دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
Re: فاروق جويده \ الحقيقة الغائبه \ (1) (Re: smart_ana2001)
|
هذا حديث قصدت فيه أن أكون واضحاً كل الوضوح ، صريحاً كل الصراحة ، زاعماً أن الوضوح والصراحة في الموضوع الذي أناقشه استثناء ، فقد صبت في المجرى روافد كثيرة ، منها رافد الخوف ، ومنها رافد المزايدة ، ومنها رافد التحسب لكل احتمال ، وخلف ذلك كله يلوح سد كبير ، يتمثل في الحكمة التي يطلقها المصريون ، والتي تدعو إلى ( سد ) كل باب يأتيك منه الريح ، فما بالك إذا أتاك إعصار التكفير ، وارتطمت بأذنك اتهامات ، أهونها أنك مشكك ، وأسئلة أيسرها – هل يصدر هذا من مسلم ؟ - وواجهتك قلوب عليها أقفالها ، وعقول استراحت لاجتهاد السلف ، ووجدت أن الرمي بالحجارة أهون من إعمال العقل بالبحث ، وأن القذف بالاتهام أيسر من إجهاد الذهن بالاجتهاد ..
هذا حديث دنيا وإن بدا لك في ظاهرة حديث دين ، وأمر سياسة وحكم و إن صوروه لك على أنه أمر عقيدة وإيمان ، وحديث شعارات تنطلي على البسطاء ، ويصدقها الأنقياء ، ويعتنقها الأتقياء ، ويتبعون في سبيلها من يدعون الورع (وهم الأذكياء) ، ومن يعلنون بلا مواربة أنهم أمراء ، ويستهدفون الحكم لا الآخرة ، والسلطة لا الجنة ، والدنيا لا الدين ، ويتعسفون في تفسير كلام الله عن غرض في النفوس ويتأولون الأحاديث على هواهم لمرض في القلوب ، ويهيمون في كل واد ، إن كان تكفيراً فأهلاً ، وإن كان تدميراً فسهلا ، ولا يثنيهم عن سعيهم لمناصب السلطة ومقعد السلطان ، أن يخوضوا في دماء إخوانهم في الدين ، أو أن يكون معبرهم فوق أشلاء صادقي الإيمان .
لعلك أدركت أيها القارئ أنني أخوض معك في موضوع قريب إلى ذهنك بقدر ما ألح عليه ، وما أكثر ما ألح ، بل ما أصرح ما ألح ، حين ارتفعت ولا تزال ترتفع ، في الانتخابات السياسية والنقابية في مصر رايات مضمونها ( يا دولة الإسلام عودي ، الإسلام هو الحل ، إسلامية إسلامية ) .
وهي رايات لا تدري أهي دين أم سياسة ، لكنك تجد مخرجاً في تصور مصدريها أن الدين والسياسة وجهان لعملة واحدة ، وأن تلك الأقوال تعبير عاطفي عن شعارات الإخوان المسلمين القديمة ، بأن الإسلام دين ودولة ، مصحف وسيف . . . الخ .
وقبل أن تسألني ( وهل تنكر ذلك ) يجدر بي أن أضعك أمام وجهتي نظر ، كل منهما تقبل الاجتهاد ، بل وقبل ذلك كله ، تقتضي الإجهاد ، وأقصد بذلك إجهاد الفكر بحثاً عن حقيقة غائبة .
أما وجهة النظر الأولى ، ولا أشك أنها وراء ما ذكرت من دعاوى ، فأنها تتمثل في إن المجتمع المصري مجتمع جاهلي أو بعيد عن صحيح الدين .
وبين مقولة تجهيل المجتمع ، ومقولة الابتعاد عن صحيح الدين ، تتدرج مواقف القائلين بين التطرف لأصحاب المقولة الأولى ، والاعتدال للقائلين بالثانية ، لكنهم جميعا متفقون على أن نقطة البدء بالحل تكمن في التطبيق الفوري للشريعة الإسلامية ، وأصحاب وجهة النظر هذه يطرحون خلف ظهورهم خلافهم حول رأيهم في المجتمع الحالي ، ويستقرون بدعوة تطبيق الشريعة ، مؤكدين أن هذا التطبيق ( الفوري ) سوف يتبعه صلاح ( فوري ) للمجتمع ، وحل ( فوري ) لمشاكله .
هذا عن وجهة النظر الأولى ، أما وجهة النظر الثانية ، فلعلي ألمح على وجهك قبل أن أعرضها تساؤلاً مضمونه ( وهل هناك وجهة نظر ثانية ) ، ولعلي أتلمس خلف هذا التساؤل تصوراً بأن وجهة النظر الثانية لابد وأن تتناقض مع ما توصلت إليه وجهة النظر الأولى ، وأنها تصبح والأمر كذلك مصطدمة أو متصادمة مع دعوة لتطبيق أصل من أصول العقيدة .
لكني أبادر فأطمئنك بأن وجهة النظر الثانية ، لا تناقض الإسلام بل تتصالح معه ، ولا تأتي من خارجه بل تخرج من عباءته ، ولا تصدر عن مارق بل تصدر عن عاشق لكل قيم الإسلام النبيلة والعظيمة ..
إن وجهة النظر الثانية تستند إلى مجموعة من الفروض يمكن عرضها فيما يلي :
أولا : إن المجتمع المصري ليس مجتمعاً جاهلياً ، بل هو أحد أقرب المجتمعات إلى صحيح الإسلام إن لم يكن أقربها ، حقيقة لا مظهراً ، وعقيدة لا تمسكاً بالشكليات، بل أن التمسك الأصيل والشديد بالقيم الدينية يمكن أن يمثل ملمحاً مصرياً .
يصدق هذا على موقف المصريين من العقائد الدينية الفرعونية قبل ظهور الأديان السماوية ، بقدر ما يصدق على موقف المصريين من الدين المسيحي قبل دخول الإسلام مصر ، بقدر ما يصدق أيضاً بدرجة أوضح من كل ما سبق على موقف المصريين من الإسلام ، والشواهد على ذلك كثيرة ، بدءاً من تردد المصريين على المساجد وحماسهم ، وتنافسهم على مركز الصدارة في عدد الحجاج من بلاد العالم الإسلامي كله ، واحتفائهم بالأعياد الدينية ، بل وتحول شهر رمضان إلى عيد ديني قومي لا يمكن تبرير الشغف به ، والاحتفاء بحلوله ، والحسرة على انتهائه إلا بأصالة وعمق الشعور الديني ، وانتهاء بما ساهمت مصر في مجال العقيدة والاجتهاد ، بدءاً بالليث بن سعد ، وفقه الشافعي في مصر ، وانتهاء بالأزهر الشريف ودوره كمنارة للفكر الإسلامي .
ثانياً : إن تطبيق الشريعة الإسلامية ليس هدفاً في حد ذاته ، بل إنه وسيلة لغاية لا ينكرها أحد من دعاة التطبيق وأقصد بها إقامة الدولة الإسلامية ، وهنا مربط الفرس ومحور النقاش ، ودعاة تطبيق الشريعة الإسلامية كما سبق وذكرنا يرفعون شعار أن الإسلام دين ودولة ، والشريعة الإسلامية في مفهومهم تمثل حلقة الربط بين مفهوم الإسلام الدين ومفهوم الإسلام الدولة ، ليس ربطاً بين مفهومين مختلفين ، بل تأكيداً على أنهما وجهان لعملة واحدة – في رأيهم – وهي صحيح الإسلام .
هنا ينتقل النقاش إلى ساحة جديدة ، هي ساحته الحقيقة ، وهي ساحة السياسة ، وهنا يطفو على سطح النقاش سؤال بسيط وبديهي ، ومضمونه أنهم ما داموا قد رفعوا شعار الدولة الإسلامية وانتشر أنصارهم بين الأحزاب السياسية يدعون لدولة دينية يحكمها الإسلام ، فلماذا لا يقدمون إلينا – نحن الرعية – برنامجاً سياسياً للحكم ، يتعرضون فيه لقضايا نظام الحكم وأسلوبه ، سياسته واقتصاده ، مشاكله بدءاً من التعليم وانتهاء بالإسكان ، وحلول هذه المشاكل من منظور إسلامي .
أليست هذه نقطة ضعف جوهرية يواجههم بها من يختلفون معهم سواء بحسن نية ، وهو ما نظن ، أو بسوء نية ، وهو ما يعتقدون وما يتعين عليهم سد ذرائعه حتى لا يتركوا لأحد مجالاً لنقد أو رفض .
هنا يبدو الأمر منطقياً لا تناقض فيه ، وهنا يصبح رفعهم شعار الدين والدولة معاً أمراً مقبولاً ، وهنا يصبح رفضهم لفصل الدين عن السياسة وأمور الحكم رفضاً له من الوجاهة حظ كبير ، وله من المنطق سند قوي ، بل وأكثر من ذلك تصبح قضية تطبيق الشريعة الإسلامية جزءاً من كل ، وهي جزء لا يتناقض مع الكل بحال بل يتناسق معه ، ففي مجتمع الكفاية والعدل ، حيث يجد الخائف مأمناً ، والجائع طعاماً ، والمشرد سكناً ، والإنسان كرامة ، والمفكر حرية ، والذمي حقاً كاملاً للمواطنة ، يصعب الاعتراض على تطبيق الحدود بحجة القسوة ، أو المطالبة بتأجيل تطبيقها بحجة المواءمة ، أو عن قبول بارتكاب المعصية اتقاء لفتنة ، أو تشبها بعمر في تعطيله لحد السرقة في عام المجاعة ، أو لجوءاً للتعزير في مجتمع يعز فيه الشهود العدول .
لعلك متفق معي – أيها القارئ – فيما توصلت إليه من أن مسألة كهذه ، يحب ألا تفوت على المشتغلين بالعمل السياسي الديني ، بل لعلك تتجاوز التعجب إلى الاعتقاد بأن هذا أمر يسير وأنه إلى تدارك ، بل ربما اعتقدت عن تفاؤل بأنه أمر سهو ، وأن السهو إلى زوال ، لكني لا أشاركك تفاؤلك ، لسبب يعلمه دعاة تطبيق الشريعة ويعانون منه ، وأقصد به عقم الاجتهاد ، بل إن شئت الدقة اجتهاد العقم ، وخوف الاختلاف ، بل إن شئت الدقة خلف الخوف ، وطمع الاستسهال ، بل إن شئت الدقة استسهال الطمع ، وعجز القدرة ، بل إن شئت الدقة قدرة العجز .
ليس فيما أقوله بلاغة باللفظ ، بل هي حقيقة تستطيع أن تلمس عشرات الأمثلة على صدقها ، ودونك أيها القارئ العزيز ما حدث في قوانين الأحوال الشخصية ، والتي شهدنا ثلاثة منها في عشر سنوات ، أثار الأول منها ثائرة المدافعين عن حقوق المرأة فكان القانون الثاني الذي أثار حفيظة المدافعين عن حقوق الرجل ، فكان الثالث الذي هدأت به ثائرة الثائرين إلى حين ، على الرغم من أن قانون الأحوال الشخصية جانب هين من جوانب أي برنامج سياسي ، بل أنه أسهل جوانب تطبيق الشريعة الإسلامية ، لأنه لا خلاف عليها أو حولها في كونها المصدر الوحيد للتشريع في هذا المجال ، وهي في النهاية قضية يبدو وجهها الديني أكثر وضوحاً من أي وجه آخر .
لكن المشكلة أتت من مواجهة العلماء لعالم جديد ، ترتبت فيه للمرأة حقوق لم تترتب في عصر سابق ، وأصبح عمل المرأة على سبيل المثال واقعاً لا منـّة أو منحة ، وحقاً مكتسباً لا سبيل إلى مناقشته ، وطرحت المتغيرات الجديدة في المجتمع من الظروف ما لا سابقة له في عهد مالك أو أبي حنيفة أو الشافعي أو ابن حنبل ، فأزمة الإسكان قائمة ، بل إن هناك ما لم يعرفه الفقهاء الأربعة حين ناقشوا هذه القضية ، من حكم الشقة المستأجرة أو ( التمليك ) ، وهي كلها أمور أوقعت العلماء في حيص ( و هو الاختلاف بينهم ) ، وفي بيص ( وهو الخلاف بينهم من ناحية وبين قطاعات كبيرة في المجتمع من ناحية أخرى ) .
وفي كل حال من الأحوال الثلاث – أقصد القوانين الثلاثة – وجد العلماء ضالتهم في الانتقال من مالك إلى أبي حنيفة ، فإن لم يجدوا انتقلوا إلى فتاوى فقهاء أقل حظاً من الشهرة من أمثال سهل بن معاوية ، وهم في كل الأحوال لم يتجاوزا القرن الثاني الهجري قيد أنملة ، أو إن شئنا الدقة قيد عام .
ماذا سيكون الحال إذا تطرق الأمر إلى مجال الاقتصاد ، وشغل دعاة الدولة الإسلامية أنفسهم بقضية زيادة الإنتاج في المجتمع ، وفوجئوا بحجم استثمارات القطاع العام التي تتراوح بين ثلاثين إلى خمسين مليار جنية ، يعتمد تمويلها على مدخرات المصريين في بنوك القطاع العام . والمدخرات في صورة ودائع ، والودائع تستحق فوائد ، وآخر اجتهادات القرن الثاني الهجري ، والتي لم تعاصر قطاعاً عاماً أو بنوكاً أدخلت العائد الثابت للمدخرات في دائرة الربا ، وآخر ما و صل إليه الداعون للدولة الإسلامية هو الركون إلى اجتهادات هؤلاء الفقهاء ، وكأنها تنزيل من التنزيل ، ماذا سيكون الحال ؟ ..
مأزق إن تجمدوا ، وبرنامج سياسي إذا اجتهدوا ، ولعل أول الحالين أقرب لتصوير الواقع ، فالتصوير أهون من التطوير ، والحكم بخروج المجتمع كله من دائرة الإيمان أسهل ، والحكم بعدم مشروعية الفوائد أيسر ، وتجهيل المجتمع ومؤسساته أضمن ، والنحو باللائمة على الزمان أسهل السبل ، والترحم على الشاعر العربي وارد حين قال ( نعيب زماننا والعيب فينا ) ، هذا عن هين الأمور ، وأقصد به التفصيلات ، أما أصعبها وأقصد به الأمور العامة ، والمنظمة لأسلوب اختيار الحاكم أو أسلوب الحكم أو العلاقة بين السلطات فإن تناول أي منها هو المحك الحقيقي لدعوة ( الدولة الدينية ) بعيداً عن سجع الألفاظ وشقشقات البلاغة .
وأنت في طرحك للأسئلة وبحثك عن الإجابات تكتشف أنك في سباق للموانع ، ومباراة لاستعراض حجم ضخم من الخلافات التي لم تحسم ، ولم يمنع عدم حسمها ، نتيجة غياب الاجتهاد المستنير ، أن يدعوك البعض إلى خوض التجربة ، وأن يتحاشى الجميع الخوض فيها إيثاراً لراحة البال ( بالهم هم ) ، وتجنباً للخلاف ( خلافهم هم ) ، وهم في كل الأحوال في مأمن ، إن أعجزتهم الإجابة أفتوا بأنك لا تملك أدوات البحث في القضايا الدينية ، وإن أفحمهم المنطق تنادوا بأنك عميل للإمبريالية ، أو متأثر بالشيوعية ، أو ناطق بلسانهما معاً .
وحتى لا تتحول القضية إلى تراشق فإنني سأحاول معك أن أستعرض بعضاً من تلك الموانع التي أشرت إليها ، ولنبدأ بالحاكم ، وبديهي أن أول ما سيتبادر إلى ذهنك هو الشروط التي يجب أن تتوافر فيه ، وقد تتصور أن الشروط سهلة ، وأنها يمكن أن تتمثل في كونه مسلماً عاقلاً رشيداً إلى آخر هذه الأوصاف العامة ، لكنك تصطدم بشرط غريب ، تذكره كثير من كتب الفقه ، وهو أن يكون ( قرشياً ) ، وقد تتعجب من أن ينادي البعض بهذا الشرط باسم الإسلام ، الذي يتساوى الناس أمامه ( كأسنان المشط ) ، والذي لا يعطي فضلاً لعربي على عجمي إلا بالتقوى .
وقد يتبادر إلى ذهنك خاطر غريب ، وإن كان صحيحاً ، يتمثل في أن هذا الشرط قد وضع لكي يبرر حكم الخلفاء الأمويين أو العباسيين ، وكلهم قرشي ، بل قد يتداعى إلى ذهنك ما قرأته في كتب التاريخ القريب عن الملك فاروق في أول عهده ، حين قدمه محترفو السياسة إلى المصريين في صورة الملك الصالح ، وظهر في الصور بلحيته ومسبحته ونصف إغفاءة من عينيه ، وتسارع بعض رجال الدين ( الطموحين ) إلى المناداة به ملكاً ( وإماماً ) للمسلمين ، واجتهد الأذكياء منهم في إثبات نسبه للرسول ، وتبارى الإعلام في الإعلان عن هذا النسب وتأكيده ، تحقيقاً لشرط من شروط الإمامة ، وسداً للذرائع على المعترضين .
ولعلك مثلي تماماً لا تستريح لهذا الشرط ، الذي يصنف المسلمين إلى أصحاب دم أزرق وهم القرشيون الحكام ، وأصحاب دم أحمر ينتظم الأغلبية ، لكنهم يواجهونك بحديث نبوي مضمونه أن الإمامة من قريش ، وتتبادر إلى ذهنك في الحال عشرات الأحاديث التي وضعها الوضاعون ، والتي و صلوا فيها إلى تسمية الخلفاء العباسيين وتحديد موعد خلافتهم بالسنة واليوم ، وهي كلها أحاديث وضعها من لا دين لهم هوى الحكام ، ولا ضمير لهم ولا عقيدة ، لكنك في نفس الوقت تخشى من اتهامك بالعداء للسنة ، خاصة من الذين قصروا دراستهم للأحاديث النبوية على أساس السند وليس على أساس المتن ( أي المعنى والمضمون ومدى توافقه مع النص القرآني ) .
ولا تجد مهرباً إلا بتداعيات اجتماع سقيفة بني ساعدة في المدينة ، والذي اجتمع فيه الأنصار لانتخاب سعد بن عبادة ، وسارع أبو بكر وعمر وأبو عبيده الجراح إليهم ورشحوا أبا بكر ، ودار حوار طويل بين الطرفين ، انتهى بمبايعة أبي بكر ، وأنت في استعراضك للحوار ، لا تجد ذكراً للحديث النبوي السابق ، وهو إن كان حديثاً صحيحاً لما جرؤ سعد بن عبادة سيد الخزرج على ترشيح نفسه ، ولكفى أبا بكر وعمر والجراح مؤونة المناظرة ، ولما فاتهم أن يذكروه وهو في يدهم سلاح ماض يحسم النقاش ، ويكفي أن تعلم أن سعد بن عبادة ظل رافضاً لبيعة أبي بكر إلى أن مات ، ولم يجد من يأخذ بيده إلى هذا الحديث فيبايع عن رضى وهو الصحابي الجليل ذو المواقف غير المنكورة في الإسلام ، غير أن لكل ظاهرة سيئة وجهها المفيد ، فقد انبرى أصحاب الرأي الآخر ، والذين يؤمنون بحق الاكفأ في الحكم دون اعتبار لنسبه إلى ذكر أحاديث مضادة بمنطق " وداوها بالتي كانت هي الداء " ، مضمونها أنه لا مانع من أن يحكم المسلمين عبد حبشي أسود ( كأن رأسه زبيبة ) فأعادوا للمنطق توازنه ، وأعطوا لكثير من الطوائف الإسلامية التي نشأت فيما بعد سنداً لرأيهم المعارض لخلافة العباسيين ، وإن كانت نتيجة ذلك كله ، وضع المانع الأول في مسيرة الدولة الإسلامية ، وهو الخلاف الفقهي حول نسب الحاكم وهل يكون بالضرورة قرشياً أم أنه الاكفأ بغض النظر عن نسبه ، ولا عبرة هنا بالمنطق أو بواقع الحال ، فسيف إنكار الحديث وارد على رقاب كل من الطرفين ، في قضية أتصور أنا وأنت أنها هينة سهلة ، لا تستحق عناء ولا تقتضي طول بحث ، ولا تنتقل منها أو تتجاوزها إلى أسلوب تولية الحاكم حتى تكتشف مانعاً ضخماً يدور حوله الجدل إلى اليوم ولا يقنع المتجادلون فيه بمنطق بسيط وواضح وهو أن القرآن لم يترك قاعدة في هذا الأمر ، والرسول لم يعرض لها من قريب أو بعيد وإلا لما حدث الخلاف والشقاق في اجتماع السقيفة ، ولما رفض على قبول تولية أبي بكر ومبايعته على اختلاف في الرواية بين رفضه المبايعة أياماً في أضعف الروايات ، وشهوراً حتى موت فاطمة في أغلبها ، بل إن أسلوب السقيفة لو كان هو الأصح ، لاتبعه أبو بكر نفسه وترك تولية من يليه إلى المسلمين أو أهل الحل والعقد منهم ، وهو ما لم يفعل حين أوصى لعمر بكتاب مغلق بايع عليه المسلمون قبيل وفاته دون أن يعلموا ما فيه ، وهو أيضاً مرة أخرى ما خالفه عمر في قصر الاختيار بين الستة المعروفين ، وهم على وعثمان وطلحة والزبير وابن عوف وسعد ، وهو ما اختلف عن أسلوب اختيار على ببيعة بعض الأمصار ، ومعاوية بحد السيف ، ويزيد بالوراثة .
أنت هنا أمام ستة أساليب مختلفة لاختيار الحاكم ، يرفض المتزمتون تجاوزها ، ويختلفون في تفضيل أحدها على الآخر ، ويرى المتفتحون أن دلالتها الوحيدة أنه لا قاعدة ، وأن الإسلام السمح العادل ، لا يرفض أسلوب الاختيار بالانتخاب المباشر أو غير المباشر ، وهو ما لا أظن أنه كان يوماً ، حتى يومنا هذا محل اتفاق أو قبول عام من أنصار الدولة الدينية .
ولعلي لا أتحدث من فراغ ، بل أصدر عن واقع النظم الإسلامية المعاصرة في عالمنا الحديث ، فهناك بيعة أهل الحل والعقد ( المختارون ) في السعودية مع قصر الترشيح على أفراد الأسرة المالكة ، وهناك المبايعة على كتاب مغلق يكتبه الحاكم ويوصى فيه لمن يليه اشتقاقاً من أسلوب اختيار أبي بكر لعمر ، في السودان في عهد النميري، وهناك ولاية الفقيه في إيران ، وهناك اعتبار الموافقة في الإستفتاء على الشريعة الإسلامية موافقة ضمنية على الحاكم واختياراً له في الباكستان ، وهناك في كل الأحوال مانع جديد يضاف إلى ما سبق ، وهو أن مدة تولية الحاكم في كل الأحوال السابقة مستمرة مدى حياته ، ولا عبرة في ذلك بأن البيعة على أساس الالتزام بكتاب الله وسنة رسوله ، وأن الحاكم يعزل إذا خالف ذلك ، فما أكثر ما خالف ، دون أن يعزل أو حتى يعترض عليه قديماً كان أو حديثاً ، وحديث التاريخ في هذا ذو شجون بل قل ذو جنون ، سواء في تطرف الحاكم في خروجه على صحيح العقيدة أو تطرف الرعية في الخنوع لإرادته والخضوع لبطشه ، ولعل القارئ يلاحظ أنني قد تشددت في العبارات الأخيرة حتى أستلهم في ذهن دعاة الدولة الدينية رداً منطقياً بأن الشورى مانعة لبطش الحاكم ، حافظة لحق الرعية ، غير أني آسف إذا ذكرت لهم أن هذا بدوره يقود إلى مانع جديد هو الخلاف حول كنه الشورى ، وهل هي ملزمة للحاكم وهو رأي الأقلية أم أنها غير ملزمة له وهو رأي الأغلبية التي تفرق بين كون الحاكم ملزماً بأن يستشير ، وبين كونه في نفس الوقت غير ملزم باتباع رأيهم حتى إن اجتمعوا عليه جميعهم أو أغلبهم .
لقد أدرك بعض المخلصين من الدعاة أنهم يواجهون من ظروف المجتمعات الحديثة ما لم يواجهه السلف ، وأن الديموقراطية بمعناها الحديث ، وهو حكم الشعب بالشعب لا تتناقض مع جوهر الإسلام وأن اجتهادات المؤمنين بالديموقراطية ، والتي تمخضت عن أساليب الحكم النيابي ، والانتخابات المباشرة ، لا يمكن أن تصطدم بجوهر العدل في الدين الإسلامي ، وروح الحرية التي تشمل ويشملها ، ومن أمثالهم الأستاذ الكبير خالد محمد خالد والعالم الجليل محمد الغزالي ، لكنهم واجهوا تياراً كاسحاً من الرفض لما أملاه عليهم اتساع أفقهم ، وفهمهم لجوهر العقيدة الأصيل ، وانبرى زعماء التيارات الثورية والتقليدية في نقد الآراء وتفنيدها ، لا فرق في هذا بين معتدل أو متطرف ، ودونك ما نشر على لسان الأستاذ عمر التلمساني والأستاذ عمر عبد الرحمن وهو في مجمله يرفض مقولة حكم الشعب بدعوى أن الحكم لله ، وهو أمر لو أمعنت النظر فيه لما وجدت تناقضاً ، لكنهم يحاولون تأصيل منهجهم بافتراضات منها أن الأغلبية قد تقر تشريعاً يعارض شريعة الله ، وأن التسليم بحق المجالس النيابية في التشريع سلب لحق إلهي ثابت ومقدس ، وهو كونه جل شأنه المشرع الأكبر والوحيد .
وأنها – أي الديموقراطية – قد تعطل النص الشرعي بالرأي الشخصي ، وهكذا أيها القارئ لا تنتهي عقبة أو مانع إلا وتظهر عقبة جديدة أو مانع جديد ، وهي كلها موانع قد يسعد بها المجتهدون المتفتحون ، لأنها تفتح أمامهم باباً واسعاً للرأي وللاجتهاد دون خروج على صحيح الدين ، ودون تصادم مع روح العصر ، لكنها في الجانب الآخر تفزع من ركنوا إلى اجتهادات السلف أيما فزع ، وتضعهم بين شقي الرحى ، إن دارت يميناً طحنت برفض العصر ، وإن دارت شمالاً طحنت برفض العقل ، وإن سكنت أبقتهم حيث هم ، يهربون من الأصل إلى الفرع ، ويخفون منطقاً أواجههم به ، بل إن شئت الدقة أتحداهم به ، وهو أن الشريعة وحدها لا تستقيم وجوداً أو تطبيقاً إلا في مجتمع إسلامي أو بمعنى أدق دولة دينية إسلامية ، وأن هذه الدولة والجزئيات ، وأنهم أعجز من أن يصيغوا مثل هذا البرنامج أو يتقدموا به ، وأنهم يهربون من الرحى برميها فوق رؤوسنا ، داعين إيانا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية ، التي تقودنا بالحتم إلى دولة دينية إسلامية ، نتخبط فيها ذات اليمين وذات اليسار ، دون منارة من فكر أو اجتهاد مستنير ، وليحدث لنا ما يحدث ، وليحدث للإسلام ما يحدث ، وما علينا إلا أن نمد أجسادنا لكي يسيروا عليها خيلاء ، إن أعجزهم الاجتهاد الملائم للعصر رفضوا العصر ، وأن أعجزهم حكم مصر هدموا مصر .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: فاروق جويده \ الحقيقة الغائبه \ (1) (Re: smart_ana2001)
|
العزيز smart ana 2001 .. ســلام والله جهد مقدر، ونحـن في امـس الحـاجة لاعادة قراءة منجزات المتميز الدكتور فرج فودة و أتمـنى أن يمتـد جهـدك ليشمل "ما قبل السقوط" و"السقوط" لأنهـا منجزات مهمة وجديرة بالقراءة مرات ومـرات. بس ياريت تلحق تصحح العنوان وتكتب فرج فودة بدل فاروق جويدة
ودمت محمد النوركبر
| |
|
|
|
|
|
|
|