لماذا انشق الاتحاديون الديمقراطيون؟

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-04-2024, 11:36 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثاني للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-28-2007, 01:09 PM

فدوى الشريف
<aفدوى الشريف
تاريخ التسجيل: 09-14-2006
مجموع المشاركات: 5390

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
لماذا انشق الاتحاديون الديمقراطيون؟

    حينما تدلهم الأمور السياسية في شمال البلاد طوال عهود الأنظمة العسكرية، يكتوي بنارها عديد من الناس، فيلوذ جلّهم بالقاهرة، فيدخلونها سالمين آمنين، فتفرد لهم أجنحتها وتحضنهم كأم رءوم. ولا غرو أن لجأ إليها في فجر عهد الإنقاذ كثير من البشر، فيهم سياسيون وصحفيون ورجال أعمال وأدباء، وفيهم أناس لا يؤبه لهم، ولكن حشو أفئدتهم غيرة على الوطن. وقد مكث هؤلاء اللاجئون السياسيون بالقاهرة لمدة امتدت سنين عددا، منهم من عاد إلى البلد، و منهم من تفرقت بهم السبل بين شعاب ووديان في بلدان غريبة عليهم وجوهها وثقافتها وألسنتها، فغرقوا في خضم غربة تحزنهم بمقدار ما توفره لهم من وسائل عيش.



    لقد شهدتُ تلك الحقبة التي غلبت مرارتها حلوها. ولا تزال صورتها تبرق في ذاكرتي حتى يخيل لي أن الحوادث السياسية التي جرت خلالها كأنها حدثت قبل بضعة أيام. لهذا يمكنني المساهمة في توثيقها لئلا تضيع الحقائق التي نحن بصددها هنا. وستجدني أيها القارئ الفطن، قد صوبت فكرى وانتباهي في هذه المقالة لوصف فصل واحد من فصول تلك المعارضة التي كان مسرحها القاهرة. وهو الفصل الذي يبيّن لنا كيف ولماذا انشق الحزب الاتحادي الديمقراطي إلى شقين. وكما سترى، فإنني فسرت مضمون هذا الفصل بأسلوب مفعم بتجرد ووضوح، لبيان ما خفي وكشف ما استتر:



    ضاق المكان بنا في أرض المليون ميل مربع، فهاجرنا إلى شمال الوادي زرافات ووحدانا، كأننا أسماك سبحت بخفة مع تيار النيل هرباً من خطر يتعقبها. وصلنا إلى فسطاط عمرو بن العاص وقاهرة المعز التي قهرت أعداء العروبة والإسلام.. القاهرة ليست كسائر حواضر الشرق. إنما هي عاصمة ذات طابع فريد، اكتسبت شهرتها وسحرها من موقعها الجغرافي وثقلها السياسي و عمرانها العتيق والحديث.. يا سلام على القاهرة البلد الذي علمنا.. في مطلع تلك الفترة، وقفت بنا مطايانا عند بعض ربوع القاهرة القديمة و الجديدة. كانت الدنيا حولنا بخير. كل شئ متيسر بقليل من الموارد المالية. أجرة الأتوبيس بعشرة صاغ. صحيفة الأهرام بربع جنيه. و عسل الدقهلية يفتح النيّة. و كنا متصالحين مع واقعنا ذاك، بل متفائلين به. و لكننا لم ندر أننا أقبلنا على تجربة سياسية عجيبة من مبتدئها إلى آخرها.



    انتظمت المعارضة في تنظيم واحد هو التجمع الوطني الديمقراطي الذي تشكل من الأحزاب السياسية و الحركة الشعبية لتحرير السودان و نقابات العمال. و هي تنظيمات متناقضة فيما يتعلق باختلاف تركيباتها و تباين طموحاتها و آفاقها التي ترنو إليها. و لكنها على الرغم من ذلك تماسكت فيما بينها، و عملت معاً في سبيل إعادة الديمقراطية التعددية كنظام للحكم. و كان الحزبان الكبيران، الأمة و الاتحادي، قطبي الرحى في التجمع الوطني الديمقراطي. و لكن عضويتهما به لم تكن كاملة، باعتبار أن كلاً من السيّد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة والشريف زين العابدين الهندي أمين عام الحزب الاتحادي الديمقراطي، لم يضعا أيديهما في ذلك الأمر. و كيف كان موقفهما منه؟.



    من جهته أعلن السّيد الصادق بأنه لم يفوض أحداً بانضمام حزب الأمة للتجمع. وحين سمعنا ذلك منه ظننا أنه مناورة سياسية أراد بها الإفلات من خفر الحكومة و عسسها. و هو لم يكن وقتها حراً طليقاً، إنما كان في داخل السودان، إما رهن الاعتقال أو الإقامة الجبرية بمنزله. و مع مرور الأيام، تأكد لنا أن السيّد الصادق لم ينتدب أحداً نيابة عنه ليُدخل حزب الأمة القومي في الائتلاف المكوّن للتجمع الوطني الديمقراطي. هذا ما كان من أمر حزب الأمة الذي قاد زمامه بالتجمع السيّد مبارك الفاضل. و من جهة أخرى، كان الحزب الاتحادي الديمقراطي ممثلاً في التجمع بقيادة السيّد محمد عثمان الميرغني الذي صرّح بأن وحدة الصف السياسي مسألة ضرورية لمواجهة الوضع السياسي الراهن. أما الشريف زين العابدين الهندي، فأبى أن يشارك في التجمع، مبرراً امتناعه عن ذلك بدعوته إلى جبهة وطنية. و لكن دعوته ماتت في مهدها إذ لم يكن لها ميثاق و لا أدبيات تشرح الغاية منها أو الكيفية التي تعمل بها. و فيما بعد، وضح للملأ أن الشريف كان على قناعة تامة بأن مشاكل البلد السياسية لن يتم حلها بالاحتراب والاقتتال ـ كما هو النهج الذي يسلكه التجمع ـ إنما بالتحاور و تبادل الرؤى السياسية. و هذه لعمري فلسفة راقية تنم عن عقلية زاخرة بالإطلاع و الوقوف على رأي و تجارب الآخرين. و قد سمي الشريف تلك المرحلة، مرحلة التخلق التاسع للحزب الاتحادي الديمقراطي. و قد تعجب كثير من المشتغلين بالسياسة الموجودين بمصر في تلك الأيام! كيف يكون أحد زعيمي الحزب الاتحادي في داخل التجمع و الآخر في خارجه و مناوئاً له. و حتى ذلك الوقت، لم يكن موقف هذين الزعيمين من التجمع ذا بال عند الاتحاديين الديمقراطيين بالمنفى والسودان، باستثناء تلك الفئة التي حطت رحالها بالقاهرة في تلك الفترة، فهي كونها راقبت عن كثب ما جرى في ساحة المعارضة، أدركت أن المسألة ليست انقسام في الرأي بين الشريف والميرغني فحسب، إنما هي أعمق من ذلك. و قد كنا نحن العصبة المناصرة للشريف على علم تام بذلك الأمر الذي تدرج طوراً إثر طور حتى شق الحزب إلى شقين، شق يقوده الشريف و شق يقوده الميرغني. و كيف حدث ذلك الانشقاق؟



    عندما وصلنا إلى القاهرة في مطلع التسعينيات التي انطوت مع الألفية الماضية، كان الشريف زين العابدين غائباً بدولة الإمارات العربية المتحدة. لم أعرف حينها ماذا فعل في تلك الزيارة اليتيمة. اعتقدت أنه حاول أن يحذو حذو شقيقه الراحل الشريف حسين الذي سرعان ما وجد دعماً من عدة دول عربية لمناهضة مايو الشيوعية حتى تتم إزاحتها عن دست الحكم. و لم نكن وقتها نعلم أن الشريف زين العابدين ينتمي لمدرسه سياسية مختلفة عن تلك التي عاصرناها عند سلفه. على أي حال، لما رجع الشريف زين العابدين إلى مصر، لقيناه بداره، و داومنا على مجلسه صباح مساء. في ذات مرة كنا في حضرته، فحكى لنا عن نتيجة رحلته إلى الإمارات، فقال: إن المسؤولين بالدولة هناك، أخبروه أن الميرغني أعلمهم برسالة قائلاً فيها إنه ـ أي الشريف ـ لا يمثل الحزب، و إنه متسول ليس إلا.. انتهى نص الخبر.



    ومن هنا تبدأ حكاية الشريف مع الميرغني، والتي كانت موضع استغراب منّا، و هي مسألة شخصية لا علاقة لها بخلاف حول مبادئ أو فكر أو أسس تنظيمية. وكيف تعاملنا معها؟ لقد صدّقناها، و أحسسنا أنها فرية مستنا جميعاً. ثم أنها وحدتنا كعصبة قائدها الشريف. فصرنا نلتقي عنده من أول النهار حتى العشية. نتفكر في مسائل عديدة، بعضها جاد و بعضها الآخر هامشي لا قيمة له. أما القضية بشقيها الحزبي و الوطني فكانت محور كلامنا في كثير من الأحيان. لذلك رأينا أن من الواجب علينا تنظيم الحزب وتجهيزه لأداء دوره المطلوب منه في تلك المرحلة الصعبة من الزمن. و لم تنقض بضعة أشهر حتى بادرنا إلى عقد مؤتمر للحزب بالإسكندرية. فكيف تم لنا ذلك؟.



    آثرنا الإسكندرية كموقع للمؤتمر تأميناً له كما تجرى العادة في مثل تلك الأحوال. أو قل لضمان سريته حتى يكتمل، فنعلن عنه لعامة الناس. من محطة رمسيس بالقاهرة تسللنا في أوقات مختلفة إلى محطة سيدي جابر بالإسكندرية حيث كان الطقس بارداً و معكراً بهبوب الريح و اضطراب البحر. هل كان ذلك في ديسمبر من سنة 1991 ؟ نعم، فلتت السنين من العمر كما تفلت الإبل من مباركها في سهول البطانة. كان بعض موفدي الحزب للمؤتمر لاجئين سياسيين بمصر. و جاء بعضهم الآخر من لجان للحزب تشكلت في عدة مدائن بالمهجر، في الرياض وجدة وصنعاء وأبو ظبي ولندن وتورنتو وسان فرانسيسكو. لقد أقبلوا على المؤتمر بعزيمة وإرادة شديدة القوة. كان فيهم سياسيون من أساطين الحزب و شياطينه، وفيهم شبان ذوو خبرة و دراية بالعمل التنظيمي اكتسبوها في روابط الطلاب الاتحاديين الديمقراطيين. و من هؤلاء و أولئك أذكر ربيع حسنين، و مضوى الترابي، و إسماعيل طه، و بكرى النعيم، و دكتور أحمد آدم، و السمانى الوسيلة، و طه حسن طه، و دكتور أحمد عبد الله، و صديق الهندي، و عابدين شريف، و أبو المعالي عبد الرحمن، و صلاح سطيح، و مجتبى فاروق، و معتز مصطفى و عصام على نصر. ثم إننا اجتمعنا إلى بعض في صالة رطبة بدار قديمة، لعلها دار رجل إغريقي كان يبيع الحلوى المعقودة بالحمّص قبل مئة عام. كان الأداء التنظيمي أثناء المؤتمر مرضياً لنا جميعاً، كل واحد قام بمهمته بشكل وافٍ للغرض الذي نرمي إليه. و حسب البروتكول، كان أول المتحدثين هو الشريف زين العابدين، باعتبار أنه الأمين العام للحزب. ثم أننا تباحثنا في أمورنا في جلسات استمرت لمدة ثلاثة أيام. و في الختام، اتفقنا على مشروع قرار سميناه ملامح عامة لخطة عمل استراتيجي، جاء في مطلعه ما يلي:



    (أولاً: إعادة بناء الحزب الاتحادي الديمقراطي على أسس جديدة مستمدة من الإرث الحضاري و التاريخ النضالي للحركة الوطنية السودانية خلال نصف القرن الذي مضى، و إعادة تنظيمه و تحويله من كم مبعثر إلى كيف مؤطر قادر على الفعل و التفاعل مع قضايا أمته، مستلهمين في ذلك روح العصر و مستجداته في الأطر الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و المتغيرات السياسية على المستويات الوطنية و القومية و الإقليمية و الدولية، بصورة تستطيع احتواء و كبح جماح الأخطار التي تهدد مسيرة الوسط السوداني المتمثلة في:



    1. الإسلام السياسي الذي استغل من خلاله المتاجرون بالدين مشاعر شعبنا و عقيدته الدينية الأصيلة لممارسة تسلطهم و قهرهم تحقيقاً لمطامعهم الدنيوية.



    2. الطائفية السياسية التي انحرفت بالطريقة الصوفية من دعوة لها مقاصد ـ هي الطريق إلى الله ـ و حولتها إلى باطنية لها مصالح لا علاقة لها بقضايا الوطن..).



    ورجعنا إلى القاهرة، وقد غمرنا شعور بالغبطة كأننا جند في جيش مونتغمرى عائدين لتوهم من موقعة العلمين. و نشرنا في الساحة السياسية البيان الختامي للمؤتمر الذي كان ناجحاً في أعيننا بمقاييس تقييمنا له. و قد كنت مزهواً بذلك النجاح، خاصة أنني خلال المؤتمر عملت بلجنة الإعلام المكلفة بتسيير أعماله، و التي كان على رأسها إسماعيل طه، الذي كان وقتها كبير المذيعين بهيئة الإذاعة البريطانية. و طوال سنين مضت لا زلت أحادث الناس عن نصرنا ذاك بخيلاء و كبر. و لكنني فيما بعد، أيقنت أن المؤتمر لم يكن إلا منعطفاً خطيراً ظلع فيه الحزب و غمز في مشيه، لا لأنه جاء بموجهات ليست بذات صلة بأفكار الحزب، إنما لأنه كان خاصاً بجماعتنا نحن، أما جماعة الميرغني فلا. لقد أغفلناهم عمداً، فلم يكن واحد منهم عضواً بالمؤتمر. و كان هذا خطأ أصاب الحزب بأذى، و كاد يرميه بثالثة الأثافي. نعم نحن مسؤولون عن ذلك الخطأ.. نحن الذين أعددنا للمؤتمر عدته، و سقنا إليه فئة معينة ليس فيها إتحادي واحد موالٍ للميرغني. لقد أشار علينا صديق الهندي برأيه، والحق يقال، أن ندعو إلى المؤتمر السيد أحمد الميرغني الذي كان وقتها مقيماً بالإسكندرية. و لو فعلنا ذلك، لكان الأمر مختلفاً عما صار عليه فيما بعد. و ما هي النتائج التي ترتبت على عقدنا ذلك المؤتمر؟



    عقد الميرغني مؤتمراً للحزب بالمقطم أحد أحياء القاهرة القديمة، واضعاً في الاعتبار أننا حاولنا عزله بعقدنا مؤتمراً خاصاً بنا. و منذ ذلك الحين، صار هناك فريقان بالحزب، فريق حزم أمره بالإسكندرية، و فريق احترس بالمقطم. وهذا يعنى أن الحزب انشق إلى شقين، شق آخذ بقياده الشريف زين العابدين، و شق رافع رايته السيد محمد عثمان الميرغني. إذاً فالعامل الذي أدى إلى انشقاق الحزب هو مؤتمر الإسكندرية الذي تم عقده على الطريقة التي فصّلنا في أمرها أعلاه. و يا لتقلبات الدهر، فقد حدث ذلك الانشقاق في مصر التي شهدت وحدة الأحزاب الاتحادية قبيل الاستقلال بسنوات. ذاك زمان ولى، فأين نحن الآن! وأين وفاقنا وتآلفنا! بل أين حرية الفرد التي تقتضي المشورة والنقد الذاتي.



    إني أعترف أننا أسأنا الفهم و التقدير، فجئنا للاتحاديين حينما كنا بمصر بما لم يأتهم به أحد من قبل في زماننا هذا. و إن أردت عزيزي القارئ أن تلطف القول فينا، أو تفدينا من هول ما نحن فيه اليوم، فتعفو عنّا، فعندك شيء واحد تشفع به لنا أمام هيئة محلفي محكمة التاريخ. و هو أن تقول لهم: إننا كنّا طوع بنان الشريف زين العابدين، و أن الشريف مسؤول وحده عن الانشقاق. أشرح لهم حجتك بكل ما أوتيت من بلاغة و سجع و بديع و أمثال و حكم و قصص، تقمّص شخصية الحجاج بن يوسف، أو سحبان بن وائل، أو فرح ود تكتوك، أو شارلوت برونتي. فإن فعلت، فلن تفلح في إقناع المحلفين الذين تم اختيارهم من قلاع اتحادية يصعب مرقاها: من قلعة مدني، و قلعة الأبيض، و قلعة الفاشر، و قلعتي شندى و المتمة، و قلاع أخر بسنار و أبو حمد و كدباس وطيبة و الكاملين و الشبارقة و العيلفون و كسلا و القضارف. لن تكون حجتك مقنعة لهم. أتدري لماذا؟ لأنهم يعلمون أن طاعتنا للهندي لا تعفينا من المسؤولية، حيث أننا لم نكن وقتها فتية في العشرينيات من أعمارنا، لا نعي ما نسمع، فيغرر بنا، إنما كنا ناضجين، استبانت فينا السن و ظهر علينا الشيب. و لكننا للأسف لم نحسن التصرف فيما يختص بتلك الحالة. و لمزيد من التفسير، أقول: كان علينا أن ننتبه قليلاً لنفهم ما يجري في باطن السياسة، لا نكتفي بظاهر الأمر فيها. و لكن غاب فكرنا، بل خولطنا في عقولنا، أما جنوننا، فلم يكن موضوعياً مثل جنون هاملت كما صوره شكسبير، إنما كانت غايته تبرير أوهام اعتقدنا بصحتها، و رمينا برسننا في غاربها، و هي أوهام أشبه ببيئة لا وجود لها، ارتبطت بها حياتنا، فاستجابت لخيالات عديدة، منها أننا اعتبرنا أنفسنا قائمين على سدانة هذا الحزب و رفادته، لا ينازعنا في ذلك أحد، و منها أننا نعتنا أولئك الأشقاء الذين يقودهم الميرغني بأنهم أتباع طائفة لا علاقة لها بقضايا البلد. اتهمناهم بذلك، ثم حولنا الاتهام إلى عقيدة سحرت ألبابنا، و أعمت بصيرتنا و أبصارنا فلم تر اعوجاج رقابنا. و زيادة على ذلك، غرتنا أنفسنا إذ ادعينا حق التمتع بالاتحادية وحدنا دون غيرنا من الأشقاء، بل صرنا نحس تجاههم بالرثاء، كأنهم ليسوا منّا، و كأننا لسنا منهم. هم اتحاديون مثلنا، لا فرق بيننا و بينهم في شيء، المبادئ نفس المبادئ، و الروح نفس الروح. و لا أبالي، و خير القول أصدقه. لقد أخطأنا في حقهم و في حق الحزب برمته، أي أننا و زعيمنا الشريف مسؤولون عن انشقاق الحزب. و لكن الميرغني، أيها الأشقاء، ساهم في تعميق تلك الهوة التي فرّقت بينه و الشريف، فبدلاً من ردمها، زادها عمقاً بعقده هو الآخر مؤتمراً خاصاً به. ثم إنه خلال تلك المدة استعان بصحفيين غير اتحاديين ديمقراطيين، قاموا بتحرير جريدة حزبه، و هي (الاتحادي) لسان حال الحزب الاتحادي الديمقراطي، و التي ترأس هيئة تحريرها الأستاذ إبراهيم عبد القيوم، و هو مايوي معروف. و كنتاج لذلك، خلت لغة تلك الجريدة من أي مفردات أو عبارات دالة على معانٍ اتحادية. كنا حين نطالعها، نشم فيها نفس بقايا الشيوعيين و المايويين و آخرين هلاميين لا لون و لا طعم لهم، و ليس لهم في ذلك الأمر ناقة و لا جمل، إنما جاء بهم الدرب إلى السياسة.



    و مع مرور الزمن، سخر منّا أشقاؤنا تحت إمرة الميرغني، و وصفونا بأننا فرقة من الناس لا شغل و لا رأي لها في السياسة. و قاطعونا، لا يزورونا، و لا يواسونا في وفاة عزيز لدينا. و قد كانوا ميسوري الحال مقارنة بنا، حيث كنا قعيدي شقق عليها مستحقات إيجار متأخرة ينذر ملاكها بطردنا وكشف حالنا أمام الناس. و لكننا، على مستوى فردي، و ليس على مستوي جماعي، استطعنا تدبير أمورنا حياتياً. كل شاة معلقة من عصبتها. و هذا عيب فينا لا يزال يميزنا عن غيرنا.. ما فات مات. أما ما يهمنا في هذا الصدد، فهو أننا خلال تلك المدة، قهرنا مصاعب الحياة اليومية، و حولناها إلى جنان هنئنا بالعيش فيها، فمتعتنا برحيق ليس كرحيق زهر يرتاده النحل، و أكسبتنا علماً. كم صحيفة و مجلة قرأناها، و كم منتدى فكري أو أدبي كان لنا فيه شرف حسن الإصغاء، و كم كتاباً قرأناه: كتب لها أغلفة من ورق سميك، و كتب تقع في مجلدات، بعضها اشتريناه من مكتبة مدبولي و الهيئة العامة للكتاب، و بعضها حصلنا عليه بأسعار زهيدة من سوق الأزبكية. و بفضل القراءة و الإطلاع، صرنا قادرين على سبر غور مسائل عديدة تطلبت منّا إعمال الفكر. و كنت و الشريف نتبادل قراءة الكتب. كان هو دودة كتب. لقد كنا نأتيه بانتظام، و لمِ لا، فهو قائدنا و رمزنا الذي حمّلناه ما شئنا من آمال و طموح. كنا نأتيه في أي وقت، فنبقى عنده ساعات، و أحيانا نمكث عنده اليوم كله نتناقل أطراف الحديث في أي موضوع يخطر لنا، في السياسة و الأدب و تاريخ الأمم، و في الأنساب و مواقع البلدان. و يمر الوقت، و نحن نديم النظر في وجه الشريف، فيتبسم في وجوهنا، و نستمتع بأدبه و حسن حديثه الرقيق الحواشي. حين يتحدث، يتحسس الألفاظ بعناية قبل أن ينطقها كأنها قطع نقود معدنية نادرة. لقد تعلمنا منه الكثير، حيث كنا من زمرة الذين شاءت الأقدار أن يشقوا بالسياسة بجانبه في ذلك الزمان.



    و ختاماً لمقالتي هذه، أقول: إن الانشقاق الذي أوقعناه بالحزب حينما كنا بمصر، و الذي لم يزل قائماً حتى الآن، أزمة تشد على حلق الحزب ليموت. فإذا أردنا أن نفك عنه قيدها، فعلينا أن ندري كنهها و أصلها، و نعترف بوجودها و سبب حدوثها. فذلك أيها الأشقاء نصف الحل لها، أما نصفه الآخر، فهو أن نجعل مضاربنا في مرج واحد، و هذا أمر يسير، لأننا موحدون في القاع، و مجمعون الرأي على وحدتنا و نظمنا في سلك واحد كحبات العقد. و نحن على يقين تام بأن أي كادر اتحادي عاقل، يري أن وحدة الاتحاديين مسألة ضرورية و حتمية، و هي دعامة تستند عليها الجبهة الداخلية للبلد لئلا تميل فتسقط. و نحن ندرى أن هناك بضعة أفراد بالخرطوم، لا يرغبون في وحدة و تضامن، طمعاً في قطعة يخطفونها من كتف الحزب، و هي ألين اللحم هناك. و هم أهل شقاق و خلاف، و لا خير يرتجى منهم. و لو أن لي درة الأعسر لمشقتهم بها مشقاً يُتحدث به بين المشرق و المغرب. هذا هو الجزاء الذي يستحقونه، بل أشد منه. هم جزء من هذه الأزمة، لذلك لن يصلحوا لحلها. اللهم أحصهم عدداً، و أقتلهم بدداً، و لا تبق فيهم أحداً، آمين يا رب العالمين.


    صحيفة السوداني
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de