|
ستون عاماً على مؤتمر جوبا......د. حيدر إبراهيم
|
الصحافة 10-6-2007
ستون عاماً على مؤتمر جوبا
د. حيدر إبراهيم
قبل الكتابة:
خطط مركز الدراسات السودانية منذ بداية هذا العام للاحتفال بمرور ستين عاما على انعقاد مؤتمر جوبا في 12 ـ 13 يونيو 1947م. ورغم التفكير المبكر إلا ان الظروف العملية أو اللوجستية مثل القاعة وكتابة الأوراق بالإضافة للمزاج العام، لم تتح لنا تنفيذ الفكرة. فهذه دعوة ما زالت مفتوحة لتقييم مؤتمر جوبا وآثاره على تطور مشكلة الجنوب وعلى الفكر السياسي الجنوبي.
***
يعتبر مؤتمر جوبا 1947م علامة فارقة في العلاقات بين الجنوب والشمال، فقد اتاح فرصة تاريخية للسودانيين وهم في قمة صعود الحركة الوطنية للتفكير في مستقبل وطن موحد. وهذا خلل عظيم في فكر وعمل الحركة الوطنية حتى بعد الاستقلال. أين موقع الجنوب في آيديولوجيتها وبرامجها؟ لم تمتلك القوى السياسية الشمالية رؤية أو سياسة واضحة تجاه الجنوب. وكان هذا الموقف المتجاهل وغير المهتم واضحا في تكوينة مؤتمر الخريجين ـ طليعة الحركة الوطنية، إذ لم يكن يضم اي عضو جنوبي وهذا إشارة رمزية لعزل الجنوب لم يفطن لها الخريجون ام لم يكونوا في حاجة إلى وجود جنوبيين.
مثل مؤتمر جوبا فرصة مجانية لم تسع إليها الحركة الوطنية مباشرة، ومع ذلك لم تحاول استغلالها بهدف تمتين العلاقة مع الجنوب وإزالة العقد التاريخية التي تعمقت بين الطرفين. ويمكن القول بأن مؤتمر جوبا جاء نتيجة لمشروعات التطور الدستوري الذي بادرت الإدارة البريطانية بإطلاقها بعد عام 1946. وطرحت مسألة إشراك الجنوبيين في التطورات الدستورية المحتملة. وساعدت الأجواء العالمية في هذه التغييرات إذ انتهت الحرب العالمية الثانية بهزيمة الفاشية وبرزت حركات التحرر الوطني وفي إفريقيا بالذات ظهرت الدعوة إلى الوحدة الإفريقية Pan Africanism وفي بريطانيا نفسها اهتمت التنظيمات التقدمية مثل الجمعية الفابية بقضية التحرر من الاستعمار. ويعطي البعض لبروبرتسن الفضل بهذا الاهتمام بالجنوب والإصرار على إيجاد صيغة لتطور الجنوب سواء في علاقة مع الشمال أم لا؟
يقلل بعض الجنوبيين من اهمية مؤتمر جوبا باعتبار انه لم يكن تعبيرا حقيقيا عن طموحات الجنوبيين الحقيقية. إذ لم توجد نخبة جنوبية مثقفة معبرة عن الجنوبيين. وقد انعكس هذا في تكوينة المشاركين من الجنوبيين، فكانت من بعض السلاطين الجنوبيين وصغار الموظفين وضباط الصف، يضاف إلى ذلك شخصيات شمالية مثل محمد صالح الشنقيطي وإبراهيم بدري. ولم يكن الاتجاه السائد في المؤتمر مع الوحدة بلا شروط وضمانات، فما زالت ظلال تجارة الرقيق وممارسات الجلابة لم تبعد من الذاكرة. وركز الجنوبيون على مطالب التنمية وضرورة إحداث تغييرات اقتصادية واجتماعية في الجنوب. كان هناك إحساس بالتطور اللا متكافيء بين الشمال والجنوب مما يرجح إمكانية هيمنة الشماليين على الجنوبيين. وظهرت تعليقات ومواقف اقرب إلى الواقع الراهن الذي يتحدث عن الوحدة الجاذبة. اورد السيد ابيل الير تعليقا للسلطان لوليك لادو وكان أكثر الحاضرين حكمة:
«قد تقدم بتحفظات السوداني الجنوبي بصورة مؤثرة عن ما اعرب عن امله في ان تكون الأجيال الجديدة من أهل السودان الشمالي على نقيض الأجيال السابقة، ذات نزعة حضارية وروح إنسانية» (ص 40) وشبه العلاقة بين الشمال والجنوب بعلاقة شاب وشابة يعتزمان الزواج، ولكنهما يمهلان نفسيهما ليلم كل منهما بسلوك الآخر وميوله الاجتماعية، قبل ان يتخذا قرارهما الأخير بالزواج أو بعدمه. لأن العجلة في هذه الأحوال تؤدي إلى الشقاء وربما إلى الانفصال والطلاق بصورة عنيفة (ص 40) وهذه هي الفترة الانتقالية الحالية التي يجب أن تكون سانحة للتفاهم والتقارب. هكذا لم يكن المؤتمرون متسرعين، وفي نفس الوقت أنهوا العزلة بين الشمال والجنوب، وظلوا منتظرين لتحولات تنموية في الجنوب. ولكن الجوانب السياسية تسارعت ودخل الجنوبيون الجمعية التشريعية وزال اي شكل إداري او سياسي يؤكد عزلة الجنوب. وللأسف لم تهتم الجمعية بالضمانات التي تحدث عنها الجنوبيون اي وضعية خاصة ـ قد تكون الحكم اللامركزي أو وضع فدرالي أو حكم ذاتي ـ فقد كان البريطانيون يعملون على عدم استغلال مصر للأوضاع في السودان. وخشيت الإدارة البريطانية من بيع فكرة ان الجنوب سوف ينفصل، لو قامت بأي إجراءات خاصة بوضعية الجنوب خاصة قد ظهر رأي بإنشاء وزارة لشؤون الجنوب في وضعية مستشار للحاكم العام «1951».
كانت الفترة من بداية الخمسينيات وحتى الاستقلال، تتميز بنشاط محموم ولكنه في كثير من الأحيان قصير النظر وضحل التفكير. فقد ترك الكثير من القضايا بلا حلول، كما ان الطابع التفاوضي المساوم للقوى السياسية قدم نصف حلول لكل القضايا، وكان المؤجل أكثر من المحسوم. واعتبر الجنوبيون إعلان الاستقلال هي اللحظة التي ستقدم لهم الحل النهائي لمشكلة العلاقة بين الشمال والجنوب. واشترط النواب الجنوبيون قيام نظام فيدرالي، لكي يصوتوا مع الاستقلال في البرلمان باعتبار ان ذلك يمثل إجماعا لنقاش امتد منذ مؤتمر جوبا وهناك اتفاق ضمني حوله. ووافق الشماليون على الشرط ولكن بعد التصويت، بدأ ما اسماه الير نقض العهود والمواثيق. وغياب الثقة والشك ظلا المبدأ الذي يحكم سلوك الشماليين والجنوبيين حتى اليوم.
يمكن اعتبار تاريخ البحث عن حل لمشكلة الجنوب هو امتداد لأفكار مؤتمر جوبا رغم بساطة المشاركة ولكنها عبرت عن حقيقة حاجة الجنوبيين إلى امرين: التنمية وشكل خاص للإدارة والحكم. وبالتالي، كان مؤتمر المائدة المستديرة وحتى اتفاقيات نيفاشا للسلام الشامل، هي مجرد تنويعات وتفاصيل أكثر لمؤتمر جوبا. ومن الملاحظ العجز التام عن تحقيق التنمية في الجنوب حتى اليوم. فقد ظل الجنوب بعد أكثر من عامين من اتفاقية السلام الشامل مهملاً ومهمشاً وهذه المرة قد يكون التهميش جنوبي ـ جنوبي، وهذا سيكون من خبث الشريك الذي سيبريء نفسه مما حدث في الجنوب وقد يكون السبب في إهمال التنمية، ان الفكر السياسي الجنوبي ظل سياسويا وثقافويا تثبت في فترة تجارة الرقيق وظل يوظفها لتأكيد اختلاف العنصرين واثبات اضطهاد الشماليين للجنوبيين. فقد كانت بالفعل مشكلة عرقية ولكنها الآن صراع سياسي ـ طبقي يستغل الاختلافات العرقية ويوظفها لتعميق الولاء لنفسه والنبذ للآخر. وما زلت أتذكر مؤتمر المائدة المستديرة مارس 1965 كيف كان يتحدث أقري جادين ورفاقه عن تجارة الرقيق ويتهم حضورا من التقدميين والاشتراكيين بأفعال أجدادهم ويصر على تحميلهم الاثم أو الخطيئة الخالدة. وهذا الاتجاه الجنوبي اليميني لم يتغير كثيرا ويتحرك الآن تحت تسميات الهوية ويكرسه اليمين الجنوبي والإسلاموي ـ السلفي.
يظل مؤتمر جوبا معلماً هاماً في تاريخ السودان ولم يكن مجرد لقاء إداري. فقد بذر أفكارا لم نتوقف عندها مليا. كما ان هناك شخصيات جنوبية وشمالية كان لها دور هام لم يثر انتباهنا. فهذه السطور هي للتذكر فقط وأتمنى ان نتفق على طريقة ما لإحياء ذكرى مؤتمر جوبا فكرياً وسياسيا.
http://www.alsahafa.sd/Raay_view.aspx?id=35915
= = = = = = = السودان لكل السودانيين المجد لشعب السودان ... المجد لأمة السودان
|
|
|
|
|
|