مقطتفات من كتاب الطباشيرة والكتاب والناس - مذكرات معلم قديم

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-14-2024, 02:31 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثاني للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-16-2007, 07:12 PM

هلال زاهر الساداتي
<aهلال زاهر الساداتي
تاريخ التسجيل: 04-08-2007
مجموع المشاركات: 225

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
مقطتفات من كتاب الطباشيرة والكتاب والناس - مذكرات معلم قديم

    اكتفي بالقدر المقتطف الذي ُنشر من كتاب (ايام التونج - ذكريات في جنوب السودان) وانتقل الي الكتاب الثاني وهو الطباشيرة والكتاب والناس - مذكرات معلم قديم . ولقد كتب الي بعض القراء الاعزاء الذين قرأوا الكتاب مثنين عليه ومبدين ملاحظات تتعلق بتبويب الكتاب مثل خلوه من الفهرس , وكتابة العناوين الفرعية في بداية السطر بدلا من وسطه في كل صفحة , وكذلك اغفال التواريخ التي حدث فيها النقل من مدينة او مدرسة لأخري . وأنا اشكرهم علي هذه الملاحظات الصائبة , ولقد نبهت الناشر الي بعضها , وآمل ان نتلافاها في الطبعة القادمة ان ُقدّر ان تكون هناك طبعة ثانية , ولذلك سأبدأ هذه المقتطفات بايراد التاريخ لكل حدث في الكتاب .

    في الاحفاد[/

    لم استشعر وحشة عندما ذهبت إلى مدرسة الأحفاد و قابلت صاحبها و ناظرها الشيخ الجليل بابكر بدري فقد أنفقت طفولتي و بداية شبابي بها و لم أفارقها إلا منذ وقت قريب و هو الفرق بين زمن التخرج و زمن الالتحاق بالعمل فيها و هو عدة اشهر وكان ذلك في النصف الثاني من عام 1951 , ومدارس الأحفاد دنيا بحالها ضمت بين جدرانها حينئذ ثلاث مراحل دراسية بداية من الروضة وكانت تلك أول روضة للأطفال في السودان ثم تليها المرحلة الأولية و مدتها أربع سنوات , ثم المرحلة الوسطى ومدتها أربع سنوات أيضا , فالثانوية ومدتها أربع سنوات , والآن أصبحت هذه المنارة التعليمية الشامخة جامعة فريدة للبنات , ولكن ألغيت المرحلة الثانوية وأبقى على المرحلتين الأولية والمتوسطة واللتان أدمجتا في مرحلة واحدة سميت بمرحلة الأساس وحلت في المبنى الرئيسي القديم للمدرسة بجوار مبنى بلدية أمدرمان ومركز أمدرمان القديم , وهذا المبنى نفسه هو الذى تلقيت فيه تعليمي من الروضة و المرحلة الأولية و المرحلة المتوسطة وها أنا أعود أليه الآن مدرسا . وكان الشيخ بابكر بدرى ناظرا للمرحلة المتوسطة و الشيخ ميرغنى السنجك ناظرا للمرحلة الأولية وتشرف على الروضة الأستاذة فاطمة دكة , ورحب بى الشيخ وكان لديهم نقص مدرسين اثنين في هيئة التدريس وكانت الفترة بداية العام الدراسي , وكان هناك جدولان للحصص من نصيب المدرسين الذين سيعينان بالمدرسة ولما كانا مجهولين فقد أطلق على أحدهما الحرف الإنجليزي X وعلى الثاني الحرف الإنجليزي Y , وكان من نصيبي الجدول X , وكان نصابه أربعة وعشرين حصة في الأسبوع وبه مواد الإنجليزي و الجغرافيا والتاريخ و الرياضيات , ولما كنت أكره الرياضيات ولا أجيدها حتى أنني حذفتها من شهادة كيمبردج الثانوية , وحدثت الشيخ بذلك ولكنه أصر على تدريسي لها وقال لي أن أذاكرها ثم أدرسها , وقبلت على مضض وأنا مشفق من الدخول في هذه التجربة الصعبة , والشيء الآخر الذي أشعرني ببعض الحرج أنني وجدت نفسي زميلا لأساتذتي الذين تتلمذت عليهم في نفس المرحلة أو التي قبلها كالأساتذة العم عبد الكريم بدري ولو أنه أنتقل للعمل كأمين للمخزن ومسئول عن الحسابات والمصاريف , ومن أساتذتي الآخرين عبد الحفيظ هاشم وعبد الخالق حمدتو وسيد أحمد عبد الرحمن وحسنين عبد الهادى وحسن حامد البدوى وأحمد عمر الشيخ وميرغنى السنجك ,كما أنني كنت أصغرهم سنا , وكان المدرسون خليطا من كل الأعمار فمنهم الشيوخ المسنون الذين يعملون بعد إحالتهم للمعاش وهؤلاء يدرسون الدين والعربي وجلهم خريجو المعهد العلمي بأمدرمان وربما واحد أو أثنين من خريجي الأزهر بمصر , أما فئة الأساتذة الأفندية كما كان يسمونهم فكلهم من الشبان وغالبيتهم من خريجي كلية غردون , وهناك فئة ثالثة قليلة تتكون من خريجي كلية الحقوق بجامعة القاهرة وهؤلاء يقضون في الغالب سنة أو اثنتين يعملون فيها بالتدريس إلى أن يجلسوا لامتحان معادلة القانون وهذا الامتحان يختص بالمتخرجين من كليات الحقوق بمصر , ومن يجتاز الامتحان يحصل على رخصة مزاولة المحاماة وأذكر من هؤلاء المرحوم الدكتور الصائم محمد إبراهيم و المرحوم الأستاذ الفاتح عبود و الأستاذ صادق عبدالله عبدالماجد و الذي آثر العمل في السياسة و تبوأ فيما بعد منصب المرشد للإخوان المسلمين و سأعود للحديث عن المدرسين فيما بعد , و دلفت إلى حجرة المدرسين الرئيسية متهيبا الموقف و مستشعرا الحرج , فقد كان للمدرس في زماننا في الخمسينات مكانة كبيرة و له منزلة عالية و كل المدرسين نالوا هذه المرتبة البعض عن محبة و البعض عن رهبة و لكن كان الاحترام لهم لزاما علينا استنادا علي تربية المجتمع و تقاليده السائدة . و كانت حجرة المدرسين واسعة تحتل بطولها طاولة طويلة بها أدراج واسعة من الجانبين و يواجه كل درج كرسي و تسع الطاولة لعشرة مدرسين كل خمسة منهم في جانب , و احتللت واحدا من الأدراج و الذي سيصير مكتبي لعدة شهور قادمة , و كانت أكوام الكراسات تنتشر فوق الطاولة من أولها إلى آخرها و التلاميذ داخلين خارجين حاملين الكراسات . و كان الناظر قد زودني بملف لكل مادة سأدرسها و هذه عبارة عن دليل للمعلم فيه المادة موزعة علي زمن كل حصة , و مادة كل حصة موزعة علي زمن الحصة و هو أربعون دقيقة , و اعد هذه الملفات معهد التربية ببخت الرضا و الذي كان منوط به إعداد المناهج و تدريب المعلمين , و كان ملف الجغرافيا باللغة الإنجليزية , و كانت اللغة الإنجليزية في عهد الاستعمار هي السائدة و كانت كل المراسلات الحكومية و المحررات تتم بها و لم تكن تشكل لنا أي مشكلة فقد كان مستوي أي خريج من الثانوي عاليا فيها لانه كانت تدرس كلاسيكيات اللغة من الأدب و شكسبير و كانت كل المواد تدرس باللغة الإنجليزية عدا بالطبع التربية الدينية .
    كانت المشكلة بالنسبة إلى هي الرياضيات و الحساب بصفة خاصة فقد كنت كل ليلة اسهر حتى منتصف الليل في تحضير للحصص و تأخذ مني الرياضيات وقتا طويلا , و في هذا الصدد كنت استعين بشقيقتي زاهية و التي كانت متفوقة فيها , و اذكر و أنا اضحك انه كان بداية كل حصة حساب ما يعرف بالعمل الذهني الشفهي و هو أن يقول المدرس بسرعة عددا و يضربه في عدد ثم يقسمه علي عدد و يطرح منه عددا و ينتظر الجواب علي الفور , و كنت ولا أزال أدور حاصل العملية في ذهني أجد بعض التلاميذ النابهين و قد ارتفعت أصابعهم صائحين (فندي –فندي) أي أفندي و هذه تعادل (أستاذ-أستاذ) اليوم , للإجابة ! ولما دام الحال علي هذا المنوال ذهبت إلى الشيخ و أخبرته بما أعانيه و طلبت منه أن يخفف جدول حصصي بان يحذف منه مادة الرياضيات أو يعطيني مادة أخرى بدلا منها , فاخبرني انه لا مناص من تدريس الرياضيات لانه لا يوجد مدرس آخر يقوم بتدريسها , و لا يمكن أن يقلل حصصي و إن فعل ذلك فلا بد من تخفيض راتبي في المقابل , وإزاء ذلك رضيت مرغما بالواقع مرددا في نفسي ( بلآء أخف من بلآء ) .
    و لما لم اكن قد تلقيت تدريبا علي فنون التدريس فقد حاولت أن أقلد أساتذتي و هؤلاء رغم كفاءتهم العالية الأكاديمية و تمكنهم من المواد التي يدرسونها إلا انهم لم يتدربوا علي أساليب التربية و طرق التدريس الحديثة , و كان أسلوب الضرب هو السائد في التربية و الضرب يتم بأدوات عدة منها السوط و البسطونة و بالمسطرة علي باطن و ظاهر اليد و بالصفع (الكف) علي جانب الوجه , ولا يجد أحد غضاضة في أسلوب التأديب بالضرب فهكذا كانت ثقافة الناس و تنشأ الممارسة من البيت فالأب يضرب و الام تضرب و الاخوان الكبار يضربون اخوتهم الصغار , حتى انه كان الكبار في الحي يضربون صغار الجيران عندما يبدر منهم من سلوك يستوجب ذلك , و تعود بي الذاكرة إلى الوراء عشرات السنيين عندما أتى بي جدي لوالدتي و أنا ابن الست سنوات ليلحقني بروضة الأحفاد عندما رفض ناظر مدرسة الموردة الأولية قبولي لأنني دون السن القانونية للقبول و هي سبع سنوات , وجاء بي إلى الشيخ بابكر بدري و في نفس المكتب الذي يجلس عليه الآن , وقال الشيخ بابكر لجدي (( لينا اللحم و ليكم العضم )) و ثار جدي و كان ضابطا متقاعدا و فيه حدة في الطبع و رد علي الشيخ (( انت درويش و ده كلام دراويش )) , و لم يكن جدي يضربنا و ينهي أخوالي عن ضربنا أنا و اخوتي , وكنا في كنفه لأن والدي كان يعمل في الجنوب و تركنا مع جدي لاجل الدراسة . و معروف أن الشيخ بابكر من كبار الأنصار و من المجاهدين في كرري و عطبرة و توشكي و تم أسره بعد هزيمة جيش الأمير عبد الرحمن النجومي فاتح الخرطوم و استشهاده في توشكي , ذلك الجيش الذي أرسله الخليفة عبدالله لفتح مصر , و ارجع للتأديب بالضرب فقد كنت لا اضرب لعدم الفهم و لكن اضرب المهملين و المشاغبين و كنت حريصا علي أن اشرح و أعيد حتى يفهم الجميع , و لكن رغم ذلك أسرفت في مرة في عقوبة معظم الفصل , فقد عقدت للصف الأول اختبار الشهر في التاريخ و كان مقررا عليهم تاريخ الفراعنة و اذكر من أسماء ملوكهم و ملكاتهم ( حتشبسوت و منقرع .. الخ ) و كانت أسماء ثقيلة علي اللسان و أحداث بعيدة عن الذهن , وكانت نتيجة الاختبار أن رسب اكثر من نصف الفصل و أعدت أوراق الامتحان ومعي السوط و جلدت الراسبين .. و صدف إن كان الشيخ بابكر مارا و شاهدني اجلد التلاميذ , فارسل الفرّاش يستدعيني بعد انتهاء الحصة , و لما ذهبت إليه سألني عماذا ارتكب التلاميذ , و لما أخبرته برسوبهم في الاختبار , قال لي انه لا يعقل أن يكون كل هذا العدد الكبير مهملين أو أغبياء و لكن علي أن أراجع تفهيمي لهم و أن أراجع طريقتي في الشرح , و عقلت هذا الدرس و استفدت منه في قابل أيامي و كان أن تحسن أدائي و تحسن مستوي فهم تلاميذي , وهنا وعيت حكمة الدعاء (( اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول و يتبعون أحسنه ))
                  

05-16-2007, 07:44 PM

Raja
<aRaja
تاريخ التسجيل: 05-19-2002
مجموع المشاركات: 16054

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقطتفات من كتاب الطباشيرة والكتاب والناس - مذكرات معلم قديم (Re: هلال زاهر الساداتي)

    الأستاذ الفاضل هلال زاهر..

    سلام وتقدير..

    أحب التدريس ومارسته لمدة عام هنا في القاهرة في مدرسة للغات.. وكنت أستاذة فصل للسنة الأولى الإبتدائي، بمعنى تدريس كل المواد..

    يشدني حنين إلى هذه المهنة ودائما ما أمنًي نفسي بالعودة إليها.. ربما

    لاحظت في مذكراتك أن الأساتذة كانوا جميعهم من الرجال.. لماذا لم تكن هناك نساء..؟ ومتى بدأن في الإنضمام لسلك التعليم..؟ في الأحفاد خاصة..

    سأتابع معك حتى نصل لفصل مدرسة الجنينة..

    تحياتي وتقديري
                  

05-17-2007, 06:00 PM

هلال زاهر الساداتي
<aهلال زاهر الساداتي
تاريخ التسجيل: 04-08-2007
مجموع المشاركات: 225

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقطتفات من كتاب الطباشيرة والكتاب والناس - مذكرات معلم قديم (Re: Raja)

    الاستاذة الفاضلة رجاء
    التدريس والتعليم مهنة الفلاسفة منذ سقراط والانبياء والرسل والتدريس مهنة ممتعة ومثمرة في نفس الوقت ولكنها متعبة ومرهقة , ويستطيبها ويعشقها من دخلها عن رغبة وأداها باخلاص وليس من طلبها من اجل الرزق فحسب . وعن ملاحظتك بأن مدرسة الاحفاد لم تضم مدرسات وعن سؤالك متي انضمت النساء الي سلك التعليم فأن مدرسة الاحفاد وكل المدارس كانت مدارس للبنين , وكان تعليم البنات محدوداً وعدد مدارس البنات قليل في كل السودان , والعدد القليل جداً من المعلمات كن يقمن بالتدريس في مدارس البنات الاولية مع الاستعانة بالمدرسين الرجال ومع ذلك كانت المسؤلة عن روضة الاطفال في الاحفاد هي الاستاذة فاطمة دكة . وقد التحقت النساء بسلك التدريس في العشرينيات من القرن الماضي عندما افتتحت كلية المعلمات بامدرمان لتخريج معلمات المرحلة الاولية في مدارس البنات , وقد تم افتتاح اول مدرسة متوسطة حكومية للبنات في امدرمان وبالتالي في السودان في عام 1939 . وان لم تخني الذاكرة فقد كانت هناك مدرسات عندما انشئت الاحفاد مدرسة وسطي للبنات وكان ذلك في الستينيات وكان من ضمنهن الاستاذة فاطمة احمد ابراهيم . وعندما حدثت هجرة المعلمين الكبري في السبعينيات للعمل في السعودية ودول الخليج واليمن وليبيا وعدن عندما استعانت بهم هذه الدول في التدريس معارين او بالتعاقد الشخصي هاجر مئات المدرسين المدربين اصحاب الخبرات الطويلة في التدريس . وحل محلهم النساء من المدرسات في مدراس البنين واصبحت هيئات التدريس مختلطة من الرجال والنساء , واذكر انه كان هناك ست مدرسات في مدرسة الموردة الاولية للبنين , وكانت مديرة مدرسة نيالا الاولية للبنين امرأة .
    مع الشكر والتقدير
    هلال
                  

05-20-2007, 09:22 PM

هلال زاهر الساداتي
<aهلال زاهر الساداتي
تاريخ التسجيل: 04-08-2007
مجموع المشاركات: 225

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقطتفات من كتاب الطباشيرة والكتاب والناس - مذكرات معلم قديم (Re: هلال زاهر الساداتي)

    في الاحفاد وبخت الرضا

    كانت للمدرسة قوانين صارمة ليس فيها تسامح و هناك قاعدة ذهبية و هي (( ما تجيب الوصل ما تخش الفصل )) و (( الفلوس قبل الدروس )) و هذه تعني أن من لا يدفع المصاريف المدرسية من التلاميذ لا يسمح له بتلقي الدروس و يطرد من المدرسة و لا يرجع للدراسة إلا بعد دفع المصروفات و لا يدخل الفصل إلا بعد إبراز الإيصال للمدرس , فقد كانت الدراسة في المدارس الحكومية و الأهلية بمصروفات و لكنها كانت اعلي في المدارس الأهلية عنها في المدارس الحكومية , و إذا لم تخني الذاكرة فان المصروفات الكاملة للتلميذ كانت اثنتا عشر جنيها في العام تدفع علي أربع أقساط , هذا في المرحلة المتوسطة و ثمانية عشر جنيها في العام للمرحلة الثانوية .. و كانت ( حفلة ) الطرد من اجل المصروفات المدرسية تتم في الطابور الصباحي في اليوم الثالث من مطلع كل شهر , وينبه ضابط المدرسة أن علي التلاميذ الذين لم يدفعوا المصروفات أن يخرجوا من الطابور , ويقف مدينو المصروفات كل أمام صفه , و يأمرهم الضابط بالذهاب إلى منازلهم مشددا علي التنبيه أن لا يعودوا بدون المصروفات . و للحق فانه رغم هذا التشدد فان إدارة المدرسة كانت تقبل بعض أبناء الفقراء مجانا و البعض بنصف المصاريف و البعض الآخر بربع المصروفات كما كان التلاميذ من أبناء الأنصار تدفع مصروفاتهم دائرة المهدي .
    كان بالمدرسة ثلاثة انهر و كل نهر يتكون من أربعة صفوف من الأول إلى الرابع أي اثنا عشر صفا , فقد كانت المرحلة الوسطي أربع سنوات و كان عدد التلاميذ في كل صف أربعين تلميذا , أي كان مجموع التلاميذ أربعمائة و ثمانين تلميذا و قد أطلق علي الفصول أسماء المشاهير في العالم في العلوم أو الفلسفة أو الأدب و الشعر , و اذكر منها , ابن رشد و الغزالي , و الجاحظ و من الذين ارسوا التعليم في السودان مثل يودال و هدايت . و كان هناك طابوران أحدهما في الصباح و الثاني بعد انتهاء الدروس و هذا الأخير تقرأ فيه التعليمات و أسماء التلاميذ المستحقين للعقاب و الذين بلغ عنهم المدرسون لضابط المدرسة ويقرأ رئيس ( الألفوات ) الأسماء , ولكل صف ( ألفة ) وهو رئيس الفصل المسؤول عن شئون الصف من حفظ النظام وجمع الكراسات وخلافه , ويوقع عقوبة الجلد بالسوط ضابط المدرسة بنفسه , وكانت عدد الجلدات يتراوح من خمس إلى عشر , أما ( عتاة ) المشاغبين فربما يحكم عليهم بعشرين وأحيانا خمسين جلدة يأخذونها على أقساط .. وسوط الضابط هو السوط الرئيسي وهو خاص به وأنا أسميه السوط المركزي وهو طويل غليظ ويجرى شراءه قبل بداية العام الدراسي مثله مثل الكراسات و الأدوات المدرسية الأخرى , وتوجد إلى جانبه سياط فرعية أخرى صغيرة عند بعض المدرسين وهذه للتأديب داخل الفصول .. وكلنا ذقنا طعم هذه السياط عندما كنا تلاميذا ..
    وكانت النظافة والنظام قاعدة في المدرسة فكنت ترى الفراشين ينظفون أرضية البرندات طيلة اليوم تقريبا وهم يرتدون زيا واحدا مكونا من ( بردلوبة ) وعمامة من الكاكى .
    وكان تلاميذ كل صف يقومون بنظافة حجرتهم الدراسية ويوزعون أنفسهم على جماعات كل واحدة منها تؤدى النظافة يوما في الأسبوع وتسمى ( نبطشية ) . النشاط الرياضي كان له عناية خاصة فقد قسمت المدرسة إلى أربعة منازل رياضية , وخصص لكل منزل يوم يزاول فيه كل أنواع الرياضة , وكانت هناك ألعاب القوى كالجري بأنواعه والوثب والقفز بالزانة والجمباز على الأجهزة كالحصان والمتوازيين وكرة القدم وكرة السلة والكرة الطائرة , ولقد وفرت المدرسة كل هذه الأجهزة والمعدات الرياضية .
    واهتمت المدرسة كذلك بالنشاط الثقافي فقد كانت هناك الجمعية الأدبية والتي كانت تنعقد كل أسبوع ويقدم فيها التلاميذ مختاراتهم من النثر و الشعر والمناظرات الأدبية . كما كانت هناك الجمعية العمومية للمدرسة وهى تدار كبرلمان مصغر ويتعلم فيها التلاميذ ممارسة الديمقراطية من نقاش ومصطلحات كالاقتراح والتثنية ونقطة النظام ويناقش فيها مختلف الأمور المتعلقة بالمدرسة .
    ومن الأنشطة الهامة كانت هناك جمعيات للمسرح والإصلاحات والعلوم .
    وكانت هذه النشاطات المتعددة تتيح لكل تلميذ إشباع هوايته وميله إلى أي نوع أو أي نشاط يرغب فيه .
    وإلى جانب هذه الأنشطة المتنوعة والمتعددة كان هناك الفريق الأول المدرسي لكرة القدم وفريق الجمباز المخصوص وفريق كرة السلة الأول , وهذه الفرق كانت تتبارى مع نظرائها من المدارس الأخرى .
    وكانت المنازل تتبارى فيما بينهما في مباريات تنافسية , كما كانت حصيلة هذه الأنشطة المختلفة تصب في يوم الآباء والذي تحشد له المدرسة أجمل ما عندها في كل لون من الرياضة والمعارض والمسرح ويكون تتويجا لمجهودات عام كامل وكان يوم الآباء ينعقد في نهاية العام الدراسي ويدعى له آباء وأولياء أمور التلاميذ ليروا ثمرات إنتاج أبنائهم , ويحتوى صباح اليوم على معارض الفنون و العلوم ويكون اليوم الرياضي في العصر , ويضم منافسات في كل الألعاب وكان هذا يتم في الميدان الواسع غرب مركز أمدرمان القريب من المدرسة .أما اليوم الثاني و يخصص مساءه للعرض المسرحي وعادة ما تقدم فيه مسرحية طويلة من ثلاث فصول من التراث أو المسرح العالمي ويشارك في التمثيل بعض المدرسين ويقوم بالمكياج والإخراج والديكورات و التمثيل أيضا الأستاذ الفنان القدير سيد أحمد عبد الرحمن والذي كنا نناديه بشيخ سيد أحمد وهو مدرس الرسم والفنون بالمدرسة , ولما كنا تلاميذا تعلمنا منه فنونا عديدة منها عمل التريكو بالإبر لعمل فنلات من الصوف و جوارب كما انشأ جمعية للحدادة وأذكر أن مدرسة الأحفاد الثانوية المجاورة كانت تحت التشييد وقمنا بعمل المفصلات للشبابيك في الجمعية لأن الوقت كان في الحرب العالمية الثانية في الأربعينات وتوقف الاستيراد والشيء بالشيء يذكر فقد كنا نصنع الطباشير بإشراف الأستاذ حسن عبد الحفيظ فكان يذهب معنا إلى شاطئ النهر حيث كنا نجمع الحجارة الجيرية البيضاء .. ومن مآثر الشيخ الجليل بابكر بدرى أنه أول من أدخل التمثيل و المسرح في الأنشطة المدرسية , فإنه في ذلك الزمن أدخل العملية التعليمية التربوية المتكاملة لبناء الشخصية المتعلمة الفنية الرياضية مما يشبع حاجات المتلقي ..
    ومن الأشياء المتميزة هي تنظيم المذاكرة المسائية من السادسة إلى الثامنة مساء طيلة أيام الأسبوع للفصول الروابع النهائية والتي سيجلس طلابها لامتحان الدخول للمدارس الثانوية وشهادة المرحلة المتوسطة ويخصص كل مساء لمادة من المواد ويكون مدرسو المادة حاضرين لمساعدة أي من الطلاب فيما يغمض عليه أو يستعصي عليه فهمه ويجدر بالذكر أن هذه تتم بلا مقابل ويحرص كل معلم على أن يحرز تلاميذه أحسن النتائج .
    وشيء أسميه أبوي وأن شئت تسميته إنساني لمسته لمخالطتي معلمي بالأمس وزملائي اليوم وهو حدبهم وعطفهم على تلاميذهم وحرصهم على تربيتهم التربية الصالحة وتنشئتهم على الأخلاق القومية برغم وسيلتهم لبلوغ ذلك عن طريق الموعظة الحسنة والعنف المتمثل في الجلد , وارى أنه لا تثريب عليهم في ذلك لأن هذا الأسلوب في التربية كان هو السائد والمقبول عند الناس كما ذكرت آنفا , وإذا وضعنا في الحسبان أن أولئك المدرسين لم يدخلوا معهدا
    للتربية الحديثة لوضعنا عنهم كثيرا من اللوم ولم تخل دنيا الأحفاد مما يحدث بين البشر في كل مكان وزمان من احتكاك وعدم استلطاف وخلاف ربما يؤدى أحيانا إلى شجار وتعدى بالأيدي إذا طفح الكيل بأحد المختلفين عن التحمل , أو أعوزته الحجة , أو أوجعته الإهانة , وهذا ما حدث من الأستاذ ( س ) والشيخ ( س ) أيضا , فعندما هم الأستاذ ( س ) بالدخول على الناظر سمع الشيخ ( س ) يقول له : الأستاذ ( س ) فعل كذا وكذا وكان كلامه يحط من قدر الأستاذ أخلاقيا وتراجع الأستاذ وتربص للشيخ حتى خرج , فأخذ بخناقه وضربه برأسه وكنا نقول على الضربة (( ضربه روسية أو ضربة هد )) , وأنهار الشيخ وهو يرغى ويزبد , وتدافع المدرسون والفراشون يحجزون بينهم , وأخذ الشيخ يقول ويكرر (( أتنطحنى برأسك يا … ؟ )) , وصارت العبارة بعدئذ مزحة يرددها المدرسون وتناقلها التلاميذ نكاية في الشيخ ( س ) الذى لم يكن محبوبا .. أما العراك الثاني فقد كان بين الأستاذ ( ح ) والأستاذين ( ع ) و ( ح ) وكان الأول رجلا ريفيا قح يلبس جلابية وعمامة كبيرة ويحمل على ذراعه عصا غليظة يطلق عليها أسم ( كريز ) وكان مدرسا فاضلا محبوبا من تلاميذه , وكان الآخران من أبناء أمدرمان المرفهين وكان الأستاذ الريفي يقف في فسحة الفطور , ولم يكن يفطر مع المدرسين , ويطلق عقيرته بالدوبيت , ويشرع المدرسان في الضحك منه , والتندر عليه باللغة الإنجليزية ظانين أنه لا يعرف الإنجليزية ولكن الحقيقة كانت خلاف ذلك , ولما طفح الكيل بالأستاذ ( ح ) هرع إلى المكتب وتناول عكازه , و انهال عليهما ضربا وهما يستغيثان ويصرخان , وأسرع إلى نجدتهما بقية المدرسين ..
    قضيت سنة بالمدرسة أخبرني بعدها الناظر أنني سأبتعث إلى معهد بخت الرضا للتدريب وكان من المفترض أن أنفق سنتين كمدرس تحت التمرين قبل ذهابي لبخت الرضا ولكن الوزارة وافقت على طلب الشيخ بابكر لابتعاثى وكان هذا في بداية عام 1952 م .. كنت أود أن أقصر حديثي عن الفترات العديدة في المدن والنواحي البعيدة من سوداننا الطويل العريض والتي عملت فيها مدرسا وناظرا وعميدا ومديرا وموجها وكبير موجهين ولكن لا يجوز أن أغفل فترة التدريب بكلية المعلمين الوسطى ببخت الرضا وهى فترة خصيبة ممتعة في حياتي المهنية وكانت لها أبلغ الأثر في مهنتي , ولذلك لابد من أن أورد لمحات عن الفترة التي قضيتها في كلية المعلمين الوسطى بمعهد التربية ببخت الرضا , وكان معهد التربية ببخت الرضا يختص بتدريب معلمي المرحلة الأولية والمتوسطة والمدرسين المتخرجين من المدارس العليا أي الجامعة فيما بعد وكانت فترة التدريب لهم ستة أشهر يتدربون فيها نظريا وعمليا على طرق التدريس . واختار مؤسس المعهد المستر قريفث بقعة موحشة بعيدا عن العمران ومن مدينة الدويم وكانت المباني في أول عهدها القش , وكان نائبه الأستاذ عبد الرحمن على طه والذي اصبح بعد ذلك أول وزير للمعارف في السودان في عهد الجمعية التشريعية عام 1948 م , واختار هذه البقعة الموحشة عن قصد لأن المتخرجين من المدرسين سيخدمون في بقاع السودان المختلفة المتخلفة المحرومة من كل مظاهر المدنية , ولما جئنا بخت الرضا وجدناها مدينة علمية متكاملة مبانيها من الطوب والحجر وسقوفها من الزنك ومبطنة من الداخل بقماش سميك وتضم مباني الإدارة في منتصف المعهد وبه مكتبة المعهد ويحف بها مبنى كلية المعلمين الوسطى والمسرح وورشة الفنون ومدرسة التدريب الأولية , ثم على مسافة تقع مباني كلية المعلمين الأولية وقاعة محاضرات ويوجد مستوصف طبي ( شفخانة ) به مساعد طبيب ومكتب بريد والمسجد ونادى الأساتذة ونادى السنتين ودكان حلاق وبركة السباحة و الغطس وملاعب خضراء للألعاب المختلفة كالتنس والسلة والجمباز والطائرة وهناك صالة ألعاب مغطاة فيها ميدان لكرة الريشة وللملاكمة والجمباز .. وهناك منازل فخمة لهيئة التدريس وداخليات للطلبة المدرسين وبيوت لبعض المتزوجين منهم .
    ويسكن المدرسون المتدربون في كلية المعلمين الوسطى في داخليات مكونة الواحدة منها من عدة حجرات يسكن كل أثنين في واحدة منها , وكذلك هناك منازل صغيرة بها حجرتان بينهما صالة بها طاولة طويلة حولها كراسي وتستخدم كحجرة للمائدة وكذلك يوجد حمام ومرحاض وكل حجرة مؤثثة بسريرين خشبيين نسيجهما من الحبال وبكل سرير مرتبة ومخدة وملاءة وبطانية وناموسية , ويوجد مكتبان صغيران وكرسيان وفانوسان للإضاءة , وأما الداخليات فبكل داخلية الأثاث نفسه في كل حجرة والحجرات تفتح على برندة بطول الداخلية ومحاطة بسلك النملية لكي لا يدخل الناموس , والناموس هنا عذاب مقيم وبخاصة في الخريف وكذلك لابد أن تنصب فوق كل سرير ناموسية لاتقاء شره , ولقد شاهدت كل طلبة مبروكة وهي كلية المعلمين الأولية يغطون سيقانهم بقماش يشبه الجوارب وهي تصرف لهم اتقاء للسعات الناموس لأنهم يلبسون أردية قصيرة short .. وتوجد في كل داخلية حجرة واسعة common room تستخدم لتناول الطعام وهناك أيضا صفان من الحمامات والمراحيض في كل داخلية . واللافت للنظر أن كل هيئة التدريس بدءا من العميد و نزولا إلى الطلبة و المدرسين المتدربين يرتدون زيا واحدا مكونا من رداء short من الكاكي و قميص ابيض نصف كم من الدبلان و يحتذون صندلا , و أما الإنجليز فيلبسون شرابات طويلة و أحذية أثناء ساعات العمل , و أما في المساء فيلبس الواحد ما يشاء من بنطلون او جلابية و عمامة ..
    و لقد جئت بخت الرضا من مدينة امدرمان في عام 1952 ضمن الفرقة الرابعة او الكورس الرابع Course4 كما يقال للتدريب في كلية المعلمين الوسطي , و أتيت من المدينة حيث الحياة هينة سهلة , و تضجرت في أول الأمر و تعجبت ماذا أراد مؤسس المعهد المستر قريفث من اختيار هذه البقعة الموحشة مكانا لاقامة المعهد , و لكن تعودنا بعد حين علي هذه الحياة الخشنة التي لم نألفها من قبل و أولها سكني الداخليات و الإضاءة بفوانيس الجاز , وثانيهما تحمل لسعات البعوض الذي لم أرى مثله من قبل و هو بعوض عملاق الواحدة منه طويلة لها خرطوم طويل حاد تخترق به الجسد , و ثالثهما الخوض في وحل الخريف , فالتربة هنا طينية تصير وحلا إذا انهمر عليها المطر و اخشوشنا ..
    كان يدرس بكلية المعلمين الوسطي أساتذة اجلاء من السودانيين و البريطانيين , و كان علي كل متدرب أن يختار مادتين ليتخصص في تدريسهما إلى جانب لون واحد من الأنشطة المتمثلة في التربية البدنية , و الفنون و المسرح , و اخترت اللغة الإنجليزية و الجغرافيا و التربية البدنية و إلى جانب ذلك كان المتدرب يدرس طرق التدريس و علم النفس التربوي و التعليم المقارن , و تشتمل الدروس علي محاضرات نظرية و معاينات للمدرسين في مدارس المعهد و تحضير و إعداد حصص يدرسها أفراد الفرقة من المتدربين و يحضرها زملاءه و أي من أساتذة المعهد بما فيهم العميد إذا وجدوا فسحة من الوقت , و في اللغة العربية كان هناك الدكتور عبد الله الطيب و لم يسعدني الحظ بالتتلمذ علي يديه لأنني اخترت اللغة الإنجليزية كمادة تخصص و كان بالشعبة الأستاذ صلاح المليك , و في شعبة اللغة الإنجليزية الأستاذ الفذ المستر برايت و معه المستر درم و الذي كان يبدأ محاضرته عندما يضع قدميه علي عتبة الحجرة و الذي ادخل الرعب فينا باختباراته الفجائية و التي لا يترك فيها شاردة او واردة مما ألقاه علينا في محاضراته و لذلك كان الواحد منا يبذل أقصى اليقظة و الانتباه في محاضراته , وكان بالشعبة أيضا المستر جورج الايرلندي الأصل و الذي كان يدرس لنا علم الصوتيات Phonetics و الذي اخبر عنه زميل و قال انه أثناء مروره بمكتب شعبة اللغة الإنجليزية سمع صوتا أو أصواتا ( او – آى – آه – يو – و آى ) فاسترق النظر ووجد مستر جورج يصدر هذه الأصوات , فقد كان يحضر لدرسه .. أما رئيس الشعبة المستر برايت وهو عالم في طرق تدريس الإنجليزية و عمل بعد ذهابه من السودان مع شركة لونقمانز الشهيرة للنشر و ألف العديد من الكتب و المناهج لتدريس اللغة لدول العالم الثالث وهو الذي أدخل الطريقة الحديثة لتدريس اللغة الإنجليزية ( Direct method الطريقة المباشرة ) ودربنا عليها , كما أنه أدخل كتاب الخط الإنجليزي الحديث الذي أستبدل فيه طريقة رسم الحروف الهجائية القديمة بأخرى جديدة سهلة الكتابة وأقرب إلى حروف الطباعة في الكتب , وجعلنا نخط الكتاب أى ننقله من الغلاف إلى الغلاف لأننا سنقوم بتدريسه بعد تخرجنا . وقد كان لا يتسامح في الخطأ ويصوبه في لحظته وربما بشيء من القسوة , ومن ذلك أننا كنا نشاهد حصة معاينة لمعالجة كتابة الإنشاء composition في الصف الرابع في مدرسة الدويم الريفية الوسطى يدرسها مدرس الفصل في تلك المدرسة , وكانت حصة الإنشاء مزدوجة يناقش المدرس في الحصة الأولى الموضوع وعناصره مع التلاميذ شفويا ويشرح الكلمات الصعبة ثم يكتب التلاميذ الموضوع في الحصة التي تليها , وخلط المدرس في تبيان كلمتي Sink و Drown , فصاح فيه مستر برايت من آخر الفصل قائلا Don’t spoil our language لا تفسد لغتنا , و كنا و لفيف من مدرسي المعهد نجلس في المدرجات في نهاية الفصل . وكان في شعبة الجغرافيا الأستاذ متوكل احمد أمين و مستر ماكبين الذي هددنا بأنه سيرسبنا لأننا تقاعسنا في عمل مشروع أعطاه لنا , و كان في شعبة التاريخ الأساتذة رحمة الله عبد الله و محمد خوجلي و مندور المهدي , و كان في شعبة العلوم الأستاذ احمد محمد سعد و في الرياضيات المستر هوبسون و في المناشط كان الطاهر شبيكة في المسرح , و في الفنون مستر كولستوك و الذي كان يحيي كل من يلقاه بقوله (( أهلا و سهلا )) و لو كان الواحد علي بعد ميل , و في التربية البدنية مستر وليامز و بدر الدين عبد الرحيم و عبد الحميد الجمل , و مستر وليامز هذا إنجليزي الأب مصري ألام و لكنه لا يتحدث إلا الإنجليزية و كان يجعلنا نكرر الحركة الواحدة عديد المرات حتى نتقنها تماما ثم ينتقل إلى الحركة التي تليها , و في أول عهده بالمعهد كان لديه حصة مع طلبة مبروكة – معهد تدريس مدرسي المرحلة الأولية – و أجهدهم و بلغ منهم التعب و الضيق مبلغا عظيما فقال : ( الخواجة ابن الكلب ده عايز يموتنا و لا شنو ) , فرد عليه مستر وليلمز بعربية فصيحة بلهجة مصرية ( أولا أنا مش ابن كلب , ثانيا انت ابن ستين كلب . ده أنا أضربك و اضرب معاك مبروكة كلها ) و بهت الطالب و معه كل الفصل , وكان يعلمنا القفز و الغطس في الحوض و بعد الشرح النظري كان التطبيق العملي , وشاء حظي أن أكون أول من يقفز و اعتليت ال Board ( عارضة القفز ) العليا كأمره و هو يصيح في بالعربية ( شد نفسك , عينك علي أبو حبيلة (حبيرة ) ) و كان ينطق الراء لاما و أبو حبيرة هذه قرية في الجانب الآخر من النهر و من حوض السباحة , ثم امرني بالقفز و قفزت و بدلا من ادخل الماء برأسي ضربت الماء ببطني و شعرت كأن بطني تتمزق , و تحاملت علي نفسي من الألم و سبحت إلى طرف الحوض و كاد أن يغمي علي . و كان هناك بدر الدين عبد الرحيم في الشعبة و الذي كان متفوقا في الأداء علي أجهزة المتوازيين و العقلة و المصارعة و الملاكمة و قد دربنا عليها جميعا . أما عبد الحميد الجمل فقد أعطانا دروسا في التنس و كرة السلة و الفولي بول و كرة القاعدة و قوانين كرة القدم و العاب القوي . و كانت منطقة ال Pool ( حوض السباحة ) كلها مساحات مخضرة بالنجيلة و بها ملاعب لجميع الألعاب من تنس و كرة سلة و طائرة و كانت تموج بالنشاط في العصريات و كانت تغشاها عائلات المدرسين و زوارهم من الدويم للفسحة و الترويح عن النفس . أما التربية الإسلامية فكان علي رأسها شيخ الجيلي , و بذكر الشيوخ كان إمام مسجد المعهد أحد الشيوخ من المدرسين و كان مغرما بلعبة الكنكان المعروفة في لعب الورق , و في صلاة الجمعة اعتلي الشيخ المنبر , و بعد حمد الله و الثناء عليه ادخل يده في جيبه ليخرج الخطبة المكتوبة و إذا به يخرج كرت الجوكر – يعني توجد شبهة غش مولانا في اللعب – و لكن مولانا ببديهة حاضرة و سريعة امسك بالجوكر و رفعه عاليا و جعل موضوع الخطبة عن الميسر و حرمته و مضاره . و كانت هناك حصص المعاينات التي يتعين علي كل واحد منا أن يعدها و يدرسها في أحد مدارس المعهد علي أعين زملاء الدفعة و أساتذة المعهد و ربما يحضرها العميد , فكانت بحق اختبارا صعبا , فالعيون مركزة علي الواحد و كل واحد من الحضور ممسك بنوتة و قلم ليسجل ما يبدر من المدرس منذ دخوله الفصل و إلقاء التحية علي التلاميذ الي انتهاء الحصة بقرع الجرس و كان يتبع حصة المعاينة مباشرة حصة لمناقشة أداء المدرس و تقويم الحصة . ومن طريف ما حدث أن أحد زملائنا كان يدرس حصة معاينة جغرافيا و كان موضوع الدرس اليونان , و ذكر محاصيل القطر الزراعية و لما وصل الي العنب سأل التلاميذ (يا أولاد انتو عارفين العنب ده بيصنعوا منه شنو , ده بيعملوا منه الخمرة حمانا الله – الخمرة دي بطالة و رجس من عمل الشيطان ) و كدنا في مؤخرة الفصل نقهقه بضحكنا المكتوم لان صاحبنا كان من عشاق بنت الحان و الباذل من اجلها الكثير . و قصدت أن يكون حديثي أخيرا عن الأستاذ عبد الحليم علي طه و كان مراقب كلية المعلمين الوسطي و عن المستر هودجكن عميد المعهد , و الأول كانت له معنا حصة واحدة في الأسبوع : و يدخل و يجلس و يخرج نظارته و يمسحها و يلبسها ثم يخلعها و يلبسها ثانية و يفعل ذلك عدة مرات , و يتنحنح ثم يتكلم بأسلوبه الشيق الساخر اللاذع عما اجترحه البعض منا من حماقات صغيرة خلال الأسبوع و من ذلك قوله (الواحد فيكم يجي نص الليل جاري ساكنو صعاليك الدويم و لما يصل جوه بخت الرضا يشعر بأنه at home و يشعر بالأمان و يقوم يغني بصوت عالي و يزعج النايمين ) و برغم ذلك كنا نجد متعة خالصة في حصصه , ولا انسي الرجل المهذب الهادئ حسن احمد يوسف و كانت له حصة واحدة معنا تسمي (تدريب الأخلاق) Character training .
    أما المستر هودجكن فانه كان يأسر المرء ببساطته و تواضعه و لطفه و علمه , وكان يزورنا في نادينا و يجلس و يتجاذب معنا أطراف الحديث و كأنه واحد منا . و ذات مرة كنا في الجمنيزيم (صالة الألعاب) , و كنا نؤدي حركة جمباز أرضية صعبة , و جاء مستر هودجكن و بدون مقدمات أدى الحركة بطريقة أدهشتنا جميعا و هو ما هو في أواخر الخمسينات من عمره , وفاتني أن اذكر انه فقد جميع (عُقَل) أصابع يديه عندما تجمدت و انفصلت من الصقيع عندما كان يتسلق قمة جبل افرست و لم يتبق إلا الإبهام في كل يد و مع ذلك كان خطه جميلا , و هذا الرجل بعد سودنة وظائف البريطانيين عند الاستقلال تبرع بمكافأته عن خدمته للسودان , واذكر انه بعد الاستقلال جمعت الحكومة من الشعب تبرعات أسموها مال الفداء لتعويض و مكافأة المستخدمين الإنجليز الذين انهوا خدماتهم و حل محلهم سودانيون .
    و يحلو لي في ذكري تلك الأيام العذبة أن اذكر زميلا لنا في الدفعة الرابعة سيكون له شأن عظيم فيما بعد وهو الأخ الطيب محمد صالح الذي شرُفت الرواية العربية به بل شّرف الأدب السوداني و شرُف السودان به , و اذكر عنه انه كان كما يقول الإنجليز Gentleman هادئ الطبع , وودود , سمح النفس , عميق الصوت في موسيقية محببة أهلته فيما بعد لان يكون المع مذيع في ال BBC هيئة الإذاعة البريطانية , وكان كثير الاطلاع , وكان متدينا في غير غلو أو مراء .. ولم يكن يشاركنا حماقاتنا و مشاويرنا الليلية الي الدويم .
    و كنا في فترة الاستراحة بين المحاضرة و التي تليها نقضي الوقت في الراكوبة الشهيرة الملحقة بمبني الكلية نشرب فيها الشاي و القهوة و صاحب القهوة هو العم محمد و الذي ظل يديرها منذ إنشاء الكلية و عاصر جميع الكورسات و يتذكر أسماء معظم المتدربين السابقين , و كنا في هذه الفسحة نتحلق حول زميلنا عصام و الذي أعطيناه لقب العميد لانه كان الأكبر سنا في الدفعة وربما كان في منتصف الأربعينات من العمر , و طوف في الدنيا و ذهب الي عدن و الحبشة و عمل موظفا هناك وهو شخصية لطيفة ودود خالي القلب من الهم , ضاحكاً أبداً , واستقر به التطواف أخيراً في مهنة التدريس وكان يسرد علينا كل يوم جزءاً من مشاهداته ومغامراته وكنت أقدمه كل يوم قائلاً مثلاً نقدم لكم اليوم الحلقة العشرون من مغامرات العميد عصام في غابر الأيام , وكانت حكاياته شيقة تشدنا إليها كحكايات ألف ليلة وليلة أو رحلات السندباد .. وكانت سكناي في بادئ الأمر في بيت مع ثلاثة من الزملاء , وكان زميلي في الحجرة الأخ عبد الحميد من عائلة الضرير المشهورة في أمدرمان , وكان شاباً فاضلاً متديناً جاداً في التحصيل مما أهله ليكون أول الدفعة في الرياضيات واللغة العربية , وأبتلى بداء الأزمة الشعبية فكانت لديه بخاخة يبخ بها حلقه عندما تداهمه نوبة الأزمة مراراً أثناء الليل , وكان ينجدني عند حاجتي لاقتراض نقود فهو ليس مثلنا ينفق نقوده في تدخين أو شراب أو غيره .. أما الزميلان الآخران فهما من أبناء الشمالية , أحدهما فيه شيء من غرابة الأطوار يتمثل في بعض التصرفات , ولديه عصا قصيرة ( دقلة ) يحملها وأطلق عليها أسم المريخ وهذا الاسم أطلقناه عليه وصرنا نناديه به فهو يهتاج أحياناً دون سبب ظاهر ويضرب تربيزة المائدة ( بالمريخ ) عدة ضربات ولكنه لا يؤذي أحداً , أما الزميل الآخر فأنه كان طويلاً ضخماً ذو كرش أحمر اللون ( حمريطى ) كما كان ونقول مهزاراً مهرجاً خفيف الظل وكان يتولى طهى الطعام لنا وهو ماهر في الطهى , وكان ماهراً أيضاً في الدراسة .. ومن دعاباته السمجة أنه كان بعد أن نتهيأ للنوم يصدر أصواتاً كصوت النساء في الفراش ( يتجلع ) , ونسبه وننهاه وهو يضحك .. وارتحلنا من المنزل إلى داخلية واسعة وكان رفيق الحجرة متدرب قبطي من عطبرة وكان شاباً مهذباً هادئاً بشوشاً , وكان عددنا في الداخلية ثلاثة عشر متدرباً ننتظم جميعاً في ما نسميه ( ميز ) , أي نتشارك في نفقات المعيشة فيدفع كل واحد منا نصيبه في الأكل والشراب شهرياً إضافة إلى أجر الطباخ والخادم لغسيل وكي الملابس والنظافة وكان يتولى رئاسة الميز واحد منا , وكان رئيس الميز زميل من أمدرمان أحمر ضخم الجثة يغطى وجهه شارب كثيف حتى أننا كنا نناديه باب شنب وكانت هناك حجرة صغيرة في مدخل الداخلية كان يشغلها وكان لا يشارك أحداً في الحجرة لأنه كان ينام عرياناً كما خلقته أمه , وكان شخصية محبوبة , وكان من المتزوجين كبعض أبناء الدفعة وله أبناء , وكان لديه موترسايكال يسافر به أخر الأسبوع إلى أمدرمان وهى تستغرق نحو أربع أو خمس ساعات .. وكان حريصاً جداً في الإنفاق والاقتصاد و ( قرّط ) علينا في المعيشة و إفطارنا و عشاؤنا لا يخرج من العدس والفول رغم احتجاجاتنا القوية وانقلبنا عليه في ثورة مضرية أقلناه من رئاسة الميز , وكنا قد صرنا مادة للسخرية من الميزات الأخرى ومن تندرهم كانوا يقولون عن ميزنا أنه توضع في الصحن قطعة لحم واحدة وتكون في كل يوم من نصيب واحد من الميز .. وعلى النقيض من صاحبنا الرئيس المخلوع كان رئيس ميز آخر مغاير تماماً , فإنه ( بهلها ) , وكان يحضر أطايب الطعام ومعها زجاجة كونياك مارتل فاخرة , والصحاب يأكلون ويشربون ولا يسألون , ولما جاءهم حساب الميز في أول الشهر وكان عشر جنيهات للواحد ( راحت السكرة وجاءت الفكرة ) وأعلنوها ثورة غاضبة أطاحوا فيها برئيس الميز , وكان نصيب الفرد في الميزات لا يتجاوز الخمس جنيهات .. ومن الشخصيات التي ارتبطت ببخت الرضا منذ البداية الحلاق محمد وهو يمتلك دكانا للحلاقة في مدينة الدويم يعمل فيه بالنهار ويأتي في المساء ليعمل في دكانه ببخت الرضا وقد تأثر بجو العلم هنا مما انعكس على حديثه واستخدامه كلمات عربية كبيرة ولا يخلو حديثه من تفلسف وهو ككل الحلاقين لا ينجو من خصلة الثرثرة _ لا أدرى لماذا _ وهم يتحدثون عن كل موضوع من الرياضة والفن والسياسية , ولكن عم محمد الحلاق كان ينهمك في الثرثرة اكثر من انهماكه في الحلاقة , وكان يحلق بطريقة مسرحية _ إن صح التعبير _ تبث الرعب في من سلمه رأسه للمرة الأولى فإنه كان يمسك بالمقص ويتمعن في رأس الزبون ثم يتراجع إلى الخلف ويجئ مندفعاً شاهراً مقصه كالسيف ثم ينقض على الرأس ليقص عدة شعيرات , ويكرر هذا الكر والفر عن يمين وشمال والوراء ولسانه لا يسكت عن الكلام ! ومن إحدى حكاياته التي لا تنضب انه كان راجعا من بخت الرضا ليلاً في طريقه للدويم في طريقه إلى منزله ممتطياً حماره وكانت السماء مثقلة بالغيوم السوداء والليلة حالكة السواد , واخذ المطر في الهطول , وقال إن الحمار توقف فجأة وحرن وتحير في أمره ولكن عرف السبب لما رأى أمامه ثعباناً , وسأله الزبون عن كيفية رؤيته للثعبان في الظلام الأسود , ورفع الحلاق المقص عالياً وقال بنبرة مسرحية ( ظهر برق ) فرأيت الثعبان .. ومن الشخصيات الطريفة زميل لنا أسود اللون لا يميل كثيراً للاختلاط بالآخرين وكان يكثر من الاستحمام في اليوم الواحد مرة واثنان وثلاث وأربع كنصاب الزواج من النساء , وخلته يريد أن يبيض جلده الأسود ولكن ربما يعاني من فوبيا Phobia النظافة إن كان هناك شئ كهذا .. ولا يفوتني أن أذكر الأخ قاسبرى خميس ريدى وهو أول مدرس متدرب من جنوب السودان جاء إلى كلية المعلمين الوسطى وجاء ومعه زوجته أعطى منزلاً لسكنه , وكان نافراً متحفظاً في أول أمره وكان لا يخلع الصليب من عنقه ولعله أتى بفكرة سيئة عن الشماليين ولكنه بعد حين بعشرتنا ومعاملتنا ذاب الجليد وصار واحداً منا وكان العمل في بخت الرضا يتميز بالجدية والنظام والإتقان وترى الكل يعملون بهمة ونشاط كالنحل في الخلية أثناء ساعات العمل , وبعد العصر تعج منطقة ال Pool _ البركة بالأنشطة الرياضية , وفي المساء تعمر الأندية المختلفة بروادها حيث ألعاب الورق المختلفة والطاولة والضمنة وألعاب أخرى للتسلية إضافة إلى حجرة القراءة في كل نادى ونجد فيها الصحف بالإضافة إلى تنس الطاولة , وتنظم محاضرات ثقافية أو ليالي شعرية وادبية من حين لآخر بنادي السنتين واذكر أن الدكتور عبد الله الطيب قدم لنا في عدة محاضرات كتاب صبح الأعشى للقلقشندى , واذكر أيضاً محاضرة قدمتها السيدة جنة زوجة الأستاذ متوكل أحمد أمين وهى إنجليزية مسلمة من أصل هندي وحاضرتنا عن الإسلام في إنجلترا ومما علق بذهني أنها عند حضورها الي السودان بالقطار من حلفا أثار عجبها و استنكارها تقديم الخمور في الباخرة و القطار , و كانت تعتقد أن السودان كبلد إسلامي لا تقدم فيه الخمر علناً .
    و كانت رسالة بخت الرضا ممتدة الي ما بعد تخريج متدربيها و ذلك بمتابعتهم أينما كانوا بالسودان بإمدادهم بالنشرات التربوية و بالجديد في ميدان التعليم , و بمتابعتهم ميدانيا بذهاب رؤساء شعب المواد المختلفة الي حواضر السودان و زيارة مدارسها و العاملين فيها من خريجي بخت الرضا و معاينة أداءهم , كما كان في المعهد بعد كورسات تجديدية Refresher Courses لقدامى الخريجين يفدون فيها الي المعهد لعدة أسابيع , و لذلك كان خريجو المعهد دوما مواكبين الجديد في حقل التعليم و التربية ولا (تتحنط) معرفتهم عند الذي تلقوه في المعهد خلال تدريبهم .. و قد أتاحت لنا هذه الكورسات لقاء و معرفة الكثير من قدامي المعلمين من أنحاء السودان .
    و كُرست الأشهر الست الأخيرة لنا في المعهد لدراسة فنون و طرق التعليم نظريا و التطبيق عمليا بتدريسنا في مدارس المعهد و الدويم , و انضم الي الدفعة في هذه الفترة سبعة مدرسين من خريجي كلية الآداب بالمدارس العليا (جامعة الخرطوم فيما بعد) , ليعملوا فيما بعد بالمدارس الثانوية أو لتدريس الصف الرابع بالمدارس الوسطي قبل التحاقهم بالمرحلة الثانوية , كما كان المتميزون من كلية المعلمين الوسطي يدرسون بالمدارس الثانوية . و انقضت فترة التدريب ببخت الرضا كسحابات حبلي بالماء روت ارض معرفتنا المجدبة فانبتت قمحاً و زهراً وورداً , و رسخت أقدامنا و طولت قاماتنا علي ارض التعليم , و أرسلونا الي مدارس مختارة في العاصمة في الخرطوم و أمدرمان و الخرطوم بحري لنكمل تدريبنا بها لمدة شهر و بعدها يحصل الناجحون علي شهاداتهم و يعتمدون كمدرسين .. و حان وقت الفراق و شعرت بانقباض في صدري و حزن تخلل شغاف قلبي و تمثلت قول الشاعر
    خلقت الوفاً لو رجعت الي الصبا
    لفارقت شيبي موجع القلب باكياً
                  

05-21-2007, 00:04 AM

Azhari Nurelhuda
<aAzhari Nurelhuda
تاريخ التسجيل: 03-01-2007
مجموع المشاركات: 1958

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقطتفات من كتاب الطباشيرة والكتاب والناس - مذكرات معلم قديم (Re: هلال زاهر الساداتي)

    الأستاذ هلال زاهر الساداتي

    لقد أطربتني ذكرى بخت الرضا العظيمة فانا صنيعة لها و أكن لها الكثير.... و عندما ورد ذكر المستر هودجكن‘ فقد حدثت لي مع الرجل حادثة طريفة لم يكن مسرحها صالات الدرس أو الرياضة في بخت الرضا إنما شارع في مدينة أوكسفورد البريطانية.

    في العام 1997 كنت أعمل سائقا لعربة تاكسي في هذه المدينة العريقة‘ قد إشتريتها لتوها و أخاف عليها من النسمة المارة (فورد - مونديو1.8 - توربو ديزل) حدباء - زرقاء. و قد و ضعت فيها مصحفين واحد في (الطبلون) و الثاني في (الضهرية) و قد قامت زوجتي العزيزة (لزوم كف العين) بحياكة صرة من القماش الأسود ملئت (كمونا أسودا) و تدلت بخيط أسودا من المراية إمعانا في الحرز و الإحتراز. و تراجعت عن فكرة رسم عين يخترقها سهم وتسيل منها دماء الحسد و كتابة العبارة الشهيرة (يا عين يا عنية..إلخ) خوفا من أن يقاضيني أحدهم بسبب التمييز الديني. عليه هذه مقدمة كان لابد منها...

    في احد الأيام جاء في شاشة كمبيوتر صغيرة أعمل عليها المعلومات التالية:
    الزمن......
    السيد هودجكن
    نمرة المنزل..... و إسم الشارع......
    إلى محطة القطار
    و ذهبت و وجدت السيدة و السيد هودجكن في أنتظاري و من أمام منزلهم بدأت الرحلة إلى محطة القطار. و أثناء الرحلة دار هذا الحوار:
    ما موديل هذه العربة التي تقودها
    و أجبت أنا بالمعلومات أعلاه
    و ما نوع الوقود
    د يزل.....
    فصدرت همهمات إعجاب و إندهاش بدون ما شاء الله و لا يحزنون و قال لي: إنها تستجيب بشكل مدهش و قوية جدا.. ماذا تضيف في خزان الوقود...؟
    و هنا ثارت مخاوفي من (العين العنية) و تلكأت في الإجابة
    و قلت بصوت مسموع مطمئناأن لا أحدا يفهمني: قهرتك بالقاهر و النبي الطاهر يالخواجة...
    و هنا صمت الرجل برهة و عاد و سألني: من أين أنت...؟
    فأجبت: من السودان
    من أي مدينة؟
    فأجبت: من الدويم
    هل درست في بخت الرضا؟ و بخت الرضا هنا أتت بعربية فصيحة
    فأجبت بنعم
    عندها ذكر لي أنه كان ثاني عميد لمعهد التربية بخت الرضا و لدهشتي أتت كلمة (عميد) بالعربي
    و أردف يسألني ألم تسمع بهودجكن في بخت الرضا...؟
    فحكيت عن تاريخ الرجل هودجكن و الذي فقد عقل أصابع يديه في (إيفرست) فما كان منه إلا أن مد يديه أمام وجهي فقد كان يجلس في المقعد خلفي تماما....و تبينت من ذلك...فاغر الفاه دهشة...!
    و كانت أجمل لحظة عندما و صلنا إلى محطة القطار و كنت منهمكا في إنزال متاعه من العربة و مساعدته (ما الراجل طلع أستاذي) فما كان منه إلا أخرج مبلغا محترما من المال و بسودانية فصيحة و قال:
    علي الطلاق ما ممكن...
    فرددت عليه: علي الطلاق بالتلاتة...ماممكن ..عيب إنت راجل أستاذي
    و عانقني بقوة و حرارة.... (و عيني باردة كان شديد و لضيض الخواجة...)
    عندما أردت الإعتذار عن ماسمعه مني باللغة العربية
    قال لي: و لكن أنا ما بعاتي زي ما إنتوا بتقولوا في الدويم...
    و لكن بصراحة أنا كان عندي رأي في الحتة دي أحتفظ به لنفسي و إحتراما لأستاذي

                  

05-21-2007, 08:07 PM

هلال زاهر الساداتي
<aهلال زاهر الساداتي
تاريخ التسجيل: 04-08-2007
مجموع المشاركات: 225

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقطتفات من كتاب الطباشيرة والكتاب والناس - مذكرات معلم قديم (Re: Azhari Nurelhuda)

    الأخ أزهري نور الهدى ,


    شكراً للأضافة الجميله عن هذا الرجل النبيل هودجكن ثاني عميد لمعهد بخت الرضا , و يكفي أنه تنازل عن مكافأته الماليه للشعب السوداني و كانت المكافأة تمثل ثروةً في ذلك الوقت مما يعبر عن حبه و تقديره للسودان و السودانيين .
    و قصتك معه تبين أنه تشبع بأخلاق السودانيين ( وباقي على العشره ) بعد كل هذه السنيين , 41 سنه , فقد كان تاريخ أستقلالنا كما هو معلوم في أول يناير 1956 , و أورد لك طرفة حدثت هذه المرة في بخت الرضا مع العميد هودجكن , فقد كان هناك أعمدة نور كهرباء متباعدة في الشارع الرئيسي الذي يشق بخت الرضا بينما كانت الإضاءة في الداخليات و المنازل بفوانيس الجاز . و كان هناك معلم نجارة يعلم هذا الفن أو الحرفة لطلبة مبروكه ( معهد تدريب مدرسي المرحلة الأولية ) , و كان سائراً عندما مر به أحدهم و ألقى عليه السلام , و كان سارحاً فلم يرد عليه , و تخطاه الرجل , ولما مر تحت النور تبين أنه المستر هودجكن ذاته , و أندفع المعلم جارياً حتى لحقه وهو يردد بإنزعاج شديد ( مستر هودجكن أنت سلمت على - لاحول ولا قوة إلا بالله - أنت سلمت على - أشهد أن لا أله إلا الله , و الله ما عرفتك كنت سرحان , أهلاً وسهلاً , مرحب حبابك , و أخذت الرجل هستيريا كلامية إعتذارية , و المستر هودجكن يهدىء من روعه .
    نعم , كانوا مستعمرين , ولكن تعلمنا منهم النظام و الإنضباط و إتقان العمل , خاصة الأساتذة منهم الذين تتلمذنا عليهم في الثانوي و بخت الرضا .

    مع التحية و الود

    هلال
                  

05-24-2007, 05:57 PM

هلال زاهر الساداتي
<aهلال زاهر الساداتي
تاريخ التسجيل: 04-08-2007
مجموع المشاركات: 225

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقطتفات من كتاب الطباشيرة والكتاب والناس - مذكرات معلم قديم (Re: هلال زاهر الساداتي)

    من الاحفاد الي ودنوباوي فأبقيق

    و اخترت أن اكمل تدريبي بمدرستي التي جئت منها و هي الأحفاد , و عدت إليها و لكن وجدتها قد انتقلت الي مبانيها الجديدة بحي العرضة غرب أمدرمان و بجوارها ثانوية الأحفاد بشارع العرضة الرئيسي , و صار مبني المدرسة القديم بشارع الموردة مدرسة الأحفاد الوسطي للبنات . و لتشييد هذه المباني الجديدة قصة خليق بها أن تروي فقد بنيت بمال الشعب و قد جاب الشيخ الجليل بابكر بدري السودان مدنه و قراه بالسيارة و هو في سنه تلك المتقدمة و لعله كان قد شارف التسعين من العمر جامعا للمال و التبرعات من بيع كتابه (قصة حياتي ) المكون من جزئين , فضرب مثلا رائعا لسمو الهمة و علو المقصد و مثلا للتحمل و الصبر للشباب , ولا عجب فقد انشأ الشعب بعطائه المدرسة الأهلية الشهيرة بامدرمان و معهد القرش في البداية و تمم مؤتمر الخريجين هذا الصنيع فيما بعد بفتحه مئات المدارس في السودان في عهد الاستعمار .
    خصص لي ناظر المدرسة , ناظري و أستاذي القديم عندما كنت طالبا في نفس المدرسة إبراهيم إدريس جدولا للحصص في الصف الأول لمادة الإنجليزي و الصف الثاني و الثالث لمادة الجغرافيا , و زارني و حضر معي بعض الحصص رئيس شعبة الجغرافيا المستر ماكبين و مستر درم من شعبة اللغة الإنجليزية و الذي قال للناظر أمامي أنني أقود الفصل مثل المايسترو في قيادة الأوركسترا مبديا إعجابه , وسألني ماذا اطلب ليحققه و ارتج عليّ و شكرته فحسب . و بعد انقضاء الشهر في التدريب جمعت الدفعة كلها في مدرسة أمدرمان الأميرية بحضور رؤساء الشعب لإعلان النتيجة النهائية و تأهيلنا رسميا كمدرسين , وكان الراسبون يفصلون ولا تمنح لهم فرصة أخرى للإعادة أو عمل ملحق لهم , وللأسف فصل اثنان من الدفعة و اثنان من المتدربين خريجي المدارس العليا و قد رسبا في الطريقة ويعتقد أن أحدهما رسبوه عن قصد لانه كان شيوعيا , ورب ضارة نافعة فانهما التحقا بوزارة المالية كمفتشين و توليا ارفع المناصب بينما كان زملاؤهم من المدرسين ((يتسكعون)) في السلم الوظيفي التعليمي , و هكذا المعلمون يتواتر عليهم الظلم , ولكن هذا موضوع آخر , واما واحد من مفصولي الدفعة فقد التحق بمصلحة الجوازات ووصل فيها إلى مرتبة عالية وظيفياً و الثاني التحق بأحد المدارس الأهلية التجارية . ونجحت أصبحت معلماً وكتب أسمى بالحبر في سجل المدرسين , لأنهم أخبرونا عندما التحقنا بالتدريس أن أسمائنا مكتوبة بقلم الرصاص ونحن تحت التمرين ولا يعترف بنا كمعلمين حتى يتم تدريبنا ونجاحنا . ودخلت إلى مكتب المدرسين بمدرسة الأحفاد هذه المرة بخطى واثقة وثقة في النفس متسلحاً بمعرفة مقدرة في فنون التعليم وشؤون التربية , ووجدت الطاولة العتيقة ذات الأدراج والتي انتقلت من المبنى القديم إلى المبنى الحديث كأثر من الماضي ولكنها أثر معمور واتخذت لي موضعاً منها ولكن إلى حين فقد انتقلت إلى مكتب صغير تقاسمته مع الشيخ سليمان عبد الماجد وهو شيخ من خريجي المعهد العلمي وفي المعاش وهو رجل كما نقول ( صباح خير ) فيه من الفضل كثير خفيف على النفس والقلب معاً وهو من عائلة مشهورة بالفقه والصلاح في أمدرمان , وسرعان ما تم الانسجام بيننا ولم أجد جديداً قد تغير في السياسة التي اختطها الشيخ الجليل بابكر بدري و سار علي نهجها ابنه العميد يوسف بدري و هي تعيين الشيوخ المتقاعدين الأكفاء لتدريس اللغة العربية و الدين وهؤلاء الي جانب علمهم و خبرتهم الثرة كانوا ينافسوننا نحن الشباب في النشاط و البذل و اذكر علي سبيل المثال من هؤلاء الشيخ النوراني و الشيخ سليمان عبد الماجد و الشيخ محمد إبراهيم مدني رحمهم الله و احسن إليهم , و من السياسة الرشيدة للشيخ الجليل انه كان يوظف في مدارسه المفصولين من المدرسين من وزارة المعارف لنشاطهم السياسي الوطني عندما كان الاستعمار في أوج جبروته و اذكر من هؤلاء أساتذتي المعلم عبد الرحيم الأمين و الذي فصل من مدرسة وادي سيدنا الثانوية , واحمد عبد الله المغربي , وزميلي محمد الحبيب مدثر و احمد محجوب شورة, وشيبون وقبلهم التيجاني الطيب بابكر و كلهم كانوا من خيرة المعلمين , ومن سياسة الشيخ الرشيدة انه كان يوظف شباب المحامين المتخرجين من مصر الي أن يتأهلوا لمزاولة المحاماة و لقد ذكرت أسماء بعضا منهم فيما سبق من صفحات , ومن سياسته أيضا قبول أبناء الفقراء مجانا أو بمصروفات مخفضة مع إن المصروفات لم يكن مبالغا فيها .. و كان الشيخ بابكر رأي في تدريس العلوم و هي طريقة الحفظ و نظم المادة شعراً كما في ألفية ابن مالك في تدريس قواعد اللغة العربية و قد ألف الشيخ منظومة خاصة به لتدريس النحو و الزم بعض الشيوخ بحفظها و كان يجمعهم كل يوم ليسمع لهم ما كلفهم به من أبيات للحفظ , وكانت تلك عملية شاقة علي هؤلاء الشيوخ – أكل العيش مر – فكان شيخ (ع) يكتب الأبيات في باطن كفه يعني يجعلها (بخرة) كما تسميها , و يجتاز اختبار التسميع اليومي بهذه الطريقة ! واستدعاني الشيخ بابكر أنا وزميلي محمد الحبيب مدثر _ رحمه الله _ وكنا نحن الاثنين ندرس الجغرافيا في المدرسة , واخبرنا الشيخ بأنه نظم دروس الجغرافيا وطلب منا أن ندرسها على هذا النحو , وتكلمت أنا وتكلم حبيب بأننا درسنا أحدث طريقة لتدريس الجغرافيا في بخت الرضا ولها كتب وخرائط وإن الجغرافيا لا يمكن أن تدرس بهذه الطريقة , وكانت ردة فعل الشيخ عنيفة وقال لنا أن بخت الرضا إنجليزية وأننا لسنا إنجليزاً وأصر على تدريس الجغرافيا بطريقته , وسكتنا على غير اقتناع , وخرجنا من عنده واختلينا مع بعضنا نتفاكر في كيفية مقابلة هذه المصيبة التي حطت علينا , وقد كان هذا الاجتماع قبل بدء العام الدراسي الجديد بأيام . ولكن إنتقل الشيخ إلى رحمة الله في نفس اليوم _ رحمه الله رحمة واسعة _ ونجانا الله من منظومة ابن بدرى في تدريس الجغرافيا ! ومع الطاولة العتيقة بقيت الكنبة القديمة في المكتب الجديد وهذه يشغلها بصفة دائمة أستاذنا القديم سيد أحمد والذي ما فتئ يفاجئنا بأشياء لطيفة ومنها أنه يطلب منا في كل يوم أن يدفع الواحد مبلغ قرشين , وهذا في أيام الصيف القائظة , ويرسل الفراش ليشترى ليمون وسكر وثلج ويصنع لنا شربات يملأ به زير الماء الصغير ونشرب شربات مثلجاً بالكوز طيلة النهار .
    ومن ألطف من صادفت من الشيوخ الشيخ محمد وكان فوق الستين من العمر ولكنه يتمتع بصحة جيدة ولياقة بدنية عالية وقد توطدت بيننا صداقة برغم فارق السن الكبير بيننا , ولكن كان يميز شيخ محمد ( سقطة ) لا إرادية في النوم في أوضاع عجيبة فمرة ينام ممسكاً بالقلم الأحمر وهو يصحح الكراسات , وتارة ينام وهو ممسكاً بصحيفة أو كتاب يتصحفه وفي أحد المرات وهو في الفصل يلقى درسه وكان عن الأسماء الخمسة دخل عليه شيخ بابكر بدرى وكانت عادته أن يمر على فصول المدرسة وراق له موضوع الدرس وطلب من شيخ محمد أن يتنحى ليقوم هو بتدريس الموضوع وجلس شيخ محمد جانباً على الكرسي ولم تمض دقائق وإلا وقع الشيخ في نومة من نوماته المعهودة ولكنه انتبه وصحا فزعاً وأراد أن يشعر شيخ بابكر بأنه متابع للدرس , وخاطب التلاميذ قائلاً (( اها يا أولاد فهمتو الأفعال الخمسة )) و رد عليه شيخ بابكر بقوله (( لكن يا شيخ محمد هي الاسماء الخمسة )) وخاطبه الشيخ محمد بقوله بانزعاج (( عليك الرسول ؟ )) , ومن يومها أطلقنا عليه هذه المقولة !
    وصديقي الشيخ محمد رقيق الإحساس مولع بالجمال وكنت بعد انتهاء العمل أسير معه راجلاً إلى أن ابلغه منزله في حى العباسية ومن هناك استقل دراجتي إلى منزلنا بحى الموردة , وكان انتهاء اليوم الدراسي يتزامن مع انتهاء الدراسة في مدارس البنات , فكانت ارتال الطالبات يسرن في الشارع إلى منازلهن , فكان شيخ محمد يلكزني قائلاً (( يا هلال شوف لى ديك )) أو (( يا هلال عاين لى ديك )) , وذلك عندما يستدعى انتباهه بنتاً جميلة ..




    وانقضت فترة عملي أو بالأحرى حقبة من حياتي في مدارس الأحفاد بانضمامنا نحن مدرسي الأهليات إلى الخدمة الحكومية بعد الإضراب الشهير في 1955 م الذي دخل فيه كل معلمي المدارس الأهلية في السودان من أجل ضمنا للخدمة الحكومية حتى نضمن لأنفسنا وأبنائنا معاشاً بعد تقاعدنا لأن الخدمة في المدارس الأهلية بغير معاش و لابد هنا من وقفة عند ذلك الإضراب الشهير الذي كان معلما تاريخيا غيّر حياة المعلمين , فقد طالبت نقابتنا بضمنا الي خدمة الحكومة و طالت المفاوضات و المماطلة و في اجتماع مشهود لكل معلمي العاصمة بالمدرسة الأهلية بامدرمان اتخذنا قرارا بالإضراب عن العمل الي أن تستجيب الوزارة لمطلبنا , و عارض الإضراب أربعة فقط من المعلمين و ثلاثة منهم لم يلتزموا بالإضراب بينما قدم واحد استقالته من النقابة و من ثم لم يضرب . و كان اكبر تجمع لمدرسي الاهليات بامدرمان و الخرطوم و الخرطوم بحري تليه مدني و الجزيرة و كان يتم الاتصال بهم عن طريق التلفون , ونجح الإضراب مائة بالمائة عدا الفرسان الأربعة الذين لم يضربوا , وكنا قد اتفقنا علي أن نجتمع في كل يوم من أيام الإضراب في مواقيت العمل من الصباح و إلى انتهاء اليوم الدراسي بالمدرسة الأهلية بأمدرمان , ولخوفنا من أن يزاول بعض المدرسين الذين كنا لا نطمئن إلى صمودهم أوكلنا بكل واحد منهم مدرساً يذهب إلى منزله في الصباح الباكر ويصحبه إلى مقر التجمع بالمدرسة الأهلية ووكلت بزميل شيخ يسكن في حى بيت المال وكنت اركب دراجتي من حى الموردة واطرق عليه داره في الساعة السادسة صباحاً واصحبه من هناك إلى المدرسة , واستمر الإضراب نحو أسبوعين ونجح نجاحا باهراً في جميع أنحاء السودان ووجدنا تأييداً من الرأي العام وانهينا الإضراب نهاية سعيدة بأن قبلت الوزارة ضمنا إلى الخدمة الحكومية .
    وكذلك انضمت معظم المدارس الأهلية إلى الحكومة , وانتقلت من الأحفاد إلى مدرسة ودنوباوى الأهلية الوسطى والتي ضمت إلى وزارة التربية والتعليم , وانتقل من المدرسة الأهلية بأمدرمان ناظراً للمدرسة الأستاذ مبارك بابكر من قدامى المعلمين وصرت أنا ضابطا للمدرسة ونائباً للناظر وكان الأستاذ مبارك رجلاً فاضلاً ظريفاً له ولع بفريق الهلال الرياضي إلى درجة الهوس وكان من أقطاب هذا النادي الشهير , وترك لى مقاليد المدرسة أديرها كما أشاء وقبل أن استرسل أود أن أذكر أنني بعد أن أكملت تدريبي وتخرجي في كلية المعلمين الوسطى ترقيت إلى درجة جى أتش JH وكنت قبلها في الدرجة J وهى الدرجة التي يعين عليها كل خريجي الثانوي براتب شهري قدرة سبعة جنيهات زائداً علاوة غلاء سبعة جنيهات أيضاً فقد كانت هذه العلاوة تتغير من حين إلى آخر حسب ارتفاع تكاليف المعيشة ويحسبون ذلك بنقاط تعلو وتنخفض ويعلن عن ذلك في كل الصحف اليومية وازداد راتبي تبعاً للترقية إلى ثمانية عشر جنيهاً في الشهر زائداً علاوة الغلاء التي تتراوح بين خمسة عشر إلى ثمانية عشر جنيهاً في الشهر أي تكون جملة الراتب أكثر من ثلاثين جنيهاً وكان هذا راتب محترم في ذلك الوقت نسبة لقوة الجنيه الشرائية ورخص المعيشة ويكفى أن أذكر أن مهر العروس كان يتراوح من خمسين إلى مائة جنيهاً , وكانت للمليم قيمة شرائية فيمكن أن نعطيها للطفل ليشترى بها فول مدمس أو حلوى أو تسالي أو تمر وكان الجنيه يتكون من مائة قرش وألف مليماً !
    و لنعد الي مدرسة ودنوباوي الوسطي الأهلية و التي صارت حكومية الآن فكانت تقع على شارع الدومة الشهير بحي ودنوباوي في بيت عتيق مبني من الطين اللبن كثير الحجرات الواسعة وبه حوش واسع وكان أصلاً للسيدة والدة السيد عبد الرحمن المهدى , ووهبوه ليكون مقراً للمدرسة الأهلية الوسطى , ومن الطريف أن حجرة الناظر كانت مطبخاً وحجرة مكتبي كانت ( أوضة ) للحمام ! ولكن أجرى على المنزل تصليحات وتحسينات , ونقلت المدرسة بعد ذلك إلى مباني مدرسة أمدرمان الأميرية الوسطى ثم انتقلت إلى مبنى شيد لها في شمال أمدرمان بالقرب من معهد المعلمين العالي .. ولقيت المدرسة في حالة من انفلات النظام فعملت أول ما عملت على توطيد النظام وربما استخدمت في ذلك بعض القسوة , فقد كان التلاميذ في الفصول في فسحة الخمس دقائق بين الحصة والأخرى يصيحون ويهرجون ويسببون إزعاجاً شديداً , فكنت أعاقب كل الفصل بالجلد إذا لم يدلوني على المتسببين في الإزعاج , وكنت في طابور الصباح أتفقد النظافة الشخصية لكل تلميذ في ملابسه الداخلية وجلبابه وعمامته وأسنانه وأظافر يديه وكانت هذه العملية تتم مرتين في الأسبوع في يومي السبت والثلاثاء , كما كنت احرص على أن يكون كل مدرس في فصله عند بدء الحصة , وجدير بالذكر أنه كان بالمدرسة ثمان فصول أي مدرسة ذات نهرين .. وبتعضيد من الناظر أثمر هذا الجهد فصارت المدرسة منتظمة في كل شيء .. وقضيت عاماً بها ..
    في أبقيق
    وكان أن اطلعت على إعلان في الصحف عن طلب معلمين للعمل مع شركة ارامكو للزيت في المملكة العربية السعودية بمرتبات عالية وكان للشركة مكتب للاستخدام بالخرطوم , وقدمت طلبي للعمل ومعي زميل الدراسة وصديقي حسن العبد , وقبلنا ومعنا مدرسان آخران , واستقلنا من الوزارة وسافرنا إلى المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية حيث مقر الشركة وآبار النفط في السعودية وكان أن جاء مندوب أمريكي من الشركة واجري لنا معاينة وعيننا بعدها للعمل في منطقة أبقيق , وهى واحدة من ثلاث مناطق تشكل الشركة وهى الظهران وبها رئاسة الشركة الإدارية ومدينة راس تنورة وبها ميناء تصدير الزيت وأبقيق وبها آبار الزيت , وللشركة في كل من هذه المناطق مركز تعليمي Training Center , ويخصص لعمال وموظفي الشركة ساعتان أثناء العمل للدراسة في المركز وبعد الخامسة مساء يحضرون للمركز في أوقات فراغهم بعد انقضاء ساعات العمل وكان المركز يعمل إلى التاسعة مساءً وكانوا يدرسون في المركز اللغة العربية واللغة الإنجليزية والحساب والآلة الكاتبة , وكان العميد ونائبه في كل مركز أمريكان والمدرسون من الأمريكان والسودانيين واللبنانيين , وكنا نحن من أوائل المدرسين السودانيين العاملين بالشركة ووجدنا في أبقيق مدرس سوداني سبقنا جميعاً وهو الأستاذ بابكر الشيخ عبد الرحمن وكان لنا نعم العون في تلمس موقع أقدامنا في المكان والعمل الجديدين وكنا نسميه عمدة السودانيين وكان هناك أيضاً اثنان من الموظفين السودانيين وفي بداية عمل الشركة كانت تعج بالسودانيين من العمال والموظفين واستعيض عنهم فيما بعد بالعمالة السعودية ولما كان هؤلاء من البدو الأميين أنشأت الشركة هذه المراكز لتعليمهم وتأهيلهم أثناء الخدمة وكان العمل في الشركة يبدأ في الثامنة صباحاً وحتى الخامسة مساءً تتخللها فترة ساعة في الثانية عشرة ظهراً لتناول الغداء ويستمر العمل بالمركز حتى التاسعة مساءً , ويحسب العمل بعد الخامسة عملاً إضافياً بأجر overtime , وكان نصاب كل مدرس ست حصص في اليوم زائداً حصة أو أكثر إضافية لمن يرغب , واكتفيت وزملائي السودانيين بحصة واحدة إضافية لأنه بعد تدريس الحصص الست كنت أشعر بتعب وإرهاق , وبخاصة أن طلبتنا كانوا بطيئي الفهم بشكل مزعج وكنت في بعض الأوقات ألعن اليوم الذي أمسكت فيه بالطباشيرة أي اتخاذي التعليم مهنة ! ومن الأشياء المؤسفة والتي تثير غضب الواحد أن هؤلاء الطلبة الراشدين يتصرفون كالأطفال من التحدث ومشاغلتهم بعضهم البعض أثناء الدرس عندما تدير لهم ظهرك لتكتب على السبورة وفي أول حصة لي ادرسها وأنا أكتب على السبورة سمعت ضجة وضحك , وألتفت ووجدتهم ( يهمزون ) بعضهم ويتضاحكون , ( والهمز ) هذا لدينا نحن السودانيين لا يجوز إلا مع النساء , وثرت فيهم قائلاً أن ما يفعلونه عيب , واستعجبوا لقولي أجابوني (( يا أستاذ هادى ما فيها شيء , هادى قشمرة )) , وقلت لهم أن يعملوا هذه ( القشمرة ) خارج الفصل ولا يفعلونها في حصتي مرة أخرى , فقالوا لي (( والله أنت جبار يا أستاذ )) , وعرفت فيما بعد أن معنى ( القشمرة ) هو المزح البريء ! , ولكنهم انتظموا بعد ذلك وصاروا يثنون على تدريسي بقولهم (( والله تدريسك زين يا أستاذ )) ومن طريف ما حدث أنني وبعد أسبوع من تدريسي لهم سألني أحدهم : (( يا أستاذ , أيش أسمك , نقول لك السوداني ولا نقولك العبد ولا أيش )) , وضحكت وأجبته أن أسمي هلال , وقال (( والله أسم عربي زين )) ..
    ووقعت قي مأزق مادة الحساب مرة أخرى فقد كلفت بتدريس الحساب والعربي و الإنجليزي رغم احتجاجي بأنني لا أعرف الحساب وقبلت إزاء إصرار العميد , وساعدني على اجتياز هذه المحنة الأخ بابكر والذي كلن متخصصاً في الرياضيات , وبعد حين اقتنع العميد بأنني لا أصلح لتدريس الرياضيات بعد أن حضر نائب العميد حصتين معي , واستبدلوا حصص الحساب بحصص إنجليزي , وتنفست الصعداء ..
    وكنا نبدأ حياتنا الاجتماعية بعد التاسعة مساءً , وقد أفردت الشركة مصلحة خاصة للترفيه عن الموظفين أسمتها Recreation Department وتشرف على ملاعب الكرة والسلة وحوض السباحة والبلياردو و التنس وهى كلها مضاءة , وهناك دار للسينما يعرض فيها احدث الأفلام الأمريكية . فكنا نذهب للسينما , وبالنسبة لي اسبح في الحوض وصديقي حسن يزاول لعب كرة القدم وهو لاعب كرة ممتاز وقد حدث لبس ظريف فان اسمه تطابق مع اسم حسن العبد لاعب الفريق القومي المشهور في السودان في ذلك الوقت , ولذلك كانت كل منطقة في الشركة تحاول أن يعمل عندها لأنه كان هناك كأس الشركة وكأس آخر للأمير تتنافس عليه المناطق الثلاث ولذلك كانت كل منطقة تريد أن تفوز بهذا اللاعب المتميز , ولكن منطقة أبقيق أصرت على استبقائه عندها بحجة أنه تعين من السودان لمنطقتهم وسكت و( طنش ) الصديق حسن على سوء الفهم هذا ولم يفصح عن هويته وشخصيته الأصلية واستمتع بالإعجاب والاحترام من الكل ولحسن الحظ أنه كان لاعباً ممتازاً مما مكنه لعب الدور بتفوق ولم يكتشف أمره ..
    ومدينة أبقيق مدينة عاملين من مهندسي بترول وفنيين وعمال وموظفين وتوجد بها كل آبار السعودية من النفط , ويسكن المستخدمون في ثلاث مستعمرات طبقاً لمستواهم الوظيفي , وهو ثلاث مستويات الأول هو السينير استاف Senior Staff وهذا يشمل كل الأمريكيين العاملين ولو كان الواحد منهم سمكرياً , ويسكنون في حي أو مستعمرة تسمى المدينة الأمريكية American City وهى قطعة من كاليفورنيا الأميركية انتقلت إلى قلب الصحراء بفيلاتها الأنيقة و حدائقها الغناء و بمرافقها المتعددة , وربما يسكن بها واحد أو اثنان من الموظفين من الجنسيات الأخرى الذين قضوا زمناً طويلاً واظهروا كفاءة في خدمة الشركة , وأما الحي الثاني ويسمى المتوسط ويسمى Intermediate حيث كنا نسكن وهو خاص بالموظفين من الجنسيات الأخرى وقلة من السعوديين والسكن مكون من صفين من الحجرات الخشبية وفي وسطها ميدان من النجيلة وبينهما حمامات ومغسلة للملابس ومطبخ وصالة للأكل وكل حجرة مؤثثة بسريرين مفروشين ودولاب للملابس , وبالحي كنتين للبقالة ومكتب بريد وصندوق بريد لكل ساكن ودكان حلاق وسوق صغير للسلع المختلفة , وهناك سينما وملاعب رياضية وحوض سباحة وكل الحجرات بها التكييف المركزي , وأما الحي الثالث ويسمونه General وهو خاص بالعمال ومعظمهم من السعوديين وكل حي أو مستعمرة من هذه الأحياء محاط بسياج عال ومدخل واحد عليه رجل أمن Security وينطقونها سُكُرتي . ولكل مستخدم في الشرطة رقم مكتوب على بادج يشبكه على حزام الخصر , ولا يسمح لسكاني الجنرال بارتياد واستخدام مرافق الأنترميديت والسينيّر Intermediate & Senior , ولذلك ربما يطلب رجل الأمن من الغرباء أن يبرز الواحد البادج فلكل حي لون بادج مختلف خاص به .
    كانت الدراسة تتعطل في المركز خلال شهر رمضان ولكن الإدارة نظمت لنا برنامجاً شغل كل وقتنا خلال الشهر الكريم , فقد أعطانا مدرس الآلة الكاتبة الأمريكي دروسا عملية في الكتابة علي الآلة الكاتبة و أجدنا الكتابة عليها بطريقة اللمس Touch , وكان المدرس شخصية ظريفة , و قال لنا انه يأمل ينشئ عمارة من أربعة طوابق يفتح بارا في الطابق الأول و مطعما في الطابق الثاني و صالة للقمار في الطابق الثالث و يخصص الأخير للدعارة .. و أعطانا العميد دروسا في النطق علي الطريقة الأمريكية بدلا من طريقة نطقنا الإنجليزية و كان معنا زميل لبناني متعثر في النطق و نال كثيرا من تبكيت العميد , و كان هذا العميد فوق الخمسين من العمر مشبوه الرجولة و كان يعجب بالأخ حسن إعجابا مريبا و كنا نمزح و نغيظ حسن بقولنا (( يا خي ما تريح الزول )) فكان يثور و يلعن العميد و أجداده و ملته .. أما نائبه فهو رجل عجوز من اصل ايرلندي و ما كنا نري له عملا معظم الوقت و ربما يدخل الفصول في بعض الأحيان , و نراه رائحا غاديا في الدهليز و هو يضرط بلا حياء !
    و أخذنا دورة في السلامة Safety و في إطفاء الحرائق نظريا و عمليا , ولما كانت الكتب المدرسية تعد في المركز كان يصور من كل كتاب مئات الصفحات و نجلس نحن المدرسين حول طاولة طويلة و أمام كل واحد كومة من صفحات الكتاب فيبدأ الجالس الأول بجمع الصفحات الأولى و يمررها إلى الثاني فيضيف إليها ثلاث أو أربع صفحات و تستمر العملية هكذا إلى أن تصل الجالس الأخير الذي يقوم بتدبيس الصفحات و يضع الكتاب جانبا , و تستمر العملية إلى أن ينجز العدد المطلوب من الكتاب . و قد أوفدت أنا و زميل لي إلى الظهران لحضور كورس في الإسعافات الأولية لمدة أسبوع مع موفدين من راس تنورة و الظهران . و انقضي الشهر و منحنا شهادات أنيقة في إطفاء الحرائق و الإسعافات الأولية , و قلت لزملائي متندرا أنني أستطيع بهذه الشهادة أن اعمل ضابط إطفاء في السودان !
    كنت قد أتيت إلى ابقيق مع آخرين ببص الشركة من مطار الظهران و المسافة تستغرق ساعتين في طريق إسفلتي جيد تحفه الصحراء و الرمال من كل جانب ولا حياة هناك من أي نوع لبشر أو نبات أو حيوان , و دخل الليل و نحن سائرين , ولاحت لنا من علي البعد نيران مشتعلة إلى عنان السماء في حزم حمراء اللون في صافات من اللهب , و عرفنا فيما بعد أنها الفائض من الغاز من الآبار المقفولة و الذي يتركوه مشتعلا في الهواء , وهو العلم الذي صّير السراب بالنهار الذي هو متاهة للسائر في الصحراء إلى سراب ضوئي بالليل يهدي السائر من بعيد إلى الملاذ الآمن .
    و أول ما استرعي انتباهي هو الصهاريج الضخمة الكثيرة و الأنابيب العديدة الممتدة بعضها فوق بعض , ولفت نظري منزل كبير من طابق واحد يحيط به سياج فوقه لمبات كهربائية مضيئة ليلا و نهارا , وعرفت انه منزل أمير المنطقة أو الحاكم وهو عندنا اقرب إلى مفتش الحكومة أو المحافظ حاليا , و اخبرنا الزميل بابكر أن التقليد أن يزور القادمون الجدد الأمير للسلام عليه و خاصة إن هذا الأمير يحب السودانيين و الأخ بابكر مقرب إليه , و ذهبنا لمقابلة الأمير و أول ما دخلنا علي صالون طويل واسع تحفه كراسي جلوس من الجانبين يشغلها الزائرون و في صدر المجلس يجلس الأمير و كان رجلا اسود اللون ضخم الجثة ماردًا و قام مرحبا بنا في حفاوة بالغة , و أشار لاحد الحراس الذي فتح بابا جانبيا و دخل أمامنا و دعانا للدخول , ووجدنا صالون اصغر حجما فاخر التأثيث و أظنه للخاصة من زواره , واخذ الرجل يرحب بنا و يسألنا عن السودان و الخادم يطوف علينا بالقهوة العربية و كان يصب كمية قليلة في قعر الفنجان و عندما يشفطها الشخص يأخذ الفنجان و يصب له مرة أخرى و تكرر ذلك معي عدة مرات , و اكتفيت من القهوة و ملت علي بابكر بجانبي و همست له بذلك , و قال لي هز الفنجان من جانب إلى جانب , وفعلت فتوقف الساقي من صب القهوة في فنجاني و تناول الفنجان مني ووضعه فوق الفناجين الفارغة التي يحملها بيسراه , و عرفت (بروتوكول) شراب القهوة ! و كنت قد شاهدت في الصالون الكبير هراوة ضخمة معلقة بسير من الجلد علي الجدار , وقلت في نفسي هل هذه الهراوة تذكير دائم للرعية (العصا لمن عصي) , أم إن الأمير بسبب هذا العصا التي فعل بها الأفاعيل نال الإمارة ؟ فقد كان ((خوي)) و هي وظيفة كالشرطي أو الحرس الخاص و لكنه يعمل مع الأمراء .. و حذرت ميل الأمير للسودانيين فالسواد يجمعنا و السودانيون هنا بمختلف درجات الوانهم التي تعارفنا عليها في السودان من اصفر و اخضر و ازرق كلهم في عرفهم سود أو اقل من ذلك ولا يعتبروننا عربا , و كانت هذه الحقيقة صدمة كبيرة لمن يقولون انهم أبناء العباس أو ينتمون للعرب من السودانيين ! و في هذا الصدد العنصري المتعالي ما كان من أمر أخ لنا من جنوب السودان الذي امضي عدة سنوات في السعودية , ولما سأله زملائه من السودانيين لماذا لا يرجع إلى الوطن بعد طول غياب , فرد عليهم جون و هذا اسمه ((لماذا ارجع إلى هناك لتقولوا لي عبد ؟ نحن هنا كلنا عبيد !))
    و مجتمع ابقيق رجالي لا وجود فيه لامرأة و قد تجد النساء من زوجات الموظفين الأمريكان في المدينة الأمريكية , وان كنت اسمع صوت إحداهن عبر التلفون عندما أرد عليه في المكتب وهي زوجة لزميل امريكاني .
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de