|
شيبون وصلاح أحمد إبراهيم ...كم عاصفةٍ مرّتْ ولم تنسَ أياديها البذور
|
شيبون وصلاح أحمد إبراهيم (2) كم عاصفةٍ مرّتْ ولم تنسَ أياديها البذور خالد أحمد بابكر
يا رياح الموت هُبي إن قدرتِ اقتلعينا إعملي أسياخكِ الحمراء في الحي شمالاً ويمينا قطِّعي منا الذؤابات ففي الأرض لنا غاصت جذور شتتينا، فلكم عاصفةٍ مرّت ولم تنسَ أياديها البذور زمجري حتى يُبحَّ الصوتُ، حتى يعقبَ الصمتُ الهدير اسحقينا وامحقينا تجدينا.. نحن أقوى منكِ بأساً ما حيينا
بعث إليَّ الدكتور عبد الله علي إبراهيم برسالة يقول فيها: « شكراً لاطلاعي باكراً على مقالكم عن شيبون. وسأعود إليه متى عدت قريباً لتنقيح ما كتبته عنه لدورتين اختلف فيهما مزاجي الكتابي بعد انفتاح أرشيفات جدَّت. وأنوي نشر الخلاصة. لم يكن شيبون في أولويات التأليف، علقتُ عابراً على كلمة القطي، ولم أكن أظن أنه سيشغلني لأكثر من حلقتين فإذا به يتسع ويتمدد وكل ذلك بفضل من وفروا لي مادة لم تكن بيدي أول عهدي بالموضوع. وهذه من صدف التأليف السعيدة. فقد لقيت سودانيين بلا حصر قالوا لي أنهم علموا عن الرجل علماً لم يتهيأ لهم من قبل. ولم أرد غمط حقك لأنني بالفعل لم أكن أنوي سوى تعقيب عابر عن الرجل ثم أمضي لغاية أخرى. والحمد لله. بدا لي من مقالك أنك لم تقرأ خاتمة مقالاتي أو قرأتها على عجل لأن فيها ما لم تثره لعودتك لمنزلة صلاح من شيبون. وسأرفقها هنا بأمل أن تعين في الأمر لأن أي تعليق لي على كلمتك لن يخرج في كثير أو قليل عن كلمتي الخاتمة هذه. ومرحباً بقولك بعد قراءتها أو إعادة قراءتها. ولك مودتي». انتهينا فيما سبق إلى أن الدكتور عبد الله علي إبراهيم سعى في مقالاته إلى تبرئة الحزب من وزر انتحار الشاعر محمد عبد الرحمن شيبون. وحابى القيادة محاباة المحبين، حين سمّى ما كتبه الأستاذ صلاح أحمد إبراهيم عن شيبون بـ (الكتابة المغرضة). ومعلوم أن صلاح وشيبون كانا على خلاف مع قيادة الحزب الشيوعي، خلاف لم يشأ الشيوعيون أن يخرجوه من الأضابير حتى يوم الناس هذا، وفيهم من يعلمه، وهو ما يبدو لنا فيما قاله د. عبد الله علي إبراهيم: « اتفق الرفيق حسن سلامة والأستاذ عبد الوهاب سليمان أن أستاذنا عبد الخالق محجوب لم يكن يرتح لشيبون. بل ألمح لي الإنسان الشيوعي الحبيب حسن سلامة (طال عمره وخيره ونبله) من أن شيبون ربما دخل في مواجهات مع أستاذنا بحكم كتاباته الأدبية. ويرى حسن سلامة أن قصيدة (تذكر يا أخي) المنشورة بجريدة (الصراحة) هي موجهة إلى أستاذنا تذكرة له بوثائق القضية التي جمعت بينهما. ومن أسف إننا لم نقع بعد لا على القصيدة ولا ردة فعل أستاذنا لها. وسنترك مناقشة الأمر هنا حتى يتوفر لي أو لغيري الوقوف على جلية الأمر. ووجب التنبيه مع ذلك إلى أن ما يكتبه الكاتب مرة ليس هو رأيه في كل مرة. فقد نشرت أنا نفسي كلمة جافية بحق أستاذنا في عام 1968م ثم ما لبثت أن وجدتني أخطو خلفه في السكة الخطرة. وأحبه جداً». كنت وما زلت على يقين بأن الحديث الذي ساقه الدكتور في حق شيبون لم يكن توثيقياً تاريخياً لمسألة الانتحار والحيثيات والملابسات، بل كان حديثاً مفعماً بالعاطفة الجياشة تجاه قياة الحزب. ود. عبد الله علي إبراهيم لا يمل من الإشادة والتكرار بشغفه للأستاذ الشهيد عبد الخالق محجوب، بدليل أنه قلل من شأن الإشارة الواردة في حق شيبون من صديقه صلاح أحمد إبراهيم، وهو منهج في البحث ينطوي على قدر كبير من التدليس وعدم الوقوف على الحقائق بالصورة الموضوعية التي ينبغي له أن يتبعها ما دام هو الباحث المدقق وأستاذ التاريخ المعروف، يقول: «التبست معرفة الأجيال العاقبة بالمرحوم الشاعر محمد عبد الرحمن شيبون بخصومة الشاعر صلاح أحمد إبراهيم مع قيادة الحزب الشيوعي. فلم يبق من مأثرة شيبون سوى مقطع من مقال نشره في 1960م قبل انتحاره في أكتوبر 1961م حشى به صلاح بيت شعر له في ديوانه (غضبة الهبباي). والبيت وهامشه يُحمّلان قيادة الشيوعيين وزر موت شيبون، حنجرة الشعب، المأسوي. ولم يرد ذكر لشيبون عند صلاح أبداً إلا كبينة على جفاء الحزب الشيوعي واستهتاره بحياة مناضليه. وقد عاد صلاح إلى هذه المادة في مبارزاته الشهيرة مع المرحوم عمر مصطفى المكي». إذا كانت شهادة الأستاذ صلاح أحمد إبراهيم مجروحة في رأي د. عبد الله، فهي بذات القدر تنطبق على شهادته هو، لموقفه العاطفي المؤكد من قبله نحو القيادة وحبه لأستاذه الذي تكرر كثيراً في ما كتبه. ثم ما الذي يمنع صلاح من أن (يحشو هامشه الشعري) – حسب وصف الدكتور – بما أورده شيبون نفسه في احتجاجه الموجه ضد القيادة والرفاق الذين تخلوا عنه؟ هل جاء الأستاذ صلاح بهذا الحديث من خياله وتأويله؟ أم هو ما قاله شيبون؟ لماذا لم يحتج د. عبد الله على ما ورد في كلمة شيبون؟ بل نراه حين يتحدث حديثاً صارماً عن القيادة الشيوعية – لا يتحدث بلسانه هو، وإنما بلسان صلاح أحمد إبراهيم. لاحظ تعبيره هذا «ولم يرد ذكر لشيبون عند صلاح إلا كبينة على جفاء الحزب الشيوعي واستهتاره بحياة مناضليه». فهذا القول (بمعناه لا بلفظه) لصلاح وليس للدكتور عبد الله. أما حديثه عن عودة صلاح لهذه المادة (يقصد شيبون) يحاول عبره أن يخترع اتهاماً لصلاح بأنه توقف في الحديث عن شيبون أو نسيه تماماً – كما توحي به العبارة – وعاد له مرة أخرى في معركته مع عمر مصطفى المكي في 1968م. وهو اتهام باطل لا تسنده حجة، لأن صلاحاً ظل وفياً لشيبون، وكتب كلمة سديدة بحقه جُعلت إهداءاً لديوان (نحن والردى) الصادر في العام 2000م بعد رحيل صلاح. اعترف د. عبد الله علي إبراهيم فيما كتبه حول شيبون في أنه بث بعض لواعجه اليسارية، وعزا ذلك لما سماه الأفندي المضاد والمحب لعبد الخالق محجوب. وهو ما يؤكد ما ذهبنا إليه آنفاً، يقول: « لم أمتنع على بث بعض لواعجي اليسارية من بين سطور سيرة شيبون. وهذا شغل الكتابة. فالكتابة هي جماع مادة خام يهجم عليها الكاتب بخبراته فينشأ خلق جديد لم يكن (في الحري ولا الطري). وقد جئت لكتابة سيرة شيبون بخبرتي كأفندي مضاد وشيوعي سابق ومحب لعبد الخالق وابن ذي علاقة خاصة بوالدته الحاجة جمال ومشغول بالإبداع ومآلات حركة التجديد الاجتماعي والبعث الوطني ومغترب». لا أدري ما الصلة بين قول الحقيقة وحب الأمهات والأساتذة؟ كلنا نحب أمهاتنا وأساتذتنا، لكن ذلك الحب لا يحمل المرء على مجافاة الحق أو يمنعه من البحث عنه. وقد رأينا أن الدكتور عبد الله علي إبراهيم وقع في ذات الأمر الذي عابه على المرحوم عبد الرحمن الوسيلة ورفاقه الذين اختاروا الدفاع عن الحزب بدل الترحم على شيبون والبحث عن أسباب انتحاره الحقيقية. فهو قد قال بالحرف: « وقد مضى أمر شيبون وصرنا للمقبل. ولكن هناك من (قبَبَني) من الشيوعيين خلال كتابة مسلسل شيبون يريدون أن يعرفوا بنفاد صبر طفولي إن كان الحزب بريئاً من انتحار شيبون. وهم من النفر الشيوعي الذين سماهم السيد صالح بيرة للأستاذ الشفيع أحمد الشيخ (ناس دفن الليل أب كراعن بره). قالوا لي (إما أن تبرئ الحزب أو قوللي رافد (في عصبية اشتهرت عن بوليس شايقي). وهكذا يريدون إعادة التاريخ إلى 1961م يوم انشغل الأستاذ عبد الرحمن الوسيلة بـ (الدفاع عن رفاقي حتى الموت) في وجه اتهام للحزب بدفع شيبون للإنتحار، على ضوء مكتوب من المرحوم، ولم يمضِ على موت المرحوم سوى أسبوعين. وكان بوسع الوسيلة ورفاقه حيلاً لا تُحصى للتخلص من هذا الموقف الحرج بنعي المرحوم حقاً، وبلطف العبارة وكياستها، ورد التهمة إلى نحر صاحبها لإثارتها وخيط دم جراح المرحوم لم تجف. ولكنهم اختاروا الدفاع عن الحزب بدلاً عن الترحم على المغفور له إن شاء الله».
|
|
|
|
|
|