|
امدرمان والقبيلة والهوية .
|
امدرمان والقبيلة والهوية
ما كنت لأكتب هذا المقال لولا انه في القرن الحادي والعشرين هناك من يمشي بيننا مرتدياً اهاب الجاهلية وتفاخرها بالأنساب , واستعلائهم العرقي , وكأن الله خلقهم من طينة اخري وميزهم عن العالمين , ولم يخلقنا من نفس واحدة واوجدنا في هذه البقعة من الارض المسماة السودان , ولنذكر قول الله تعالي ( يا ايها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام ان الله كان عليكم رقيبا ) ( النساء- 1 ) . فقد كتب احدهم في معرض رده علي الذي اراد النيل من امدرمان واهلها انه يحمد الله انه سوداني امدرماني جعلي وهلالابي , وجاراه في ذلك اخت له من قبيلته بنفس هذا القول , وودت لو انه وكل من لف لفه ان يكتفي بانه امدرماني فحسب , ولم يذكر قبيلته ويحمد الله علي ذلك , فأهل امدرمان سادوا بخصالهم وافعالهم وليس بقبائلهم , فهذا قول فيه عنصرية بغيضة واستعلاء قبيح , واغلب الظن ان الشاب القائل في مقتبل العمر من صورته المنشورة وانه من الوافدين المحدثين في امدرمان , فليس من اهل امدرمان من يقول بذلك . وسكان السودان الذين جمعتهم واستوعبتهم امدرمان اتوا من اثنيات شتي من النوبة والبجا والزنج والنيليين والمستعربين . وحاولت ان افهم القصد من التفاخر القبلي , وما هي المعايير الداعية لذلك ؟ هل يقصد انه حر وليس عبداً ؟ هل اغتر بلونه الفاتح وليس الاسود الداكن ؟ فقد درج من يقولون بأنتمائهم الي العرب ان يصفوا اسود اللون بأنه عبد . فأن كان المقياس لون البشرة فلينظر احدهم الي لونه ويقارنه بلون العرب الآخرين في سوريا ولبنان والأردن والسعودية , فسوف يرتد بصره وهو حسير , بينما ان اختلاف الوان البشر آية من آيات الله وليس مجالاً للفخر , ( ومن آياته خلق السموات والارض واختلاف السنتكم والوانكم ان في ذلك لآيات للعالمين ) ( الروم – 22 ) , وان قَصَد الرق فأن تلك حقبة عار في تاريخ الانسان عمت كل الوطن المعمور في العالم , ولم يسلم منه جنس او عرق , وكان العرب في جاهليتهم يغيرون علي بعضهم ويضربون اعناق بعضهم البعض ويسلبون وينهبون ويسبون النساء ويئدون الاطفال الاناث ويرتكبون الفواحش والموبقات , واعزهم الله بالاسلام كما قال بذلك الفاروق عمر . وكان العرب الاقحاح يسترقون بعضهم في غاراتهم الهمجية , وكان بعض كرام صحابة الرسول (صلعم) عبيداً قبل الاسلام كسيدنا اسامة بن زيد العربي , وسيدنا صهيب الرومي , وسيدنا بلال الحبشي , وسيدنا سلمان الفارسي , رضي الله عنهم جميعاً , وكان سيدنا عمر يردد ( ابو بكر سيُدنا واعتق سيدَنا ) وكان يقصد ان سيدنا ابوبكر اعتق سيدنا بلالاً . وامير المؤمنين عمر هو القائل لعمرو بن العاص عامله علي مصر ( متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احراراً ) وذلك عندما اشتكي القبطي المصري ابن عمرو بن العاص لعُمر , عندما استبقا وسبقه القبطي فضربه بن عمرو بالسوط قائلا له ( انا ابن الاكرمين ) , فاستدعي سيدنا عُمر الي المدينة عَمرو وناول السوط للمصري وامره ان يضرب به صلعة عَمرو فاعتذر الرجل وطلب ان يقتص ممن ضربه , واستجاب له امير المؤمنين وامره ان يجلد بن عمرو وهو يقول له اضرب ابن الاكرمين . ثم جاءت مقولة سيدنا عُمر تلك في اول مادة في المواثيق الدولية لحقوق الانسان بعد عشرات القرون في عام 1948 م والتي تقول : يولد جميع الناس احراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق , وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم ان يعاملوا بعضهم بعضا بروح الاخاء . ولكن لم يرتدع عرب الامس ولم يغيرهم الاسلام , فمسلم بن عقبة القائد الذي ارسله يزيد بن معاوية للمدينة قتل 1700 من اهلها وقتل صحابة رسول الله واستباح مدينة الرسول لمدة ثلاثة ايام , فاغتصبوا نسائها وفتياتها . وفعلها بالامس واليوم المستعربون من الجنجويد في دارفور , فأبادوا ما يزيد عن مئتي الفاً من رجال الفور والزغاوة والمساليت ومنهم الالآف من حفظة القران , واغتصبوا الحرائر من الفتيات والنساء . وواهم من يظن ان هناك نقاء عرقي في السودان , بْلهُ في جزيرة العرب مع اختلاط العرب بالشعوب الاخري وتسري النساء ( ملك اليمين ) , وفي تحقيق صحفي في مجلة العربي الكويتية سأل المحرر علاّمة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر عن احجامه عن الكتابة في انساب العرب في السعودية , واجاب انه ان كتب فسيكتب بصراحة وذلك سيغضب الكثيرين من البيوتات الكبيرة . ولقد ذكر الشيخ الجليل بابكر بدري في كتابه ( قصة حياتي ) وقد قرأته , حادثة ونقلها هنا الصديق العزيز شوقي بدري في احدي مقالاته . قال الشيخ انه ذهب ليعود قريباً اصيب بالحمي واثناء وجودهم سمعوا صوت صافرة باخرة , وبالاستفسار علموا ان الباخرة تحمل سبايا الجعليات من المتمة اللاتي ارسلهن قائد الخليفة محمود ود احمد اليه في امدرمان . واني كشاهد ومشارك في الحركة الوطنية التي أتت بالاستقلال أقر بأنه لم يكن من الممكن ان يتحقق التحرر من الاستعمار بدون وحدة الصف وصفاء النفوس والتكاتف والتعاضد معاً , فقد كنا وكان الشعب السوداني علي قلب رجل واحد عندما حانت ساعة الجد وتقرير المصير , وفي ذلك الوقت اغفلنا او تناسينا قبائلنا وعشائرنا , فكان كل واحد منا سوداني فقط , ولم يكن من احد يدعو لقبيلة او عصبية . ومن سخرية القدر ان جاء بأناس في عهد الجبهة أحيوا هذه النعرات القبلية واذكوا العصبية العنصرية في سبيل ان يحتفظوا بالسلطة مثلهم في ذلك مثل المستعمر ! ولا عجب فأنهم اخضعوا الدين الحنيف لأغراضهم واستحواذهم علي السلطة . وانقل فيما يلي بعضاً مما خطه الدكتور منصور خالد في كتابه النفيس ( السودان . أهوال الحرب – وطموحات السلام – قصة بلدين ) , الموثق بالأسانيد , وبأسلوبه الادبي الراقي . ومنصور لا يحتاج لتعريف , ومع ذلك فهو ينحدر من عائلة امدرمانية عريقة ذات علم ودين , وان شئت الاستزادة فهو من الجعليين العمراب , مع ان هذه نبذها واباها اي التعصب للقبيلة , وسأضع رقم الصفحة من الكتاب بين قوسين عند النقل . يقول منصور لمن نعوا عليه ومن معه من الشماليين الالتحاق بالحركة الشعبية لتحرير السودان : ( ونحرص علي وضع كلمة عرب بين قوسي حصر , لأن العقل الذي يوحي بمثل هذه التصنيفات هو أُس الداء , هم سودانيون فحسب , مهما اختلفت اصولهم واعراقهم , فأساطير الأصل نعال خلعها ( عرب ) الحركة عند ( الوادي المقدس ) الذي يبتغون وهو السودان الجديد ) . وكتب الدكتور منصور ( ص- 673 ) فكما حدث في السودان , توافد علي المغرب الكبير حشود من المهاجرين الذكور منهم الوعاظ , والتجار , والمرتزقة , واستقر بهم الحال جميعا في الموطن الجديد , ثم تزاوجوا مع اهله , خاصة في منطقة الساحل التي كانت اكثر تطورا من منطقة الجبال بحكم اختلاطها بقرطاجنة . عملية التمازج هذه بين المهاجرين البربر تميزت بدرجة عالية من التسامح والاحترام للتقاليد المحلية . ومن بين هؤلاء المستعربين برز أئمة مرموقون في الفقه الاسلامي مثل أسد بن الفرات , وحبيب بن سعيد , وسحنون صاحب المدونة الشهيرة في الفقه المالكي . وقد زعم بعض البربر الانتساب الي حمّير , وكانوا في هذا اقل طموحاً من اهلنا الذين ذهبوا تواً بنسبهم الي العباس بن عبدالمطلب , كما يقول الجعليون , او الزبير بن العوام كما يتظني الحسانية , ونسبة البربر لحميّر انكرها بن حزم اذ قال , وادعت طوائف منهم ( أي من البربر ) الي حميّر وبعضهم الي بُر بن قيس عيلان . وهذا باطل لا شك فيه . وما علم النسابون لقيس عيلان ابناً اسمه بُر اصلاً . لا ندري ما الحكم الذي كان سينتهي اليه الشيخ القرطبي , بن حزم , لو تطرق في جمهرته الي نسبة مستعربة السودان انفسهم الي قريش . ويقول الدكتور منصور ( ص-161 ) ومؤخراً ذهب احد الباحثين المتعمقين في دراسة التاريخ السوداني الي طرح نفس السؤال آملاً في التوصل الي هوية ذلك الانسان الجديد المسمي بالسوداني , الذي لا هو بعربي صُراح , ولا افريقي صرف . يقول المؤرخ ان هذا المخلوق لا يمكن ان يكون الا سودانياً . تلك الحقيقة البدهية ما برحت غائبة عن اذهان كثيرين في شمال السودان , وليس أدل علي ذلك تلاحيهم حول اصولهم علي صفحات الصحف . اما بالنسبة لأبن الجنوب الذي كان مطالباً بالافتخار بسودانيته من جانب اسماعيل الازهري في مؤتمر الخريجين , فلربما لا يملك منذ استقلال السودان وحتي اليوم جواباً علي السؤال : هل انت سوداني ؟ غير ان يقول : ربما اكون ذلك يوماً ما . ويقول الدكتور منصور (ص – 672 ) الافكار والاساطير التي قسمت السودانيين الي عنصر متفوق بسبب اصله العرقي له ما يشتهي , وعنصر ذي عرق خبيث محمول بأصله علي الدناءة . هذا الاسلوب المنحرف لمداهنة النفس , بل الحفاظ علي الذات له مخاطره في صراع الهويات بين مستعربين لا يتنكرون فقط للمقوم الافريقي ( النوبي والزنجي ) في تشكيل شخصيتهم , بل ينكرون ايضاً الخصوصيات الثقافية لاخوتهم من سكان البلاد الاصليين , وبين جماعات اصلية تنكر , بحكم وجودها القَبْلي علي الارض , ان تكون لاولئك الوافدين اي حق في تلك الارض , عبر عن هذه المخاطر اكاديمي شمالي قائلاً , انه في ظل الدعاوي المتعارضة حول من هم اصحاب الحق الاصلي في السودان , قد تعود المحاولات لاثبات او نفي حقيقة من هم اهل البلاد الاصليين الي هزيمة ذاتية لمن يلحون علي تأكيد اصولهم العربية . الاكاديمي المدقق لا يصدر بهذا حكماً علي صدق أي من الدعاوي المتعارضة ( بين من لا يري في السودان الا وجهه العربي , ومن ينكر عليه نسب عربي ) , بقدر ما اراد ان يكشف عما في هذه الدعاوي من اختلال منطقي . كان اصحاب هذه الرؤي المتعارضة سيريحون بعضهم البعض , ولا يخطئون وجه الصواب , لو اعترفوا بأنهم , قبل أي انتماء آخر سودانيون . لو فعلوا لما اوقعوا انفسهم في ضيق , ولتعافوا نفسياً . ويقول الدكتور منصور في موقع آخر من الكتاب عندما استضاف الرئيس البشير الرئيس النيجيري اوباسانجو الذي جاء وسيطاً لحل مشكلة الجنوب , ( ومن أطرف ما ورد في لقاء البشير بالرئيس النيجيري ( ص – 810 ) قال البشير لضيفه انه يتفهم هموم الجنوب , الا انه فشل في فهم السبب الذي دعا شماليين مثل منصور خالد للأنحياز الي المتمردين .) تلك العبارة تتضمن بلا مراء , نظرة عنصرية عميقة الجزور , دون ان يتبين البشير ذلك او يحس به . ففي اعماق رئيس البلاد هناك سودانان , سودان اولاد العرب , وسودان الزنوج الافارقة , وله في تلك النظرة شركاء من ذوي الحجي . في رأي البشير , علي اولاد العرب الوقوف الي جانب ذويهم , حتي وان كانوا قاتلي انفس . لم يتبين رئيس السودان الافريقي ايضاً ما في قالته من اساءة بالغة لضيفه , فأنكاره لوجود شمالي في وسط الجنوبيين , اراد البشير ان يقول ان حركة سياسية جنوبية لا يجدر بها ان تناقش او تعالج الا مشاكل الجنوب الافريقي غير العربي , حين يسمح للشماليين ( بمن فيهم الابن الضال ) التوغل في معالجة امر الجنوب ( حل مشكلة الجنوب ) متي شاءوا وكيف شاءوا . هذه هي الفروق الدقيقة التي كثيراً ما تغيب عن ادراك الذين عمهوا في امرهم , واصبحوا رهناء لمواريث تكبل العقل وتعشي البصر , ( لعمرك انهم لفي سكرتهم يعمهون ) ( الحجر – 15 – 72 ) , وليس البشير في هذا , مختلفاً عن اضرابه الكُثر في الشمال , فكلهم اساري مفاهيم مارضة , نسأل الله لهم منها الشفاء , ولعلنا , ان اسرفنا في الحديث عن هذا الامر وألححنا عليه , فانما نفعل ذلك أملاً ورغبة في استنقاذ هؤلاء المودرين . ( ودر : سكر حتي ُاغشي عليه ) حذر ان تأخذهم الصيحة مشرقين . قال الزعيم اسماعيل الازهري ( ما آن لنا ان نثبت وجودنا ونعتز بسودانيتنا . اذا قُسّمتْ بلاد الله الي هند وصين ومصر , وساكن ذلك هندي , وهذا صيني , وذا مصري , فأنا وانت سوداني وهذا سوداننا . وان لم نكن سودانيين فماذا نكون ؟ ) , وفي ملاحظة اكثر وضوحاً دعا ازهري المواطنين لأن لا ينسبوا ابناءهم عند الولادة الي قبائلهم لأن هذا عار علي شعب يريد الوقوف علي قدميه . ثم ناشد الشعب قائلاً : يا ابن حلفا , يا سليل الجعليين , وانت يا ابن الجنوب , يحق لكم الاعتزاز بمواطنكم واصولكم , ولكن لا تنسوا ان الجميع يعيشون علي ما تنبته الارض السودانية , وامام الاجانب كلكم تنسبون الي وطنكم السودان . وأيام الشدة تحتملون المصائب كسودانيين . فسجلوها منذ الان قومية واحدة وكلمة واحدة , الا وهي سوداني ) ورغم ان جون قرنق لم يطلع علي سجلات تلك الفترة من تاريخ السودان , الا ان اللافت للنظر انه استخدم نفس التعبيرات في مؤتمر كوكادام (1986) وهو يدعو للمواطنة السودانية – أي السودانوية – ككيان يعلو علي الانقسامات القبلية والاثنية والثقافية والدينية . ( ص-156-157) منصور خالد . انتهي. وعندما وقف علي عبداللطيف امام القاضي الانجليزي الذي حاكمه , سأله القاضي عن جنسه , فأجاب بأنه سوداني , وأصر علي ذلك رغم الحاح القاضي بالسؤال عن قبيلته . قال تعالي ( يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثي وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير ) (الحجرات-13 ) واقول ليت كل السودانيين من مستعربين وافارقة وخاصة المسلمين منهم يعون ويستذكرون قول نبينا عليه السلام في حجة الوداع : ( ايها الناس ان ربكم واحد , وان اباكم واحد , كلكم لادم وآدم من تراب . أكرمكم عند الله اتقاكم . ان الله عليم خبير , وليس لعربي علي عجمي فضل الا بالتقوي ) .
هلال زاهر الساداتي [email protected]
|
|
|
|
|
|