دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
تداعيات تاريخية الحزب الشيوعي وانقلاب 25 مايو (1-5) : د.محمد سعيد القدال
|
السوداني 17-6-2007
لعل من أشق الأمور على الدارس أن يكتب عن أحداث عاشها وتفاعل معها مدا وجزرا. ولكن انقلاب مايو مضى عليه 38 عاما، مما قد يسمح بهامش محدود لتناول الأشهر الأولى من عمر الانقلاب.
وتثير علاقة الحزب الشيوعي بانقلاب مايو جدلا مازالت ذيوله تمتد إلى يومنا هذا. وتذهب بعض الأقلام إلى وصف الانقلاب بأنه من تدبير الشيوعيين. فيقول د.عبد الرحيم عمر في كتابه: "الترابي والإنقاذ: صراع الهوية والهوى" ما يلي: "في صبيحة 25 مايو 1969 تنفس الشيوعيون الصعداء وخرجوا من مخابئهم ليقودوا ويوجهوا يرنامج الثورة الفتية" (ص14). من الواضح أن المؤلف يكتب على هواه. فلم يكن الحزب الشيوعي يعمل تحت الأرض، بل كان له نائبان في البرلمان أحدهما سكرتيره العام. فأي مخابئ هذه التي يتحدث عنها. ولعله ما كان بحاجة إلى افتعال هذه الدراما لولا أنه يريد أن يلصق بالحزب تهمة الانقلاب، وكأنما القيام بانقلاب سبة،عجبي!!. ثم يقول: "كان الشيوعيون يدركون أن الحركة الإسلامية بقيادة د. الترابي هي المحرض الرئيسي على حل حزبهم" ثم يتحدث عن ندوة معهد المعلمين العالي وينتهي قائلا: "ونتيجة لذلك الوسط المفعم بالإثارة والكراهية للحزب الشيوعي تم حله وطرد نوابه من البرلمان: (المصدر السابق). يبدو أننا أمام هستيريا سياسية وأمام ألفاظ لا تصلح إلا للخطب في الحلقات الحزبية المغلقة. فالحديث عن الكراهية ضد حزب اكتسح انتخابات الخريجين قبل أشهر خلت مدعاة للتعجب. كما أن تضخيم دور الحركة الإسلامية مدعاة لتعجب أكثر. فالحركة الإسلامية لم تكن وقتها ذات شأن يمكنها من حل الحزب الشيوعي، قبل التمكين الذي وفره لها نظام مايو منذ 1977. إن معركة حل الحزب الشيوعي قادها الحزبان الكبيران وكانت جبهة الميثاق تسير في ذيلهم. وكان حل الحزب الشيوعي مسرحية هزيلة ومخجلة وانتقدها بعض الذين شاركوا فيها. والبعض الآخر يشيح عنها الوجه على استحياء. وكنت أعتقد أن الزمن سوف يعيد للناس صوابهم ويدركون أن تلك المسرحية كانت طعنة نجلاء في كبد الديمقراطية، فيستوعبوا درسها بدلا من التفاخر الأجوف الذي لا طائل تحته. والكاتب غير دقيق في ذكر بعض الحقائق، وهي صفة لأغلب كتاب الجماعة الإسلامية لأنهم لا يهتمون بالتاريخ بقدر اهتمامهم بالعمل الدعائي حتى وإن كان لا يستقيم مع حقائق التاريخ. فيقول إن حل الحزب الشيوعي كان عام 1968 وهذا خطأ. ويقول إن المحكمة الدستورية برئاسة بابكر عوض الله رفضت إصرار الحكومة على رفض القرار. عليه أن يراجع المعلومات. ويقول إن الشيوعيين قاموا بفصل "أعضاء الحركة الإسلامية من هيئة أساتذة جامعة الخرطوم". ومرة أخرى عليه مراجعة معلوماته ليتأكد من الذين فصلوا ومن فصلهم بدلا من أن يلقي الحديث على عواهنه. وإذا كان فصل الأساتذة معرة فعليه أن يذكر مذبحة الفصل التي ارتكبت في جامعة الخرطوم منذ عام 1989، وعليه أن يذكر اقتحام قوات الأمن لحرم الجامعة لأول مرة في تاريخها منذ عهد الحكم البريطاني وعليه أن يذكر أشياء أخرى تناولتها في مقالات سابقة.
خلاصة القول إن بعض الكتاب يندفعون وراء العمل الدعائي الذي لا يقوم على حقائق، بينما الحقائق ساطعة وناصعة وقلم التاريخ لن يجف. ,إذا كانت الدعاية الجوفاء تجدي، لبقي هتلر في الحكم إلى يومنا هذا.
نعود للموضوع الأساسي : ما هي علاقة الحزب الشيوعي بانقلاب 25 مايو. وكنت قد نشرت كتابا عام 1986 بعنوان: الحزب الشيوعي السوداني وانقلاب 25 مايو. ونشرت فصلا في كتابي بعنوان: معالم في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني (1999). وسوف اعتمد عليها في تناول هذه العلاقة الشائكة.
إن علاقة الحزب الشيوعي بانقلاب مايو لا تتم الإجابة عليها بلا أو نعم مثل المسألة الحسابية. فالانقلاب تداخلت فيه عوامل محلية وإقليمية وعالمية وأوضاع الأحزاب ذاتها التي كانت في الساحة السياسية، وربما أصابع أجهزة بعض المخابرات. علينا أولا أن نستعرض الوضع السياسي في البلاد قبل الانقلاب. ثم نتناول الوضع في الحزب الشيوعي في تلك الفترة، وننتهي بالعلاقة بين الحزب والانقلاب.
كان الوضع السياسي يتدهور سراعا بعد ثورة أكتوبر. ذكرنا من قبل حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان ثم مصادمة استقلال القضاء. فاهتزت كل الأركان الذي يقوم عليها البنيان الديمقراطي، إلا إذا كنا نقيم نظاما ديمقراطيا لنتسلى به. وتناولت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في دورتها بتاريخ 27\5\1965 الوضع فقالت: إن ضيق القوى الرجعية بالنظام البرلماني قاد إلى انقلاب 1958. ففي ذلك العام والحركة الشعبية ما زالت ضعيفة، هاجم الرجعيون النظام البرلماني وأدانوه كنظام لا يؤدي إلى الاستقرار و لجأوا للحكم الدكتاتوري السافر... وبهذا يمكننا القول إن الرجعيين وهم يجمعون قواهم تحت راية البرلمانية، يهدفون في الأصل لتهديدها ومصادرة الحقوق الديمقراطية... فلم تعد القضية الآن ديمقراطية أو لا ديمقراطية، بل أصبحت تسير كل يوم كالآتي: أي نوع من الديمقراطية". وتعرض الحزب الشيوعي للتجربة الديمقراطية في مؤتمره الرابع (أكتوبر 1967) فقال: إن ضيق قوى اليمين بالنظام البرلماني قضية تستحق الاعتبار من قبل الشيوعيين وكل الحركة الثورية... وكشفت التكتيكات المرنة التي اتبعها الحزب منذ 1965 عن ضيق قوى اليمين بالنظام البرلماني وعدم قدرتها على حكم البلاد بواسطته.
وشهدت البلاد من 1964 إلى مايو 1969 خمس حكومات مدنية بمعدل حكومة كل عام تقريبا. وتعرضت الأحزاب لسلسلة من الانقسامات والتحالفات. فانقسم حزب الأمة إلى جناح الإمام الهادي وجناح الصادق ثم التحما مرة أخرى. واندمج حزب الشعب الديمقراطي والوطني الاتحادي في الحزب الاتحادي الديمقراطي. وخرجت مجموعة من الأخوان على جبهة الميثاق. وكانت أحشاء الحزب الشيوعي تموج بانقسام تجلى لاحقا.
وبرزت أزمة حادة حول الدستور المزمع وضعه. وكانت الجمعية التأسيسية قد فرغت في يناير 1967 من وضع مسودة للدستور، ولكن الأزمة السياسية أدت إلى حل الجمعية في فبراير. وجاءت جمعية تأسيسية جديدة لمواصلة وضع دستور جديد. وأعلن محمد أحمد محجوب رئيس الوزراء أن وضع دستور دائم للبلاد وإجازته لا يخص الحكومة دون المعارضة. (مداولات الجمعية التأسيسية 10\6\1968).
وخاطب عبد الخالق محجوب الذي انتخب للجمعية في الانتخابات الأخيرة. وكانت مخاطبته لا تخلو من حدة ومن نبرات تهديد. فقال بأنه يجب تطويع اللائحة ليؤدي المجلس أعماله ومسؤولياته، فتحديد الزمن في مناقشة اتجاهات فكرية لم يكن لها وزن انتخابي بالنسبة للقوى العديدة داخل المجلس، أمر مضر. ثم قال ومن الخير أن نقول هنا ما نود أن نقوله بدلا من أن نقوله في الخارج بطريقة قد لا ترضي شقي المجلس. أما عن الدستور فلابد من إيجاد صيغة قومية... ويجب أن يراعى فيها كل الاتجاهات مثل ما حدث عام 1957، وأن توضع مسودة في جو أكثر صحة ومعافاة. (المرجع السابق).
وفي سبتمبر تكونت لجنة الدستور من الأحزاب الممثلة في الجمعية. وخضعت أعمالها للمناورات و"بالكلفتة والعجلة" على حد تعبير جريدة الأيام. وقال الصادق المهدي الذي كان يقف في المعارضة إن الحديث عن الدستور قبل التغلب على المشاكل الكبرى التي تهدد وحدة السودان يعد عبثا ما بعده عبث.
وعندما اقترح بعض النواب حل لجنة الدستور وعرض مسودة 1967 على الجمعية، قال عبد الخالق إن الاقتراح عبث ولا يلقى الاحترام، وأن هذه المناورات لا يستفيد منها سوى أطراف معينة معتقدة أن هذا الطريق سوف يوصلها إلى الحكم. هكذا انفجر الصراع حول الدستور الإسلامي حتى قبل أن يجاز ويطبق.
وكان الوضع الاقتصادي المحور الرئيسي للصراع الاجتماعي. وقد أفرد الحزب الشيوعي في مؤتمره الرابع بابا خاصا له. ومنذ الحكم العسكري انفتح الباب على مصراعيه للدفع الرأسمالي. وقادت السياسة الاقتصادية المبنية على الدفع الرأسمالي إلى تطلع الرأسمالية وأدت إلى طريق مسدود. وبرزت مشكلة العاطلين وبند العطالة. وانتقد الحزب الشيوعي ميزانية 1968\1969، وقال إن السمة الظاهرة لكل ميزانياتنا هي تزايد إيرادات الدولة من الضرائب غير المباشرة التي يقع عبئها على جماهير الشعب، وتزايد الصرف على مجالات أبعد ما تكون على رفع مستوى معيشة الناس.
وبقيت مشكلة الجنوب البؤرة الساخنة في السياسة السودانية منذ انفجارها عام 1955. هكذا انفتح الطريق للانقلاب العسكري، ولم يكن زلزالا أخذنا به على حين غرة، ولا مؤامرة حيكت بليل من مؤامرة سرية قام بها الحزب الشيوعي أو نفر من الضباط.
|
|
|
|
|
|
|
|
|