|
كجبار وسياسية العنف والقمع - جادين
|
كجبار وسياسية العنف والقمع محمد علي جادين
جريمة كجبار التي شغلت الساحة في الأيام الماضية، تثير أسئلة عديدة حول علاقة نخبة الإنقاذ المسيطرة على البلاد بالعنف والقمع كأسلوب ونهج في إدارة الدولة والتعامل مع قوى المجتمع المدني والسياسي.. هل هي علاقة عادية ترتبط بحاجة الدولة لدرجة معينة من العنف والقمع بهدف تطبيق القانون وفرض النظام العام؟ أم هي أكثر من ذلك ترتبط ارتباطاً وطيداً بنهجها السياسي والاقتصادي العام بمعنى انه يشكل جزءاً أساسياً في سلوكها السياسي؟ وهذه الأسئلة تفرضها حقيقة ان نخبة الإنقاذ ظلت طوال تاريخها تعتمد هذا النهج كأداة أساسية في إدارة الدولة والفضاء السياسي العام – وما جرى في كجبار يؤكد ذلك، حيث قامت الشرطة بقتل ستة مواطنين وأصابة 27 آخرين بجروح متفاوتة فقط لأنهم أرادوا التعبير عن رفضهم لإقامة خزان كجبار بطريقة سلمية، والملفت ان ذلك يتم في منطقة معزولة وبعيدة عن المركز، وكان يمكن معالجة المشكلة عن طريق الحوار والوسائل السلمية، ولكن ذلك لم يحدث ولجأ والي الشمالية إلى تبرير ما جرى بنظرية المؤامرة وتوزيع الاتهامات شمالاً ويميناً. واستقالة نائب الوالي ومعتمد حلفا، المحسوبين على الحزب الاتحادي الديمقراطي، تشير إلى ان ما حدث يتحمل مسؤوليته المؤتمر الوطني بكامله وليس حكومة الولاية وأكثر من ذلك ان الحادثة تستدعي احداثاً مماثلة شهدتها بورتسودان في بداية 2005 ومنطقة المناصير في أبريل 2006 ومنطقة النيل الأبيض والخرطوم في الفترة الأخيرة، وكل ذلك يشير إلى ان سياسة العنف والقمع تشكل نهجاً أساسياً لنخبة الإنقاذ المسيطرة في إدارة الدولة والتعامل مع المجتمع المدني والسياسي والملفت ان هذا النهج يظل مستمراً حتى بعد اتفاقية السلام الشامل والدستور القومي الانتقالي 2005 ويعني ذلك ان نظام الإنقاذ الشمولي لا يزال مستمراً في قوانينه وفي ممارساته العملية المعادية للقوى الأخرى رغم أنف حكومة الوحدة الوطنية واتفاقيتها ونصوص دستورها الانتقالي ويرجع ذلك إلى سيطرة المؤتمر الوطني على السلطة والثروة في المركز والولايات الشمالية وإنشغال الحركة الشعبية بإعادة ترتيب أوضاعها ومشاكل الجنوب الضخمة إضافة إلى ضعف قوى المعارضة الشمالية لأسباب عديدة ليس هنا مجال تفصيلها.
ان اعتماد نخبة الإنقاذ لسياسة العنف والقمع كنهج أساسي في إدارة الدولة والتعامل مع قوى المجتمع المدني والسياسي يرجع إلى طبيعتها الاجتماعية المرتبطة بالفئات الطفيلية وطبيعة خطابها المرتبط بشعارات تتدثر بالإسلام الحنيف وتدعي احتكاره وتتهم كافة القوى الأخرى بالكفر والزندقة والردة والعلمانية وغيرها، بما في ذلك الأحزاب الكبيرة المرتكزة على الطوائف الدينية الأساسية في البلاد، وارتباطها بالفئات الطفيلية بدأ منذ مصالحتها مع نظام نميري ودخول قياداتها في نادي الرأسمالية السودانية والعربية عن طريق البنوك المسماة إسلامية وشركاتها المعروفة. وبرز ذلك بشكل واضح في فترة الديمقراطية الثالثة, والمعروف ان الفئات الطفيلية هي الأكثر جرأة واقداماً وسط الفئات الرأسمالية عموماً. ولذلك قامت بانقلاب 30 يونيو 1989 عندما شعرت باستحالة تحقيق مشروعها في ظروف الحريات العامة والتعددية الحزبية، خاصة بعد اتفاق الميرغني - قرنق 1988 وحكومة الجبهة الوطنية في 1989 وتحرك عملية السلام مع الحركة الشعبية والانقلاب العسكري يمثل أقصى درجات العنف والقمع ومنذ البداية رفعت شعار التمكين في مواقع السلطة والثروة استناداً إلى طبيعتها الاستحواذية الشرهة وإلى شعاراتها المتدثرة بثوب الإسلام، وانطلاقاً من هذه الشعارات ظلت تنظر لنفسها باعتبارها حامية الإسلام والمكلفة بتنزيله للواقع العملي من خلال التمكين السياسي والاقتصادي وتدمير القوى الأخرى، وهي في ذلك لا تختلف عن حركة حماس في فلسطين والملالي في ايران، وسياسات نخبة الإنقاذ في الفترة السابقة تشير إلى اعتمادها الكلي على نهج القمع والعنف واقصاء الآخر، ونشير هنا فقط لسياسة الانفتاح الاقتصادي التي اعلنتها في بداية 1992 وهي سياسة معروفة أدت عملياً إلى تصفية الطبقة الوسطى بشكل شبه كامل وبطريقة فظة، وبعض المراقبين وصفها بأنها (ضبح عديل من الوريد إلى الوريد) وكذلك كان نهجها في إقامة سد مروي وخزان كجبار والملفت انها سحبت السدود من إدارة وزارة الري واسندتها إلى إدارة خاصة بصلاحيات واسعة لا حدود لها وذلك بالطبع لتسهيل عمليات العنف والفرض بعيداً عن مطاولات مجلس الوزراء وتقاليد الخدمة المدنية العريقة أو على الأصح ما تبقى منها، في هذا الإطار تأتي أحداث كجبار وقبلها أحداث أمري والنيل الابيض وغيرها، واستنادها على سياسة القمع والعنف بعكس طبيعة نخبة الإنقاذ المرتبطة بالفئات الطفيلية الشرهة وخطابها المرتبط بشعارات تتدثر بالإسلام الحنيف زوراً وبهاتاً ولهذا السبب لا يمكن توقع تغيير حقيقي في سياساتها دون اجبارها على احترام اتفاقية السلام الشامل والدستور القومي الانتقالي والإسراع بخطوات التحول الديمقراطي إضافة إلى دفع الحركة الشعبية إلى التركيز على قضايا المركز وتحويل الشراكة إلى شراكة حقيقية وفي هذا الاتجاه لا بد من الاشادة بدور الصحف والصحفيين في كشف حقيقة ما حدث في كجبار من عنف وقمع في مواجهة مواطنين عزل حاولوا التعبير عن رفضهم لمشروع لم يستشاروا في جدوى قيامه.
|
|
|
|
|
|