبر موت امة..و لكنه يعني ضياع حاجات ناس كتيرة ..تحتاج الدنيا أن تعرف عنهم و عن تفاصيلهم..و ابداعهم في صناعة الحياة..و تجميلها بالصورة التي تعجبهم و ترضى اذواقهم الحياتية و الجمالية..!!
كتر خيرك يا عبد الله..و افتقدت عبارتك كثيرا..و نشوفك تاني.. كبر
06-05-2010, 02:53 PM
Kabar
Kabar
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 18547
في توقفنا عن الحضور ، لو قليلا ، لهذا المنتدى.. فجعت الكلمة السودانية الأنيقة و اهلها.. بغياب الأستاذ ذو النون البشرى.. اصدق التعازي لأسرته و اصدقائه و تلاميذه و محبي كلمته..
كبر
06-05-2010, 03:05 PM
Nader Abu Kadouk
Nader Abu Kadouk
تاريخ التسجيل: 02-19-2007
مجموع المشاركات: 3706
الشمس ناصعة و قوية ، الريح تداعب ستائر الشباك البنفسجية . وداد لها علاقة مميزة مع الألوان . الغرفة اشيائها مرتبة بتنسيق دقيق و مضبوط . الوان الأشياء ، تناسب احجامها ، و الزوايا التي تقبع فيها . مكتب صغير ، للقراءة و الكتابة ، بعض الكتب المنثورة في نواحي الغرفة بصورة منظمة ، المكتبة الموسيقية ، و آلة الكمان المنزوية في أكثر الأركان دفئا و آمان ..! قلت لها : اين ملابسي ؟ قالت ، ووهي تبتسم بخبث غريب : كانت متسخة للغاية ، و نتنة ، ما الذي فعلته بها ؟ قلتُ : داهمني الإسهال ..! قالت : غسلتها بنفسي ، و قمت بكيّها ، و هي جاهزة ..! قلتُ : عمل هائل ..! قالت ، بسخرية عاتية : ربة منزل ممتازة ، لكن الخطاب عمايا ..! قلتُ : هل ، حقا ، تحتاجين الى مثل هذا الدور المهترئ ؟ قالت : العمر يركض بسرعة ..! ثم اضافتْ ، و هي تباغتني : تحب تشرب شنو ؟ قلتُ بخبث : عرقي ، طبعا ..! قالت : بالمناسبة ، في هذه الغرفة ممنوع التدخين ..! قلتُ ، لأغيظها : عفوا ، يا صديقتي ، لم أكن ادري انني داخل مسجد طاهر ..! قذفتْ هي بملابسي ، و خرجتْ ، بعد أن سحبتْ الباب من خلفها ، و هي تقول : ألبس ، سوف احضر لك شئ لتأكله ..! قلت :لحظة ، عندي سؤال قالت : اتفضل اسأل قلتُ : هي تأملتي جسدى و هو حر ؟ قالت : و عندك شنو عشان يتأملوه؟..ساقك الثالثة كانت تنتصب ، بعد أن عجزت بقية السيقان فيك ، كأنك تريد أن تمشي عليها متوكأ ..! شعرت بالحرج ، و صرخت فيها : غوري يللا ..! لبستُ ملابسي ، و رغم تحذيرها لي بعدم التدخين في غرفتها ، اشعلتُ سيجارة ..
كان وجه فتحية يتراقص خلف حلقات الدخان الزرقاء الرقيقة . يتضاءل كوجه يمتد خلف زجاج شباك مبلول . تتبدل ملامحه ، من لمحة الى أخرى . مرة مثل وجه اللبوة الكاسر ، و مرة عيونها جاحظة مثل ضفدعة كبيرة . و مرة مشطور الى شطرين : شطر كالجرذ اللئيم ، و شطر كالحلزون الذي ضل طريقه الى البحر ..! عادتْ وداد ، و هي تحمل الفطار ، و عصير العرديب ، مشروبها المفضل ، و صحف اليوم ..! قلت لها : هذا النعيم بعينه ..! و تجاهلتْ هي مثل ذلك التعريض غير المبرر . و بدأتْ تسرد عليّ أخبار المدينة و اخبار اصدقائي . بليا سال عليك ، و كذا حامد جاجا و معتز اسماعيل قمر ، نزار جلاب سيحضر اليك هنا قبل الذهاب ، قابلتُ شقيقتك الصغرى و اخبرتها انك معنا حتى لا يقلق عليك اهلك ، محجوب و عادل سافرا الى الأبيض ، و سوف يعودان بعد اسبوع ..! تذكرتُ ما قاله حسن ملاك عن وداد ، ثم اشحتُ بهروبية واضحة عن تلك الخاطرة اللعينة ..! قلتُ لها : متى ستعودين الى الرسم ؟ وقفتْ هي ، قرب جدارية عريضة ، مغطاة بقطعة قماش قرمزية اللون ، و ازاحتها . تبدت ملامح لوحة كبيرة الحجم ، بها تفاصيل مدهشة ، تبعث السرور في النفس ، و حركة الألوان فيها تمارس حوار اشبه بتراتيل الصلاة السرية ..! قالت : هذا عمل لم يكتمل بعد ، و لم يعلم عنه أحد الإ انت و انا و الله ..! قلتُ لها : ما في دواخلي من اسرار ، يكفى ..! جلستْ تحت تلك اللوحة ، كأنها تستظل بظل شجرة مقدسة ، و قرأت لي نصا كتبته انا من قبل ، و لم اتذكر متى اعطيتها له . قالت توضح لي أن هذا النص ساهم كثيرا في الهامها اجزاء من تلك اللوحة ..! استمعتُ لذاك النص مسجلا على كاسيت ، اختارتْ هي خفليته الموسيقية بعناية ، ثم طلبت مني اعادة تسجيل النص بقراءة صوتي ..! قلتُ لها :/ بشرط ؟ قالت : ما هو الشرط ؟ قلتُ : أن تعزفي انت على الكمان .. تبادلنا الإبتسامات البهية المطمئنة ..! ثم تناولت وداد الكمان ، و ضبطتْ اوتاره ، و ادارتْ الكاسيت الفارغ على الإستريو ، و ضبطتْ الصوت ، و بدأتُ أنا القراءة ، و هي تعزف على الكمان ، الى أن اكملتُ قراءة النص ..! طلبتُ منها نسخة . قالت : سوف اعمل نسخة واحدة و سوف اعطيها لبليا ..! قلتُ : و انا اطلع من المولد بدون حمص ..؟!! قالت ، هازئة : اديك نسخة عشان تمشي تشحد بيها البنات الهايفات ..؟!! ابتعلتُ تلك الإهانة و التعريض القارص . حقا ، هذا ما كنت افعله كثيرا في حياتي . اقرأ نصوصي على مسامع البنات ، ثم اتسربل في مغبات لا يعلم مداها الإ الله ..! مرة قالها لي محجوب صريحة : انت تكتب نصوصا جيدة ، و لكنك تدفعها ثمنا لعهرك و دعاراتك الفاجرة ..!
عند الساعة الرابعة مساءا ، استأذنتُ وداد في الخروج ، لكنها ذكرتني بموعد نزار جلاب . أنتظرتُ ، و كنتُ اقرأ بعض التراجم لقصص بورخيس ، الى ان حضر نزار جلاب بوجهه الطفولي الباسم بقوة . كان مقبلا على الحياة ، بصورة تجبرك على تناسي الأحزان و بعض الإنكسارات الصغيرة ، تلك التي تنخر بشدة لتعمر الهشاشة في مسارب الذات و تعرجاتها ..! خرجنا ، أنا و نزار ، بعد أن ودعنا وداد ، و التي اوصت نزار بقولها : الزول ده ما تخليهو يحوم براهو ، و انا عاوزاهو بعد يومين على الأكثر..!
تجولتُ في دروب المدينة . المدينة ، اغتسلت تماما عن ادران الليلة الماضية ، و بدأت زاهية نقية..! ذهبنا مباشرة الى منزل عيشة . وجدناها تبدو أكثر بهاءا ، تجهز لنا الكاكاو و زنجبيل المساء . لها تفاصيل لا تقل خصوصية عن تفاصيل وداد . طقوسية ، تحب الأشياء النادرة ، تقتنيها لتخلق لحظة فرح نادرة التفاصيل ، و تسميه " أبهة الناس السمحين ، الأكثر نضرة "..! تضع عيشة ، الروج الوردي الخفيف على شفتيها ، و تلبس زيها الأفريقي المتعدد الألوان ، و تربط راسها بعمامة افريقية صغيرة ..! قلت لها : تماما ، تحتشدين باللحظات الباهرة ..! ابتسمت هي ، ابتسامة عرضها السموات و الأرض ، و قالت : مهما بدوت ، فاني سأكون اقل من حدود خيالك المجنون ..! جلسنا نتحدث عن هموم الكتابة و النشر و تفاصيل الراهن ..كانت هي تخطط لإقامة مهرجان " الحرف و اللوحة " السنوي . طرحتْ علينا ، أنا و نزار ، تخطيطها الأولي للمشروع ، معارض تشكيلية ، قراءات شعرية ، ندوات فكرية ..! عند صدر المساء ، ودعناها و خرجنا ..! في اول منعطف ، اشعلتُ سجارة ، و قلت لنزار جلاب : اريد أن اذهب الى البيت ، ثم بعد ذلك ازور سيد منوفل ..! عارضني نزار بشدة ، و هو يقول : ليس قبل الذهاب الى دار الأستاذ بليا ..! حقا هي لحظة يصعب على الإنسان مقاومتها ..!
عند منزل بليا ، في حي قعر الحجر ، وجدنا معتز اسماعيل قمر و حامد جاجا و الزين سلمان . انفردتُ انا ببليا لحظات قصيرة ، و القيت عليه بعض الأسئلة ، و حكيتُ له عن احداث الليلة الماضية ..! ابتسم بليا ، و قال : انت فاكر دي كوابيس ، دي أشياء بسيطة جدا..!! قلتُ : ما يهمني ، أن اعرف تفاصيل اكثر ، مثلا من هو ذلك الشخص ، و من يملك ذاك المنزل ؟ ضحك بليا بسخرية ، و قال لي : اذهب ، و ستجد المدينة حبلى باسرار اكبر..!
كـبّـر
06-09-2010, 01:09 AM
Kabar
Kabar
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 18547
أسبوعا كاملا ، بعد زيارة المنزل الجنوبي الفاخر ، قضيته داخل منزلنا بحي المعهد . أعدتُ قراءة بعض من اعداد مجلة الكرمل القديمة ، و توقفتُ كثيرا أمام نص لمريد البرغوثي اسمه " الشهوات " ..!
بدأتُ اٍعادة ترميم بعض المسودات ، اكثرتُ من المكسرات و شرب القهوة . طبعا ، لا استطيع التدخين في البيت بصورة واضحة ، و قد يبدو ذلك الأمر مضحكا ، و لكنه حقيقة ..ّ! بحثتُ عن جاري و صديقي سيف الدين ، عثرتُ عليه بعد ثلاثة ايام بلياليها من البحث المضني. سيف الدين هذا ، يجيد الحكي بتفاصيل ممتعة و مدهشة . حكيتُ له عن فتحية ، ضحك و قال : حرباء و بنت ستين حرباء .. قلتُ : في رايك ، ما هو تفسير ما فعلته معي في تلك الليلة ؟ قال : بالطبع ، ليس هو من باب الإنتقام و التشفي من برودك تجاهها ..!! قلتُ : ربما ..! ثم تحدثنا عن بعض من كتابات غادة السمان ، و حكى لي بعض من مواقف زميلته ، وجدان عمر ، و التي اكتشف فيها مبادئ سحاقية ، تغوي الفتيات الصغيرات ..! سألته أن نذهب الى الحلة الجديدة لجلب بعض من العرق ، و تجهيز قعدة ننثر فيها همومنا و تفاصيلنا المحزنة ، و لكنه اعتذر بلباقة ..!
و ذهبتُ أنا وحدي..! بعد أن عبرتُ حي قعر الحجر ، بالتحديد بالقرب من نادي الجيل ، قابلتُ زميل دراستي حاتم حمدان ، و الذي صار الآن موظفا بمكتب الضرائب في المدينة . خجول مهذب ، حياني ، ثم قال بتردد واضح : عاوز اشيل لي حاجة من الحلة الجديدة ، لكن براك شايف كيف الجو ملغم ..! قلتُ بخبث : تقصد شنو يا عم ؟ قال : ناس الإستخبارات حايمين ، و ناس الأمن ، و ناس الشرطة الشعبية ، بعدين معاك ، يا خي ، ستات العرقي ما بيثقن في زول بسهولة ..! قلتُ : انت عاوز تشرب هنا ولا ماشي البيت ؟ قال باستغراب : هنا؟..وين يا عم .. ابدا هنا مافي طريقة اقعد نهائي ، بس عاوز اشيل لي حاجة و ارجع البيت ، معاي اصحاب من بره البلد ..! قلتُ : ما عندك مشكلة ، و داير قدر شنو ؟ قال : أي كمية تمشي الحال ..! قلتُ : يللا بينا ..
ذهبنا نتمشى ، الجبال الغربية داكنة في لونها الأزرق العميق ، تسد الأفق و الشمس تتهادى نحو المغيب ..! عادة في مثل هذا الوقت من اليوم ، تبدو شوارع الحلة الجديدة خالية بعض الشئ ، لكن لا يجرؤ احد على دخول خماراتها بصورة مباشرة ..! ذهبنا الى منزل صديقة اعرفها جيدا ، اسمها فايزة ريحان ، كثيرا ما نلجأ اليها في اوقات الضيق و الحصار . استقبلتنا فايزة برحابة و كرم فياض . انتحيتُ بها جانبا ، و همستُ لها بغرضنا من تلك الزيارة الميمونة ..! ابتسمت فايزة ، و اخذت تتأمل حاتم حمدان و هي تقول : ما عندك مشكلة ، لكن الشاب ده أنا ما عندي عنو أي فكرة ..! قلتُ : ده على مسئوليتي .. سلمتها المبلغ المطلوب ، و حددتُ لها طلباتنا . خرجتْ هي لمدة سبعة دقائق ، و عادت . قلتُ لحاتم حمدان : يللا ارح يا عم ..! قال حاتم ، منزعجا : لكن ما فهمنا أي حاجة ..! قلتُ بحسم : التسليم ح يكون في وسط البلد ..!
حقيقة ، اصاب الذعر حاتم ، و اخذ يردد مخاوفه بصورة واضحة ، و اخذ يطنطن باشياء مثل انه دفع نقوده ، و لن يستطيع العودة بدونها أو بدون أي شئ ..! حدقتْ فايزة في وجهي بنظرة تنطلق رصاص اعمى ، و تمتلئ بفقاعات الإتهام الموبوء بالندم و التلوث و التسآل ..! هدأتُ أنا من روع حاتم حمدان ، و قلتُ له : ولا يهمك يا عم ، المسألة على مسئوليتي ..! و لكنه لم يقتنع ، و طلب تفاصيل و توضيح عن مكان التسليم و زمانه و طريقة التسليم ، و من سيقوم بذلك . كان يتهجس بتلك الهواجس ، و هو يركز نظراته في وجه فايزة ريحان ..! ردتْ هي بفصاحة ، اوضح من الحذر و هي تقول : انا ما بعرفك عشان اكشف ليك اوراقي كلها ، عجبك كده اهلا و سهلا ، ما عجبك ، روح في ستين داهية يا شيخ ..! توتر الموقف بصورة غير متوقعة ، فأخرجتُ انا مبلغ مساوي للمبلغ الذي دفعه حاتم ، و قلتُ له: شيل المبلغ ده امنية و ضمان ، اذا استلمنا اهلا و سهلا ، و اذا لم نستلم تكون قروشك رجعت ليك ..! شعر هو بالحرج ، و رفض أن يستلم المبلغ ..! بعد برهة من الصمت ، قالت فايزة : المسألة في المقام الأول ، هي مسألة ثقة يا حبيب ، و ما اضر بالشعب السوداني و طلع دينو ، سوى أزمة الثقة دي ..! قلتُ لها ، موبخا : ده مش محل الشعب السوداني يا فردة ، و خلونا نبقى حبايب ..! هدأ الموقف قليلا ، و عاد الصفاء الحذر يعلو قسمات الوجوه ، ثم حلفت علينا فايزة ريحان أن نشرب القهوة ..! شعر حاتم بالأمان ، و انفتحت شهيته للحوار .. قال لفايزة : قبل شوية قلتي حاجة عن الشعب السوداني ، ممكن تعيدي لي النقطة دي تاني و تشرحيها لو سمحتي ..! قالت فايزة ، و هي تصب القهوة بطقوسية حميمة : في السودان يا صاحبي ، و في كل المجتمعات الشرقية ، المجتمع مبني على نظرة احادية ، مركزها عدم الثقة ، المبنية على شوفينية ذكورية جوفاء ..! اتسعت حدقات حاتم بالدهشة ، و هو يتساءل : كيف يعني ؟ قالت فايزة : نحن في السودان ، عندنا أزمة سياسية و اقتصادية و اجتماعية و اخلاقية .. اساس الأزمة دي ، في وجهة نظري ، هي عدم التوازن العاطفي ..نحن عندنا خلل في تحديد التوازن ده .. الأسرة قايمة على سيطرة الأب ، و في حالة غيابو ، بتكون هي سلطة الأخ الأكبر ، و في حالة غيابه ، سلطة أي ذكر في البيت ، حتى لو كان طفلا ..! التصور ده ، اترسّب في اعماق ذهنيتنا ، حتى لو على مستوى العمل العام ، بنلقى المسألة محكومة بالمبدأ القانوني ده ..! اضف الى كل ذلك ، سيادة ذهنية القبيلة في مجتمعنا ، و بالمناسبة ، أنا مفهوم القبيلة عندي مش مؤسس على اساس العرق و الإثني بس ، بل بيمتدّ و يشمل القبيلة المهنية ..! يعني مثلا ، انت في نفسك ، زول خريج جامعة الخرطوم ، و شغال في وظيفة محترمة بالدولة ، و فاكر ده امتياز و حصانة بالنسبة ليك في مواجهة الناس البسطاء ..! يعني ببساطة يا استاذ ، فاكر واحدة بتبيع العرقي و المريسة ، غير جديرة بالثقة ، وممكن تشيل قروشك و تفكك عكس الهوا..! فلو كسرنا المفاهيم دي ، حتى و لو على مستوى تعاملنا الحياتي البسيط ، ح نكون كده بدينا نؤسس للتربية الجيدة ، التربية الخالية من العقد و التأزم الفارغ ..، و ممكن بعد داك نخلق فرد اجتماعي متوازن عاطفيا ، يملك الثقة في نفسو و في الآخرين ..! كان حاتم حمدان ، يتابع فايزة باهتمام بالغ ، ثم اخذ يهمهم بهذيان مفضوح ، و هو يقول : انا ما قادر اتصور ..! قلتُ أنا لفايزة : عاجبك كده يا فردة ؟ .. ياخي ما تخلينا في حالنا ، مالك انتي و مال الشعوب دي يا ختي ..!
قالت ، ضاحكة : ياخي الإنفصام في وش الأخرين زي القدر تماما ، حاجة الزولة ما تملك عليها قرار و ارادة ..! قال حاتم : في المدينة دي انا ح اجن .. ست الشاي ، في الموقف العام ، بتقرا "السودان عبر القرون " لمكي شبيكة ، واحدة تانية ، بتقرأ ديوان شعر " عيناك و الجرح القديم " لمحمد سعد دياب ، واحد مجنون رسمي بيردد قصيدة " البحر القديم " لمصطفى سند ، و في موقف العربات العام ، الناس سمعت أو ما سمعت مش مهم .. انتبهت أو ما انتبهت .. مش مهم .. دي تفاصيل شنو دي يا جماعة ؟.. حاجة تجيب الجنون ..! قالت فايز تسأله : و انت من وين يا استاذ ؟ قال ، بدون تردد : من كادقلي ..! قالت فايزة : ناس كادقلي دايما كده ، فاكرين روحهم احسن ناس في جنوب كردفان ، و السبب كلو لأنو العاصمة عندهم ..! قال حاتم : مش مهم .. العاصمة دي ممكن تكون في ابوجبيهة ، ابوكرشولا ، في اي حتة ، ولكن ده ما السبب ..!
الأخ الكريم كبر حبابك أهنئك على هذا السرد الجميل وهو منك وأنت منه الدلنج مدينة جميلة ورائعه وقد كنا نمر بها في طريقنا إلى مدرسة كادقلي الثانوية (تلو)، خاصة في أيام الخريف، ثم بت أقضي فترة الإجازة القصيرة فيها مع ابن خالي جبريل علي خاطر الذي كان موظفا بالزراعة الآلية بالدلنج. والدلنج بتفاصيلها أشبه بقصيدة وهي مدينة ملهمة لكتاب الشعر خاصةوالطلاب الذي التقيناهم من الدلنج وما جاورها هم من أكثر الطلاب نباهة وعندما نذكر الدلنج أتذكر زميلي وصديقي ياسر طه محمدخير فإذا لم تعرف في الدلنج إلا هو لكفاك. أما الأخ محمد النور كبر صاحب هذا البوست فقد عرفناه زميلا في كادقلي الثانوية وصديقا حميما فيها وهذه الموهبة المتدفقة كانت فيه منذ معرفتنا به، فقد كان يكتب النثر والشعر ويتميز بالذوق الرفيع ولم أشعر بغرابة في هذا السرد الجميل وهذه الأخيلة واللغة الدفاقة، لأن محمد لم يكتب بعد ولم يتدفق بعد ولم يجد الوقت الكافي - في ظني - ليكشف عن المزيد المكنون في طويته. لك مني كل الود ومزيد من الإبداع. أخوك فضل الله خاطر
06-17-2010, 05:32 AM
Kabar
Kabar
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 18547
Quote: الأخ الكريم كبر حبابك أهنئك على هذا السرد الجميل وهو منك وأنت منه الدلنج مدينة جميلة ورائعه وقد كنا نمر بها في طريقنا إلى مدرسة كادقلي الثانوية (تلو)، خاصة في أيام الخريف، ثم بت أقضي فترة الإجازة القصيرة فيها مع ابن خالي جبريل علي خاطر الذي كان موظفا بالزراعة الآلية بالدلنج. والدلنج بتفاصيلها أشبه بقصيدة وهي مدينة ملهمة لكتاب الشعر خاصةوالطلاب الذي التقيناهم من الدلنج وما جاورها هم من أكثر الطلاب نباهة وعندما نذكر الدلنج أتذكر زميلي وصديقي ياسر طه محمدخير فإذا لم تعرف في الدلنج إلا هو لكفاك. أما الأخ محمد النور كبر صاحب هذا البوست فقد عرفناه زميلا في كادقلي الثانوية وصديقا حميما فيها وهذه الموهبة المتدفقة كانت فيه منذ معرفتنا به، فقد كان يكتب النثر والشعر ويتميز بالذوق الرفيع ولم أشعر بغرابة في هذا السرد الجميل وهذه الأخيلة واللغة الدفاقة، لأن محمد لم يكتب بعد ولم يتدفق بعد ولم يجد الوقت الكافي - في ظني - ليكشف عن المزيد المكنون في طويته. لك مني كل الود ومزيد من الإبداع. أخوك فضل الله خاطر
العزيز فضل الله خاطر..حبابك يا صديقي لينا طولة يا ول ابا.. كتر خيرك على المرور من هنا..و التوقف امام هذه الثرثرة المالحة.. و هي كذلك يا صديقي.. مدينة اسبارها قصائد لا تنتهي.. تضاحك جمالها.. فتزيدها خيوط القمر الدفاقة ابهة و بهاء..و هي تناغم صوت الطبول فيها.. نقاقير الكرنك..و نقارة المطار..و نقارة الذكر في قعر الحجر..كلها منظومة تعانق خيوطها بعضها البعض.. فتهتف زخات المطر فيها.. فتكون هي الدهشة في ذات نفسها.. صديقنا ياسر طه.. ربنا يديهو العافية محل ما يقبل..فهو من الوجوه العالقة بالذاكرة..و كل الأمنيات له و لك..و لكل الأصفياء الذين عبروا بهاتيك المدينة..فظلت هي تعبر في دروب ذاكرتهم..و تنمحهم لمحة من النقاء و الدهشة.. كتر خيرك يا فضل الله..و ما تنقطع..
كبر
06-17-2010, 05:36 AM
Kabar
Kabar
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 18547
كان المساء ، قد بدأ يتسلل محاذرا ، مسكونا بالهسيس و الصفاء المحرّض على السهر ..! قطعتُ أنا ذاك الهذيان السياسي الممتاز ، و استأذنتُ فايزة ريحان في الذهاب ..! عند باب منزلها ، التفتُ اسألها : على كم ؟ قالت ، ضاحكة : على الساعة تمانية و نص ، اٍن شاء الله ..! ودعناها خرجنا .. أشعلتُ سيجارة ، و عزمتُ حاتم على اخرى ، و يبدو أنه كان لازال مسكونا و مفتونا بجو ذاك النقاش المجاني . حاول هو ان يستمر على نفس الوتيرة ، و لكني قلتُ له بلا مجاملة : أنا لا احب في مواصلة هذا الهذيان المالح ، و دعنا نستمتع بصدر المساء ..! عرجنا على منزل بليا ، و مكثنا بعض الوقت هناك ، ثم خرجنا .. قلتُ لحاتم : عندك مانع نتلاقي الساعة تمانية ، ولا ننتظر مع بعض ؟
ضحك هو، و قال : يا عم ، انا بعد كده ..لو العرقي جا أو ما جا ، ما عندي مشكلة تب ..! قلتُ : للدرجة انبهرت بست العرقي يا صاحبي ؟ قال : ياخي دي مثقفة جدا ..! قلتُ : حدد عبارتك ، مثقفة ولا سياسية ؟ قال ، مطمئنا و منشرحا : عاوز الجد؟.. دي سياسية من الدرجة الأولى ..!
في الطريق تحدثنا عن بعض التفاصيل العامة ، و امام ميز الضرائب ، اصر حاتم على الدخول معه و تحية اصدقائه . جلستُ مع الأصدقاء ، و لعبنا الوست لبعض الوقت . كان حاتم قلقا و هو ينظر الى ساعته بين الفينة و الأخرى . عند الثامنة الإ ربعا ، اعلنها صراحة ، و هو يقول :المواعيد يا استاذ ..! قلتُ : هيا بنا ..! اخذنا سيارة الضرائب البيكب ، و قال لي : تسوق انت عشان عارف المحل كويس ..! ضحكتُ بسخرية ، و قلتُ له : دي عربية حكومة يا استاذ ، و هي في عهدتك ..! قال : ياخي ، عربات الحكومة في البلد دي البتسويهو مو هين ..!
عندما مررنا امام مركز البوليس و مكاتب الأمن الداخلي ، اصاب حاتم شئ من الذعر ، و بدأ يرتجف و هو يقول : قدام ناس الأمن الداخلي ؟ .. المسألة كده ما بتجي يا استاذ..! اوقفتُ السيارة ، و انا اسأله : ياتو مسألة ؟ قال ، منزعجا : انت عارف ناس الأمن الداخلي ديل عارفننا كويس ، يمكن بكرة يرسلوا لينا استيضاح ..! و اكملتُ انا : ان عربية الضرائب سايقها واحد هلفوت ما عندو أيتها علاقة بالضرائب .. مش كده ؟ قال : لأ ابد القصد مش كده ، ارجوك ما تفهمني غلط ياخي . يعني كان ممكن نمشي بطريق تاني غير الطريق ده ..!!
ضغطتُ انا على دواسة الوقود ، متجاهلا كل مخاوفه ..! بين مركز الشرطة و مباني مجلس المدينة ، و على ضوء السيارة ، لمحنا شبحين من النساء ، متلفعات بثياب فاخرة . أطفأت انوار السيارة ، و سلمتُ عليهما ، و تسلمت منهما الأمانة ، و ذهبن هن..! ناديت على حاتم أن يساعدني في حمل الأشياء برفق ، نزل و هو يرتجف كالديك المبلول ..! قلتُ له : نرجع بنفس الطريق ..! و فعلا رجعنا بنفس الطريق ، عبورا بين مركز البوليس و مكاتب الأمن الداخلي ، ثم سلكنا الشارع الرئيسي ، و عبرنا موقف البصات العام ، الى غاية ميز الضرائب..! أمام البيت ، ودعتُ حاتم ، و اصر هو على مشاركتهم الجلسة ، و لكني اعتذرتُ له ، و حملتُ اشيائي ، و ذهبتُ بحثا عن ابعد مكان ممكن ..!
كـبـّر
06-17-2010, 05:55 AM
Kabar
Kabar
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 18547
خطوتُ خطوات عديدة وواسعة في دروب المدينة ، و انا اجوبها دربا دربا ..و بعد عدة جولات في الشوارع الصغيرة ، و التي كانت بلا معنى واضح سوى التمويه ، الى منزل رباح حامد . وجدتها تحتضن مندلينا و تغني بحزن شفيف . قلتُ : تماما ، كما اباذر الغفاري ..! ضحكت ، و قالت : أي ريح جاءت بك يا سلالة الأبالسة ؟ قلت : جئتك اطلب الإستجارة و الأمان ..! قالت : من دخل بيت رباح ، فهو آمن من السباع و آفات الليلة العديدة ..!
رباح هذى ، لا تشرب الخمر ، و لكنها صديقة وفية ، الجأ اليها في بعض الأوقات ، بشرط ألأ يتضارب ذلك مع خصوصية وقتها ..! سألتها : بصراحة ، يا رباح ، لو عندك أي برنامج ، اسمحي لي امشي ..و ما اخرب عليك ساكت..! قالت ، بخبث مجامل : كل البرامج في حضورك مؤجلة يا شاب ..! تحدثنا لبعض الوقت ، وطلبت مني أن ادوزن لها اوتار جيتار ينتصب عند ركن من اركان الغرفة الدافئة ..و قلت لها : ما عندك مشكلة تب ..!
قالت : تحب تقعد براك ، ولا اقعد معاك؟ قلتُ: ان كان ذلك لا يزعجك كثيرا ..! ثم بدأت هي تعد لي مجلس الشرب الوحداني ..! فرغتُ من ضبط الجيتار ، و عزفناُ معا لبعض الوقت ، و نحن ندن بانغام ملؤها الحزن و اليأس..! كانت هي تحدثني عن بعض من همومها الصغيرة ، و هي تصب لي الكأسات بايقاع مضبوط ..! بعد ان فرغتُ من الشرب ، شعرتُ بالثمل يدبُ في اوصالي ، و استئذنتها في الخروج .. كان الإنزعاج يبدو واضحا في قسمات وجهها على ضوء المصباح الخافت ، و قالت باستغراب : انت مجنون ولا شنو؟ تمشي وين في الهوا ده؟ ضحكتُ ، و قلتُ لها : انا واعي خالص ، و ما ح تجيني أيتها مشكلة ..! قالت : بس ، خايفة عليك ..! خلاص اوصلك البيت ..! قلتُ : كم انت طيبة جدا يا رباح ..! قالت : أنا جادة في عرضي ده..! قلتُ : بالصورة دي ما ح اقدر امشي البيت ، لكن ح امشي الى بعض الأصدقاء ..! قالت رباح ، بشهامة تفيض بالمسئولية و تقديرها الحق : و حتى و لو ، أنا مستعدة امشى معاك لأيتها حتة في المدينة ..! قلتُ ، مازحا : ما بتخافي من ناس الشرطة الشعبية ؟ قالت : شرطة شعبية بتاعة ايه ؟ قلتُ : ح يتهموك بالشروع في الزنا ، لأنو عندهم ، كل واحدة تمرق بالليل في صحبة أجنبي ، فهي في نظرهم زانية ..!! قالت: بلاش من التخاريف الهايفة دي ..! ثم أضافت : عندك خيارين ، ما عندهم تالت : يا اما نمشي سوا يا اما نقعد سوا ..! حقيقة ، موقفها نادرا ما يحدث ، حتى ممن نسميهم رجالا..! اقنعتها بفكرة ان اذهب لوحدي ..! قلتُ : الساعة كم ؟ قالت : عشرة ..! ودعتها ، و انا اقول لها : ربنا يلاقينا في ساعة خير ..! سالتْ دمعة على خد رباح حامد ، لا ادري ما الذي تبكيه بالضبط ؟ وحدتي أم ثمالتي أم وحدتها ؟ أم هي حالة الأنثي الرقيقة فيها ؟ ما بيني و بينها ، مثل ما بيني و بين فايزة ريحان و وداد و عيشة ، لا تحتويه أطر المفاهيم الخواء ، تلك المشدودة في اوتاد الأنوثة و الرجولة ، و اوهام الكذب المخيف المسمى حبا ..! أكدتُ لها ، بانني سوف اكون بخير ولا داعي للقلق من اجلي ..! احتضنتني رباح بقوة ، وودعتني بدمعتين ، كثيرا ما احتاج اليهما ، و خرجتُ ..!
كـبّـر
06-30-2010, 05:09 AM
Emad Abdulla
Emad Abdulla
تاريخ التسجيل: 09-18-2005
مجموع المشاركات: 6751
هذا صباحٌ بهيٌ بك .. عليم الله ما تمتعت قريباً بكتابة هنا .. أدخل البيت الأصفر هذا كل صباح بحثاً عن ( الكنز في الحوصلة ) .. فما يبرد بطني منه شيء .. حتى زاد مللي مللاً .. حتي كفرت بالراكوبة في الخريف .. قلت لنفسي : ما عاد المكان هنا حجر اللحوس .. فآن و وجب هجره ، و قرضت علي كده . ثم هأنت " تخرب " لي يقيني يا زول يا بديع .. فشكراً لدحضك كفري .
....... أحزنتني غضبتك علي الخرطوم .. تلك يا كبر حبيبتي .. لو تعرف .. لكنها .. لكنهم ..!! سأعود لك في شأن الخرطوم من بعد اكتفائي من وليمتك هذه .. هذا إن استقام لي افتكاكاً من سحرها .
يا رجل ، أسعدني دخولي في متن هذه الكتابة الفارعة .. أسعدني اكتشافي للدهشة من جديد . شكراً يا كبر .
06-30-2010, 10:07 AM
الجندرية
الجندرية
تاريخ التسجيل: 10-02-2002
مجموع المشاركات: 9450
Quote: هذا صباحٌ بهيٌ بك .. عليم الله ما تمتعت قريباً بكتابة هنا .. أدخل البيت الأصفر هذا كل صباح بحثاً عن ( الكنز في الحوصلة ) .. فما يبرد بطني منه شيء .. حتى زاد مللي مللاً .. حتي كفرت بالراكوبة في الخريف .. قلت لنفسي : ما عاد المكان هنا حجر اللحوس .. فآن و وجب هجره ، و قرضت علي كده . ثم هأنت " تخرب " لي يقيني يا زول يا بديع .. فشكراً لدحضك كفري .
....... أحزنتني غضبتك علي الخرطوم .. تلك يا كبر حبيبتي .. لو تعرف .. لكنها .. لكنهم ..!! سأعود لك في شأن الخرطوم من بعد اكتفائي من وليمتك هذه .. هذا إن استقام لي افتكاكاً من سحرها .
يا رجل ، أسعدني دخولي في متن هذه الكتابة الفارعة .. أسعدني اكتشافي للدهشة من جديد . شكراً يا كبر .
صديقي عماد عبد الله..حبابك
كتر خيرك يا صديقي على المرور من هنا..و التوقف امام هذا الحكي.. و بالجد فرحان يا عماد.. ان كانت مثل هذه الخربشة قد افرحتك..وفككت قناعتك تجاه هذا المكان.. الملل يدب فينا يا صديقي..و لكنا نقاوم التكلس بالشهيق و زفرة الحزن المسكوبة هنا..و تستمر الحياة.. الخرطوم يا صديقي ، مثلك احبها كثيرا ، و لكنها لم تظلل الألوان البهية في الوجدان كما تفعل المدائن النائية الصغيرة..!
كتر خيرك..و وعد منك يا صديقي ما تنقطع يا عماد..و هنا سنصنع التماسك معا..
كبر
07-01-2010, 06:02 PM
Kabar
Kabar
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 18547
صديقتي الجندرية..حبابك و لينا طول يا صديقة.. كتر خيرك على المرور من هنا.. اشكينا للخقلنا.. عشان يفك عقدة من لساننا..و ننضم..و ننضم.. حتى تكون الحياة البهية..ان لم تكن واقعة.. فلتكن فكرة تعيد صياغة الواقع..
بالجد فرحان يا الجندرية بحضورك..و اتمنى المداومة..
كبر
07-01-2010, 06:03 PM
Kabar
Kabar
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 18547
الهواء ، المبلول بريح الدعاش الخفيفة ، انساب رقيقا على وجهي . الدروب خالية بعض الشئ ، و لكن دائما ، خلايا الحس في مركز جسدي ، متأهبة تماما ، فالحذر واجب ..! كنت أنتحي الدروب الأكثر صمتا ، تلك التي تكون ، و في مثل هذه اللحظات ، قد قاطعت حركة المارة تماما ..! دوما الحكاوي حاضرة ، تؤانسني في مثل هذه المشاوير ، التي تبدأ من نقطة مكانية معلومة ، و حالة شعورية أكثر وضوحا ، لتنتهي في موقع و حالة شعورية ، تكون ابعد عن بؤرة التوقع و التهيؤ ..! مثل تلك الدروب ، احتضنتْ حواراتي اللجوجة ، و اورثتني تفاصيل جغرافية مدينة الدلنج ، تلك التي حفظتها عن ظهر قلب ، و انا اسأل نفسي : لماذا لا تمنحنا ادارات التربية و التعليم البالية ، الفرصة لدراسة جغرافية و تأريخ المدن التي نسكنها ؟
داهمتني ، حكاية عائشة فجأة ، بلا توقع ، و بلا تسلسل منتظم للأشياء و الحوادث ، تهجس يداهمني كثيرا في مثل هذه اللحظات ..!
عائشة النحيلة تلك ، و المملوءة جحيما الى حد النخاع ..كنت أعرفها قبل ست سنوات ، و كنتُ حينها على اعتاب الجامعة . درستها اللغة الإنجليزية في المدارس الصيفية ، تلك التي يقيمها طلاب الجامعات خدمة لأهالي المدينة و ضواحيها . تعلق بها قلب عبد المجيد حميدة في ذلك الزمان ، و بادلها خطابات العشق و مشاويره الموهومة ..! كانت هي صديقة سبأ ، جرحي الأوحد في كل هذه الدنيا الفانية ، تعرفت عليها في ذلك الزمان ، كصديقة وفية ، وبعدها تفرقت بنا السبل . هجرها عبد المجيد حميدة ، و ذهب الى ليبيا بحثا عن المال ، و هجرتني سبأ ن بعد ان تزوجت أحد افراد الأمن الداخلي ، ليس بسبب هذه الصفة و سلطتها ، و لكن لأنه هو ابن عمها ، و تلك سلطة لا يستطيع احد تسكير مداميكها في هذه النواحي .. حينما التقينا ، كانت عائشة وحيدة مثلي . تبادلنا الحديث في الطريق ، ثم تواعدنا ، و التقينا عدة مرات ، كلانا كان يشكل محطات من الألق في دنيا الأخر . تفاصيلها مرعبة الى حد الجنون . جاءت لتتحقق من مقولات سبأ عني ..! ذات يوم ، كنا نتمشى في الدروب . كانت هي قد جاءت خصيصا لزيارتي من ضاحية الفرشاية . اقامت مع شقيقتها في حي الرديف ، ولا ادرى لماذا اختارت هذا الحي بالتحديد ، الذي يسكنني بتفاصيله الحارقة ..! كنا نتمتشى في صدر المساء ، الخطى فينا ، تنسج مداخل الكلام و الذكريات المتعبة ..! فجأة ، طب علينا طوف من الشرطة الشعبية ، و في مثل تلك اللحظات ، يصعب تقديم أيتها افادات واضحة و مبررات مقنعة ..! كانوا ثلاثة اشخاص ، مدججين بمدافع الكلاشنكوف ، لم يتورع احدهم من اشهار البندقية الكلاشنكوف في وجوهنا ، بصوت آمر و هو يقول : ثابت ..! حقيقة استفزني سلوكه نحونا ، و كانت عائشة اكثر تماسكا من ذاك الحلم المرعب.. قالت ، هامسة : خليني أرد عليهو .. قلتُ : مافي مشكلة ، خليك انتي ، و انا ح اتكلم معاهو ..! احاط بنا ثلاثتهم ، و تقدم احدهم يسألنا : ماشين وين ؟ قالت عائشة : ماشين السما الأحمر ، معلون ابوك يا ود الكـلب ، انت منو عشان تسألنا .ز! تراجع الصبية قليلا .. و ران الصمت . ارتجفت اياديهم ، تتحسس بنادقهم ..! تعرفتُ على احدهم ، و قلت له : انت يا ابكورة ، ما فضل ليك حاجة تحمي منها المدينة غير اهلها ؟ ارتجف ابكورة ، و اخذ يعتذر و هو يقول : أنا اسف يا استاذ ، ما عرفناك ، لكن على العموم مافي مشكلة ..! قلت : مافي زول بيقدر ينتهك حرمة المدنية دي في الساعة الثامنة مساءا ياخي ..، و البتسوا فيهو ده ارهاب للناس ، ولا اظن أنو غرض الشرطة ارهاب الناس و انما حمايتهم ..! ران الصمت ثانية ، ثم بداوا يتجادلون ، فيما بينهم ، في امرنا . كان اصغرهم سنا ، مفتونا بتوشح الكلاش ، وممارسة السلطة بأي طريقة كانت .. قال يحرض اصحابه : الأوامر واضحة ، لازم نوديهم الدكتور عشان يكشف عليهم ..! أمتلأتُ انا حنقا و غبنا ، و صرختُ في وجهه : دكتور في كُس امك يا ود الحرام ، انت فاكر نفسك منو و شنو؟ و تقدمتُ نحوه ، جذبتني عائشة ، ووقف أبكورة بيني و بينه . في تلك اللحظة العصيبة ، نطق ثالثهم ، لأول مرة ، و هو يخاطب زميله المنفعل : يا عمار انت مجنون ولا شنو ياخي ؟ حصل مرة قابلك زول واثق من نفسو كده ؟ يا اخي ده شقيق المعلة ..! تشاوروا في امرنا ، في ما بينهم ، ثم قرروا اخلاء سبيلنا بعد الإعتذار ..! عائشة كانت متماسكة ، و دخلتُ انا في حالة غضب و هذيان ، العن يمينا و شمالا..! الى هذا الحد انهارتْ الأشياء ..؟ قالت عائشة : الزمان اتغير ، و اتبدلت الأشياء ..! ثم اخذت تترنم : طال الكان قصير ، و العالي اتاحت و الصولات حليلم ، ملكتم راحت الإهلية كملت ، يا حبيب راحت ، يا حليل شمس المحنّة ، الغرّبت طاحتْ
حقا ، هذا ما كنت احتاجه ، ثم اخذت اترنم معها . ملأنا الدروب الصغيرة بالغناء الجميل الحميم ، و الكلام ، القادر على امتصاص الحزن ، و تكسير مداميك الإنكسارات المجانية في دواخل الذات..! قلت لعائشة : قد لا نحلم بعالم سعيد ..! اكملت هي : فخلف كل قيصر يموت ، قيصر جديد .. ! ذهبنا في ذلك المساء ، و شعرتُ بأني اكثر التصاقا بعائشة ، التي حكت لي كثيرا عن مثل هذه الكوابيس الحية ، و عن الذين يكونون عرضة للكشف الطبي لإثبات براءتهم ، لا لذنب جنوه ، سوى التجول في صدر المساء و ممارسة مشاوير الصفاء البهية .ز! قلتُ : اذن ، يحتاج المرء منا أن يحمل صك براءته دوما في جيبه ..! قالت عائشة ، بحكمة بالغة : من تسكنهم تفاصل العّقد النفسية ، تسكنهم الخيالات المريضة ، تلك التي تجعلهم يتوهمون و يمتلكون الفهم المقلوب للأشياء بامتياز يحسدون عليه ..!
عائشة بحضورها المرعب هذا ، أورثتني شيئا من الإرتجاف و الحسرة ، صرختُ في الدرب الخالي : وينك انتي يا عائشة ..؟!!
حزمتُ أمري ، غدا أو قل في نهاية الأسبوع ، سوف : اكون عندها في ضاحية الفرشاية ، فأنا احتاج أن اتنفس هواءا اكثر نقاءا ..!
كبــّر
07-01-2010, 06:06 PM
باسط المكي
باسط المكي
تاريخ التسجيل: 01-14-2009
مجموع المشاركات: 5518
Quote: داهمتني رغبة قوية في أن ادخن سيجارة ، هبشتُ جيوبي ، اين ذهبت علبة السجائر اللعينة ؟..البرنجي اختفى من جيوبي ، و الولاعة الذهبية ، التي احضرتها لي مشاعر سعيد من امستردام ، هي الأخرى اختفت ..! فكرت ، و انا اتساءل في دواخلي ، كم هي الساعة الآن ..! كان معصمي طليق ، و خاصم ساعة يدي الستيزن .. أين ذهبت أشيائي الحميمة اللصيقة بي ؟ في مثل هذا الوقت من زمن البحث اللجوج ، داهمتني نصوص ادونيس ، أهي شبيهة باللاتوازن الى هذا الحد من الرعب
حولا نفسنا اتقطع . متابعة وحضور ..
07-01-2010, 06:32 PM
Kabar
Kabar
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 18547
Quote: وأنا كذلك يا صديقي ،لأكثر من سنة ( قررت ) المتابعة من بعيد .. كيف كسرت ( أنت ) هذه الإرادة؟!
اللله يا كبر ..
كيف أخبار ( صديقنا ) شيخي ..
بلغه محبة وشوق لا ينضبان
! .
صديقي الرحمـابي..حبابك
يآآآآآآآآآآآآآآه...!!
لينا طولة يا اخي.. بركة باللمة و الشوف..وزمن لم نراك هنا.. كتر خيرك على المرور من هنا..و عسانا نقدر أن نحول احتمالات المتاوقة الى احتمالات تواصل..و لو باضعف الإيمان.. صديقنا بخير ..و هو يتجول في ربوع السودان بحثا عن خلق احتمالات الممكن في تجميع لوحة مرسومة بالوان مائية جميلة و لكنها صابتها مطرة ليلية سراية..و ما اقساها عملية جمع الممحو من الخطوط و اعادة الترتيب..هو بخير يا صديقي.. كتر خيرك كتير يا الرحمابي..و يا ريت نشوفك طوالي..
كبر
07-02-2010, 05:21 PM
Kabar
Kabar
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 18547
حينما اكملتُ حكاية عائشة في داخل نفسي و ذاكرتي ، وجدتُ خارجها على عتبات حي الرديف. الهواء ينساب ، و الدوار بدأ ينتابني . خفتُ أن امارس الترنح ، و كنت احرص على أن تكون خطواتي متوزانة و اكثر تماسكا ، حتى لا تشي بي امام من اقابلهم في الدروب ، على قلتهم في مثل هذا الوقت ..! مؤكد ، ليست بي رغبة لزيارة وداد ، و لكن لماذا جئت الى هنا ؟ كان الأجدر بي أن اذهب الى اي مكان ..! نفسي تشدني بقوة ، و خطواتي تمارس اصرارها الغريب ..! الدرب خاليا تماما في اول الحي ، و الإضاءات الخافتة ، على جنبات المنازل ، بدأت تتضاءل اكثر ..! توقفتُ امام منزل فتحية ، و طرقتُ الباب ..! جاءت هي بنفسها ، في ملابس نومها الشفافة المغرية ، تلتفتع ثوبا قديم ، يدل على نعيم قد زال..! قلتُ : سلام ..! قالت : حباب السلام ..! قلتُ : انا استاذ حماد ..عرفتيني ؟ ابتسمت فتحية بروعة ملؤها التوجس ، وقالت : و هل يخفى القمر في سماه .ز! قلت : ده مقلب تاني ؟ جذبتني من يدي ، و هي تدعوني للدخول ، اوصدتْ الباب من خلفي و هي تقول : ادخل جوه ، الدروب كوشة و ما ليها أمان ..! قهقهتُ أنا بالإبتسامة المجهضة ، و قلت : ليس ، في هذا الزمان ، امان ..! أحضرتْ لي كرسيا عتيق ، ثم اخذت تقدم تقرير الأحول : أبوي مسافر ، و امي في بيت الفراش ، انا و شقيقتي ، وود اختي الصغير ..! قلتُ : اريد قهوة مرة .. بلا سكر .. اكرر بلا سكر ..! أعدتْ هي القهوة . كانت تعلم جيدا انني سوف اعود . قلت لها : الحرامية في نعيم ..! قالت : انت ، بالجد غظتني ..! قلت : اتخيلي ، لو الجيران قبضوني ..! ضحكتْ هي بتفاصيل واضحة ، و قالت : كنت عارفة كويس انك كيف ح تحمي روحك ، و الإ كنت ح احميك بنفسي ، و كنت ح اتدخل في اللحظة المناسبة ..! حقا ان كيدهن لعظيم ..!
تحدثنا في بعض الأشياء . الدوار بدا يخفت قليلا في راسي ، احس بأني في حالة صحو جاهرة ..! اقترحتُ عليها أن نذهب الى حي أقوز ..! قالت : ممكن نقعد هنا ، و مافي زول ح يجينا ، البيت آمن ..! قلت : لأ .. لازم نمشي و هسع كمان ..! استسلمت فتحية لهذا السلطان الآمر ، و قامت و اعدتْ نفسها للخروج ، اوصدت الشبابيك و الأبواب ، و خرجنا . في الطريق سألتني سؤال عجيب ، و هي تقول : حصل مرة قابلك بلاغ سرقة في المدينة دي ؟ قلت : و من ادراني باحوال المدينة ؟ قالت : المدينة دي آمنة يا شاب ، و مافيش فيها واحد عندو الرغبة يمارس الدور ده .. تحرسها عناية الأساطير و الكجرة و اهل الله ..! ابتسمتُ بسخرية ، و قلت لها : خزعبلات ..الأمر مش كده .ز! قالت ، و هي تدافع عن ادعاءاتها العجيبة تلك : خزعبلات شنو ؟.. دي الحقيقة يا ود أمي ..! قلتُ : الحقيقة غير كده ..! قالت : كيف يعني ؟ قلتُ : ببساطة ، و في حقيقة الأمر ، مافي حاجة ثمينة بتغري بالسرقة ..! قالت : انت مجنون ولا شنو يعني ؟ مدينة بحالها يسكنها الفقراء و المساكين ؟ قلت : و عندك شك في كده ..!
كنا نسير في الدروب الأكثر اٍظلاما و هدوء . فانا لا ارغب في تكرار ما حدث لي في حضور عائشة من قبل ، و الدخول في محاجات فارغة مع اطواف الليل من شرطة شعبية و افراد امن و استخبارات و ثعابين ..! ثم أن فتحية ، ليست في وضوح عائشة و تماسكها المرعب ..! تلبستنا حالة من الصمت الخائب ، و خطانا توقع نبضها برتابة على الدروب ..! قطعت فتحية ، ذلك الصمت و هي تسألني : انت زعلان مني ؟ قلتُ : ليه ؟ قالت : من الحصل ليك في الأسبوع الفات ..! قلتُ : عادي جدا ، انا بحب المقالب من النوع ده ، لأني محتاج لصدمة شعورية حادة ، عشان تقلل حدة التوتر جواي ..! قالت ، باسمة : ممكن اعرف ، اتصرفت كيف ؟ قلت ، بجدية : دي اسرار المهنة يا حبة ، وما ح اقدر افشي ليك اسرار زي دي ..! قالت : ح تتوقع انو تاني ، يحدث ليك مني متل ما حدث المرة الفاتتة ؟ قلتُ : مش بالضبط ..!
كنا قد وصلنا الى قلب حي أقوز ، توقفنا بالقرب من منزل خاوي . أخرجتُ سلسلة مفاتيح عديدة ، و أنا ابحث بينها عن المفتاح المناسب ، ادرته ، و فتحت الباب الرئيسي و دخلنا . في الغرفة الشرقية ، الموازية لميدان المربوع الرئيسي ، اضئتْ مصباح الكيروسين النظيف ، وتناثر ضوئه الشفاف بصورة تساعد على النظر في الأشياء .. و طلبتُ من فتحية الجلوس ، على الكرسي الكبير ..! مرتْ ساعة من الصمت المملوء بالحكاوي الداخلية ، تلك المملوءة بالشهيق الجواني الهادر ..! سألتها : هل عندك رغبة في الجسد ؟ قالت : انت سخيف ، و ابن ستين سخيف ، ملعون ابو اهلك في السموات السبع ..! قلتُ : و هل انا في حضرة نبوة و نبوءة ؟ قالت ، بحنق : معاك انت بالذات ، لأ.ز! سألتها ، مباشرة : منو البيملك المنزل الجنوبي الفاخر ؟ قالت : خالتي ..! ثم اضافت : حصل مشيت هناك ؟ باغتني هجومها ، و قلت : لأ .. في شنو؟ قالت : في صباح اليوم التالي ، كان بتحدثوا عن شخص اتلصص عليهم ، و الحكاية دي هم قلقانين بيها شديد ..! هززتُ اكتافي بلا مبالاة ، و قلتُ : فليذهبوا الى الجحيم ..! قالت : هم قاعدين يفتشوا عن كل زول عندو جزمة ريبوك ، و البيقبضوا عليهو ح يكون عرضة للتحقيق.ز! قلت : للدرجة دي هم قلقانين و خايفين ؟ قالت فتحية بلهجة ملؤها التحذير و الخوف : الناس ديل يا اخوي ما عندهم أمان ، و الأمور مش زي ما كانت في زمن جعفر نميري ..! قلتُ ، بصبر شارف على النفاذ : أنا ما عندي ايتها علاقة بما حدث ، و بلاش نتكلم في الموضوع ده ..!
فتحية ، كالعادة ، دوما ما تسكنها القرارات المتناقضة و المفاجئة ..! قامتْ من جلستها تلك ، و اخذت تخلع ملابسها قطعة قطعة ، و انا ادخن سجارة تلو الأخرى . جلستْ على حافة السرير ، و هي تضع ساق على ساق ..! ثم قالت ، بتبرم و تبريريه يشوبها التلفيق الواضح المنمق : شعرت بالحر ..! قلت : و ماك شاعرة بالخجل ..؟ قالت : و في حد بيخجل من روحو في حضرة ذاتو ؟ قلت: و ده مشروع حب فاجر في اخر الليل ؟ و تجاهلت هي ذلك التعريض الخاسر ..! صمتنا لبرهة من الزمن ، و كنت اتأمل فيها جسد فتحية المبروم و منسوج بتفاصيل دقيقة فنانة . كتفها اللامع ، حلمة نهدها الداكنة ، بشرة جسدها الفاتحة اللون قليلا ، اشبه بحبات القمح اليانعة ، تضع يديها على خديها ، و هي تحدق فيّ بصورة مخيفة ..! مددتُ يدي ، اخرجت اوراق بيضاء من الدرج ، و بدأت ارسم فيها تفاصيل فتحية . كل تفصيلة في ورقة منفصلة ، الساق المملوء ، السرة الغائرة ، الأوراك الصولجانية ، النهد المستدير ، الكتف اللامع ، و نصف الوجه ..! حينما فرغتُ من رسم تلك الأجزاء ، كانت الساعة قد شارفت على الخامسة فجرا .. قالت ، بآهة ملؤها الحرقة : قطعتني حتة حتة ، يقطع راسك اٍن شاء الله ..! ضحكتُ ، و قلت : و من متين انتي كنتي في طهر من يدعو على الناس باللعنة .ز! ضحكت فتحية بنشوة ، ضحكة لا تشبه تفاصيل ذلك الفجر المتسلل من الأفق بهدوء و صمت ..! بدا احد الجيران يصلي الفجر بجهر ، يقرأ و كأنما يريد أن يسمع الجيران صوت صلاته ، و تلاوته للقرآن بحرف عربي مكسور اللكنة .. ! قلتُ : استتري يا فتحية ..! قالت ، بصدق : لا اخاف الإ ضوء الشمس يا هذا .ز!
ذهبت ، و هي على تلك الحالة من العري المشدوه ، الى المطبخ في الركن الجنوبي الغربي من المنزل ، و اعدت شاي الصباح ..! قلت لها : ما ح اقدر اشرب شاي ..! قالت ، بخبث : سكران كمان يا ود الكـلب..! [ ما الذي يجعل ابي يتعب معي كل هذا التعب ، و يكون عرضة الى اللعنات الطائشة التى تتطاير كرصاص المعركة الخاسرة ؟]..
جهزتْ لي فتحية ، ابريق القهوة ، و شربتُها مُرة بلا سكّر ..! ثم دخلتْ هي في نوم عميق ، مباشرة بعد فرغت من حمامها الصباحي المسكون بطقوس الخصوصية ..! لم أشعرُ أنا برغبة في النوم . خيوط الفجر بدات تزداد وضوحا و هي تعلن قدوم الشروق . الطرقات الصغيرة بدأت مأهولة بالعابرين . أنتهى الليل ، و الأهم انتهى حظر التجوال الضمني .. تأملتُ الرسم ، المتناثر على الصفحات . توقفتُ كثيرا عند صورة النهد ، و التي ظللتها بحميمية مفرطة و نادرة . تحسسته و هو على الورقة ، و فتحية تنام في الغرفة الأخرى ، و هي عارية تماما ، كما ولدتها أمها ..! تذكرتُ مقولات صديقي سيف الدين ، و الذي يسمى النساء بذوات الثدي ..! سكن خيالي ، طيف نهد جموح ، و ارهقني كثيرا بالتذكار ..! و لم أشعر مطلقا بأني اريد الذهاب الى بيت الأدب ..!
عند الخامسة مساءا ، صحت فتحية من نومها العميق الهاني ، و ارتدت ملابسها . ذكرتْ شيئا عن بداية دورتها الشهرية ، المتوقع حدوثها في هذا المساء أو غدا .ز! تجاهلتُ حديثها ذلك . وجهها بدأ رخوا كالحلزون الذي ضلّ طريقه الى البحر ..! تفوح روائح الصابون المعطر من مسام جسدها . قدمتُ لها قنينة العطر النسائي الفاخر ، و تعطرتْ ، و اصبحت أشهى من أي وقت مضى ..! قلتُ : جهزت الغداء ، عندك رغبة نأكل ؟ هزتْ راسها بالنفي القاطع ، و اعلنتْ انها تفضل أن تذهب الى منزلها . خرجنا معا ، و بعد شارعين افترقنا ، هي نحو منزلهم ، و انا نحو منزل سيد منوفل ..!
كـبـّر
07-03-2010, 10:47 AM
رهف
رهف
تاريخ التسجيل: 08-20-2002
مجموع المشاركات: 625
وصلتُ ، و كان سيد منوفل ، كعادته ، يجهز تفاصيل صدر المساء ، و يمارس التجارة الصغيرة في طبليته ، ادوات تعبر عن مكافحته المضنية و المرهقة من اجل البقاء و دحر الفقر ..! جلستُ على هشيمة ضخمة ، تقبع امام منزله و متجره . بحسه الفنان ، استطاع أن يجعل منها مقاعد تغري بالجلوس و الحكي الجميل ..! جلب لي سيد منوفل ، بعض الطعام و شاي المساء . قرأ لي نصوص كتبتها في حضرة اٍقبال الياس ، تلك الأبنوسية اليانعة ، و التي تقيم الآن في مدينة سنار .. قلت : ممكن تعزف لي في الكمان ..! اعتذر ، و كان مشغول بتفاصيل البيع ، و قدوم موسم الزبائن في صدر المساء ، و بعض الأخبار الصغيرة المدهشة . ودعته و توجهتُ الى منزل بليا في حي قعر الحجر ..! سلكتُ اكثر الدروب خلوا . في مشارف حي قعر الحجر ، حيران المسيد في زاوية شيخ ادريس ، يرتلون القرآن على الواحهم في ضوء النيران الكبيرة ، و يتأهبون لجلسة الذكر الليلية . النوبات ، الطار ، الشْتم . ليلة الأثنين ، دوما يملؤها الغموض و البهاء المرهف في مدينة الدلنج ..! خطواتي بطيئة ، و هي تعانق ايقاعها الرتيب على الحجارة الصغيرة المتناثرة .. قعر الحجر ، اصغر احياء المدينة ، به اربع شوارع طولية ، و اربعة اخرى عرضية ، و لكنه من اعرق الأحياء ..! دخلتُ منزل بليا ، وجدته لوحده ، ينتظر قدوم حامد جاجا و نزار جلاب و معتز اسماعيل قمر . اخذت أتأمل لوحاته الجميلة ، فداره معرض دائم لأعماله التكشيلية و مكتبته العامرة ، بشقيها المقروء و المسموع ..! جلستُ في الجانب الخلفي ، الممدود تحت صخور جبل ابوزمام مباشرة ..! الضخور صامته ، تمارس سحرها و صلاتها الأبدية ، أن تعبد و تعبد الى أن تتلاشى ..! المدينة تحت أقدامي ، أضوائها تتلألأ بصورة يعجز الخيال على احتوائها . هادئة ، تعانق صفائها المسائي البهيج ..! أخذت ارددُ بعض النصوص في ذاكرتي ..! الشعور في نقطة محايدة تماما ، لا ارغب في الحديث مع أي شخص كان ..! تناهتْ الى اسماعي اصوات نسائية ، و هي تحي بليا بالسلام . ثلاث طالبات من جامعة الدلنج ، و هن اتين لزيارة المنزل / المعرض ..! قال لهن بليا ، بانسانيته الجميلة المملوءة نبلا و بهاء : البيت بيتكم ، اٍتفرجوا على اللوحات ، اقروا الكتب ، اسمعوا الموسيقي ، و تلك الصبارات مليئة بالشاي و الحليب و القهوة ..!
هكذا ، هي هذه اللحظة المنفلتة من قساوة الزمن ، و المسماة في اللغة الرسمية بالفنان..! الطالبات الثلاث ، نهى و نور و شوق ، مارسن الإنبهار و الدهشة ما استعطن سبيلا ، مظاهر الإنفعال فاضت في حدقات العيون . تناثرن في الغرف العديدة ، يتأملن ، يتهامسن ، و يتبادلن التعليقات الطفولية النقية ..!
بعد مدة ، اظنها ساعة و نصف تقريبا ، استدركن وجودي ، و انا اجلس تحت الصخور العتيقة . جاءتني شوق ، سلّمت عليّ ، و سألتني : انت صديق الأستاذ؟ داهمتني رغبة جارفة في ممارسة الكذب البرئ ، و قلتُ لها : انا ضيف ، حقيقة انا من خارج المدينة ..! قالت : من وين ؟ قلتُ : عطبرة ..! قالت : بلد الحديد و النار ، ما اظنك طالب معانا في الجامعة ؟ قلت : بالضبط .. قالت : شغال؟ بتدرس ؟ قلتُ : عاطل ..! تمددتْ مشاعر عصية على التفسير في قسمات وجهها المشاغب ، ربما هو شئ من الإحباط و اللاتوقع ..! أشاحتْ بوجهها عني ، و اخذت تشغل نفسها بالنظر في الأفق الغربي ، الذي تسده الجبال الداكنة ، و هي تودع الشمس بنظرة ملؤها الرجاء و الدعوة للعودة مرة اخرى ..! حاولتْ شوق أن تتوقف عن مواصلة الحديث معي ، و ربما احستْ بأني لا رجاء من ورائي ولا امل للتعرف عليّ ، كما يحدث مع بقية خلق الله ..! بعد برهة من الصمت القلق ، الذي اخذت تقتله و هي تقضم حزام شنطة يدها ، بادرتها و انا ارد عليها بضاعة السؤال المطاط .! قلتُ ، أسألها : و انتي من وين؟ قالت ، بحياد : من كوستي .. قلتُ : أقذر مدينة على وجه السودان ..! قالت ، تدافع بقوة عن مدينتها : انت شفتها ؟ قلتُ : عابرا ..! انفجرت تلعن السطحية في التفكير و تقدير الأمور ، و اولئك الذين يسئون الظن بالأشياء ..! قلتُ لها بنفاق ظاهر ممجوج : البلدان ، دايما سمحة بي ناسها ..! و لم تكن هي في حالة تقبل المناورة و التنازل ، و تجاهلت عبارة المجاملة التي قلتها .. ثم صمتنا ..هي تحدق في الظلال ، و انا اتأمل تفاصيل قصيدة عصية القوافي ..! و قالت ، بعد لحظة : اصدقاء الأستاذ بليا يحبون الشعر و الرسم و الموسيقى ، انت بتحب شنو ؟ قلت ، بدون تردد : انا احب الملوخية بالأرانب ..! نظرت لي بغيظ ، صعب عليها كتمانه .. و مطت شفتيها و هي تكور آهة استهزاء و سخرية عارمة ، و قالت : الفهم قسمة و نصيب ..! قلتُ لها : و هل يوجد في هذه الدنيا ، ما هو أجمل من الوجبات الشهية ؟ قالت : الوجبات للجسم ، و لكن ما هو غذاء الروح ؟ قلتُ : الجسم وعاء الروح ، و اٍن لم نقم ببنائه بصورة سليمة و جيدة ، لتعرضت الروح للإنتهاكات و الضياع ..! قالت ، بقلة حيلة بينة : عندك منطق غريب ..! كست قسمات وجهها بعلامات عجز واضح ، ربما هو ضيق و تبرم بمثل هذا الحوار المشاكس ..! شعرت ان هذا اجمل حوار عرفته في حياتي ..!
كـبـّر
08-04-2010, 05:46 AM
Kabar
Kabar
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 18547
المساء يزداد شفافية ، اصوات الأصدقاء و الصديقات ترن في الدار ، عيشة ، يسرية ، نزار ،حامد جاجا ، معتز ، الزين ، ماجدة ..! التفتت شوق نحو الدار ، و قالت : هل سيكون هناك منتدي شعري في هذا المساء ؟ قلت : ربما ..و لكن لو كان هذا المنتدى لمناقشة أشياء اخرى ، سيكون ذلك أفضل ..! قالت ، و هي تنظر لي بنظرة ملؤه الحذر و الغيظ : مثل ماذا ؟ قلت : الدوري الرياضي العام ، الموضة الشتوية ، الأفلام الهندية ..! قالت ، بنفاذ صبر : لو كنت املك على هذا المكان قرارا ، لما سمحت لك بدخوله مطلقا ..! احتدت نبرات صوتها ، و تهدجتْ بالغضب الحقيقي ..! قلتُ : ده عيب المثقفاتية في البلدي دي ، عاوزين الوكت كلو كلام في الوهم ..! قالت : لا اسمح لك بكلام زي ده .. و بالمناسبة اسمهم المثقفين ، مش مثقفاتية ، و البيسوا فيهو ما بيعنيك بأي حاجة ..! قلتُ : المشكلة ، انهم بيتحدثوا عن الإنسان ، و انا انسان ..! قالت ، بغيظ ظاهر : و انت فاكر نفسك انسان ؟ قلتُ : يعني قصدك حيوان ؟ اصابها الحرج المباغت ، و عندها فقط ، أحسستُ بانها خرجت عن طور اللباقة و الذوق و المجاملة ..!! انقذت عيشة ، صمتنا المتوتر ، و هي تسألني : انت مختبئ هنا ليه ؟ قلتُ : قاعد اتونس مع الزولة دي ..! سلمت عليها عيشة ، و عرفتهما ببعضهما ، و قلت : شوق ، دي الأستاذ عيشة ، عيشة دي الأستاذة شوق ..! و قبل أن نعود لمواصلة الحديث العابث ، قالت عيشة تحذرها : اٍياك و تصدقي كلامو ، الزول ده بيحب المقالب ..! حدقتُ انا في وجه عيشة بنظرة ملؤها الغيظ ، و استأذنتُ ..!
كان المعتز يقرأ بعض النصوص ، و يلقيها ببراعة امام سامعيه ، بصوت جهور و مرتب التواقيع بصورة يصعب فيها مقاومة سماعه ..! جلستُ على الأرض ، ربعت ساقي . الوجوه منجذبة و مشدودة نحو شفتي المعتز الغليظة ، و هي تطارد الحروف و الصدى الرنان ..! حينما انتهى المعتز ، قرأ الزين سلمان ، و احتج حامد جاجا ، و هو يقول: الواحد ما ح يقدر يقرا بعد الفارسين ديل ، مفروض الحاجات تترتب ،/ و يكون المعتز و الزين اخر من يقرأ .. عشان تدونا فرصة يا جماعة ..! ضحك بليا ، و قال : يا اخوي الشعر الجيد جيد ، و القصة ما محتاجة لترتيب ..! قرأت شوق و نهي ، بعض من الخواطر الخجولة ..و قال بليا ، بعبارة ملؤها التشجيع و الإكبار :حبابكم في أي وكت ، و المنتدى ده فيهو ناس كويسين ، عندهم القدرة على النقد و المناقشات المفيدة ، و العلاقات الواسعة مع الملاحق الثقافية في الصحف السيارة ، داخل السودان و خارج السودان ..! نظرتُ الى بليا محذرا أن يطرق لي سيرة ..! قرأت عيشة بعض من خواطرها المتمكنة ، و قصيدة لسعاد الصباح .. كنتُ أتأمل الوجوه ، و هي تعلن طلب المزيد ..! عند العاشرة ، أستأذنتُ بليا و الأصدقاء و الصديقات في الذهاب ، و خرجتُ لوحدي ..! خطاي تردد صوت الخواطر ، و قصيدة الزين سلمان ترن في ذاكرتي بقوة . النجم الغربي ، يتضاءل في ممكلة أفقه الواسعة ..! قصدتُ منزلي ، برغبة أكيدة في انهاء حالة التشرد ، التي انتابتني في الأيام الماضية ..! على سريري ، تمددتُ بطمأنينة ، و سلام داخلي تمدد في دواخلي ، و عمّر خلايا الحس قاطبة ..! أدرتُ مؤشر الراديو الإنترناشونال العتيق ، أتجول في مدائن العالم البهية عبر الصوت . استمعت لحصاد اليوم الإخباري في هيئة الإذاعة البريطانية ، و تجولت قليلا عبر برامج اٍذاعة مونت كارلو ، استمع لبعض من حوارات انطوان بارود ، و انا انتظر ، بفارغ الصبر ، اغنية فيروز المسائية ..! ثم ، اذاعة صوت العرب من القاهرة ..!
اتخيل تلك المدن النائية ، شوارعها المرصوفة بعناية ، نظافتها ، و ترتيبها الأنيق ..! في زمرة تلك الخيالات النقية ، أطلّ وجه فتحية مشطورا ، و صوت الليل تبدل ، تسكنه أنات ذلك الرجل في البيت الجنوبي الفاخر : موية ..! يا أخوانا أنا عطشان ، ادوني شوية موية ..!
الكوابيس احتشدتْ بقوة .. بقوة ..!!
كبـّـر
08-06-2010, 01:45 PM
عبدالرحمن عزّاز
عبدالرحمن عزّاز
تاريخ التسجيل: 10-31-2005
مجموع المشاركات: 2521
جـهنـــــــــــم ، تثاءبتْ الدمعة في حدقات حامد جاجا
كبري ابوحبل بمدينة الدلنج
... تعبرنا المسافات و انت في قشيب ثوبك..ترفلين صباك الأزلي ، و حسنك الأبدي ، ألق على مر السنين التحايا لك ، يا مدينة محفورة في القلب .. في الوجدان ، في العمق الدفين سـرا أقول ، حين يجهدني الونى و يحرقني لهيب الإغتراب في مدن تحجر ضرعها ، أماه انقذيني..من شظف العذاب أنا بعض منك ، انا كلك ، أنا من اصيل مجدك نتف هباب
حامد جاجا الضـاي..*
*شاعر من مدينة الدلنج
09-22-2010, 03:21 AM
Kabar
Kabar
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 18547
قضيتُ عشرة ايام ، و انا في حالة اٍنغلاق ذاتي اختياري . أستمع فيها ، الى الإذاعة ، المحلية و العالمية ، اتجول بين ردهات برامجها المختلفة ، و أمارس الصمت المتأمل . بعض التفاصيل المشاكسة ، تطل على مشارف الذاكرة ، اتأملها ، أطاردها ، و تتلاشي في مغبة التسلل ، تقرضها آفة النسيان العاتية ..! كتبتُ الى كوثر صالح و حنان على يعقوب ، و تسلمت بعض الهدايا ، و التي بعثتها لي فاطمة ادريس . عاد محجوب و عادل من زيارتهما لمدينة الأبيض . الأخبار تتناسل و تتناثر ، و المواسم الحلوة ، خجولة تتراجع في بحور الذاكرة العريضة ..! محجوب ، قام بتسجيل بعض الأعمال لإذاعة كردفان ، و هو يعلم سلفا أن مثل تلك الأعمال يصعب بثها الإ بعد قصقصتها و تدخل الرقابة ، التي تشبه راعي غنم اٍبليس ..! كنت اجتهد ، و انا احاول ترتيب المواقف في دواخلي ..! الناس تحب الحديث في كل شئ ، عدا سيرة المنزل الجنوبي الفاخر . تجاه حكايته و تفاصيلها ، الناس تجيد الصمت المتجاهل تماما ، حتى انتابتني حالة من الذعر العارمة و سوء الظن ، و كدتُ ان اصدق فعلا ان ما حدث في تلك الليلة ، لم يحدث اساسا ، و انما هي فعائل السكر و الوهم في ذهني ..! المدينة ، تعد عدتها للإحتفالات الموسمية ، تلك التي فقدتْ كثيرا من طعمها و خصوصيتها ..! خرجتُ ، كالعادة ، بلا تحديد جهة معينة . أسير في الدروب الصغيرة ، و انا استشف ملامح اساطير و حكايات عجيبة . و اسأل نفسي : هل عبر الرسول (صلعم) بهذه الدروب في ليلة الإسراء و المعراج ؟ هل عبر المسيح (عليه السلام ) بهذه الدروب حينما رفع الى السماء؟..و لو مرّ نابليون بونابورت بهذه الدروب ، هل كان سيفكر في بناء جسور معلقة بين الجبال ؟..مؤكد شارلس داروين ، سيندهش ، دهشة عظيمة ، و يظن أن الحلقة المفقودة في أصل الإنسان ، هي موجودة و تجوب هذه الدروب ..! لماذا لا يأخذ رئيس الجمهورية ، عندنا ، اٍجازة من مهامه الجسام ، و يمارس التسكع في هذه الدروب ، على ألأقل ، سيعرف أي وطن يحكم ..!
السحب في الأفق البعيد تركض نحو المدينة ، و انا امارس الهذيان الداخلي المشاغب . عندما وصلتُ الى الشارع المسفلت الوحيد ، و الشاطر المدينة الى نصفين ، انتابتني رغبة في أن ازور زميلي صالح جدو في أول حي الطرق و الكباري ، في الناحية الغربية من المدينة .
أمارس الطواف العظيم حول سور مدرسة الأميرية المتوسطة للبنات ، تلك التي تمارس طقوس التحول هي الأخرى ، و تقف على مفترق الطرق ، تشرئب لأن تكون جامعة ، و لكنها تلبس عمر المرحلة الثانوية ، هي على اعتاب أن تتحول الى مدرسة ثانوية ، صارت شبه خالية ، و في صدرها ، بالقرب من البوابة الرئيسية ، يقبع مكتب وداد ..! لا نقدر حقا ثقافة الآثار ، فهذه المدرسة كان يمكن أن تكون تحفة أثرية ، تحكي اصرار الإنسان ..!
كبـّر
09-23-2010, 03:50 AM
Kabar
Kabar
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 18547
عبرتُ بالقرب من أبار السواني ، و التي تقف شاهدا من الشواهد التي تحكي عهد الإستعمار و المستعمر .. فهم كانوا يحلمون بأن يبنوا مدن تشبه مدنهم القابعة في صقيع أوربا و بردها اللئيم . يقطعون الأشجار ، و يزيلون الغابات الكثيفة ، لأن فهمهم للأمور يحتم أن ألأ يعيش الإنسان في غابة ..! كنتُ دوما اتحاشا تلك الآبار ، و اخاف منها بصدق ، و لذلك حكاية غريبة..! حكى البعض ، أحد الناس ، و في زحمة الأشياء ضاعت عني ملامح الراوي الحقيقي ، و ضاعت صورته ، و بقيت تفاصيل الحكاية ..أن شخص ، يدعى تاور أو الدبة ، قرر الإنتحار ، و رمى نفسه عمدا في البئر الجنوبية ، لأنها اعمق الثلاث ، و ترك طاقيته المضفورة بالحرير الأحمر ، و بها مذكرة صغيرة توضح سبب انتحاره ..! بعد ثلاثة أيام ، عرف الناس امره ، و انقذوه ، و عاد للحياة . و لكن ، و لإصراره الشديد ، على طلاق الحياة طلاقا بائنا بينونة كبرى ، ربط حبل حول عنقه و تدلى من شجرة ، تقف في منتصف المسافة بين حي المعهد و حي أقوز ، و مات ذلك الرجل ، و هو يعلن عن موته بصورة لا تبارى ..! تذكرتُ تلك الحكاية ، و تكورتُ في دواخلي ، ربما سيكون هذا مصيري في يوم ما ..!
لعنتُ ذاكرتي ، تلك التي تنسى الأفراح و مباهج الحياة الصغيرة و الإحتفالات ، و تفضل أن تغوص في تفاصيل التعاسة و البؤس ..! ذهبتُ الى حامد جاجا ، في منزلهم القابع في أول حلة الدلنج ، و انا في طريقي الى منزل صالح جدو ..! كان حامد جاجا يطالع بعض الكتب ، و يبدو أنه قرر، و للمرة الألف ، اعادة قراءة رواية ماركيز " مأئة عام من العزلة "..! بادرني ، بعد أن وضع نظارته السميكة جانبا ، و هو يقول : حقا ما نحتاجه هو هذه العزلة التفاصيلية ..! قلتُ : انكسرت عزلة تلك المنطقة ، حينما قدمها ماركيز للدنيا ، لكن من يكسر عزلتنا و بؤسنا يا صاح ..! تثاءبتْ الدمعة في حدقات حامد جاجا ، الذي تؤزمه كثيرا تفاصيل الأحزان المجانية المالحة ..! خرجتُ من عنده ، و انا اغالب ملامح انهيار داخلي ، بدتْ تمارس السفور بصورة مفضوحة ..! قابلتُ الدقيل اٍزيرق المعتوه ، ممتلئ الجسم ، وافر التقاسيم ، تلك التي تحرص الفتيات على تأملها بسرية مشبوبة . عاريا ، كما ولدته أمه ، يضاجع الحيطة ، معشوقته الوهمية ..! النساء ، من خلف الحيشان ، يتحسرن على تلك القوة المسكوبة هدرا..! وجدتُ نفسي في حضرة لحن قديم ، لفريق البي جيز البريطاني ، و كانت تعزفه فرقة جاز كادقلي ، و اسمه ( فلتحيا ، و تبقى في الحياة )* ..اخذت ادندن ، و انا استجمع تفاصيل اللحن و الكلمات ، لكي اطرد الخوف المسائي عن صدري ..! تبدتْ امامي فسحة الميدان الصغير ، خلف الإستاد القديم . في هذه الفسحة ، و في يوم ما ، كان منزل ميرغني التجاني ، و لكنه زال الآن ..! غرقتْ عينيّ في دمعة غريبة الملامح و الحضور ، ولا ادري من أين جاءت..! كانت اٍيمان ميرغني ، طيبة و هادئة القسمات ، تحب الألوان الأرجوانية ، و تضع الروج الخفيف على شفتيها بصورة دائمة . ملامحها تشي عن جمال نبيل نادر الوجود ، ساقيها تمتلئ وردا و خصوصية ..! كانت تسلم عليّ ، كلما صادفتني في طريقها ، حتى ظننتُ انها تحبني حب خاصا . .! حينما ذهبتُ انا الى المدرسة الثانوية في كادقلي ، و كنت على اعتاب المرحلة الثانوية ، عدتُ في الإجازة ، طفتُ بالشارع الصغير ، و انا ابحث عن تحيتها الخاصة ، و لم تظهر لتقول لي (سلاما ، قولا من رب رحيم ) ..! اخذت ألف و ادور في العبارات ، و انا اسأل بعض الأصدقاء و الصديقات ، و عرفت انها ماتت..! تموت الفراشات ، تموت الأزهار ، و تستمر الحياة تسكب بؤسها و احزانها ..! أكد لي محمد الأمين ، انها لم تمت موتا طبيعيا ، و انما أُجبرت على الإنتحار ..! و سابلة المدينة لا تعدم حيلة لكي تبرر الأشياء ، لابد أن تلوكها و تضيف عليها بعض البهارات و التوابل المدهشة . قالت عفاف رضوان ، و هي تحكي عن موت اٍيمان ميرغني ، انها كانت حبلى ، و لما كان ذلك هو الحمل الثالث في حياتها ، زهجت منها أمها ، و اعطتها فنجان صبغة سوداء ، ووقفت على راسها ، حتى شربت اٍيمان كل مافي الفنجان..! ماتت مساءا ، ذهبت وحيدة ، و لم يتذكر احد شريكها في الحزن و سبب مأساتها ..!
كـبّر
*فريق البي جييز الإنجليزي..مجموعة موسيقى البوب المشـهورة..ادناه الإغنية المذكورة(الكاتب).
09-23-2010, 04:05 AM
Kabar
Kabar
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 18547
في عام 1981 كانت فرقة جاز كادقلي تقدم بعض من حفلاتها في مدن جنوب كردفان ، و من ضمنها مدينة الدلنج..في ذلك العام احيت فرقة جاز كادقلي حفل عرس بمدينة الدلنج و من ضمن فقراتها قدمت هذه الأغنية (يعني بعد اربعة سنوات من نزولها)..الغريب في الأمر ان تكون فرقة جاز في كادقلي..و الأغرب في ذلك الزمن الذي لم تتطور فيه تكنولوجيا التواصل مثلما هي اليوم ، ان تصل تلك الأغنية الى تلك الأصقاع البعيدة و يتفاعل معها جمهور لم يعرف من هم اعضاء فرقة البي جييز..!!
كبر
09-25-2010, 07:51 AM
محمد عبد الماجد الصايم
محمد عبد الماجد الصايم
تاريخ التسجيل: 10-16-2005
مجموع المشاركات: 35312
حينما ، اخرجت اٍيمان من قبرها و اعتذرت لها في خيالي ، فكرتُ بصورة جادة أن اكتب عن تأريخ الإنتحار في المدينة ، ثم في العالم كله فيما بعد ..! قرارات ، مثل قرار الإنتحار ، قطعا تحتاج الى قوة اٍرادة ووضوح في الذات ..!
انتابتني حالة من الذعر ، و طردتُ تلك الخواطر المزعجة من خيالي شر طردة ، وواصلتُ مسيري ..! كنت قد وصلتُ مشارف حي الطرق و الكباري . امام منزل صالح جدو ، الفتيات يتقاطعن في مشاوير العصاري البهية . طرقتُ الباب برفق ، و خرجت عليّ خالتي حليمة ، والدة صالح ، سلمت عليها ، و اخبرتني أن صالح سافر الي مدينة كسلا . عزمتني أن اشرب القهوة معها ، و لكني كنت افكر في الهروب و مواصلة التسكع العجيب ..ودعتها و مضيت في حالي ..!
في أول منعطف قابلتُ غـزال ، ضحكتْ هي ضحكتها الخبيثة الرنانة ، و صرخت بلهفة و نشوة في وجهي و هي تقول : ود الكــلب، ما ضبطتك ، الجابك حلتنا شنو ؟ سلمت على ، و هي تفر أحضانها المورقة ، و قلتُ : جيت زيارة لصالح ..! قالت ، بتشفي : و صالح مسافر ..! ضحكتُ انا ، و قلت لها : اسوي شنو ، كلما اخلق لي مشوار ، يقوم يخستك ..! عزمتني أن اذهب معها الى منزلها ..!
غـزال ، تفاصيلها ، يعجز الحرف عن رسمها .. ممتلئة ، متوسطة القامة ، معتدلة ، تمتلئ دفئا و هديرا من الشهوات السافرة القاتلة ..! صوتها الرنان ، تسكنه بحة محببة ، اشبه بصوت المدخن الشره..! في ركن الحوش الغربي ، في الجزء المقابل لميدان الحي الصغير ، تقبع غرفتها ، و التي تسميها "جهنم" ..! امام الغرفة ، راكوبة انيقة ، منسوجة بنبات اللبلاب المتسلق ، يزيد من تعريشة الظل ، و يمنح الموقع اظلاما اثير للنفس .في المدخل ، مدخل الراكوبة ، حوض الأزهار الصغيرة الجميلة ، تلك التي تضئ ليلا كاليراعات الحرة ..! جلستُ أتأمل صمتها الجميل ، الإضاءة خافتة تتسرب خلف الرقراقات الصغيرة ..! السماء صافية ، و صدر المساء يترنح بأجمل التفاصيل ..!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة