دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
الســــــبيل : ســــــرد ...
|
الحـــارة :
انتصـــبتْ الحارة في غفـــلة من الزمــن ، حينما كان حارسا نــؤم ، لا تعنيه كثيرا الرقابة المتشـــددة على تفاصـــيل البـؤس و التعاســة .. صــارت الحارة تتمدد شــرايينها ، دروبها الصغيرة ، التي تشبه عروق تبلدية كردفانية صــابها العنـــاء من ســـقية العطاشـــى .. تمـــددت الحارة براحــة عميقة غرب مقابر حمـــد النيـــل – تلك التي أغرتها ممارسة اٍستضــافة الذين ملّوا و صــابهم الرهق من التفرج على تفاصــيل المســاغب المجانية و الفـــاقه العاتية و الكــذب المجـــنّح – تشــجّرت نحـــو الســـهل و أمتــــدّتْ .. أمتــــدّتْ ... وقفــتْ على صـــدرها بيـــوت الطـــين الصغـــيرة ، التي أحتـــوتْ كثيرا من قصص الحون الصغيرة أيضــا .. على وجهها ، ينتصــب بيت خليفة شـــيخ الربع ، الذي فقـــد أثنين من أبنائه في أحــدي الاٍنقـــلابات الفاشـــلة ، ثم صـــار يســـب الســــياسة و الســاسه و الســـوس .. و من أبتدع حرب البســـوس ، الممتدة عبر الزمن بعناد غير ميئــــوس ..! و من خلفه ، أيّ خلف بيت خليفة شيخ الربع ، يقف بيت الرضـــيّة بت جبـــورة ، التي فقــدت عينها اليـمنــى ..حينما تشــابكت أرجل الناس هـــربا من صــوت الرصــاص الذي كان ينطلق برعونة ، ة يطرقع بصــخب ، و يطارد الناس في اٍحدى المظاهــرات ، يوم كانت الناس تحب هذا النــوع من المغامـــرات ، بحثا عن شــطة البمبان الحارقة ، و الأمل في تخفيـــّض اســعار الخبز و المواصـــلات ، و معدلات ضغط الدم ، أو ربما توليف قصص البطـــولات و روايتها على أكـــوام تراب البنـــاء المـــؤجل ، كما حلم التنمية ، لســـنين عـــددا .. كانت الرضـــيّة تلك ، تبيع الفــول المدمس و الحمّص و الترمس و البطاطس و اليام المسلوق ، أمام مدرســـة البنات المتوسطة ، فداهمها الناس في غفلة من أمرها .. و يقال أن صـــلاح ســـلك الشماسي ، كان مغيوظا منها ، فطبزها في عينها اليمنـــى دون اليـــسرى ، لحنقه الدفين تجاه اليمين أينما كان ، و حثيما كان ، و كيفما كان ( حتى لو كان هلم جــرّة ) ..! و لكن الأهم من كل ذلك ، أن الرضــية تلك لم يظهر اسمها في أيّ من قــوائم البطــولات السياسية و ادعاتها المنثورة ، بلا خجل ، على كتف الزمن الأشــتر.. و بالطبع لم يظهر اســمها ، حتى في كشــوفات التعويضــات .. ربما لأنها لم تكن من أهالي ( هــلم جــرّة ) و هي الفئة الوحيدة التي يحق لها التعويض ، في كل ما بطن و ظهر .. و كل ما مضى و كل ما هو اَت ..من كافة التعويضــات ..!
خلف بيت الرضـــيّة مباشــرة ، يقف بيت الخال جبريل النجــار ، الذي ذهب ابنه موســى الضكير الى القتال في الجنوب ..ضمن مجنـــدي الخدمة الإلزامية منذ خمسة أعوام و لم يعد حتى الآن ..! و الجدير بالذكر ، أن هذا البيت ، بيت الخال جبريل النجار ، يقف على صــدره دكان كــوكو الغسّال ، الذي كان يغســـل أدران الملابس ، و ادران الحــزن ، و يقــدم خدماته للكســالى ، الذين يعجزهم كسلهم الأبدي عن مــلامسة ممتلكاتهم الحميمة ، التي كثيرا ما اطلّعتْ على تفاصيل ضعفهم الشــخصي .. مثـــلا ، أن تلك الممتلكات الحميمة كثيرا ما شـــهدت تبول الســكارى عليها ، أو جبن الجبناء ، الذين داهمتهم موجـــة خـــوف عارمة ، فتغـــوطوا عليها .. أو حتـــى ما يسكبه هـــواة الصــاجات/الوجد الحرام ، حينما يســكبون عســــل اللّذة في زحــام البصــات العتيقة ، التي تتقـــــيأ جمهـــورا كادحا في اخــر محـــطة ..! يــواجه هـــــذا البيت ، بيت الخال جبريل النجــار ، ميـدان الرابطــة اليتيم .. و هــذا الميدان نفسه نصبه اهل شـــاهدا على غيظهم الكظـــيم ، الذي كثيرا ما يفرغــون مرارته زعيقا و هتافا و ســـبابا مبطّــن يتوجـــه نحـــو .....
الشـــارع :
تخرج البصـــات كما النمــل ، و تدب دبيبا خفيفا – كالمدام ، حينما تدب في اطراف عشاقها – نــحو امدرمان .. لتدب دبيبا خفيفا اَخــر نحــو الحارة .. تحمل الناس و اللبن و الخضار و الجرائد اليومية المملوءة كذبا نتــنا يشـــبه زنخــة بيوت الأدب ..! البصــات العتيقة ، تنهـــز قلوبها من التعب ، و لكنها لم تفكر يوما بأن تقف تمردا أو احتجاجا.. تثير الغبار ، و تثير أعصــاب من أنهكتهم هذه الحياة ( نعم هذي و ليست تلك) .. فيشتعل السباب لهيبا من الخناقات التافهة الصغيرة ، التي تشبها في صغرها أحزان اهل الحارة .. لا يســـكّن غبار ذاك الشــارع ، ســوى الســـيل المنحدر من جبيلات المرخيات التي تقف غرب الحارة ، وقد أرتخــتْ ذاكراتها ممـا رأته من عجـــب ..! يســــكّن مثل ذاك الســـيل غبار الشارع الوحيد ، و يمحـــو بعض من البيوت ، كما يمحــو عديمي الذمــــة تأريخ من قبلهم دون أدنى وجل من التأرخ نفســـه ..! انتصب الشارع ، كما أمه الحارة ، ليفصلها الى شمال و جنوب .. ليمارس ذينك النصفين لعبة الكراهية المتبادلة عبطا .. أهل المصف الشمالي ، لا يحبون أهل النصف الجنوبي لتخلّــفهم .. و أهل النصف الجنوبي لا يحبون أهل النصف الشمالي ، لإرتدائهم ثوب الغرور الممـــزق ، الذي لم يتمكن قط من ستر عورات الفقــر فيهم ..!
انتصــبتْ الحارة ، وعلى صــدرها امـــتدّ الشـــارع ، شــارع الموصــلات ، و عليه يقف السبيل..
الســــبيل :
كـــأيّ معجـــزة ، لا يملك الزمن قــدرة على تفسيرها ، يمتــد تأريخ هذا السبيل .. تأريخــه الشخصي ، لا تستطيع مواثيق الزمن و سرده السخيف على تحمّله أو احتــوائه .. ليس ممن أهل الحارة من يتذكر لحظة ميلاده ، أو قل لحزة وجوده الأولى .. اٍبتدأ بزير واحـــد ، يتناوب الناس على ملئه بالماء ، في زمن بعيد ، حيث كانت مثل تلك العادة يمارسها الناس بلا مقابل مادي.. ثم نادى هـــذا الزير على أخوين اخرين من فصــيلته ، أتيّا ، لموازرته.. أحزنهما أن يشـــيل اخاهما الأكبر ، الزير الأول ، شـــيلته لوحـــده .. و الأهم من ذلك احســاسهما بالخجل و قلة المروءة.. و لكن بعض الخبثـــاء يقولون بغير ذلك .. فمنهم من يتبرع برأي أو مشـــورّة مجانية حول ذاك الزير الأكبر ، بالقول بأنه تعب من الوقفة لوحده ، و من مشـــاهدة مواقف اٍنســانية لا يرغب أيّ كائن أو جماد بالإدلاء بشـــهادة حولها ، فنادى بعض من أهل ملـــته و فصيلته ، ليقوم بذلك الدور مثله .. كانت أزيار السبيل الثـــلاثة ، تقف بشـــموخ و عزة ، و تمارس دورها باٍنضـــباط ، و هي تحكي تواريخ الغبار و الطحلب و الصمت .. و كثيرا ما أحتــــذتْ بهذا الوقـــوف الشامخ كتائب الجند في تلك النواحي ، حتى صــار التعلمجيّة يقولون لمجّنـــديهم قفــوا كما السبيل ..!
الســــبيل يروي ظــــمأ العـــذارى ، دون أن يمارس الحــزن :
يقـــف السبيل ، في موقفه النبيل ذاك ، و يروي ظمأ العــذارى ، دون أن يمارس الحزن أو التمرد .. فلقد كانت بنات الحارة ، مثل غيرهن من بنات الدنيا كافة ، تنبض قلوبهن بالحــب ، حب الرجال طــبعا ، و يمارســن الشـــهيق المكتــــــوم ، كلما ترجرتْ تفــاحة اَدم أحـــدهم بالكـــذب المنمـــق .. تنهل البنات فــرحا في بداية الحب ، ثــمّ تأكـــل قــرضــا في نهايته و عندها يقــدم الســـبيل مافي جـــوفه ، ليبلّــل مرارة الفــراق الشـــين ..! تقـــفْ البصـــات العتيقة بالقرب منه ، لينزل النازل و يركب الراكب .. غالبا ما تكون النازلة فتاة عـــذراء ، تشــرب من ماء ذاك الســـبيل و تقرأ في جرعات الشـــربْ تلك مـوعـد حبيبها في ذاك المســــاء أو المســـاء التالي .. و في نفس الوقت ، غالبا ما تكون الراكبة فتاة عذراء قابلتْ حبيبها عند ذاك الســــبيل ، فتبـــادلا قليلا من مقالات الحب المقتضـــبة ، التي كثيرا من العتاب ، الذي يهتم كثيرا بتـــأزيم البنات أزمة ما بعدها أزمــــة ..!
ما قالته وداد / حينما واعدتْ حبيبها بالقرب من ذاك السبيل ، و حينما صــار محطــة ، عــلامة في درب المواصـــلات ....الخ :
حينمـــا قرر الفـــرح أن يســـهو طــويلا عن نبض الحارة ، جاءت وداد .. نســـجتْ تفاصـــيل تلك الســـهوة الطويلة بأحــاديث ذات نكهــــة نفّــــاذة تشبه نكهة الشمار الأخضـر المريض ، فصــارت أهل الحارة تنادي النميــــمة الطــازجــة بالشــمار ..! تعبتْ وداد ، و تعبتْ منها عنـــوستها الفجّـــة .. حدثتها العذروات الأقل منها ســنا – هذا طبعا بيني و بينك – بأن الوقـــوف بالقرب من ذاك الســـبيل يعـجّــــل بحضــور النصيب .. فاستشارتْ وداد الفكي اســـحق الغرباوي ، الذي أشـــار عليها بلبن الطير و جنح ذكر الناموس و جلد الضب الأعــور .. و الوقـــوف بالقرب من السبيل ..! في تلك اللحظة ، لعنتْ وداد ، في ســرها ، من أخترع حيلة الفكي تلك في تأريخ الحارة .. تبّين لوداد ، أظن ذلك فيما بعد ، أن الفكي هو عبارة عن شخص له من الذكاء البسيط ، ليؤلف حيلة يسهل تصـــديقها من قبل و الحيارى و الذين أو اللائي فاتهن قطــار النصيب العاير .. و لمنه أصبح مؤسسة خطيرة الشـــأن ..! ذبحت وداد ديكا أحمــر و تبّـــلته بالتوابل الشهيّة ، وقدمته للفكي اســحق الغرباوي ، لكي يأتي النصــيب .. ! في الواقع ، في المرة الأولى ، تأخـــر ذاك النصيب ، ولكن حينما وقفتْ سبع مرات جـــوار السبيل ، جاءها من خلف الحارة يترنح ســكرا و هذيانا ..سمته وداد حبيبها .. و تخليدا لتلك الذكرى ، أصــّرتْ على حبيبها على أن يواعدها قبل أن يلتقيها ، شــرطا أن يكون المعياد على السبيل .. و على ذاك السبيل أدّتْ وداد قســم الولاء ..لقلبها اولا..و لحبيبها ثانيا .. و لسبيلها ثالثا..و صــارتْ تقســم باٍسم المحبوب ســرا ، و باٍسم السبيل جهرا ..! و لقد كانت وداد تلك ، تدخرْ بعضا من المال ، اْنتظــارا لقدوم النصيب ذاك .. و حينما أتي ،وهبته ما عندها من مال مدخر ، فأشـــترى به بصـــا عتيقا ، صار يدب في تفاصيل الحارة ، التي قررتْ أن تمارس الفرح و البهجة مع وداد ، بالتمدد و التمدد غربا ..! صــار البص يمارس الدبيب بمتعة غنية التفاصيل .. على خديه كتبت عبارة " امدرمان – السبيل –امدرمان " ، و على قفاه كتبت بعض من عبارات الأغاني ، ثم عبارة " محبة في السبيل" بخط متعرج المسالك ، تبدو حروفه متراقصة كفراشات اكتشفت فجاءة وجــود اللهب .. و على وجهه ، أمام مـــراَة السواق مباشرة ، كتبت عبارة " يا ناس يا عسل ..النصيب وصل"..وكل ذلك قبل التأصيل طبعا .. أما بعده ، ظهرت بجانب عبارة العسل تلك، عبارات جديدة ..مثل .. الفردة دي للــــه ..المحطة دي للـــه .. و المصطفى مني ليك ســلام ..!
كان لذاك البص مزاج عجيب .. فهو ينهز بنشاط ، و عندما يأتي الى السبيل يحرن بصـورة مزعجة و يقف تماما عن الحركة ..! قال النصيب ، متشــكيا ، لوداد : لا أدري لماذا يصــر هــذا البص على التوقف في هـذا المكان؟ تســـاءلتْ وداد ، في ردها الممزوج بالدلال الفتان و اقصـى حالات الغواية الممكنة ، قائلة: ربما أعجبه المــوقع ..! ثــمّ ضــحكتْ و مطتْ ضحكتها ، حتى أجبرتْ نصيبها على الضحك ، فضحك ، وتحت التحت ضحكت الحارة أيضــا .. و صــار الســــبيل محــطة ، علامة في شارع المواصلات ، اٍشـــارة في درب المحبّــــــــــــة ...!!!
محمد النور كبر أيلـــول 2003
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: الســــــبيل : ســــــرد ... (Re: Kabar)
|
صـــديقي ســـيجمان..حبـــابك كتر خيرك اول بالتبادي مبروك المقع الجديد.. ثانيا .. اشكرك على المرور .. بالرغم من طــول السرد.. لكن هي مشكلة .. احيانا كثير أحلم بالقصير المفيد ..لكن العين بصيرة و الليد قصــيرة .. شكرا .. متابع لكل مساهماتك .. و دمت كبر
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الســــــبيل : ســــــرد ... (Re: Kabar)
|
يا كبر سلامات
تعرف ..تتملكني دوما فكره حضور الاشياء التام وشهادتها الامينه علي ما نفعل
كتبت مره صديقه حميمه واسهمت معها قليلا مقال بعنوان احساس حاجات عاده لا نتطرق لاحساس الحاجات حولنا ونغفل تماما وجودها وغالبا ما تكون الشاهد الوحيد وكاتم الاسرار في كثير من الافعال السريه والعلنيه المفضوحه امام انفسنا وربما الاخرين ايضا اعجبتني ايضا فكره تنصل الاخرين من المسئوليه تجاه الاعتناء بالحميم من الاشياء واعني هنا تحديدا ذات العلاقه الحميمه جدا بالجسد وهي الملابس وربما من زاويه اخري المشاعر ايضا ودوما ما يحضرني تاكيد الله عز وجل ان الحواس تشهد لصاحبها يوم القيامه وتحكي عن الفعل تخيل نحركها الان ونستخدمها أني شئنا شاءت هي ام ابت ..وتحركنا يومئذ بشهادتها شئنا ام ابينا ايضا ..
شكرا كبر جداااا لك وللسبيل شاهد الحب الكبير
اعتقد لكل حب شاهد وشاهدتي مدينه عتيقه وبعيده ومحببه جداااا
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الســــــبيل : ســــــرد ... (Re: Kabar)
|
صــديقتي تـوما..حبابك كتر خيرك.. الســبايل ..من الحاجات الحميمة جدا.. و هي من التفاصيل الموسوعة في حــد ذاتها .. و بالنسبة لي قد يكون من أكثر الشــواهد حضــورا في تأريخ الحارات .. نعم التداعي قد ذهب بصــورة جمالية للتواصــل و بالتالي كتابة اللحظة/العـلاقة .. و منها بالمرة محاولة استشراف فرح ما عبر الذاكرة .. التحية لتلك الصديقة .. و كثير من الأشــياء الحميمة تكون الأقرب في كل تعاريج العمر ..لكننا نتجاوزها نسيانا.. أما المدينة ..تلك البعيدة .. عشمنا ان نشهدها خاطرة ترجعنا لزمن الغنا البهي.. و دمت كبر
| |
|
|
|
|
|
|
|