دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
رحيل النوار خلسة أو علي المك وجيله بقلم دكتور عثمان الجعلي
|
رحيل النوار خلسة أو علي المك وجيله
الحلقة الاولى
د. محمد عثمان الجعلي
وطني
سيان قربي في الهوى وبعادي
وقفا عليك وان نأيت فؤادي
ومثار اهوائي واصل رشادي
يا دار عاتكتي ومهد صبابتي
واديك كم للعبقرية واد
كم في سمائك للنبوغ وفي ثرى
من حاضر بين القلوب وبادي
ايه فديتك يابلادي آلفي
كودائع لك في السحاب غوادي
فعلي كلا الحالين نحن ودائع
خفيت عليهم منك بيض ايادي
رعيا لآباء قضوا شوقا وما
فرضوا عليك بنوتي وقيادي
انزلتهم نزلا بتربك بعد ما
حبا يفيض قوي لغير نفاد
لك ذا الفؤاد يكن في اعماقه
الا غلالة ذي هيام صاد
والام انت وما حنانك بيننا
كانوا بطلعتهم ربوع بلادي
وافي الربيع وفي ربوعك فتية
زهر الكواكب للعيون بوادي
زهر كان وجوههم من نبلها
وبنو الجزيرة حيث مجد اياد
ابناء العرب حيث مجد ربيعة
نبتت رماحهم مع الاجساد
متشابهون لدى العراك كأنما
صارت تصان وديعة الاحفاد
لبسوا الجديد علي القديم وهكذا
خليل فرح
شئ من قبيل التوطئة
زار النائح الصائح اركان الدنيا ذلك الصباح المتشح سوادا لينقل لاهل السودان المقيمين منهم والظاعنين ان البروفيسور المرحوم علي المك قد غادر الفانية، نقل خبر موت من هو في قامة علي المك يصير طقسا احتفاليا عند اهلي الشايقية، هؤلاء القوم يعرفون للموت كما يعرفون للحياة، بل ويقدمون عليه عند الملمات كما يقدمون علي الحياة عند الرخاء، لدى وفاة مكوكهم وكبارهم تنصرف النساء لجمع رماد الحي يأتون بنقارة «حوش» من نواحي الزومة والدهسيرة وبنحاس ود الباشا وبما توفر لدى احفاد ود الكرسني الحر الجاب حرارتا نيران جمر يخرجون سيوف اولاد حليب في مساوي وسيوف اولاد بشير اغا في القرير في غمدها، يقومون بكل ذلك وقد اركبوا اربعة من فتيانهم الاشداء ذوي الاصوات الجهيرة انجب حميرهم واعلاها، يتصاحيون عند كل حي وفريق: الله الحي الله والدايم الله.. علي ود المك راح في حق الله.. تلتفت عجوز ذهب الدهر بسمعها الى ابنتيها متسائلة: المات مينو؟ وقبل ان ترد عليها وقبل ان تعرف هوية المتوفي تبكي مرددة: واشريري واشريري.. ياكناني ويا ودبطني
نعي الناعي علي المك فطفقت النفس تسأل الله له الرحمة ولآله واصدقائه الصبر والسلوان، ثم كان ما يكون عادة من استرجاع بعض العبر، ولعل الموت وصورته تبدو اكثر قتامة والحزن اكثر عمومية عندما يكون المتوفي في مثل عطاء علي المك وتكون وفاته في اقاصي الدنيا وقد تبعثر عارفو فضله وعلمه بين الدنيتين القديمة والجديدة فيما كانت تعبر كتب الجغرافيا
ما ستطالعه سيدي القارئ هو حديث جرى عفو الخاطر تماما حديث تسرب من مداد القلم كلمات وتراكيب وجمل اخذت برقاب بعضها بعضاً فاذا هي قد استوت فقرات.. شدت الفقرات من ازر بعضهن وتقوين فاذا الفقرات بأمر ربك مطالب ذات بداية ونهاية فتأمل..! وتجمعت المطالب فاذا هي فصول ذوات صدور واعجاز، وابت الفصول الا ان تخرج جماعة فما منعناها، ولعلها صادقة، فليس مبعث هذا العمل علاقة خاصة بالراحل المقيم، وانما عناني من امره ما عني كل من اهتم بالشأن العام السوداني من حيث
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: رحيل النوار خلسة أو علي المك وجيله بقلم دكتور عثمان الجعلي (Re: jini)
|
هو سوداني اولا وشأن عام ثانيا، يستوي في ذلك ان كان هذا الشأن سياسة أو ادباً او شعرا او ادارة وغير ذلك
عندما استرجعت اضافات علي المك المتعددة في سياقها التاريخي استنزعت انتباهي حقيقة االمك هو واسطة عقد فكري نضيد اضاء لجيلنا سبل المعرفة الانسانية، لقد تفتحت مداركنا «ونحن الذين انتظمنا في سلك التعليم مع استقلال السودان» على اشعار الفيتوري وجيلي عبد الرحمن وتاج السر الحسن وصلاح احمد ابراهيم ومصطفي سند والنور عثمان ابكر واخوانهم وهؤلاء هم بعض جيل علي المك، لقد وجدنا المقابل السوداني في القصة لمن كنا نطالع اعمالهم من الروائيين المصريين من طبقة نجيب محفوظ ومحمد عبد الحليم وعبد الله وذلك النوبي العبقري الذي رحل باكرا محمد خليل قاسم «صاحب الشمندورة» وغيرهم في كتابات ابي بكر خالد والطيب صالح والزبير علي والطيب زروق وهؤلاء هم بعض جيل علي المك، جيل علي المك تبوأ صدر المحافل السياسية والادبية والثقافية وبدأ تأثيره يشمل كافة مناحي الحياة السودانية منذ نهاية الستينات ولعلنا لا نعدو الحقيقة إن مناحي الحياة السودانية منذ نهاية الستينات ولعلنا لا نعدو الحقيقة ان قلنا إن جيل علي المك قد كان الفاعل الاول في تشكيل بعض ابرز سمات الشخصية السودانية التي كان ميلادها في خمسينيات هذا القرن، من هنا كان عظم وقع خبر رحيل واسطة و«عقيد» هذا الجيل
ما ستطالعه سيدي هو جزء من خطاب آحادي «ولا نظنه عاطل بالكلية عن الحد الادنى المطلوب من جدلية الحوار والاستنتاج» يرتكز علي الحدث العام ولا يخلو من خصوصية التلقى والفهم والاستيعاب ومن ثم اعادة الانتاج، إن ما اشتمل عليه العمل الذي تطالعه من احداث واخبار ومحاولات تفسير لبعض الظواهر انما هو اجتهاد لا ندعي ان فيه فصل خطاب ولا فيصل مقال.. وانما حسبه ان يفوز لدى القارئ باجر المجتهد، ولعل في ما خطه يراعنا تذكرة للنابهين ان يكملوا «أو حقيقة ان يبدأوا» ما حاولنا رسمه من صور، ولعلنا نفسر الماء.. بعد الجهد بالماء... إن اوردنا إن آفة الدخول في دهاليز السياسة والتاريخ المعاصرين هو وجود بعض من شارك في صنعهما علي قيد الحياة ومن هنا ازورار الناس عن الكتابة عنهما
اذا كان على المك أو إن شئت الدقة خبر وفاته، وهو باعث هذا العمل فان تداعي الاحداث والاخبار قد حركته ظروف مكان وتصاريف زمان كانت هي الفاعلة وكنا رواتها قبل ان ندعي ان نكون فاعلين في جزء يسير منها وشهودا على بعضها الآخر، مكانا: يمكن لنا ان ندعي ان مدنا مثل الخرطوم بحري السودانية وليفربول الانجليزية والرياض السعودية قد شكلت منا وفينا الكثير بانماط حياتها ببشرها وعلاقاتها وتركيبتها الظاهرة والمستترة، وهذا في تقديري يدخل في باب اعتساف الامكنة، زماناً: عشنا ايام السودان المجيدة، دخلنا سلم التعليم وجماهير الشعب السوداني تهتف لسيدي الازهري اسماعيل
اعلامنا ترفرف يا اسماعيل
في الجو خفاقة يا اسماعيل
عشنا مجئ عبود جبل الحديد وذهابه، عشنا ايام اكتوبر الاخضر ونحن نردد خلف وردي وود المكي:
باسمك الاخضر يا اكتوبر الارض تغني
الحقول اشتعلت قمحا ووعدا وتمني
والقيود انسدلت جدلة عرس في الايادي
عشنا ايام الديمقراطية الثانية وعشنا مجئ اب عاج اخوي دراق المحن.. وامد الله ايامنا ستة عشر عاما حتى رحل الرجل.. رحل وفيه شئ من حتى الرئاسة، وفي الشعب السوداني شئ من حتى المساءلة والمحاكمة فلا انتهت الاولى ولا برد لهيبها ولم تتأت الثانية لا، لم تتأت وانما بعد مهوى قرط تفعيلها وعشنا حتى الانتفاضة ورددنا خلف وردي ومحجوب شريف:
حنبنيهو البنحلم بيهو يوماتي ولم نبنه.. فالصيف ضيعت اللبن.. ومن ثم اصبحنا فاذا النشيد الحربي واذا البيان الاول واذا العودة الى ما حاوله جبل الحديد وأب عاج من قبل، و... واذا علي المك يموت بعيدا عن القبة وفتيح والخور والمزالق.. واذا هذه السطور
العديد من الافاضل من الاخوة اطلعوا علي مسودات هذا العمل وابانوا بعض جوانب قصوره وبعضهم اضاف اليه ما رأى من اهميته التاريخية او البيانية، في مقدمة هؤلاء الأخ الكبير «سنا ومقاما» شيخنا النحرير المحدث المجود، الطيب محمد الطيب والأخ الموثق المدقق الدكتور عبد القادر الرفاعي انسان ما انفك يحاول تزيين وجه السياسة السودانية العاطل في اغلب جوانبه عن الخبر والحب والجمال بشئ منها، والدكتور علي عبد الحفيظ والاستاذ مهدي شيخ ادريس والاستاذ السر سيد احمد والأخ الروائي الكبير من شمال وادي النيل الدكتور ايهاب سلام والدكتور يوسف مختار الامين والدكتور عبد المحمود محمد عبد الرحمن وشكر خاص ازجيه لأخي وخلي صاحب الرئاستين «القانونية والادبية» الاستذا صديق علي كدودة، والشكر لكل من دعم هذا المشروع اخلاقيا تعضيدا ومساندة وفي رأس القوم الدكتور الاديب اللبيب حسن ابشر الطيب، فلهؤلاء الافاضل من الاخوة الشكر مقادير ما اسبغه سيدي عبقري المديح النبوي حاج الماحي علي اخوته المادحين: ود حليب ومحمد البصير واحمد الفقير والحاج ولد ضكير والطاهر وابيه الكبير وود كنانة الخير وتبقى العثرات ومثالب العمل الذي بين يديك مسؤوليتنا وحدنا
نقطة اخلاقية اخرى ارى اهمية اثباتها بعض الاشخاص الذين وردت اسماؤهم في بعض اجزاء هذا العمل هم اناس حقيقيون: اباء وامهات لنا نكن لهم من الاحترام منتهاه ومن التقدير غايته، رحم الله من ارتحل من الفانية منهم واطال عمر البقية واسبغ عليها الصحة والعافية ورغم ان اغلب الاشخاص حقيقيون الا ان بعض الاحداث والوقائع مصطنع، ان ورد اسم احد الاعمام او العمات في غير ما يرضي الابناء والبنات فللجميع العتبى حتى الرضا، وانما ما ورد هنا امر املته مسألتان: المسألة الاولى هي الرغبة في اسباغ شئ من البعد الدرامي على حدث ما والمسألة الثانية ان الطبع يغلب التطبع
فرغم الشيب وتقدم العمر الا اننا مازلنا اسرى تلك الروح التي عرفنا عليها اولئك الآباء والامهات
واخيرا يبقى ما ستطالعه من صفحات محاولة متواضعة لاعادة انتاج بعض ما استكن في الذاكرة من احداث وشخوص وتفاعلات في اصعدة متباينة وفي ازمنة متداخلة، المقصود من هذا الجهد اشعال فتيل الانفعالات والرؤي علنا نستميل لعكاظ الذكرى هذه من يساعدون في اعادة رسم بعض الوشم على ظاهر يد بل وكافة جسد واطراف **WORD OMMITTED**ة «النوستالجيا» السودانية
اقول قولي هذا واصلي واسلم علي نبينا وسيدنا محمد بن عبد الله صاحب المقام المحمود والحوض المورود وعلي الخلفاء الاربعة المهديين اعلام الهدى: ابي بكر وعمر الفاروق وذي النورين عثمان والكرار علي وعلى الصحابة والتابعين ومن تبعهم باحسان الي يوم الدين
الرياض: المملكة العربية السعودية
الاثنين في احدى عشرة ليلة خلت من رمضان المبارك لعام 1417 الموافق 20 يناير 1997 ميلادية.
ما قبل البكائية: في ذكرى ما جرى
الدرب انشحط واللوس جباله اتناطن
والبندر فوانيسو البيوقدن ماتن
يا ود امات هضاليم الخلاء البنجاطن
اسرع قوذع امسيت والمواعيد فاتن
شاعر سوداني مجهول وتنسب الابيات ايضا الي الهمباتي المجيد طه.
غيب الموت البروفيسور علي المك احد ابرز رموز كوكبة اهل الثقافة والاستنارة السودانيين وهي الكوكبة التي انفرط عقها او كاد، بعد ان زينت بابداعها وتجلياتها واضافاتها المتفردة جيد تلكم البلاد التي رزئت وما انفكت بفقد الصفوة النيرة الخيرة من ابنائها ومن قبله غيب الموت عثمان حسن احمد ومحمد عمر بشير وجيلي عبد الرحمن وعبد الرحيم ابو ذكرى ومن قبلهم صاحب «وجهان في مفازة الفردوس» و«حديقة الوردة الاخيرة» واسطة العقد محمد عبد الحي رحلوا وتركوا اهل الثقافة والفكر في السودان في حال افراخ الحطيئة زغب الحواصل لا ماء ولا شجر وكأيام بدر شاكر السياب حين تكالبت عليه اوضار المنفى واقعده المرض ووعثاء الترحال بعيدا عن «جيكور وبويب»
هباء كل اشواقهم اباطيل
ونبت دون ما ثمر ولا ورد رحل على المك كما ينبغي ان يرحل امثاله من المقتحمين الرواد، رحل دون ان يغسله غبار الخرطوم او تبلله قطرات المطر الطلحبي كما عبر محمد الاسباط توفى بعيدا عن مضارب العشيرة في بقعة ام درمان التي كان بها مسكونا قريبا من سربه الفكري في نيومكسيكو ولعلها من تصاريف الازمنة انه خرج من ام درمان التي ادمن عشقها ليسلم الروح الى بارئها في اوساط (الجيكاريلا) معقل الاباشي الذين ولع بهم دهرا فتأمل رعاك الله
ذهب علي المك الموسوعي النزعة وصاحب الصنائع السبع الى ديار الهنود الحمر ضاربا اكباد مكائن الايرباص لينهل المزيد من العلم الذي لا يرتوي منه، كان كما يقول عثمان حسن احمد سوسة قراءة واطلاع، ذهب ليهب المزيد من عطاء فكري لم تنفصم عراه ولم يبل نسيجه منذ ان ألم بمجالس العلم واروقته، نعم كان دائم الغشيان لاسواق عكاظ يغدو اليها ويروح منها بائعا وشاريا وكل ذلك في وقت توقف فيه جل اهل جيله ممن صرفتهم الايام وبدلتهم الازمنة وسبل كسب العيش واخذتهم بعيدا عن المعارف ودروبها وعن العلم وساحاته واصل على المك والعصبة من اولى العزم الفكري العطاء دون منّ أو اذى وقد اشرعوا ذوات الواح ودسروا ليلجوا شتي بحور المعارف في الوقت الذي قنع فيه سائر جيلهم بالوظيفة والهم الخاص قائلين: يكفي، والتي تعني قراءة مزرعة الحيوانات لجورج اوريول و«آلة الزمان» لويلز وشئ من مقررات الادب الانجليزي في كلية الآداب تتمثل في بعض اشعار كولردج ووردث ورث القليل من مسرح شكسبير وبرناردشو وابسن والنذر اليسير من اصول الفكر الماركسي وقدر معلوم ـ ينقص ولا يزيد ـ من وجودية سارتر والبير كامو، لم يقل علي المك يكفي ولم تعده العدوى بل ما انفك يستزيد من العلم عملا بالمأثور: ما يزال الرجل عالما ما طلب العلم فان قال قد علمت فقد جهل، في مراجعته لديوان الشاعر الفنان خليل فرح الذي قام علي المك بتحقيقه كتب د. عبد الله علي ابراهيم:
علي المك ذو مواهب ومساهمات كثر إن اختلفنا في تقويمنا لها فلن نختلف في موهبة وحيدة هي ما وطن نفسه عليه بالمثابرة علي الابداع لا تصرفه صوارف اقعدت من ابناء جيله النفر الكثير، هل ياترى كان علي المك ورهطه المثابر المعنيين بابيات ابي الحسن علي بن التهامي:
فاقضوا مآربكم عجالا
انما اعماركم سفر من الاسفار
وتراكضوا جيل الشباب
وبادروا ان نسترد فانها عوار
نقلا عن الصحافة
| |
|
|
|
|
|
|
Re: رحيل النوار خلسة أو علي المك وجيله بقلم دكتور عثمان الجعلي (Re: jini)
|
الحلقة الثانية
د. محمد عثمان الجعلي
الفصل الاول اسفار التكوين عزيزي المفضال .. السلام عليكم:
ارسلت الكلمة لمصر لتنشر في «الاهرام» ولا ادري لماذا لم تنشر حتى الآن وقد شكا الى بعض الاخوان من ان الجرايد لا تنشر لهم الا قليلاً وقد نشرت «اللواء» ما بعثت به اليها اخيراً عقد لي مجلس تأديب لأني ارسلت تلغرافا للصحف المصرية دون ان اعرضه على المخابرات «ها ها ها» (تهكم وسخرية)
وقد قرر مجلس التأديب رفتي من خدمة الحكومة وهذا ما كنت انتظره من زمن لاتفرغ لواجبي نحو بلدي كما اريد
كنت انوي السفر للكنانة ولكني لن اذهب فقد اودع على عبد اللطيف السجن واشعر ان مسؤوليتي قد تضاعفت
الاخوان بمصر يحتاجون المال فارسل لعبد الله «خليل» ما يمكنك ارساله وسيعمل على أن يصل المال اليهم ومعذرة فإن وقتي لا يتسع للاسهاب.
تحياتي لك
20/7/1924
اخوك عبيد (عبيد حاج الامين: سكرتير جمعية اللواء الابيض).
الفصل الاول أوان البشارة
الشم خوّخت بردن ليالي الحرة
والبراق برق من منا جاب القرة شوف عيني الصقير بي جناحو كفت الفرة
تلقاها أم خدود الليلة مرقت برة
(امير الشعر الشعبي السوداني: الحاردلو ـ مسدار الصيد)
من حسن طالع الاجيال اللاحقة بالسودان ان علي المك وجيله كانوا شهودا عدولا على التحولات وبدايات التشرنق فمن يرقة المتأدبين الأُول من طلائع خريجي مؤسسات التعليم البريطاني استشرف جيله ارهاصات واشارات تخلق ثقافة التحرر الوطني، جيل علي المك ورث حرفة الأدب وادركته بكلكلها الذي ناءت به جمعيتا ابوروف والموردة وما نتج عن التزاوج بين الروحين الادبية والوطنية من استنهاض للهمم وما استولدته من مماحكات فكرية وآليات تعبيرية تمثلت ـ ضمن آخر ـ في دارفور حيث واسطة العقد العبقري خليل فرح وحيث السمار والطلائع يستزيدون النوبي الحاذق انشادا للحبيب:
بلي جسمي وفتك جفاك
ياحبيبي اما كفاك
وللوطني:
في يمين النيل حيث سابق
كنا فوق اعراف السوابق
الضريح الفاح طيبه عابق
السلام يا المهدي الامام
وفي صحيفة الفجر التي ازدانت أعمدتها بكتابات ابني عشري الصديق ومحمد احمد محجوب وفي نقائض نثر وشعر الاخواة الاعداء من «الشوقست» «انصار الاستاذ محمد علي شوقي» و (الفيلست) «انصار الشيخ احمد السيد الفيل» من ابكار الخريجين
كان جيل علي المك هو الوارث الشرعي لكافة اشارات وآيات البشارة عند ميلادهم وزاد من وهج الاشارات والتماع بريقها المد الذي استصحب موجة التحرر الوطني في كافة المستعمرات وتغير جلود ثعابين الفكر الاسناني ونهاد قوالب جديدة للصنعة الفكرية والادبية
تفتحت مسامات الوعي لدى جيل على المك والدنيا قد شغلتها الحرب الكورية ماوتسي تونج وشوان لاي ولين بياو يزينون ساحة (تين آمين) بعد فرار شانج كاي شيك الى تايوان يبشرون بصين جديدة بعيدا عن الاقطاع والافيون ومنطقة «النور الاحمر» في شنغهاي (هوشي منه) يبدأ في تطبيق ما تعلمه من «المسيرة الطويلة» في الصين ويواصل حربه الطويلة للعودة بفيتنام الى الحالة التي جاهد من اجلها وحققهها في 1945 عند هزيمته لجيش الميكادو وخلع الباوداي يواصل الرجل النحيل حربه ليصبح علامة فارقة في السياسة الدولية ولتصبح هانوي ودانانج بعد عقود لاحقة مدنا اسطورية ملهمة لقطاع له اعتباره من جيل علي المك والاجيال اللاحقة حيث الجنرال جياب يسطر نعي الامبراطورية الفرانكفونية في (ديان بيان فو) ديان فو التي خلدها جيل علي المك في كلمات تاج السر الحسن:
ياديان فو.. يا ديان فو
ارضنا للنور.. والازهار تهفو
منظر القلعة .. مازال بعيني معلق
والاعادي جثث في صخرها الازرق تُشنق
نعم (جياب) يدحر الفرنسيس ويجبر بيار منديس فرانس علي الجلوس مع شو آن لاي للاتفاق بشأن فيتنام والهند الصينية، تفتحت المزيد من مسامات الوعي لدي جيل علي المك والمهاتما غاندي يروح ضحية التطرف الديني جيل علي المك عرف شيئا من ابجديات سخرية السياسة وتصاريفها والسياسي المتميز حنكة وهدوءا والمبتدع والملتزم سياسة «اللاعنف» يروح ضحية العنف الزائد على يد احد ابناء ملته من الهندوس، عندما بدأت مدارك جيل علي المك السياسية تتمدد خارج نطاق العالم الثالث كانت آثار المكارثية تطال اهل الفكر والفن في بلاد العم سام لجان المكارثية سيئة الصيت تستجوب شارلي شابلن وسط تظاهرات معادية للفنان العظيم، وقد علم جيل علي المك حينذاك بعض خفايا وابعاد الحملة المكارثية التي نالت تبريكات الرئيس ترومان والتي اخذت من وقت وجهد ايزنهاور الكثير للقضاء على آثارها المدمرة
في تلك الفترة كان جيل علي المك شاهدا علي بعض ابرز تحولات العصر حيث الزنوج في الباما وسائر ولايات الجنوب ينهضون بعد طول ضيم وذل وسبات يطالعون كتابات لانجستون هيوز، يرقصون على انغام جاز لوي آر مسترونج وبلوز هاري بلافونته، وحيث مصدق في اول اختيار لظروف الحرب الباردة يسبح عكس التيار مستميتا لاخراج ايران الشاهنشاهية من عنق الزجاجة، وحيث خوان بيرون يلهب حماس الارجنتينين مستعينا بالنقابات وببلاغته الخطابية وبجمال وسحر (ايفا) و (افيتا) كما احب اهل الارجنتين تدليلها، وحيث المحامي الشاب فيدل كاسترو والطبيب ارنستو تشي جيفارا ورفاقهم في مجموعة 26 يوليو يبدأون في تحريك مخاض الثورة الطويل بمهاجمتهم لجيش المونكادا في سانتياغو دي كوبا كاشارة للطلق المنصب من (سيرا ميسترا) في تلك الايام برز اسم لايزال «ونحن نسود هذه الصفحات» في بؤرة عدسة القضايا العالمية ونعني نوردوم سيهانوك يقول عنه وعن امثاله صالح بشير: أن الامير سيهانوك يبقي واحدا من اولئك المتأتيين من اعماق ماضي آسيا القصوى السحيق، الذين جاءوا الى العصر الحديث فحولهم بشرا ونزع عنهم كل هالة، جيل علي المك كان يتحسس دروب السياسة الشائكة حين جاء جمال عبد الناصر ليملأ الدنيا ويشغل الناس
جاء ناصر وجاء مؤتمر باندونج او ما اسماه الرئيس المفكر سينغور «مؤتمر اعلان موت عقدة النقص» جاءت باندونج: احمد سوكارنو وتيتو ونهرو وشوآن لاي وجاءت افريقيا: كوامي نكروما، احمد سيكوتوري، موديبوكيتا وجاء لابس بدلة الدمور سيدي اسماعيل مبشرا باستقلال السودان.. الملايين التي منحه الوهاب مفاتيح سرها تقابل احسانه باحسانها الذي صاغته من وجدانها شعرا ورجزا:
حررت الناس يا اسماعيل
الكانو عبيد يا اسماعيل
والكل بقي سيد يا اسماعيل
اعلامنا ترفرف يا اسماعيل
في الجو خفاقة يا اسماعيل
والناس ما بتعبد يا اسماعيل
من غير خلاقا يا اسماعيل
في ذلك اليوم الذي يستحيل تكراره في حياة الأمم والشعوب وقف على المك وجيله فوق هام السحب يهزجون ويملئون الدنيا فرحا ووعدا واماني وهم يغنون للوطن الوليد مع الصناجة احمد محمد صالح:
يابني السودان هذا رمزكم .. يحمل العبء ويحمي ارضكم ينشدون مع محي الدين فارس «لن احيد»:
انا لست رعديدا يكبل خطوه ثقل الحديد ويرددون مع تاج السر الحسن امنياته بنظام عالمي جديد.. اسمع وعدهم بالغناء للملايو ولباندونج ولغابات كينيا الازاهر وللجزائر الفتية على انغام وايقاعات اناشيد الجيوش المغربية و...
لليالي الفرح الخضراء في الصين الجديدة
التي احمل في قلبي لها الف قصيدة
حاشية على الفجر: قبض محررها النحرير عرفات محمد عبد الله في سنة ميلاد علي المك.
الفصل الأول شئ من زخم التكوين
اعرفهم.. الضامرين كالسياط الناشفين عن شقاء
اللازمين حدهم.. الوعرين المرتقى..
«صلاح احمد ابراهيم»
حين بدأ علي المك يستقبل سني دراسته الجامعية في السودان «مع بعض المستعمرات السابقة الاخرى» يتهيأ لليلة عرسه التي طال انتظارها وبهظت اكلاف مهرها الذي سددت اقساطه المجموعات المصادمة المتقدمة: ساهمت فيه: جحافل المهدية المقدامة «النجومي، طمل، امير البرين والبحرين ابوقرجة، ود احمد، احمد فضيل، يتقدمهم سيدي خليفة المهدي الامام» عبد القادر ود حبوبة، كتائب 1924 المقاتلة، طلائع الخريجين في مؤتمرهم العام في 1938 والتنظيمات السياسية الطائفية منها والعقائدية
حين كان جيل علي المك يطرق ابواب جامعة الخرطوم كان الانجلو ساكسون يبدأون رحلة العودة الى جزيرتهم العجوز تشيعهم صيحات حسن خليفة العطبراوي:
ياغريب بلدك يلا لي بلدك
يلا لي بلدك سوق معاك ولدك
غادر السودان الانجليز السودان وبه خدمة مدنية هجين من «وايت هول» ومجالس النظار والعمد، كانت تلك هي لب نظيرة السير جون مفن الحاكم العام للسودان في اواخر العشرينات «كما حدثنا العلامة جعفر بخيت» غادر الانجليز السودان وتركوا آل مادبو على رأس الرزيقات، بابو نمر يرعي مسائل المسيرية، آل على التوم يتولون امر الكبابيش، آل هباني يديرون شؤون الحسانية، آل ابو سن يسوسون الشكرية ادارة وحكمة وادبا رفيعا ولم لا؟ فمنهم وفيهم النابغة الشكري الحاردلو، تركوا الناظر الحكيم دينج مجوك في ابيي وغيرهم من الحكماء واهل الدراية الادارية الملتزم جانب الموروث المحلي
حين رفع دهاقنة الادارة البريطانية ايديهم وقبعاتهم مودعين اهل السودان كان علي رأس الخدمة المدنية السودانية وكلاء دائمون من اهل البلاد المتميزين، تركوا حمزة ميرغني في المالية، مامون بحيري في بنك السودان، العوام نمر ووديع حبشي في الزراعة، ابو رنات في القضائية، محمد الفضل في السكة حديد، مكي عباس في مشروع الجزيرة واخوانهم من اهل الدراية المهنية في كافة المواقع القيادية الاخرى
تم جلاء القوات البريطانية وقد تركوا مشروع الجزيرة ليدر المداخيل والسكة حديد لتقريب المسافات ولنقل الاوادم والمنتجات واضافات الحكومات الوطنية لمهامها نقل الجنود والعتاد الحربي، تركوا تعليما عاليا يتسم بالصفوية النخبوية «على منوال ايتون» تركوا احياء «السودنة» في العاصمة والمدن الكبرى وكذلك الحي البريطاني خلفوا وراءهم «استاك» المعمل وفريق الكرة الذي تسودن لاحقا باسم التحرير، خلفوا وراءهم نصب النصارى: الجنرال غوردون «غوردون اوف شاينا» على ظهر بعير والجنرال هربرت كتشنر «كتشنر اوف خرطوم» علي صهوة جواد، ترك الانجليز وراءهم «الاسكيل» كمرتبة وظيفية واسماء المراتب: بي.. دي.. أس وكيو
والانجليز يغادرون السودان تساقطت منهم بعض مفردات لغتهم لتصبح جزءً من قاموس اللهجة السودانية الدارجة: يقول الاميون من نساء السودان وورجاله: تي بي، اختصارا لمرض السل الرئوي يقولون «القاينا» لعنبر الولادة بالمستشفى يقولون الاسبتاليا تحويرا لـ هوسبيتال الانجليزية يقولون «اللينمان» ويعنون به رجل الخط في مباراة الكرة كما في المفردة الانجليزية لاين مان، يقولون فلان «ترنشوه» اي ابعدوا عن وظيفته وذاك تحوير للمفردة الانجليزية ريترنشمنت والى عهد قريب كان بعض الشطار والعيارين من متحذلقي فتوات وكابويات المدن يقولون عند الغضب: بلادي فول.. تحويرا للتعبير الانجليزي الشائع الذي لن نترجمه خوفا من النشء وعلى ضعاف الايمان، خلف الانجليز كل ذلك وهو غيض من فيض و.. وتركوا علي المك وجيله
ذهب الانجليز واكثرية الشعب السوداني في الشمال تنقسم الى فئتين: فريق يلبس «على الله» وينتعل «مركوب الفقراء» يقرأ «الراتب» ويشخص الى جزيرة ابا حيث سيدي الامام عبد الرحمن المهدي وفريق يلبس الجلابية ذات اللياقة ويتمنطق بالحزام الاخضر، يقرأ «المولد» ويشخص الى حلة خوجلي حيث يرابض اسد مساوي: ابو هاشم الختم ود سيدي عثمان برمكي اشراف كسلا، هذا عن الاغلبية، اما الاقلية وهي القطاع المستنير فقد ولدت وميسمها الاساسي هو الانشطار: انشطار سياسي، انشطار اجتماعي، انشطار مهني، ونخشي ان نقول انشطار نفسي كما عند اهل السايكلولوجيا.
فاما الانشطار السياسي فقد تجذر في ما حمله العائدون من ارض الكنانة مصر التي هاجروا اليها طلبا للعلم فعادوا يلقون احجارا وافكارا عقائدية في بركة الحياة السياسية الراكدة والقائمة علي ساقين من طائفة دينية تتمايز براياتها وقبابها واورادها وقبيلة صارخة تتمايز بشلوخها ولهجاتها بل ولغاتها، انقسم العائدون الى قسمين فريق اصطف خلف الشيخ حسن البنا وفريق جاء متأبطاً المانفيستو الشيوعي كدليل على صلاته بمجموعة «حدتو» المصرية حيث هنري كورييل عراب الرفاق يوزع الجراية باليمني وكتيبات لينين باليسرى، جاء الرفاق ينشدون «ياصلاح» والاخوان يرددون «ابتاه ماذا قد يخط بناني والحبل والجلاد ينتظران» جاءوا بهذا ومثله فنان جيل علي المك ملجأين فكريين من ذينك الفريقين: جماعة الاخوان المسلمين والجبهة المعادية للاسعتمار «الحزب الشيوعي فيما بعد»
اما الانشطار الاجتماعي الابرز فقد بذرت نواته في نخبوية التعليم الذي تلقاه جيل علي المك والجيل السابق له، اما الانشطار المهني فكان المولود الشرعي لظاهرة اسمها الثنائية ستعرض لنا مرارا قبل ان نضع قلم تحرير ما تطالع الآن، ولأهمية الدور المتنامي للفئة المستنيرة سنرجئ الحديث عن دورها وانشطارها الى جزء لاحق.
نقلا عن الصحافة
| |
|
|
|
|
|
|
|