كتاب قراءة نقدية للاسلام - محاولة لطرح حوار هادئ

كتاب قراءة نقدية للاسلام - محاولة لطرح حوار هادئ


12-28-2004, 10:12 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=95&msg=1104225131&rn=1


Post: #1
Title: كتاب قراءة نقدية للاسلام - محاولة لطرح حوار هادئ
Author: Mohammed Elhaj
Date: 12-28-2004, 10:12 AM
Parent: #0

قبل فترة نشر الاخ ودشاموق بوست استفسر فيه عن نشر كتاب بعنوان (قراءة نقدية للاسلام) للدكتور كامل النجار، تحصلت عليه و قرأته، الكتاب به نقد كثيف جداً للاسلام ، بدءا من حياة و سيرة الرسول ثم دراسة للقرآن تحدث فيها عن تناقضات الاسلام مع العلم الحديث و الفكر ثم حديث عن المرأة في الاسلامثم تحدث عن الجهاد في الاسلام و الرق ....

ساقوم بنشر الكتاب في اجزاء و اعلم انه قد يثير الكثير من العواصف و الاعاصير لكن انا شخصيا و ا شخص سيقرأ الكتاب او اي كتاب سيحتاج لمناقشته بشكل (هادئ) و عميق جداً دون تطرف او مغالاة خصوصا ان الكاتب حاول بشدة ان يظل موضوعياو اظنه نجح في ذلك بشكل جيد يجب مناقشة مراجعه و دقة التزامه بها - هذا ما احاوله جاهدا الان و لعلي اجد عونا منكم و مطابقة الوقائع التي ذكرت ثم مجاراة تحليلاته ...

قراءة نقدية للإسلام

الدكتور كامل النجار
المقدمة

ترددت كثيراً قبل ان أكتب هذا الكتاب لأني أخشى ان تثور عليّ عقولٌ قد حكم عليها علماء المسلمين بالتحجر من قبل ستمائة عامٍ لما أغلقوا باب ألاجتهاد في القرن الرابع عشر. ومنذ ذلك الحين لم يتجرأ أحد أن يقرأ القرآن قراءة نقدية لأنه سوف يُرمى بألالحاد والهرطقة كما رُمى غيره، ولن يكون مصيره أحسن حالاً ممن سبقوه. ففي العصر الحديث هناك عدة كُتّاب وباحثين اصابهم الاذى من المتشددين عندما حاولوا دراسة الاسلام دراسة نقدية. فالكاتب الايراني علي الدشتي سجنه الخميني لمدة ثلاثة سنوات ومات في ظروف غامضة إثر نشر كتابه " ثلاثة وعشرون عاماً 23 Years " الذي انتقد فيه الاسلام. وفي مصر عندما قال الشيخ علي عبد الرزاق الذي كان استاذاً بالجامع الازهر، يجب فصل الدين عن الدولة، قامت الدنيا ولم تقعد حتى تكونت لجنة من العلماء الاسلاميين لمحاكمتة في عام 1925، واصدرت حكمها بإدانة عبد الرزاق وفصله من منصبه بالجامع الازهر ومنعه من تقلد أي منصب ديني في البلاد.[1] وحتى الدكتور طه حسين عندما علق على بعض النقاط في القرآن في كتابه " الشعر الجاهلي"، ثارت ثورة المتعصبين حتى طُرد الدكتور طه حسين من جميع مناصبه الحكومية. وفي السودان عندما أنشأ الاستاذ محمود محمد طه حزب " ألاخوان الجمهوريين" وحاول تقليل دور الشريعة في قوانين الدولة، اتهموه بالالحاد وحرقوا كتبه. ولما قال الاستاذ محمود محمد طه انه وصل مرحلةً من العلم جعلت الفرائض العادية كالصلاة لا تنطبق عليه، وهي نفس المقولة التي قالها الصوفيون في القرن الحادي عشر، وجد الاسلاميون فرصتهم سانحة فحكموا عليه بالاعدام وشنقوه عام 1985

وإذا رجعنا الى ما يسمى بالعصر الذهبي للاسلام، وهو عصر الدولة العباسية، وقبله لفترة وجيزه، الدولة الاموية، نجد ان الذين تجرأوا وانتقدوا الاسلام لاقوا نفس المصير الذي لاقاه المتنورون في العصر الحديث. فعندما اعتلى الخليفة المامون العرش، تبني افكار المعتزلة وقال ان القرآن مخلوق، وجعل اجهزة الدولة تُملي هذا الرأي على العلماء. ولكن عندما تولى المتوكل زمام الامور في عام 847 أصدر أوامره بعقاب كل من يقول ان القرآن مخلوق. وسرعان ما أمسك الرجعيون بهذه الذريعة ورموا كل من تجرأ واظهر اي رأي مخالف لهم بالزندقة. وحتى في الدولة الاموية اتهموا المتنورين بالزندقة وقتلوهم. وكان أول من قتلوه بتهمة الزندقة رجل يُدعى جاد بن درهم، قُتل بأمر الخليفة الاموي هشام بن عبد الملك عام 742. وكانت جريمة هذا الرجل انه قال ان الله لم يكلم موسى ولم يتخذ ابراهيم خليلاً. وفي عهد الخليفة العباسي المنصور بدأت محاكم التفتيش ضد الزنادقة، وعينوا مفتشاً عاماً كان يُعرف باسم " صاحب الزنادقة". وفي هذه الفترة قتلوا كل من شكوا فيه، وكان من جملة الذين قُتلوا أبن المقفع الذي كان قد انتقد الاسلام ورسوله محمد، وكذلك أبن أبي العوجاء.[2] وكذلك الشاعر بشار بن بُرد الذي قُتل عام 784، وصالح بن عبد القدوس الذي قتُل عام 783. وأبو عيسى محمد بن هارون الوراق نفوه الى الاهواز ومات بها عام 909. وأخيراً وليس آخراً حسين بن منصور(الحلاج) وقد كان متصوفاً يحب الذات العليا ويكاد يندمج معها من كثرة حبه لها. دعاه هذا الحب الى ان يقول " أنا الحق". وبما أن الحق اسم من اسماء الله الحسنى، أتهموا الحلاج بالزندقة وحكموا عليه بالصلب. وعندما رأى الصليب منصوباً والناس متجمهرة حوله قال، مخاطباً الله: " وهولاء عبيدك الذين اجتمعوا هنا اليوم لقتلي دفاعاً عن دينك وطمعاً في كسب اجرك، أغفر لهم يا ربي واغدق عليهم رحمتك".[3]

والتعصب الديني ليس وقفاً على الاسلام، ففي العام 399 قبل الميلاد عندما كانت أثينا باليونان مركزاً للآلهة اليونانيين الذين سكنوا " ألاكروبوليس"، حكمت محكمةٌ في أثينا على سقراط، أعظم الفلاسفة على ألاطلاق، بأن يشرب السم ويموت لانه لم يؤمن بآلهتهم الذين كانوا يسكرون ويتشاجرون فيما بينهم، تماماً كما كان يفعل الاثينيون أنفسهم. ومات سقراط مسموماً.

وفي القرن السادس عشر بعد الميلاد عمّت اوربا المسيحية موجةٌ من التعصب الكنيسي لم يسبق لها مثيل. وتبارت المدن في إنشاء محاكم التفتيش التي كانت قد ابتدأت في إسبانيا. وفي العام 1553 تمت إدانة طبيب إسباني كان يعمل في سويسرا بالهرطقة. أسم هذا الطبيب هو ميكائيل سرفيتيوس.حكموا عليه بأن يُحرق حياً لأنه رفض ان يؤمن بتعميد الأطفال " ".Christening" وبالثالوث " الله والابن والروح القدس". ونُفذ الحكم يوم 27 أكتوبر 1553.

وفرنسا التي نقول عنها داعرة، كانت في قبضة محاكم التفتيش كذلك. ولما شعر رجال الكنيسة في فرنسا أن سويسرا قد فازت بجائزة حرق سرفيتيوس، صنعوا تمثالاً لسرفيتيوس وحرقوه حتى لا يفوتهم أجر حرق الملحدين. وقام زعيمهم " ميلانكتون" وخطب فيهم وحمد الله على معاقبة هذا الرجل الملحد وقال إن حرقه يدل على ورع أهل سويسرا. شخص واحد فقط تجرأ على الدفاع عن سرفيتيوس وهو " جوريس البازلي" ولكنه نشر دفاعه تحت أسمٍ مستعار. ولما توفى جوريس واكتشفوا انه هو الذي دافع عن سرفيتيوس، نبشوا قبره واخرجوا جثته وحرقوها عام 1566.

وفي الشام كانت هناك فيلسوفة وثنية أسمها هيبا شيا الاسكندارية كانت تعلم الناس الافلاطونية المحدثة ورفضت تهديدات الاسقف كيرلس لها لتعتنق المسيحية. فسلط الاسقف عليها زبانيته من الرهبان والجنود في جيش الكنيسة، فترصدوا بالفيلسوفة وانتزعوها من عربتها وسحبوها الى كنيسة قيصرون وراحوا يلهون بتجريدها من ملابسها ثم جروها الى الشارع ورجموها بالحجارة فلما اصبحت جثة هامدة مثلوا بها أشنع تمثيل إذ قطعوها إرباً وألقوا بعض أشلائها طعماً للنيران، ودفنوا ما بقى من أشلاء في مكان خرب.[4]

وعلماء المسلمين لم يكونوا أقل ورعاً عن زملائهم السويسريين، فحرقوا المفكرين بحجة الزندقة، كما رأينا. والمأساة الحقيقية أن كل رجال الدين من أغريق وفرنسيين واسبانيين وغيرهم وضعوا نصب أعينهم صخرةً ضخمة تمثل في أذهانهم الدين الحق الذي لا يتغير ولا يتطور. وفات عليهم أن يروا ما بداخل الصخرة. ويُحكى أن طفلاً مر على نحّات كان يتأمل صخرةً من الجرانيت، وقال الطفل للنحات: ما الذي تبحث عنه؟ فقال له النحات: أصبر بضعة أيام وسوف تعرف. وبعد مرور عدة أيام رجع الطفل للصخرة وراى مكانها تمثالاً لحصان. وأُعجب الطفل بالحصان وظل يتأمله لفترةٍ ثم قال للنحات: إنه حقاً حصانٌ جميل، ولكن كيف عرفت انه كان داخل الصخرة.

لا نحتاج أن نقول أن عاصفة محاكم التفتيش والتزمت الديني التي اجتاحت اوربا في القرون الوسطى قد ماتت وانقشع غمامها ولم يعد الدين في أوربا فرضاً على الناس ولم يعد رجال الدين فؤوساً مسلطةً على رقاب الناس. ألاوربيون الان يعتقدون أن الدين مسألةٌ شخصية بين الانسان وربه ولا دخل للدولة فيها ولا لرجال الدين في الدولة. وفي المستقبل الذي قد يكون بعيداً ستنقشع غمامةُ التعصب الديني عن الاسلام والمسلمين، ويكتشف المسلمون عقولهم ويبدأون عملية التفكير في الدين ونقد ما لم يكن مسموحاً لهم بنقده. وبذا يتخلصون من العقلية التي سمحت ل "الطلبان" بإرجاع أفغانستان أربعة عشر قرناً للوراء، وانجبت لنا منظمة " القاعدة" التي جعلت حياة المسلمين في أمريكا وأوروبا كحياة المجرمين الذين لا يتجرأون على دخول اي من مطارات العالم خوف الذلة التي يتعرضون لها.

لا بد وأن يتبادر إلى ذهن القارئ والناقد على حد سواء، سؤال مهم ألا وهو: لماذا هذا الكتاب؟ أهو من أجل الشهرة حسب قاعدة خالف تُعرف؟ أم من أجل الثراء السريع؟ أما الإسلامي الأصولي المتشدد فلابد وأن يذهب إلى أبعد من ذلك ويُقسم ان هذا الكتاب جزءٌ من المؤامرة التي تقودها القوى الصليبية والإمبريالية والاستعمارية والصهيونية على الإسلام والمسلمين!!
وجوابي على هؤلاء، بالتأكيد ليس من أجل الشهرة لأني أخشى الشهرة في مثل هذه الظروف. كذلك ليس للثراء ، لأن الكاتب العربي لا يمكن أن يحقق أي ثروة من نشر كتاباته إلا ما ندر، بل غالباً ما يدفع المؤلف تكاليف الطباعة والنشر من جيبه دون أي ربح مادي. ولكن السبب الحقيقي لنشر الكتاب هو أبعد من ذلك، ألا وهو ما يشعر به المثقف الواعي من مسئولية إخلاقية وعلمية وتاريخية إزاء الأمة والإنسانية، خاصة عندما يرى الأمة مهددة بالإنقراض بينما الأمم الأخرى تحث الخطى في سباق مستمر نحو التقدم السريع في عصر العولمة والتكنولوجية المتطورة والثورة المعلوماتية المدهشة التي حولت العالم إلى قرية صغيرة، في الوقت الذي يحاول السلفيون المتشددون وضع المسلمين في شرنقة السلفية وعزلهم عن العالم والعودة بهم بالقوة إلى الوراء، إلى العصور الغابرة باسم الإسلام النقي أيام السلف الصالح كما حصل في أفغانستان أيام حكم الطالبان.

نعم أن العالم العربي يمر في مرحلة عصيبة، ولكن من المسئول عن هذه المحنة التي يمر بها العرب والمسلمون عامةً؟ لا شك أنها من صنع العرب والمسلمين أنفسهم ورغبتهم العارمة بالرجوع بانفسهم الى عصر الاسلام الذهبي قبل اربعة عشر قرناً من الزمان. وقاد هذا الهوس بالماضي الجماعات السلفية الي تنفيذ فاجعة 11 سبتمر عام 2001 التي جعلت الإسلام مرادفاً للإرهاب والمسلم مرادفاً للإرهابي، وقسّموا العالم إلى معسكرين متناحرين في رأيهم: (إما فسطاط الإيمان أو فسطاط الكفر.. وإما نحن وإما هم ولا يمكن التعايش بينهما!!) على غرار بعض المتشددين الغربين الذين قالوا: (الغربُ غربٌ والشرقُ شرقٌ ولا يلتقيان). وهذه النزعة الإنتحارية هي ضد الإنسانية والحضارة العالمية، ناهيك عن تناقضها تماماً مع روح الاديان وجوهرها.

إن القوة الدافعة وراء المتطرفين لإرتكاب ما يرتكبون من فظائع هي إعتقادهم بأن سبب تدهور الأمة في الوقت الراهن ناتج عن تخلي المسلمين عن الإسلام النقي!! والعلاج لعلتنا في رأيهم يكمن في العودة إلى التعاليم الإسلامية الأصولية المتشددة كما كان في عهد الخفاء الراشدين.

نعم، لقد جاء الإسلام في وقت كان العرب فيه مشتتين إلى قبائل متناحرة في حروب وغزوات مستمرة، لا يشعرون بالتقارب فيما بينهم ويعبدون الأصنام، فلكل قبيلة صنمها. واستطاع محمد بن عبدالله، بعد جهد جهيد وغزوات متعددة، ان يتخلص من اصنامهم ويوحد هذه القبائل العربية المتناحرة بتوحيد معبودهم وتكوين دولة قوية منهم ذات شكيمة وجيش جرار احتلت بهما العالم من أسبانيا إلى الهند والسند وأجزاءً من الصين. ونتيجة لهذا التلاقح بين الحضارات السابقة وعرب الجزيزة، الذين اتاح لهم استعمارهم للدول الاوربية والاسيوية فرصة الاختلاط بهذه الشعوب والتعرف على حضاراتهم، حصلت القفزة النوعية في التقدم الحضاري في العصر الإسلامي العباسي كان من نتيجتها ما يسمى بالحضارة الإسلامية المتقدمة التي بلغت عصرها الذهبي في عصر الخليفة هارون الرشيد.

ولكن هل كان عصر الخلفاء الراشدين عصراً اسلامياً ذهبياً كما يتوهم السلفيون؟ فاذا نظرنا لهذا العهد نجد ان الخلاف قد دب بين المسلمين بمجرد ان مات النبي. فنجد ان الانصار والمهاجرين أوشكوا ان يتقاتلوا بالسيوف علي من سيخلف الرسول، هل يكون من الانصار ام من المهاجرين. أراد ألانصار ان يبايعوا سعد بن عبادة، واراد المهاجرون ان يكون الخليفة منهم. ولما بايع عمر بن الخطاب أبا بكر قال المهاجرون لن نبايع الا علياً، واعتكف قادتهم في منزل علي بن ابي طالب . فذهب عمر بن الخطاب الى منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجالُ من المهاجرين، فقال لهم: والله لتخرجن للبيعة او لاحرقن عليكم البيت. فخرج عليه الزبير مسلطاً سيفه فعثر فسقط منه السيف، فوثبوا عليه واخذوه منه.[5]

و لما رسا ألاختيار على أبي بكر للخلافة أمتنع علي بن ابي طالب عن مبايعته لمدة ستة أشهر[6]، لاعتقاده أن الخلافة يجب أن تكون في بيت رسول الله. وكذلك لما أختاروا عثمان بن عفان للخلافة، قال عليّ ان اختيار عثمان كان خدعةً، والسبب في ذلك ان عمرو بن العاص كان قد لقي علياً وقال له ان عبد الرحمن بن عوف، الموكل باختيار الخليفة، رجل مجتهد وانك ان اعطيته العزيمة زهد فيك ولكن اعطه الجهد والطاقة، يرغب فيك. ثم ذهب عمرو الى عثمان بن عفان وقال له: إن عبد الرحمن رجل مجتهد وليس والله يبايعك على الخلافة الا بالعزيمة، فاقبل ما يقول لك. فلما وقف عبد الرحمن بن عوف في المسجد وسأل علياً: هل انت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل ابي بكر وعمر؟ قال علي: اللهم لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي ( حسب ما أوصاه به عمرو بن العاص). فسأل عبد الرحمن بن عوف عثمان نفس السؤال فقال عثمان: نعم. فاختار عبد الرحمن بن عوف عثمان للخلافة. فخرج علي من المسجد وهو يقول: خدعةٌ وايما خدعة.[7]

ولم تكن هناك مساواة بين المسلمين كما يقول الاسلام. فلما اراد عمر توزيع بيت المال، أعطى العباس، عم النبي، خمسة وعشرين ألف دينار واعطى لكل واحد من الذين شهدوا ( حاربوا في) موقعة بدر خمسة ألاف واهل القادسية والشام ( الذين حاربوا في هذه المواقع) ألفين، واعطى نساء النبي عشرة الاف لكلٍ الا اللائي كن ملك يمينه ( مثل صفية)، فقالت له نساء النبي ان النبي لم يكن يفرق بينهن، فساوى بينهن ولكن زاد عائشة ألفين لمحبتها عند الرسول.[8] فأين إذاَ حديث الرسول "المسلمون سواسية كأسنان المشط"؟ فهذا هو عمر، الخليفة العادل، يحابي أهل البيت ويفضل بعضهم عل بعض ويفضلهم على المسلمين الاخرين، رغم الحديث بتساويهم. أليست هذه النواة للفساد المالي الذي حدث في عهد الخليفة عثمان وما يحدث ألان في البلاد المحكومة اسلامياً كالسعودية والسودان؟ ففي خلافة عثمان صارت المحسوبية وصرف أموال بيت المال علي أقاربه من ألاشياء المألوفة، فقد ذكر محمد بن عمر أن عبد الله بن جعفر حدثه عن أم بكر بنت المسور عن ابيها انه قال: قدمت أبل من أبل الصدقة الى عثمان فوهبها لبعض بني الحكم ( من بني أمية) من أقاربه.[9]

وقد حابى عثمان اقاربه في كل شئ حتى ثار عليه الناس فخرج يخطب فيهم الخطبة التي نزع فيها، فقال: أما بعد أيها الناس، فوالله ما عاب من عاب منكم شيئاً أجهله، وما جئت شيئاً الا وانا أعرفه، ولكني منتني نفسي وكذبتني وضلّ عني رشدي، وسمعت رسول الله (ص) يقول: من زل فليتب ومن أخطأ فليتب ولا يتمادى في الهلكة، فأنا أول من أتعظ. أستغفر الله مما فعلت وأتوب اليه، فمثلي نزع وتاب.[10] وفي مرة اخرى عندما اجتمع الناس ببابه لاستيائهم منه، طلب من قريبه مروان بن الحكم ان يخرج للناس فيكلمهم لان عثمان قال انه يستحي ان يكلمهم. فخرج اليهم مروان وكلمهم فانصرفوا. ولما سمع علي بن أبي طالب بذلك جاء الى عثمان وقال له: لما رضيت من مروان ولا رضى منك الا بتجرفك عن دينك وعن عقلك كمثل جمل الظعينة، يقاد حيث يسار به.

ورغم استغفار عثمان الا انه استمر في احاطة نفسه ببطانة من اقاربه مما دعا جبلة بن عمرو الساعدي ان يقول له: والله لاطرحن هذه الجامعة في عنقك او لتتركن بطانتك هذه. فقال له عثمان: أي بطانة، فوالله إني لأتخير الناس. فقال له جبلة: مروان تخيرته! ومعاوية تخيرته! وعبد الله بن عامر تخيرته! وعبد الله بن سعد تخيرته. منهم من اباح الرسول دمه.[11]

وحتى البغاء كان متفشيا في تلك الحقبة الذهبية. ففي سنة سبع عشرة ولى عمر ابا موسى الاشعري على البصرة وامره ان يُشخص اليه ( يرسل اليه)المغيرة، وكان المغيرة يختلف على ام جميل، أمرأة من بني هلال توفى عنها زوجها. وكانت ام جميل تغشى المغيرة وتغشى الامراء والاشراف، تبيع جسدها، وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها.[12]

والسرقة كانت متفشية في المدينة في خلافة عمر بن الخطاب. فيحدثنا اهل الذكر ان عمر بن الخطاب جاء الى عبد الرحمن بن عوف في وقتٍ متأخر من الليل، فقال له عبد الرحمن: ما جاء بك في هذه الساعة يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: رفقةٌ نزلت في ناحية السوق خشيت عليهم سُراق المدينة.[13] فالخليفة كان يعلم ان المدينة مليئة بالسارقين، رغم قطع الايدي.

والخلافات بين أصحاب رسول الله وأهل بيته كانت معروفة كذلك، فبعد وفاة الرسول أتت إبنته فاطمة الى أبي بكر ومعها جدها العباس، وطلبا منه ميراثهما من مال الرسول وهما حينئذ يطلبان أرضه في فدك وسهمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر: أما إني سمعت رسول الله يقول: لا نُورث، ما تركنا فهو صدقةٌ، إنما يأكل آل محمد في هذا المال. فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت، فدفنها عليّ ليلاً ولم يُؤذن بها أبو بكر.[14]

ويكفي أن نعرف أن كل الخلفاء الراشدين باستثناء أبي بكر ماتوا مقتولين بأيدي المسلمين. فأي عصر ذهبي هذا الذي يتحدثون عنه؟ أنه عصر لا يختلف عن عصرنا هذا، ففيه الخداع والغش والبغاء والسرقة والقتل الذي طال كل الخلفاء الراشدين انفسهم ما عدا واحداً منهم.

ولكن مشكلة السلفيين أنهم أحادي النظرة. لقد نسي هؤلاء أن الأمورَ مرهونةٌ بأوقاتها. فما هو صالح لأمراض زمان معين قد لا يكون صالحاً لأمراض زمان آخر. وقد أدرك الرسول هذه الحقيقة فقال: "أن علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"، في كثرتهم واختلاف آرائهم. كما فتح باب الاجتهاد لأئمة المسلمين من بعده ليجدوا حلولاً للمشاكل المستجدة.

كذلك رأينا الخليفة عمر بن الخطاب قام بتغيير ما يقارب من أربعين مسألة كانت متبعة في عهد الرسول وعهد أبي بكرالصديق، وذلك حسب إجتهاده ولم يعترض عليه أحد. ومن هذه الإجتهادات: حرم عمر زواج المتعة وألغى حصة المؤلفة قلوبهم من غنائم الحرب.. وغيرهما. كذلك قال علي بن أبي طالب: (لا تربوا أبناءكم على عادات زمانكم لأنهم جاءوا لزمان غير زمانكم.) . من كل ذلك نفهم أن الإسلام أعترف بالتطور الحاصل في المجتمعات البشرية وأباح لأئمة المسلمين إجراء التغييرات حسب متطلبات المرحلة. ولكن الكارثة حصلت بعد غلق باب الإجتهاد والإبقاء على ما كان وجعل كل تغيير بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة صاحبها في النار.

وبالإضافة إلى دور غلق باب الإجتهاد في الإسلام في تخلف المسلمين، هناك سبب آخر لا يقل أهمية، ألا وهو حرمان المسلمين من النقد. فالنقد في الإسلام محرّم وكذلك سارت الحكومات العربية والإسلامية على منع الشعوب الإسلامية من ممارسة النقد وحرية التفكير والتعبير.
يقول كارل ماركس: " الدين هو تأوهات المخلوق المضطهد وسعادته المتخيلة، ونقد الدين هو نقد هذا الوادي من الدموع الملئ بالزهور الخيالية، والذي يمثل الدين الهالة الضوئية التي تحيط به. ونقد الدين يقتطف هذه الورود الخيالية التي يراها المضطهد في السلسال او الجنزير الذي يكبله، ولكن لا يفعل النقد ذلك ليحرم الرجل المضطهد من سعادته برؤية الزهور الخيالية، وإنما يفعل ذلك ليمكّن الانسان من التخلص من السلسال الذي يكبله حتى يستطيع الحركة بحرية ليقتطف الزهور الحقيقية "[15].

وقد لعب منع النقد درواً كبيراً في تخلف العرب والمسلمين. ودفع المسلمون الأوائل، كما رأينا، ثمناً باهظاً بسبب نقدهم لبعض التعاليم الإسلامية أو حتى إجتهادهم في بعض المسائل المثيرة للجدل مثل قضية خلق القرآن عند المعتزلة. وهناك عدد كبير من المفكرين المسلمين تم إضطهادهم وقتلهم وحرق مؤلفاتهم مثل إبن الراوندي وأبي بكر الرازي والمعتزلة والأشاعرة وأخوان الصفا وغيرهم كثيرين، ولم تصل لنا من مؤلفاتهم إلا تلك النتف التي ذكرها خصومهم من إقتباسات من أجل الرد عليهم.

لذلك أعتقد أنه لا يمكن حصول أي تقدم في العالم الإسلامي ما لم نجيز النقد. ولعل هذا الكتاب هو الأول من نوعه باللغة العربية الذي يتناول الإسلام بقراءة نقدية علمية محايدة دون أي تطرف أو انحياز لأية جهة. وإني اعتمدت على المصادر الإسلامية الكلاسيكية المحترمة من قبل جميع الفرق والمذاهب الإسلامية، في توضيح وإثبات هذا الرأي أو ذاك. ولكن رغم ذلك سيثور المتزمتون لانهم لا يعرفون التسامح مع الناقدين، وبالتالي سوف اتعرض في جوهر الكتاب الى عدم التسامح في الاسلام والى عدم احترام رأي الغير.

وهذا التزمت وعدم السماح بالنقد يطال حتى النظم السياسية في البلاد المسلمة، فمن المؤسف حقاً أنه لا توجد دولة إسلامية واحدة طبقت الديمقراطية الحقيقية في هذا العصر او العصور السابقة. فهذه شبه القارة الهندية كانت مستعمرة بريطانية لمدة أربعة قرون. وبعد الإستقلال عام 1948 أنفصل الجزء الذي تقطنه الأغلبية المسلمة ( باكستان) عن الهند. وفي البداية كانت باكستان دولة ديموقراطية مثلها مثل الهند، ولكن بعد فترة وجيزة من الزمن فشلت الديمقراطية في باكستان ونجحت في الهند حيث الأغلبية غير المسلمة. والفرق الوحديد بين الدولتين هو الدين. كذلك نلاحظ مقاومة المسلمين للديمقراطية وحقوق المرأة والحداثة رغم ان الاسلام يقول: وامرهم شورى بينهم. هذه الأمور يجب أن تنال إهتمام المفكرين العرب والمسلمين قبل فوات الأوان.

إنه من نافلة القول أن الغرب لم يحقق هذا التطور المذهل في الحضارة والتقدم العلمي والتكنولوجي والإقتصادي وفي مختلف الفنون ومجالات الحياة إلا بعزل السياسة عن الدين وإطلاق حرية الفكر والنقد والتعبير والنشر. وبذلك أعتقد جازماً، أنه إذا أراد العرب والمسلمون اللحاق بركب التطور الحضاري يجب عليهم أن يقتدوا بالغرب في عزل الدين عن الدولة وتبني الديمقراطية الغربية وحرية التفكير والتعبير وإلا سننقرض. وهناك مبدأ إسلامي يجيز ذلك وهو: (حاكم كافر عادل خير من حاكم مسلم جائر).

وإذا رجعنا لموضوع هذا الكتاب، فإني قسّمته الى عدة فصول، الفصل الاول يشرح فكرة نموء الاديان المختلفة، والفصل الثاني عن النبي محمد بن عبد الله، مولده, وطفولته، وبعثته وما شابه ذلك. ثم أتحدث في الفصل الذي يليه عن القرآن وما رأيت فيه من تناقض مع الفكر والعلم الحديث. ثم كان لا بد من الحديث عن المرأة في الاسلام لان المرأة الشرقية قد سجنها علماء الاسلام في عقر دارها وتحت برقعها كل هذه القرون ومنعوا الدول من مساهمتها في بناء المجتمعات. ولان البلاد الاسلامية فشلت في ان تمنع الرق قانونياً وصراحةً، كان لا بد لي من التحدث عن الاسلام والرق وعن الجهاد في سبيل الله، الذي كان سبباً رئيسياً في ازدياد عدد العبيد في الدول المسلمة.

الفصل ألاول

نبذة تاريخية عن نشأة الاديان:

في بداية حياة الانسان على هذه الارض، على حسب رأي علماء علم الاجناس " Anthropology"، كان الانسان بسيطاً في تفكيره وفي استيعابه للظواهر الطبيعية مثل الليل والنهار، والمطر والرعد والبرق وما شابه ذلك. وكانت هذه الظواهر تثير الخوف والرعب في نفسه. ولما عجز الانسان البدائي عن تفسير هذه الظواهر عزاها الى قوة خارقة تتحكم فيها وفي حياته. هذه القوة الخارقة لم تكن محسوسة لديه، اي بمعنى آخر، كانت قوة وراء الطبيعة اي قوة " ميتافيزيقية Metaphysical". وبالتالي اعتقد الانسان البدائي بوجود " كيان روحي Spiritual Being " يتحكم في الظواهر الطبيعية وفي حياة الانسان. هذه كانت بداية فكرة الاديان عند الانسان البدائي حسب اعتقاد خبير علم الاجناس الانكليزي " تايلر E.B.Taylor"[16]. فقد ألف هذا العالم كتاباً يدعى " الثقافة البدائية Primitive Culture" في العام 1871. ويعتبر هذا الكتاب من اهم المراجع في دراسة تاريخ الاديان. ويعتقد " تايلر" هذا ان الاعتقاد ب " الكيان الروحي" هذا نتج من تجربة الانسان الجماعية في اشياء مثل الموت والنوم والاحلام، فجعلته هذه التجارب يعتقد ان الكيان الروحي منفصل عن الجسم ويمكنه ان يعيش حياة مستقلة تماماً. وبالتالي اصبح الانسان الاول يعتقد في ألاشباح والخيالات " Phantoms".

وبالطبع لم يكن الانسان البدائي يعرف القراءة والكتابة ولذلك كل ما تعلمه كان عن طريق التلقين من آبائه واجداده وبالتالي اصبح علم وحكمة الاباء والاجداد، اي الاسلاف، كنزاً قيماً يحفظه الاشخاص كبار السن في القرية او القبيلة. ويصبح الشخص الاكثر علماً رئيساً للقبيلة، وطبيباً يعالج امراضهم بما تعلمه من الاسلاف، ويحكم بينهم بما يراه عدلاً ان نشب بينهم خلاف. ولا شك ان موت شخص كهذا يمثل فقداً عظيماً للقبيلة، تحاول تعويضه بأن تتخيل ان روح هذا الفقيد ما زالت تعيش بينهم وتحاول ارشادهم الى ما فيه خيرهم. وبالتدريج اصبح لمثل هذه الروح مكانة عظيمة في ثقافة و " فولكلور" هذه المجموعات من البشر، ونتج عن هذا ما يسمى ب " عبادة الاسلاف Ancestor Worship ". فكان اذا اصاب هذه المجموعة شر او مرض، عزوه الى ان روح احد الاسلاف غاضبة عليهم ولذلك وجب عليهم إرضاءها بالرقص وبتقديم الهدايا والقرابين. وهذه الهدايا والقرابين تمثل ركناً مهماً من اركان الدين، اذ يقوم الدين على ركنين: إيمان وعمل. والعمل تابع للايمان، فهو شعائره ومظهره. ومن هذه الشعائر الرقص والسحر والقرابين والمعابد. وما زالت بعض القبائل في امريكا الجنوبية تؤمن بهذا القول وتعمل به[17].
وارواح الاسلاف هذه كانت في العادة مرتبطة بأماكن معينة مثل صخرة او شجرة كبيرة في وسط القرية، فأدى هذا الى تقديس هذه الاحجار والاشجار، اذا تصوروا وجود قوى روحية كامنة فيها فعبدوها، وبالتدريج اصبحت هذه الصخرة او الشجرة رمزاً لروح احد اسلاف تلك القبيلة. ومن ثم تبلورت فكرة عبادة الاصنام. وكان الصنم في البدء عبارة عن قطعة من حجر او جذع شجرة. وقد عظّم قدماء العبرانيين الاشجار وكذلك فعل عرب الجاهلية. ومن هذه الاشجار، الاشجار المعروفة ب "Rothem " في العبرانية و " رتم" في العربية[18]. وتحظى مثل هذه الاشجار بالرعاية والعناية فيحتفل الناس بها وكأنها ذات حس وشعور و " ذات انواط" كانت شجرة خضراء عظيمة، كانت عرب الجاهلية تاتيها كل سنة تعظيماً لها، فتعلق عليها اسلحتها وتذبح عندها، وكانت قريبةً من مكة. ولما كانت ارواح الاسلاف متعددة، قاد هذا الى تعدد الآلهة او الشرك. ويعرف الشرك باسم "Polytheism " في الانكليزية، من كلمة " Polys" اليونانية ومعناها " كثير" ومن كلمة يونانية ثانية هي "Theos " وتعني " الاله". ويختلف الشرك عن عقيدة ال "Polydaemonism " القائلة بوجود الارواح والجن.

وعبد بعض الاقوام والقبائل الظواهر الطبيعية لتوّهمهم ان فيها قوىً روحيةً كامنة. فألهوا الشمس والقمر وبعض النجوم. وقد كانت الشمس والقمر اول الاجرام السماوية التي لفتت انظار البشر لما في الشمس من اثر بارز في الزرع والارض وفي حياة الانسان بصورة مطلقة. كذلك القمر لاثره في نفس الانسان بما يبعثه من نور يهدي الناس في الليل. فلما تقدم الانسان وزادت مداركه في امور ما وراء الطبيعة، تصور لهما قوى غير مدركة وروحاً وصفات اخرى من الصفات التي تطلق على الآلهة. فخرجتا من صفتهما المادية البحتة ومن طبيعتهما المفهومة، وصارتا مظهراً لقوى روحية لا يمكن ادراكها، انما تدرك من افعالهما ومن اثرهما في هذا الكون، فعبدوا الشمس والقمر والنجوم . ويقال ان طائفة من بني تميم عبدت " الدُبران" وان بعض قبائل لخم وخزاعة عبدوا " الشَعرى" ولذلك جاء في الاية 49 من سورة " النجم": " انه هو رب الشعرى".

ولما تقدم الانسان البدائي في حياته واصبح مزارعاً، صارت مياه الامطار والانهار مصدر رزقه وقوته. ولما كان اعتماده على فيضان الانهار كبيراً، نجد ان قدماء المصريين، مثلاً، قدموا القرابين من العذارى لنهر النيل لكي يرضى عنهم ويفيض عليهم بالخيرات. وكذلك فعلت مجموعات اخرى من البشر. وقد ارتبطت فكرة خصوبة الارض بخصوبة الام التي تنتج اطفالاً كثيرين، ونتج عن هذا فكرة " الإلهة الام Mother Goddess". ونحت النحاتون الاصنام على هيئة أمرأة حبلى وعارية. وقد وجُدت هذه التماثيل في عدة اقطار في اوروبا والشرق الاوسط والهند. وقد سميت " الالهة الام" بعدة اسماء، فكانت " إنانا Inana" في " سومر Sumeria " و " عشتار Ishtar" في بابل و" عنات Anat" في ارض كنعان ( فلسطين) و " ايسيس Isis" في مصر و " افرودايتي Aphrodite" في اليونان.

وفي حوالي العام 4000 قبل الميلاد ظهرت حضارة عظيمة في منطقة ما بين النهرين (دجلة والفرات) " Mesopotamia "، اسسها قوم عرفوا ب "السومريون Sumerians"، بنوا مدن مثل " أور Ur" و " كيش Kish" وبنوا معابد ضخمة لآلهتهم[19]. وجاء بعدهم " الكلدانيون " Chaldians " والاكديون " Akkadians" وبنوا اعظم مدينة في ذلك الحين وسموها " بابل" وتعني هذه التسمية " باب أيل" و"أيل " هذا هو إله الساميين القدماء. وكانت مدينة بابل مشهورة بالجنائن المعلقة التي بناها الملك نبخذنصر لزوجته، وتعتبر هذه الجنائن من عجائب الدنيا السبعة. وكان الكلدانيون يعتقدون ان للآلهة في السماء قصوراً ضخمة وحدائقا، ولذلك بنوا بابل على طراز القصور السماوية، كما تخيلوها1. وكان في اعتقادهم ان كل الآلهة اتحدوا مع بعضهم البعض وتغلبوا على قوى الفوضى التي كانت تسيطر على العالم. ولذلك كانوا يقيمون احتفالاً سنوياً يستمر احدى عشر يوماً يلقي فيه رجال الدين الاشعار الدينية مثل قصيدة "إنيوما إليش Enuma Elish" التي تمجد انتصار الآلهة على قوى الفوضى وتحكي قصة خلق الكون. وتبتدئ القصة بخلق الآلهة انفسهم. تدعي الاسطورة ان الآلهة ظهروا، كل إلآهين مع بعض، من ماء مقدس كان موجوداً منذ القدم. واكبر ثلاثة من الآلهة كانوا: أبسو Apsu" إله المياه العذبة، وزوجته " تيامات Tiamat" إلهة المياه المالحة، و " مومو Mummu" إله الفوضى. ثم تكاثرت الآلهة بأن خرج إلاهان من كل إله قبلهم. فظهر " لاهمو ولاهامن" "Lahmu and Lahamn"، إله الماء وإله الارض. ثم ظهر " أنشر" و "كٍشر" " Ansher and Kisher"، اله السماء واله البحر. واخيراً ظهر إله الشمس " ماردوخ Marduk "، الذي تغلب على الالهة " تيمات" وخلق كل القوانين التي تحفظ توازن العالم. واخيراً خلق " ماردوخ" الانسان[20].

يظهر ان اسطورة " ماردوخ" هذه اثرت في سكان ارض كنعان ( فلسطين) فخلقوا لانفسهم إله سموه " بعل Baal"، إله العواصف والخصب. وكذلك إله آخر اسمه " يام Yam"، إله البحار. واكبر الآلهة اسمه : أل " El ". وفي احد مجالس " أل" تشاجر " بعل" مع " يام" وتغلب عليه وكاد ان يقتله، عندما تدخلت " أشيرة " زوجة كبير الآلهة " أل" فقالت له: " ليس من الشهامة قتل الاسير". فعفا عنه. واستمر " يام" إله البحار يثير الزوابع في البحار ويدمر السفن، بينما استمر " بعل" إله العواصف يرسل الرياح لتخصب الارض وتلقح النباتات[21]
ولكي يُقرّب الانسان البدائي كل هولاء الآلهة الى ذهنه تخيّل لهم اشكالاً معينة ونحت اصناماً تمثلهم على الارض، وجاء وقت اعتقد فيه الانسان ان لهذه الاصنام قوة – اذا تقدم لها بقربان – على ان تفعل الخير له وتُلحق الضرر بأعدائه. فاذا تنازع رجل مع جاره جاء الى صنمه المحبوب وصلى له ليلحق الضرر بجاره، ولكن الجيران هم الاخرون كانت لهم اصنامهم. وبينما يدعو الرجل اصنامه لتضر أعداءه، راح يشعر بالقلق إزاء ما قد تفعله اصنام اعدائه له ولأهل بيته. واضطر الناس ان يفكروا في شئ يحميهم من اصنام اعدائهم، فوضعوا حول اعناقهم تماثيل صغيرة لاصنامهم لحماية انفسهم من قوة الارواح الشريرة التي تُحارب في صفوف الاعداء. واصبحت هذه التماثيل الصغيرة هي التمائم او " الطواطم "Totem و بدأ بعض الناس يعتقدون ان بعض هذه التمائم تستطيع القاء التعاويذ على الآخرين وتجعلهم يمارسون السحر. وراح هولاء البعض يؤمنون بأنهم بهذه التمائم ومناداة الاسماء الحقيقية لبعض الارواح يستطيعون فتح ابواب المستقبل ورؤية ما يُخبئه لهم[22].

وبرغم هذه التماثيل والطواطم كان الانسان البدائي يواصل التفكير في الخالق الاول ويتصوره مصدراً رئيسياً للقوة والخلق، يهيمن على كل شئ ويسيطر على اركان الكون الاربعة، ولكنه رغم ذلك يحتاج الى مساعدين ينظمون الحياة على الارض ويمكّنوا عامة الناس من الاتصال بهذا الاله الكبير. وتباينت صور هذا الخالق في اذهان البشر، فمنهم من جعله ذكراً ومنهم من جعله انثى. واستمر تطور الاديان مع تطور الانسان نفسه، فظهرت فكرة ان هذا الاله يستطيع ان يبعث رسلاً للناس ليوضح لهم الخير والشر، وتبلورت هذه الفكرة بظهور النبي ابراهيم.

يقول الانجيل ان ابراهيم ( أبراهام) هاجر من مدينة "أور" في العراق الى ارض كنعان ( فلسطين) حوالي القرن العشرين قبل الميلاد. ويقول المؤرخون انه جاء في حوالي عام 1850 قبل الميلاد وانه سكن مدينة " الخليل Hebron " وكان يتكلم اللغة العبرية. واصابت ارض كنعان مجاعة، فهاجر ابراهيم وزوجته سارة الى ارض مصر ثم رجع الى ارض كنعان ونصب خيمته في" بيت أل Beith –el"[23]
وانجب ابراهيم في الكبر اسماعيل، الذي تعتبره الميثولوجيا اب العرب، من هاجر المصرية، وقد كانت خادمة زوجته ساره التي لم يكن لها ولد، فوهبت خادمتها هاجر الى ابراهيم لينام معها علها تُنجب له ولداً. وبعد ان ولدت هاجر أسماعيل، حبلت سارة وولدت له اسحاق. وانجب اسحاق يعقوب الذي صار اسمه فيما بعد " اسرائيل". وكوّن احفاد يعقوب القبائل او الاسباط الاثني عشر من بني اسرائيل وهاجر بهم النبي " موسى" من ارض مصر الى ارض كنعان. والنبي موسى كان اول من قال ان رسالته اُنزلت اليه في الواح من عند إله في السماء اسمه " يهوى Yahweh" وفي بعض الروايات ان اسمه " إلوهيم Elohim". ومع ان الاسرائليين كانوا يعبدون عدة آلهة، فقد عاهدوا موسى انهم سيعبدون الاله " يهوى" وحده. ولم يدع موسي انه ارُسل الى امة غير بني اسرائيل، ولذلك لم يبشر بدينه الجديد ولم تنتشر اليهودية خارج بني اسرائيل الا قليلاً.

ثم بعد مرور ما يقرب من الالف وخمسمائة وسبعين عاماً، ظهر النبي عيسى بن مريم، في فلسطين كذلك، وقال انه مرسل الى بني اسرائيل،[24] وبشر بديانة لا تختلف كثيراً عن اليهودية، لكنها عُرفت فيما بعد بالمسيحية. وقد دعا عيسى الى عبادة إله واحد في السماء، سماه " ألاب" واحياناً دعاه " لورد Lord". ولكن على عكس اليهودية، صارت المسيحية ديناً عالمياً لكل الناس وليس وقفاً على شعب معين. وانتشرت المسيحيه، بواسطة المبشرين، الى الاراضي المجاورة من جزيرة العرب والى اوروبا، خاصة اليونان والامبراطورية الرومانية.

وسكان الجزيرة العربية، كغيرهم من الناس، تدرجوا في عباداتهم من عبادة الاسلاف، الى عبادة النجوم والكواكب، الى عبادة الاصنام، الى ان جاء الاسلام وكان الدين الوحيد الذي لم ينزل به نبي من بني اسرائيل.

ويلاحظ القارئ ان جميع الديانات المنزلة نزلت في الجزيرة العربية. فالهند والصين واليابان وجنوب شرق آسيا، مثل كوريا وفيتنام ولاوس مجتمعة تمثل اليوم اكثر من نصف سكان العالم، اي حوالي اثنين مليار ونصف المليار شخص. كل هولاء الناس يدينون بالديانات البوذية او " الهندوس" وهي ديانات وضعية غير منزلة. وسكان الجزيرة العربية مجتمعة، لا يتعدون المائة مليون شخص. فلو رجعنا بتعداد سكان العالم الى الوراء بطريقة عكسية " Regression " نستطيع ان نقول قبل حوالي 4000 سنة، لو كان سكان الجزيرة العربية مليون شخص، افتراضاً، فان سكان الهند والصين واليابان مجتمعه، يكون تعدادهم ما يقارب 250 مليون شخص. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: لماذا ارسل الله كل هولاء الرسل الى مليون شخص في منطقة فلسطين والجزيرة العربية وتجاهل المائتين وخمسين مليون الآخرين؟ لم ينزل ولا رسول واحد بلغة الصبن او الهند او اليابان.

والسؤال الثاني: هل كان سكان الجزيرة العربية في عزلة تامة عن بقية سكان العالم وبالتالي لم يتعرفوا على الديانة اليهودية والديانة المسيحية، وكانوا فقط عبدة اصنام؟ وبالطبع العرب كانوا في اتصال دائم، خاصة عرب جنوب الجزيرة، عن طريق البحر الاحمر، وعرب شمال الجزيرة عن طريق البحر الابيض المتوسط والبحر الاسود، ببقية انحاء العالم، وخاصة الامبراطورية الرومانية التي استعمرت اجزاءً من الجزيرة. وبحكم اختلاطهم بالعالم الخارجي، عرف العرب المسيحية واليهودية وكان يسكن وسطهم يهود يثرب ويهود خيبر وعدد من المبشرين المسيحيين، كما سنرى في الفصول القادمة من الكتاب.

الفصل الثاني

ديانات التوحيد عند العرب

قد كانت النصرانية معروفة، قبل دخول الاسلام، في كل جزيرة العرب، دخلتها من الشمال عن طريق بلاد الشام التي كانت تحت سيطرة الامبراطورية الرومانية التي كانت قد اعتنقت الديانة المسيحية. ومن الشام انتشرت المسيحية الى العراق رغم ان العراق كان تحت سيطرة الفرس. وكذلك دخلت المسيحية الى اليمن عن طريق البحر الاحمر، من الحبشة وبلاد الرومان. ووجدت النصرانية بعد بلاد الشام والعراق واليمن مواضع اخرى دخلت اليها، وهي اطراف جزيرة العرب كالعربية الغربية والشرقية. وتفسير دخولها الى هذه الاماكن واضح، وهو اتصالها بطرق القوافل البرية والبحرية بالبلاد التي انتشرت فيها النصرانية. ولاتصال الحجاز بفلسطين، مهد النصرانية، وببقية بلاد الشام، كان من الطبيعي مجئ النصرانية منها ودخولها الى هذه البلاد. ونجد اخبار الفتوح تشير الى اسماء امراء عرب كانوا على هذا الدين، يحكمون عدة مواضع من اعالي الحجاز، صالحهم الرسول على اداء الجزية، مثل: أمراء " دومة الجندل" و " ايلة" و " تيماء". وقد كان في يثرب ومكة والطائف نفر منهم عند ظهور الاسلام، دخلوا فيمن دخل من اهل الكتاب في الاسلام.

والروم كانوا على النصرانية وقد ذكر الاخباريون اسماء بعضهم من نزلاء مكة تشير بوضوح الى تنصرهم. ومنهم من كان يشرح للناس اصول هذا الدين، ولا يستبعد ان يكون بينهم جماعة من المبشرين، فقد كان المبشرون يطوفون انحاء الجزيرة للدعوة الى النصرانية، وقد شجعت حكومة الروم هذا التبشير وارسلت مبشرين لمآرب سياسية بعيدة الاهداف ولكسبهم اليهم لمحاربة اعدائهم الفرس بهذا السلاح. وفى القرآن آيات تشير الى وجود نصارى فى مكة كانوا يتباحثون فى امور الدين
" ولقد نعلم انهم يقولون انما يعلمه بشر. لسان الذى يلحدون اليه اعجمى وهذا لسان عربى مبين" ( النحل/104)
" وقال الذين كفروا ان هذا الا افك افتراه واعانه عليه قوم آخرون. فقد جاؤوا ظلما وزورا" (الفرقان /4)
" وقالوا اساطير الاولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة واصيلا " ( الفرقان /5).

ومن هولاء النصارى كما يُفهم من القرآن من لم يكن يفقه العربية، وانما كان يتكلم بلسان اعجمى، وقد ذكر المفسرون اسمه في صور مختلفه، وقال ابن هشام فى شرحها: " وكان رسول الله فى ما بلغنى كثيراً ما يجلس عند المروة الى مبيعة غلام نصرانى يقال له جبر، عبد لبنى الحضرمى. وكانوا يقولون: والله ما يعّلم محمداً كثيراً مما ياتى به الا جبر النصرانى، غلام بنى الحضرمى.[25]

. وكانت اليهودية كذلك معروفة في الجزيرة حتى من قبل الميلاد. وبالطبع كان هناك عرب وثنيون يعبدون الاصنام من قبل ان تدخل اليهودية والنصرانية للجزيرة، واستمروا في عبادتها حتى ظهور الاسلام. ولكن جزء كبير من عرب الجاهلية كانوا على علم بفكرة التوحيد والاله الواحد، رب السماء.

ويعتقد البعض ان عرب الجاهلية كانوا موحدين يعتقدون بوجود اله واحد اعلى هو الله، ونجد هذا مذكوراً في القرآن في سورة الزمر الآية 38: " ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله". وكذلك لما هلك ابو طالب خرج رسول الله ( ص) الى الطائف يلتمس من ثقيف النصر والمنعة وعمد الى نفر من ثقيف وهم أخوة ثلاثة، قال لهم: " أنا رسول الله اليكم". فقال له أحدهم: والله لا أكلمك كلمة أبداً، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول، لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله، ما ينبغي لي أن أكلمك[26]. فهذا، ولا شك, كلام رجلٍ يعرف الله ويُعظمه.

ولإيمانهم بالله، الاله الواحد، كانوا يسمون اولادهم عبد الله وعُبيد الله وما شابه ذلك. ولكن لكون الله في السماء ويصعب الاتصال به بدون وسيط، عبدوا الاصنام كوسطاء لله. فان عقيدة اكثر البدائيين والشعوب القديمة ان الانسان لا يمكنه ان يُسمع آلهته صوته، او يبثها ما يشكو منه الا بواسطة وسطاء وشفعاء، لهم قوة خارقة لا يملكها الناس العاديون، ولهولاء الشفعاء منزلة عند الالهة ليست لغيرهم، فبواسطتهم يمكن الاتصال بالالهة. فهم الواسطة الوحيدة بينهم وبين القوى المهيمنة العليا. ولا يجب ان نستبعد هذا الرأى لان نظرة واحدة لاي قطر عربي مسلم تقنعنا ان العرب ما زالوا يؤمنون بالواسطة لتوصل دعاءهم الى الله. فزيارة واحدة الى ضريح " السيدة زينب" بالقاهرة، او قبر الحسين بكربلاء، حتى بعد مرور ما يناهز الالف واربعمائة سنة منذ بداية الاسلام، يقنعنا بصحة هذا الرأى.

الاحناف وشعراء الجاهلية:

وردت في القرآن وفي الحديث اشارة الى المجوسية والصابئة والحنفية واليهودية والنصرانية. وفي الاخبار التي اوردها الرواة عن هذه الحقبة مقالات في الدين، وكان لبعض الجاهليين آراء في الدين، وكان لبعضهم دعوة ورسالة في الحث على الدخول في ديانة من تلك الديانات، كما كان بعضٌ آخر حائراً لا يدري ماذا يفعل، يرى ديانات قومه فلا تعجبه، ثم يرى اليهودية والنصرانية بين بعض ابناء قومه فلا تعجبه كذلك، فيقف مفكراً حائراً بين هذه العقائد والاراء ومنهم من مزج بينها واوجد خليطاً مركباً من الوثنية والتوحيد. والاراء الدينية عند الجاهليين كانت، ككل ناحية من نواحي حياتهم وحياة كل امة، عرضة للتطور والتغير، وان الحالة التي كانت عليها قبل البعث هي نتيجة تطور مستمر دام آلافاً من السنين، قام به رجال من اهل الجاهلية، أما بشعور ذاتي مبعثه عاطفة دينية وحس مرهف، واما بتاثير من الخارج كالمبشرين والتجار. وهناك اناس ادعوا النبوة قبل النبي محمد. فهناك رجل لم يرد اسمه في القرآن، غير انه كان نبياً في رأي كثير من اهل الاخبار هو: خالد بن سنان بن غيث العبسي، زعموا انه كان نبياً عاش في زمان الفترة، أي بين ايام عيسى والنبي محمد، وان الرسول قال عنه: " ذاك نبي أضاعه قومه"[27]. وهناك نبي آخر أسمه حنظلة بن صفوان، كان نبياً بعثه الله الى " أهل الرس" فكذبوه وقتلوه. عاش في أيام " بختنصر"، وقد نُسب الى حٍمير. وقيل انه كان من انبياء الفترة كذلك.

وهناك مجموعة من رجال الجاهلية عرفوا بانهم " حنفيين"، لم يعبدوا الاصنام وكانوا يؤمنون بالوحدانية. عرفنا من هولاء النفر قس بن ساعدة الايادي، وزيد بن عمرو بن ثفيل، وأمية بن أبي الصلت، وارباب بن رئاب، وسُويد بن عامر المصطلقي، وأسعد ابو كرب الحميري، ووكيع بن سلمة بن زهير الايادي، وعمير بن جندب الجُهني، وعدي بن زيد العبادي، وابو قيس صرمة بن أبي أنس، وسيف بن ذي يزن، وورقة بن نوفل القرشي، وعامر بن الظرب العدواني، وعبد الطابخة بن ثعلب بن وبرة بن قضاعة، وعلاف بن شهاب التميمي، والمتلمس بن أمية الكناني، وزهير بن أبي سُلمى، وخالد بن سنان بن غيث العبسي، وعبد اله القضاعي، وعبيد بن الابرص الاسدي، وكعب بن لؤي بن غالب.

أمية بن ابي الصلت:
هو اكثر الحنفاء حظاً في بقاء الذكر، وبقي كثير من شعره، وسبب ذلك بقاؤه الى ما بعد البعث وملاءمة شعره لروح الاسلام. لم يكن مسلماً، ولم يرضى ان يدخل في الاسلام لانه كان يعتقد بانه احق بالنبوة من محمد بن عبد الله. ولما كانت معركة بدر، رثى قتلى المشركين، ومات سنة تسعة للهجرة بالطائف قبل ان يسلم قومه الثقفيون. وقيل ان امية هجا اصحاب رسول الله في بيتين من القصيدة التي رثى فيها قتلى المشركين في غزوة بدر، ولذلك اهمل ابن هشام صاحب السيرة هذه القصيدة، وذُكر ايضاً ان النبي نهى عن رواية هذه القصيدة.

وامية مثل سائر الحنفاء، سافر الى الشام واتصل بأهلها، واوى الى الاديرة ورجال الدين يسأل منهم عما يهمه من مشكلات دينية. وكان تاجراً يذهب مع التجار في قوافلهم الى تلك الديار التي كانت في ايدي الروم. ثم انه كان قارئاً كاتباً، قرأ الكتب ووقف عليها، ومنها كوّن فكرته عن الدين وشكه في عبادة قومه. وقد بدا هذا التاثير واضحاً في الكلمات والمصطلحات الاعجمية المستعملة في شعره.

ويتلخص ما جاء في شعر هذا الشاعر من عقائد وآراء في الاعتقاد بوجود اله واحد، خلق الكون وسواه وعدله، وارسى الجبال على الارض، وانبت النباتات فيها، وهو الذي يحيي ويميت، ثم يبعث الناس بعد الموت ويحاسبهم على اعمالهم، فريق في الجنة وفريق في النار. يساق المجرمون عراة الى ذات المقامع والنكال مكبلين بالسلاسل الطويلة وبالاغلال، ثم يلقى بهم في النار، يبقون فيها معذبين بها ليسوا بميتين، لان في الموت راحة لهم، بل قضى الله ان يمكثوا فيها خالدين ابداً. اما المتقون فانهم بدار صدق ناعمون، تحت الظلال، لهم ما يشتهون.
وسيق المجرمون وهم عراة الى ذات المقامع والنكال [28]

جهنم تلك لا تبقي بغياً وعدن لا يطالعها رجيم

ويروى ان النبي كان يسمع شعر أمية، وان " الشريد بن سويد" كان ينشد له شيئاً منه في اثناء احد اسفاره، فكان كلما انشد له شيئاً منه، طلب منه المزيد، حتى اذا ما انشده مائة بيت، قال النبي له: كاد ليسلم. وذُكر ان الرسول قال في حديث له عنه: آمن لسانه وكفر قلبه.

والظاهر من شعر هولاء الشعراء الجاهليين، ان عدداً كبيراً منهم كان على علم بالتوحيد، وبالله والملائكة والحساب والثواب والعقاب. ولم يبلغنا ان هولاء الشعراء كانوا يهوداً او نصارى. ويستطيع المرء ان يستنتج من هذا الشعر ان جزءاًً لا يستهان به من عرب الجاهلية كانوا، لولعهم بالشعر وحفظهم له، على علم بفكرة التوحيد، حتى وان لم يؤمنوا بها. وكانت هناك مجموعة من شعراء الجاهلية على دين يهود او النصرانية، وقالوا شعراً في التوحيد وعبادة اله واحد في السماء، بيده مقاليد الامور

وقد يكون من المفيد أن نستشهد بما ذكره الدكتور طه حسين في كتابه (في الشعر الجاهلي) وهو يحلل الأوضاع الإجتماعية والفكرية في العهد الجاهلي، نجتزئ منه ما يلي: "وكان اليهود قد تعربوا قحاً، وكان كثير من العرب قد تهوّدوا. وليس من شك في أن الاختلاط بين اليهود وبين الأوس والخزرج قد أعد هاتين القبيلتين لقبول الدين الجديد وتأييد صاحبه.
هذه حال اليهود. فأما النصارى فقد انتشرت ديانتهم انتشاراً قوياً في بعض بلاد العرب فيما يلي الشام حيث كان الغسانيون الخاضعون لسلطان الروم، وفيما يلي العراق حيث كان المناذرة الخاضعون لسلطان الفرس، وفي نجران من بلاد اليمن التي كانت على إتصال بالحبشة وهم نصارى.

"تغلغلت النصرانية إذن كما تغلغلت اليهودية في بلاد العرب، وأكبر الظن أن الإسلام لو لم يظهر لأنتهي الأمر بالعرب إلى اعتناق إحدى هاتين الديانتين. ولكن الأمة العربية كان لها مزاجها الخاص الذي لم يستقم لهذين الدينين والذي استتبع ديناً جديداً أقل ما يوصف به أنه ملائم ملائمة تامة لطبيعة الأمة العربية". ص87-88." انتهى كلام طه حسين

عادات الجاهلية التي اقتبسها الاسلام:

رغم جعجعة السلفيين ان الاسلام قد أثرى حياة العرب، وحارب عاداتهم الذميمة، الا ان الحقيقة تخبرنا ان الاسلام لم يأت بجديد، بل أقتبس عادات العرب القديمة وألبسها لبوس التنزيل وجعلها جزءاً من القرآن. فقد ذكر الاخباريون انه كان لأهل الجاهلية سنن ساروا عليها، ابقى الاسلام أعظمها واسقط بعضاً منها. ومن هذه السنن: الطلاق الثلاث، والخطبة، اي خطبة المرأة الى ابيها او اخيها او اولياء امرها. والحج الى البيت، والعمرة، والطواف، والتلبية، والوقوف بعرفات، والهدي ورمي الجمار، والاغتسال من الجنابة، وتغسيل الموتى وتكفينهم، وقطع يد السارق والوفاء بالعقود والصوم[29].

والتلبية هي من الشعائر التي ابقاها الاسلام ولكن غيّر صيغتها. وقد ذكر اهل الاخبار انه كان لكل صنم تلبية خاصة به. والتلبية هي بمثابة الاجابة لنداء الصنم، وهي تعني اللزوم لنداء الطاعة. فكانت تلبية قريش "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، الا شريك هو لك، تملكه وما ملك". وتلبية الاسلام هي: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك. ان الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك

ويذكر الاخباريون ان الطائفين بالبيت كانوا على صنفين: صنف يطوف عرياناً وصنف يطوف في ثيابه. ويعرف من يطوف بالبيت عرياناً ب " الحُمس". اما الذين يطوفون في ثيابهم فيعرفون ب " الحلة". ويقال للواحد من الحُمس " احُمس". وسموا بالحُمس لتشددهم في دينهم. وكان في وسع من هو من الحُمس الطواف بثياب ياخذها من الحلة مثلاً اعارة او كراء، غير ان عليه في هذه الحالة طرح ثيابه بعد اكماله الطواف اذ لا يجوز له استعمالها مرة اخرى، فاذا القيت لا يمسها احد حتى تبلى، ويقال لهذه الثياب التي تطرح بعد الطواف " اللقي".
والسبب في خلع الحُمس ثيابهم انهم كانوا يقولون " لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها". وقد كان الجاهليون يطوفون بالصفا والمروة وعليهما صنمان يمسحونهما. والصفا والمروه من المواضع التي كان لها اثر خطير في عبادة اهل الجاهلية.[30].

وكان الجاهليون اذا حجوا يقدمون العتائر ، وهي الاضحية التي تذبح عند الاصنام، فتوزع على الحاضرين، فلا " يُصد عنها انسان ولا سبع"[31] وقد استبدل الاسلام كلمة " العتائر" بكلمة " الاضحية".

و كان على المرأة في الجاهلية اتخاذ " العدة" عند طلاقها وعند موت زوجها، والغاية من ذلك المحافظة على النسب وعلى الدماء كراهة ان تختلط بالزواج العاجل بعد الطلاق او الموت، فوضعوا لذلك مدة لا يسمح فيها للمرأة بالزواج خلالها، تسمى " العدة". وعدة المرأة ايام قروئها ( حيضها)، وعدتها ايضاً ايام احدادها على زوجها وامساكها عن الزينة لمدة سنة ترتدي خلالها شر ثيابها، ولا تقلم اظافرها اوتمشط شعرها، اوان تضع حملاًٍ حملته من زوجها[32].

الميراث
الميراث في الجاهلية كان خاصاً بالكبار من اولاد المتوفي. اما الاولاد الصغار والبنات فلم يكن لهم شئ. وقاعدتهم في ذلك " لا يرث الرجل من ولده الا من اطاق القتال". ولذا كان اخوان الميت يرثونه اذا لم يكن له اطفال، ويرثونه كذلك اذا كانت ذريته بنات. لكن الاخبار متضاربة في موضوع ارث المرأة في الجاهلية، واكثرها انها لم تكن ترث ابداً. وألمرأة نفسها كان يرثها الابن الاكبر إذا لم تكن أمه.

غير ان هناك روايات تقول ان من الجاهليات من ورثن ازواجهن وذوي قرباهن، وان عادة حرمان النساء لم تكن عامة عندحميع العرب. وهناك رواية تذكر ان اول من جعل للبنات نصيباً في الارث من الجاهليين هو " ذو المجاسد" عامر بن جشم بن غنم بن حبيب بن كعب يشكر، ورّث ماله لولده في الجاهلية فجعل للذكر مثل حظ الانثيين، فوافق حكمه حكم الاسلام.[33]

النجاسة
كلمة " نجس" هي ضد " طاهر"، فالنجاسة هي عكس الطهارة. وهي بهذا المعنى في الجاهلية كذلك. وهناك كلمة اخرى لها معنى قريب من معنى هذه الكلمة، هي لفظة " رجس" وهي بمعنى " قذر". ومن الامور النجسة في نظر اهل الجاهلية " الطمث" اي " الحيض" ومن معاني الطمث " الدنس"[34].

فهل أتى الاسلام بأي شئ جديد لم يكن معروفاً للجاهليين؟ الجواب عندي انه لم يأتي بجديد، وقد لخص النبي ما أتى به من جديد في حجة الوداع حين قال: " ألا إنما هن أربع: لا تشركوا بالله شيئاً ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تزنوا ولا تسرقوا".[35] وهذه القوانين أتى بها حمورابي في بلاد الرافدين قبل ألفين وخمسمائة سنة قبل الاسلام[36]. فلماذا نسمي الفترة التي سبقت الاسلام ب " الجاهلية" والعرب كانوا على علم بكل ما اتى به الاسلام.

مراجع هذا الجزء

[1] Why I am not a Muslim by Ibn Warraq, Promethius Books, New York 1995, p 6
[2]
Vadja, Georges : Les Zindiqs en pays d Islam au debut de la periode Abbaside.
In RSO, vol. 17 (193, p 173-229), Quoted in Why Iam not a Muslim by Ibn Warraq, p 253
[3] Armstrong, Karen: A History of God, Vintage 1993, p 264
[4] الفكر المصري في العصر المسيحي لرأفت عبد الحميد – الهيئة المصرية للكتاب/ القاهرة/ نقلاً عن النص المؤسس ومجتمعه – تأليف خليل عبد الكريم – منشورات الجمل – دار مصر المحروسة، ص 175
[5] تاريخ الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، المجلد الثاني، ص 233
[6] نفس المصدر ص 232
[7] نفس المصدر ص 586
[8] نفس المصدر ص 452
[9] تاريخ الطبري، المجلد الثاني، ص 661 ( مصدر سابق)
[10] تاريخ الطبري، المجلد الثاني، ص 659 ( مصدر سابق)
[11] نفس المصدر، ص 661
[12] نفس المصدر ص 493
[13] نفس المصدر ص 567
[14] تاريخ الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، المجلد الخامس – ص 236
[15] Karl Marx, Contribution to the Critique of Hegels Philosophy of Right. Quoted from The Contradiction of Christianity by David Jenkins, 1976, SCM Press Ltd.London, p 107
Encyclopaedia Britannica, 1994, “ History of Religion” 1
Colson,A.B. and de Armellado,C., 1983, An Amerindian derivation for Latin American 2Creole illnesses and their treatment, Soc.Sci Med 17, 1229-48


[18] تاج العروس، المجلد الثامن، ص 303/ نقلاً عن: تاريخ العرب قبل الاسلام تأليف د/ جواد علي، مطبعة المجمع العلمي العراقي/ بغداد، المجلد الخامس ص 168
Karen Armstrong, A History of God, 1993, Vintage, P. 12 1
[20] Karen Armstrong P 14
[21] Karen Armstrong p 17
[22] سليمان مظهر: قصة الديانات، مكتبة مدبولي، القاهرة 2002 ، ص 23
[23] Genesis, Chapter 12:8 ( سفر التكوين، الاصحاح 12، ألآية
[24] سفر ماثيو، الاصحاح 15، ألآية24 (Mathew 15:24)
[25] تاريخ العرب قبل الاسلام، د/ جواد علي/ مطبوعات المجمع العلمي العراقي- بغداد- المجلد الرابع، ص 200

[26] تاريخ الطبري، المجلد الاول ص 554
1 تاريخ العرب قبل الاسلام، د. جواد علي، مطبوعات المجمع العلمي العراقي، بغداد، المجلد الخامس، ص 258

[28] تاريخ العرب قبل الاسلام، المجلد الخامس، ص 377 وما بعدها ( مصدر سابق)
[29] تاريخ العرب قبل الاسلام، المجلد الخامس،ص 215 ( مصدر سابق)
[30] تاريخ العرب قبل الاسلام، المجلد الخامس، ص 230 ( مصدر سابق)
[31] المشرق: السنة السابعة والثلاثون، كانون الثاني- آذار 1939 ص92
[32] لسان العرب، المجلد الرابع، ص 275/ نقلاً عن تاريخ العرب، المجلد الخامس، ص 273
[33] تاريخ العرب قبل الاسلام، المجلد الخامس ص 274 ( مصدر سابق)
[34] تاج العروس، المجلد الاول، ص 732/ نقلاً عن تاريخ العرب قبل الاسلام، المجلد الخامس، ص 294 ( مصدر سابق)
[35] تفسير إبن كثير للآية 68 من سورة الفرقان
[36] -cias.com/e.o/texts/political/code_hammurabi.htmhttp://i/

* المقدمة بها اختلاف في صيغة النقد المطروح الكتاب في جملته نفي قاطع لامكانية صحة الاسلام او حتي الاديان الاخري (في بعض الاحيان قد ينتاب القارئ احساس بان الكاتب يتحامل دون ان يتضح هذا التحامل تجاه المسيحية او اليهودية) لكن نقد هاتين الديانتين مضمن ف يالفصل الذي يتحدث فيه عن اصل الاديان ... لكن النبرة المتسامحة نوعا ما تختفي تماما كلما اوغلنا في الكتاب و مجمل جوهر الكتاب ..
فلنحاول معاً قراءة الكتاب و محاولة بعقل و افق مفتوح ....

Post: #2
Title: Where's open mind's
Author: Mohammed Elhaj
Date: 12-29-2004, 12:38 PM

Where's open mind's
????

Post: #3
Title: Re: Where's open mind's
Author: Mohammed Elhaj
Date: 12-30-2004, 10:52 AM
Parent: #2

في مقدمة الكتاب الكثير من الحقائق التاريخية حول الاصولية الدينية الاسلامية و المسيحية و هذه ثابتة تاريخياً، و انا اعتقد فيما يخص التاريخ الاسلامي ان ما ظل يعرف باهل السنة اوالاشعريين قد كتبوا التاريخ الاسلامي كما ارادوه اي دون ان يتوخو المصداقية التاريخية فيما حاولو ان يؤرخوا و قدسوا الكثير من الصحابة عن افعال كانت قد حدثت بالفعل خوفاً من انعكاسات ذلك .... هذا اشكال ... و الاشكال الثاني الجدير بالملاحظة هو حقيقة ان الدولة الاسلامية بالوصف المثالي الذي ظل يذكر في كتب التاريخ الاسلامي لم تتحقق .. تبقي المشكلة قائمة حتى اذا ابتعدنا قيلا عن اطروحة الكتاب الاساسية ....

Post: #4
Title: Re: كتاب قراءة نقدية للاسلام - محاولة لطرح حوار هادئ
Author: Mohammed Elhaj
Date: 12-30-2004, 11:27 AM

الذي تم عرضه سابقا هو الجزء الاول للكتاب و سأقوم بعرضه في جزاين الي اربعة اجزاء لتسهيل النقاش و محاولة تنظيمه ....
لا اجد ان الكاتب قد جانب الصواب فيما جاء في المقدمة و حقيقة موسف جداً ما حدث من اجهاض لمحاولات التي قام بها الفلاسفة المسلمون الأوائل من قبل المتشددين الذين كانوا العوبة في ايدي الحكام استخدموا لتثبيت دعائم سطوتهم و سلطتهم و لمحو التأثير التنويري الذي كانت ستلعبه محاولات قراءة التراث الفكري اليوناني بعقليات هؤلاسء الفلاسفة ...


الفصل الثالث

محمد بن عبد الله

مولده
اي محاولة للبحث عن تفاصيل حياة الرسول تصطدم بحائط من الخرافات بناه كُتاب سيرة الرسول في القرن الثامن الميلادي ومابعده. نزلت الرسالة على الرسول وعمره حوالي اربعين عاماً. قبل نزول الرسالة كان محمد رجلاً عادياً من بني هاشم، يعمل في التجارة، مثله مثل رجال كثيرين من قريش في ذلك الوقت. وبالطبع، لم يكن عرب مكة في القرن السادس الميلادي، يعرفون كتابة شهادات الميلاد لاطفالهم، ولم يكن لديهم تقويم متفق عليه. وعندما ابتدأ محمد بتبليغ رسالته، لم يكن احدٌ ممن حوله مهتماً لمعرفة في اي يوم من ايام الاسبوع ولد، ولا في اي عام، وإنما كان همهم محاربة دينه الجديد. وحتى حين مات لم يتفق الناس على اي يوم مات فيه، قال بعضهم انه مات في اليوم الثامن والعشرين من صفر وقال آخرون في اليوم الثالث عشر من ربيع الاول في العام الحادي عشر للهجرة. ومع هذا نجد مؤرخين مثل " ابن كثير" الذي الف " مختصر السيرة النبوية" في القرن الثامن الميلادي يخبرنا بالتفصيل عن حمل امه به، ويوم مولده، وكل المعجزات التي ظهرت يوم ان وُلد وحتى يوم ان حملت به أمه.

ونعلم من كتب السيرة كذلك ان النبي ولد مختوناً ومسروراً، اي مقطوع حبل السرة. وولد وبصره شاخص الى السماء. فلو ولد النبي وحبل سرته مقطوعاً لمات قبل ان يولد لان حبل السره هو الذي يوصل الاوكسجين الى الطفل في الرحم والى ان يصرخ الطفل صرخته الاولى يكون اعتماده على حبل السرة كلياً، كما يؤكد الطب الحديث، فاذا انقطع حبل السرة قبل ان يولد الطفل، مات ذلك الطفل.
وتقول السيرة النبوية لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله ارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه اربع عشرة شرفة، وخمدت نار الفرس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاصت بحيرة ساوة[37].

ولنسأل انفسنا سؤالاً بسيطاً. اذا كان الله قد ارسل محمداً لاهل مكة والجزيرة العربية في المكان الاول، كما يذكرنا القرآن في عدة آيات انه انزله قرآناً عربياً، لماذا ارتجس ايوان كسرى في العراق وخمدت نار المجوس في بلاد فارس ولم يحدث شئ في مكة وجوارها، أما كان الاجدر في الليلة التي ولد فيها رسول الله ان يسطع النور الباهر في الكعبة ليقنع اهل مكة ان الله مرسل رسولاً منهم؟

وواضح ان كل هذه خرافات " Mythology" نسجها كُتّاب السيرة النبوية حول النبي بدون تمحيص وبدون اي اعتبار لعقل اي انسان يقرأ هذه الكتب. فيحدثنا ابن كثير، مثلاً، ان آمنة بنت وهب، ام النبي، قالت لحليمة السعدية التي ارضعته: " حملت به فما حملت حملاً قط اخف منه". ونحن نعلم ان محمداً لم يكن له اخوة ومات ابوه وامه حبلى به. فكيف تقول انها ما حملت قط حملاً اخف منه وهي لم تحمل غيره؟ وان كانت تعني حمل اشياء اخرى غير الجنين، فهي لا بد قد حملت عدة اشياء اخف من الجنين الذي يزن في المتوسط ثلاثة كيلوجرامات.

كل ما نستطيع ان نحصل عليه من السيرة النبوية هو ان محمداً ولد في عام الفيل، اي حوالي عام 570 للميلاد وان ابوه مات وهو بعد في بطن أمه، وارضعته حليمة السعدية، وماتت امه وعمره خمسة او ستة سنوات ورباه عمه ابو طالب. وكان يرعى الغنم وهو طفل ثم مارس التجارة لحساب أمرأة ثرية اسمها خديجة بنت خويلد، وتزوجها فيما بعد وكان عمره آنذاك خمسة وعشرين عاماًً وهي عمرها اربعون عاماً. وصار محمد مسؤولاً عن تجارة خديجة، يسافر بها الى الشام من وقت لآخر. وقد اتاح له هذا الزواج التفرغ للتأمل في شؤون الكون واللجوء الى غار حراء من وقت لآخر

طفولته
اما طفولة محمد فلا نعلم عنها شيئاً لان كتب السيرة لا تذكر منها الا القليل، رغم زعمهم ان كل آيات النبوة ظهرت عليه عند مولده. ومن البديهي ان يهتم معاصروا محمد بنشأته اذا اهتز ايوان كسرى وسطع نورٌ باهر يوم مولده، واغلبهم قال سيكون له شأن عظيم. ولكن للاسف لا نجد الا القليل عن طفولته. فنعرف، مثلاً انه عندما كان عمره احدى عشر عاماً اصطحبه عمه ابو طالب الى الشام، حيث رأى عالماً فيه حضارة وتهذيب، غير ما رأى في مكة. وان كان صغيراً في تلك الرحلة وربما لم يحتك بديانة التوحيد في الشام، الا ان الرحلة فتحت عقله وجعلته يتوق الى رحلات اخرى، قام بها فيما بعد، لا بد انه رأى في اثنائها الرهبان واستمع اليهم[38].

وفي اندفاع كُتاب السيرة الى تمجيد محمد والحاق الكرامات به، كتبوا عن طفولته اشياء لا يمكن ان يصدقها اي انسان. فمثلاً، كتب ابن كثير: كان ابو طالب لا مال له، وكان يحبه (محمد) حباُ ما يحبه ولده وكان يخصه بالطعام، وكان اذا اكل عيال ابي طالب جميعاً او فرادى لم يشبعوا، واذا اكل معهم رسول الله شبعوا، وكانوا يفضلون من طعامهم اذا اكل معهم، وان لم يكن معهم لم يشبعوا.

و في نفس الصفحة يقول ابن كثير: " وكان ابو طالب يقرّب الى الصبيان صفحتهم اول البُكرة، فيجلسون وينتهبون، ويكف رسول الله يده فلا ينتهب معهم. فلما رأى ذلك عمه عزل له طعامه على حدة "[39]. فإذا كان أطفاله يشبعون ويفضلون في طعامهم اذا أكل معهم، لماذا كانوا ينتهبون، ولماذا فصل له طعامه عنهم؟

زواجه من خديجة
تزوج محمد خديجة وهو في العشرينات من عمره وظل معها ما ظلت خديجة على قيد الحياة. ثم ماتت خديجة قبل هجرته الى المدينة بثلاث سنين[40]. وبين موت خديجة وموته هو في السنة الحادية عشر للهجرة، اي في ظرف ثلاث عشرة سنة، تزوج الرسول اربع عشرة امرأة او اكثر وملك عدداً من الجواري. ويقال انه دخل بثلاث عشرة امرأة من ضمنهن خديجة، وجمع بين احدى عشر وتوفي عن تسعة[41]

وقد يسأل سائل: لماذ تزوج محمد، وهو ابن بضع وعشرين عاماً، وكان رجلاً في غاية الوسامة، كما يخبرنا اهل السيرة، لماذا تزوج خديجة بنت خويلد بن اسد بن عبد العزى، وقد كانت قبله عند عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وولدت له بنتاً، ثم توفى عنها فتزوجت ابو هالة بن زرارة بن نباش بن زرارة بن حبيب بن سلامة بن عدي فولدت له هند بن ابي هالة، ثم توفى عنها فتزوجها الرسول[42].

فلماذا اذاً تزوج هذا الشاب ثيباً في الاربعين من عمرها ولديها طفلان؟
قد نجد الجواب في حديث نُسب الى عائشة. فقد قال الامام احمد عن ابن اسحاق، اخبرنا مُجالد، عن الشّعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان النبي اذا ذكر خديجة اثنى عليها بأحسن الثناء. قالت: فغرت يوماً فقلت: ما اكثر ما تذكرها حمراء الشدقين، قد ابدلك الله خيراً منها. قال: " ما ابدلني خيراً منها، وقد آمنت بي اذ كفر بي الناس، وصدقتني اذ كذبني الناس، وآستني بمالها اذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها اذ حرمني اولاد النساء[43].

. فهل يجوز انه تزوجها من اجل مالها؟ وانه عندما كان في عنفوان شبابه، لم يتزوج غيرها، خوفاً من ان تحرمه مالها، ولما ماتت وعمره خمسون عاماً تزوج اربع عشرة امرأة او يزيد؟

نبوته
موضوع النبوة يثير جدالاً عميقاً في كافة المجتمعات، فهناك من ينكره وهناك من هو على استعداد لأن يموت من اجله. فموضوع النبوة يجري في خط موازي لنظرية داروين في التطور ولذا لا يمكن لهما ان يلتقيا. فنظرية داروين تقول بتطور الحياة من حيوانات بخلية واحدة " الاميبا" الى الانسان في شكله الحالي ماراً بمراحل متعددة من النمو والتطور. والاديان السماوية تقول بان الله خلق آدم وحواء ومنهم انتشر الجنس البشري في الارض، ولذا ارسل الله الرسل لهدايتهم. وقد يسأل سائل: ما الحكمة في ذلك؟ ما دام الله قد خلق الانسان، وهو القادر على كل شئ، لماذا لم يخلقهم كلهم مؤمنين؟ ويجيبنا علماء الاديان بان الله اراد ان يختبر الانسان.

ولكن قد نسأل لماذا احتاج الله ان يختبر الانسان وهو عالم بكل سرائره وما سيفعله في حياته من قبل ان يولد الانسان؟ اننا نختبر الانسان لمعرفة قدراته الفكرية او العملية، ولكن اذا كنا مسبقاً نعرف قدرات هذا الشخص، يكون الاختبار اضاعة للوقت والجهد. واذا كان الغرض من ارسال الرسل هو هداية البشر، فقد فشلت التجربة مرات عديدة. فلماذا استمر الله في اجراء نفس التجربة؟ فكل الانبياء الذين يزيد عددهم عن العشرين نبياً وارسلوا الى بني اسرائيل، لم ينجحوا الا في هداية جزء يسير منهم. وتعداد اليهود اليوم في كل انحاء العالم لا يزيد عن العشرين مليون شخصاً من مجموع سكان العام الذين يزيد عددهم عن ستة مليارات من ألاشخاص. واظن المنطق يقنعنا ان تجربة ارسال كل هولاء الانبياء الى بني اسرائيل كانت تجربة فاشلة. وقد قتل بنو اسرائيل بعض هولاء الانبياء كما يخبرنا القرآن، وقد عاقب الله كل الامم التي بعث فيهم رسولاً بأن خسف بهم الارض او ارسل عليهم الزلزال او الصيحة التي دمرتهم ودمرت مساكنهم لان اغلبهم لم يؤمنوا.

وفي عهد نوح ارسل طوفاناً اغرق الزرع والضرع وكل البشر ماعدا نوحاً واهله الذين آمنوا به. وبعد ان راى اهل نوح ما حدث للذين لم يؤمنوا، عادوا بعد اجيالٍ الى الكفر والعصيان مما اضطر الله ان يرسل لهم عدة انبياء آخرين، وتكررت نفس عملية خسف الارض والدمار. وحتى في العهد الحديث نسبياً عندما ارسل الله موسى الى بني اسرائيل، لماذا ارسل الله موسى وهو يعلم ان بلسانه عقدة ولن يستطيع ان يقنع الناس، ومهمة الرسول الاولى هي تبليغ الرسالة، ولذا يجب ان يكون فصيحاً، فاضطر موسى أن يسأل الله ان يرسل معه اخاه هارون؟ لماذا لم يرسل هارون وحده؟

ومما يثبت فشل تجربة الرسل ان بني اسرائيل عندما قادهم موسى في هجرتهم من مصر ورأوا ان الله قد شق لهم البحر وانجاهم واغرق فرعون وجنده، وانزل لهم المن والسلوى من السماء ليطعمهم، لم يقتنعوا بوجوده او برسالته فصنعوا لانفسهم عجلاً من ذهب وعبدوه. فهل هناك معجزات أكثر من هذه لتقنع الناس بوجود الله؟ فإذا لم يقتنع بنو أسرائيل بعد أن رأوا كل هذه المعجزات، الا يقنع كل هذا الله بأن ارسال الانبياء لا يجدي فتيلا؟
وهذا هو القرآن نفسه يقول في الآية 30 من سورة " يس" : " يا حسرة علي العباد ما يأتيهم من رسول الا كانوا به يستهزؤن". فاذا علم الله ان كل العباد يستهزؤن برسلهم، لماذا يستمر في ارسالهم؟ لماذا لا يدمر الارض ومن عليها، كما فعل من قبل، ويخلق اناساً على دينٍ واحد؟ وارسال الرسل والانبياء، وان هدى بعض الناس، فهم دائماً اقلية، كما يخبرنا القرآن نفسه في سورة يوسف، الاية 103: " وما اكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين".

وفي سورة آل عمران، ألآية 55 عندما يخاطب الله عيسى فيقول له: " وجاعل الذين أتبعوك فوق الذين كفروا الى يوم القيامة "، فنفهم من هذه ألآية أنه سيكون هناك مسيحيون مؤمنون بعيسى الى يوم القيامة، فما فائدة ارسال محمد بالاسلام ليظهره على الدين كله، وهو قد قرر أنه سيكون هناك مسيحيون الى يوم القيامة. والدليل على ذلك أنه بعد ألف وأربعمائة سنة على إرسال محمد بالاسلام ليظهره على الدين كله، ما زالت المسيحية أكبر ديانة سماوية حتى ألان، وعدد أتباعها يفوق عدد المسلمين أضعافاً.

والقرآن يخبرنا في عدة آيات ان الله لو شاء لجعل الناس كلهم أمةً واحدةً يؤمنون برسالة واحدة ويكونون على دين واحد " ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة"[44]. وكذلك يخبرنا القرآن ان الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء: " من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على سراط مستقيم "[45].

ويخبرنا الله كذلك في سورة الاسراء انه اذا اراد ان يهلك قريةً، امر مترفيها ففسقوا فيها، فحق عليها القول، فيدمرها تدميراً. فكل هذه الايات تؤكد ان الانسان مسيّر، ليس بيده اي شئ، الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء ويدمر القرى التي يختار تدميرها. فاذاً ما الحكمة في ارسال الانبياء لهداية البشر، والبشر لا يملكون الحق في تقرير مصيرهم؟

وفي بعض الاحيان نشعر ان الله لا يريد للناس ان يتبعوا الرسل، ففي سورة مريم الاية 83، نجد الله يقول: " ألم تر إنا ارسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم ازاً " اي تهيّجهم الى المعاصي حسب تفسير الجلالين. فما الحكمة في ارسال انبياء لهداية الناس، وفي نفس الوقت يرسل الله الشياطين لتهيّجهم على المعاصي؟

وهناك مفكرون عبر التاريخ قد انكروا فكرة ارسال الانبياء، منهم الطبيب الفارسي المشهور محمد بن زكريا الرازي (250-313 هجرية) والمفكر والشاعر العربي الشهير ابو العلاء المعري [46] (369-450 هجرية)، الذي قال:
تحطمنا الايام كالزجاج ولكن لا يُعاد لنا سبك

واذا اخذنا في الاعتبار الاعداد الهائلة من البشر الذين قُتلوا في الحروب الصليبية بين المسيحيين والمسلمين، والذين قُتلوا في محاكم التفتيش الاسبانية " Spanish inquisition"، وكذلك الذين قُتلوا ايام انتشار الدولة الاسلامية، والالاف الذين مازالوا يموتون في الحروب بين الاديان في عدة اقطار من العالم، يتضح لنا ان الاديان جلبت للجنس البشري ضرراُ يفوق المصلحة التي نتجت عنها. وهناك مفكرون عظماء عبر التاريخ البشري قدموا للعالم افكاراً نيرة افادت البشرية، ولم يكونوا انبياء، مثل كونفوسيوس " Confucius" و بوذا "Buddha" و حمورابي وأرسطو وغيرهم.

ومع ان محمداً كان من بني هاشم، لم يعتبره سادات قريش ذا مكانة عظيمه لانه كان يتيماً وفقيرا، وكان في مفهومهم ان الله اذا اراد ان يرسل رسولاً، لا بد له ان يختار رسولاً ذا مكانة في مجتمعه. ولهذا لما اعلن نبوته، قال الوليد بن المغيرة، زعيم بني مخزوم بمكة: عندما يكون في قريش رجل مثلي وفي بني تميم رجل مثل عروة بن مسعود، كيف يدّعي محمد انه نبي؟ فانزل الله قوله:" وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيم, أهم يُقسّمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون"[47].

ظل النبي بمكة ثلاث عشرة عاماً يحاول اقناعهم بدينه دون جدوى. وكان يعرض نفسه على قبائل العرب في موسم الحج من كل عام، دون ان يؤمن به احد. وزار بني ثقيف بالطائف يدعوهم الى الاسلام فلم يتبعوه. واخيراً استمع اليه نفر من الاوس والخزرج فآمنوا به وعقد معهم معاهدة لنصرته " بيعة العقبة"، ودعوه الى الهجرة لهم في المدينة، فهاجر اليها سنة ثلاث عشرة من بعثته، اي حوالي عام 623 للميلاد.

غزواته
عندما استقر النبي بالمدينة وسط الانصار والمهاجرين، ابرم اتفاقاً مع يهود المدينة أمنّهم فيه على انفسهم ومالهم على الا يحاربوه، وضمن بذلك ان قاعدته بالمدينة سالمة لا خوف عليها، وابتدأ يخطط لغزواته ليدخل الناس في الاسلام او يدفعوا له الجزية لتساعده على تحمل نفقات اقامة دولة للمسلمين. والدولة، طبعاً، لا بد لها من جيش يدافع عنها ويزيد من مساحتها وسطوتها. ويحتاج تجهيز الجيش الى أموال لشراء الاسلحة والخيول واطعام الجنود وما الى ذلك. ولكن من اين لمحمد بكل هذا المال.
الحل الذي لجأ اليه النبي كان السطو على قوافل قريش التي كانت دائماً محملةً بأثمن البضائع من الشام وكذلك غزو القبائل المجاورة. وحسب ما قال محمد بن عمر: ان مغازي رسول الله معروفة مجتمع عليها ليس فيها اختلاف بين احد في عددها وهي سبع وعشرون غزوة. واخْتُلف في عدد سراياه، حدثنا محمد بن حُميد قال: حدثنا سلمة قال: حدثنا محمد بن اسحاق قال: كانت سرايا رسول الله وبعوثه – فيما بين ان اقدم المدينة وبين ان قبضه الله خمساً وثلاثين بعثاً وسرية[48].

ففي شهر رمضان على رأس سبعة اشهر من هجرته الى المدينة، عقد النبي لحمزة بن عبد المطلب لواءً ابيضاً في ثلاثين رجل من المهاجرين، وامره ان يعترض لعيرات قريش، كما زعم الواقدي[49]. ولكن حمزة لما حاول اعتراض القافلة وجد ابا جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل، فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني فافترقوا ولم يكن بينهم قتال.

وفي شهر ربيع الاول من السنة الثانية للهجرة خرج الرسول في غزوة مع مائتي راكب، وكان مقصده ان يعترض لعير قريش، وكان فيها امية بن خلف ومائة رجل والفان وخمسمائة بعير. وسار النبي حتى بلغ بُواط من ناحية رضوى لكنه لم يجد عير قريش، فرجع للمدينة وسميت هذه الغزوة " غزوة بواط"[50].

ومرة اخرى خرج في غزوة العُشيرة يريد الاعتراض لعيرات قريش وسار حتى وصل العُشيرة ببطن ينبع، ولم يعثر على عير قريش، فرجع. وفي رجب من نفس العام ارسل عبد الله بن جحش مع ثمانية من المهاجرين، وكتب له كتاباً وامره الا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه. فلما فتح الكتاب وجد فيه: " اذا نظرت في كتابي فامض حتى تنزل نخلةً بين مكة والطائف فترّصد بها قريشاً وتعلم لنا من اخبارهم". وساروا حتى نزلوا نخلة، فمرت عيرُ لقريش فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان بن عبد الله بن المغيرة واخوه نوفل والحكم بن كيسان. وتشاور الصحابة فيهم، وذلك في آخر يوم من رجب فقالوا: والله لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعُن به منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام، فاجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم واخذ ما معهم، فحلقوا رأس احدهم ليطمئن القرشيون اصحاب العير أنهم من عُمار بيت الله الحرام.

وعندما أطمئن القرشيون ووضعوا سلاحهم رمي واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله واستاسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان وافلت منهم نوفل بن عبد الله[51]. واقبل عبد الله بن جحش واصحابه بالعير والاسيرين، حتى قدموا على رسول الله. فقال عبد الله بن جحش لاصحابه: ان لرسول الله فيما غنمنا الخمس، فعزله وقسم الباقي بين اصحابه، وذلك قبل ان تنزل آية الخمس.

ولما قالت قريش قد استحل محمد واصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم واخذوا فيه الاموال واسروا الرجال، أنزعج الرسول من هذا الكلام وقال لأصحابه: " ما أمرتكم بقتالٍ في الشهر الحرام".[52] ورفض ان يأخذ نصيبه من الغنيمة، وهو الاسيرين وبعض العير. وحينئذ سقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم أخوانهم من المسلمين فيما صنعوا.[53]

ولكن سرعان ما نزلت الاية: " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل: قتال فيه كبيرٌ، وصدٌ عن سبيل الله وكفرٌ به، والمسجد الحرام واخراج اهله منه اكبر عند الله، والفتنة اكبر من القتل، ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم ان استطاعوا"[54]. فلما نزل القرآن بهذا الامر وفرّج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق، أخذ رسول الله –ص- العير والاسيرين.[55] وهذا كان يمثل خمس الغنيمة، وكانت هذه اول غنيمة للمسلمين، وفادى الاسيرين بأربعين أوقية لكل منهما وهذا أول فداء لأول أسير في الاسلام.[56]

وهذه ألآية طبعاً عذر لا تسنده الوقائع، فقريش لم تكن تحاربهم في ذلك الوقت، بل بالعكس، حاول المسلمون اعتراض قوافل قريش ثلاث مرات قبل هذا. وحتى في هذه المرة لم تكن قريش قد اعتدت عليهم وانما هم الذين اعتدوا، وفي الشهر الحرام.

غزوة بدر الكبرى
سمع الرسول بأبي سفيان صخر بن حرب مقبلاً من الشام في عير لقريش عظيمة فيها اموال وتجارة، وفيها ثلاثون رجلاً، او اربعون، وكان في العير الف بعير تحمل اموال قريش باسرها، فقال الرسول لاصحابه: " هذه عير قريش فيها اموالهم، فاخرجوا اليها لعل الله يُنفلكموها". فسمع ابو سفيان ان المسلمين يتربصون بهم، فارسل ضمضم بن عمرو الى مكة يطلب النجدة منهم. فخرجت قريش في تسعمائة وخمسين مقاتلاً وخرج النبي مع المهاجرين والانصار حتى بلغ بدر فنزل بها في انتظار ابي سفيان وعير قريش. وعلم ابو سفيان بنزول المسلمين ببدر فغير طريق قافلته ونجا بها وارسل الى قريش يخبرهم انه قد نجا بقافلته فليرجعوا.

ولكن ابو جهل بن هشام اصر ان تصل قريش الى بدر، وكان موسماً من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام. فساروا حتى نزلوا بالعدوة القصوى. وسار الرسول حتى جاء ادنى ماء من بدر فنزل به. وكان مع الرسول رجل يدعى الحباب بن منذر بن الجموح، قال للرسول: يا رسول الله ارايت هذا المنزل، أمنزلاً انزلكه الله ليس لنا ان نتقدمه ولا نتأخر عنه، ام هو الرأى والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأى والحرب والمكيدة. قال الحباب: يارسول الله، فان هذا ليس بمُنزل، فامض بالناس حتى نأتي ماءً من القوم فننزله، ثم نغّور( نملأ بالتراب) ما وراءه من القُلُب ( الآبار)، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله: " لقد اشرت بالرأي" وفعل ما اقترحه ابن المنذر. والتقى الجمعان وانتصر المسلمون[57].

وقال ابن اسحاق عن عبد الرحمن بن عوف انه مر يوم بدر بأمية بن خلف واقفاً مع ابنه علي وهو آخذ بيده، فأسرهما عبد الرحمن بن عوف، فرآهما بلال فقال : رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوتُ ان نجا. ثم صاح بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف. فهجم الانصار عليهما وقتلوهما.

واختلف الصحابة في بقية الاسرى: أيُقتلون او يُفادون؟، فاستشار الرسول ابا بكر وعلياً وعمر، فقال ابو بكر: يارسول الله هولاء بنو العم والعشيرة والاخوان، واني ارى ان تأخذ منهم الفدية، فيكون ما اخذناه قوةً لنا، وعسى ان يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً. فقال عمر: والله ما ارى ما رأى ابو بكر، ولكن ارى ان تمكنني من فلان، قريب لعمر، فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان اخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله انه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين. فأخذ الرسول براي ابي بكر وقرر ان يأخذ من الاسرى الفداء.

وفي اليوم التالي وجد عمر الرسول وابا بكر يبكيان، فلما سأل عن السبب، قال الرسول:" نبكي للذي عرض علي اصحابك من اخذهم الفداء" وانزل الله " ما كان لنبي ان يكون له اسرى حتى يثخن في الارض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الاخرة والله عزيز حكيم". ثم احل لهم الغنايم[58].

المنطق يتطلب ان تكون الشرائع السماوية ارحم من تشريع البشر، فالله يصف نفسه بانه رحيم بعباده غفور بهم. ومن اسمائه السلام والرؤوف وما الى ذلك، فهل يعقل ان يغضب الله على الرسول لانه لم يقتل الاسرى، وقرر ان يأخذ منهم الفداء بينما التشريع الانساني يحرم قتلهم؟ ولم يذكر احد من المؤرخين ان الرسول انّبَ بلال واصحابه على قتل الاسيرين أمية بن خلف وابنه. واي اله هذا الذي يشجع على قتل الاسرى؟

وحتى بعد أن كثر عدد المسلمين ونزلت سورة محمد، قال الله: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فاما مناً بعد واما فداء".[59] ويقول القرطبي في تفشير هذه ألآية: قال الله: فضرب الرقاب، ولم يقل اقتلوهم، لأن في العبارة " ضرب الرقاب" من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صوره وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن.

فالله لا يكتفي بقتل الكافرين فحسب، بل يجب أن نقتلهم شر وافظع قتل. أما ألاسرى، فرغم أن الله قال " اما مناً واما فداء" فيقول القرطبي في تفسير ألآية: " قال قتادة ومجاهد إذا أُسر المشرك لم يجز أن يُمن عليه، ولا أن يُفادى به فيرد الى المشركين، ولا يجوز أن يُفادى عندهم الا بالمرأة لأنها لا تُقتل". فحتى بعد أن تلطف الله على المشركين بعد أن غضب على الرسول لانه أخذ منهم الفداء في واقعة بدر، وقال " فأما مناً واما فداء" يقول علماء المسلمين يجب قتل الاسرى.


غزوة بني قينقاع

كان للرسول حلفٌ مع يهود المدينة، وكتب رسول الله كتاباً بين المهاجرين والانصار وادع فيه اليهود وعاهدهم واقرهم على دينهم واموالهم واشترط عليهم وشرط لهم فقال:" بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي الامي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، .... الى ان قال:ان اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وان يهود بني عوف أمةٌٌ مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وانفسهم، الا من ظلم واثم فانه لا يوتغ الا نفسه واهل بيته. وان على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وان بينهم النصر على من حارب اهل هذه الصحيفة، وان بينهم النصح والنصيحة والبر دون الاثم، وانه لم يأثم امرؤُ بحليفه، وان النصر للمظلوم، وان يثرب حرام جوفها لاهل هذه الصحيفة، وان الجار كالنفس غير مضار ولا آثم ". ومعنى العبارة " أن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة" هو أن جوف المدينة حرمٌ لأهل هذه المعاهدة، لا يجوز الاعتداء عليهم فيها.
ويقال ان أمرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست الى صائغ هناك منهم فجعلوا يراودونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ الى طرف ثوبها فعقده الى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها، فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهودياً، فشد بعض اليهود الحاضرين على المسلم فقتلوه، فاستصرخ اهل المسلم المسلمين على اليهود، فحاصرهم رسول الله حتى نزلوا على حكمه، رغم ان العقد بينهم يقول " الا من ظلم واثم فانه لا يوتغ الا نفسه واهل بيته". فبدل ان يُحاسب الذين اثموا، حاصر النبي كل بني قينقاع.

فكُتفوا وهو يريد قتلهم، فكلمه فيهم عبد الله بن ابي بن سلول، فقال: يا محمد، احسن في موالي – وكانوا حلفاء الخزرج – فأبطأ عليه النبي. فادخل يده في جيب رسول الله، فقال الرسول: " أرسلني" ، وغضب رسول الله حتى رأوا في وجهه ظلالاً ثم قال: " ويحك ارسلني" فقال عبد الله: لا والله لا ارسلك حتى تحسن الى موالي. اربعمائة حاسر وثلاثماية دارع قد منعوني من الاسود والاحمر، تحصدهم في غداة واحدة! واني والله لا آمن واخشى الدوائر. فقال الرسول: " هم لك. خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم". فأرسلوهم، ثم امر بإجلائهم، وغنم المسلمون ما كان لهم من مال[60]. وكان للرسول خُمس اموالهم.

وواضح ان النبي اراد عذراً لغزوة بني قينقاع، فاتخذ ما حدث للمرأة الاعرابية كذريعة لغزوهم. ويذكر الواقدي[61] ان بني قينقاع كانوا صاغة واصحاب سلاح، ولمكانتهم هذه في المدينة ولما ابدوه من مناصرة قريش، فكر الرسول في امرهم طويلاً وظل في ذلك حتى نزلت الاية " واما تخافن من قوم خيانة، فانبذ اليهم على سواء، ان الله لا يحب الخائنين"[62]. ويتضح من الاية ان الله احل للنبي ان يغزو من شاء اذا خاف منهم خيانةً. وهذا ما حدث لبني قينقاع دون اعتداء منهم علي المسلمين، بل بالعكس، قتل احد المسلمين الصائغَ اليهودي اولاً، فقتل اليهود المسلم القاتل. وهذا يقع تحت طائلة الاخذ بالثار التي كانت متفشية عند العرب في ذلك الوقت. ولكن النبي قرر نقض العهد معهم وحصارهم وطردهم من المدينة، بل لقتلهم لولا تدخل عبد الله بن أبي بن سلول، رغم الصحيفة التي تقول أن المدينة حرمٌ لأهل المعاهدة ولا يجوز الاعتداء عليهم فيها.

وسورة البقرة الآية 85 تقول عن اليهود: " وتُخرجون فريقاً منكم من ديارهم وتُظاهرون عليهم بالاثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرمٌ عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة". فإذا كان القرآن يُعيب على اليهود إخراجهم بعضهم من ديارهم ويقول لهم هو محرم عليكم، كيف إذاً أحل النبي لنفسه ان يُخرج بني قينقاع من ديارهم؟

وفي بداية السنة الثالثة للهجرة سمع النبي أن أبا سفيان خارج في تجارة للشام، وأنهم خافوا طريق الشام بعد موقعة بدر فسلكوا طريق العراق. قال ابو جعفر: واما الواقدي فزعم ان سبب هذه الغزوة كان ان قريشا قالت: قد عور علينا محمد متجرنا وهو علي طريقنا. وقال ابو سفيان وصفوان بن امية: ان اقمنا بمكة اكلنا رؤوس اموالنا. قال ابو زمعة الاسود: فانا ادلكم علي رجل يسلك بكم النجدية، لو سلكها مغمض العينين لاهتدى. قال صفوان: من هو؟ فحاجتنا الي الماء قليل، انما نحن شاتون. قال: فرات بن حيان، فدعواه فاستاجراه، فخرج بهم في الشتاء، فسلك بهم علي ذات عرق، ثم خرج بهم علي غمرة، وانتهي الي النبي خبر العير وفيها مال كثير، وانية من فضة حملها صفوان بن امية، فخرج زيد بن حارثة فاعترضها، فظهر بالعير وافلت اعيان القوم منه، فكان الخمس عشرين الفا، فاخذه رسول الله وقسم الاربعة الاخماس علي السرية[63]

وفي سنة اربع من الهجرة، ارسل النبي ابا سلمة بن عبد الاسد ليغزو بني اسد ومعه خمسون ومائة رجلاً. فانتهى الى ادنى قطن، وهو ماء لبني اسد، وكان هناك طليحة الاسدي واخوه سلمة ابناء خويلد. فلما رأوا السرية تفرقوا وتركوا عدداً كبيراً من الابل والغنم، فاخذها ابو سلمة ورجع للمدينة، واخرج للنبي خمس الغنيمة[64].

غزوة بني النضير
كان بين عمرو بن امية وبني النضير عهدٌ وحلف، وعندما قتل عمرو بن امية رجلين من بني عامر، خرج رسول الله الى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين، رغم المعاهدة سابقة الذكر التي كتبها بينه وبين يهود المدينة وقال فيها: " وإنه لم يأثم أمرؤ بحليفه".[65] ورغم هذا قال له بنو النضير: نعم يا ابا القاسم نعينك على ما احببت. ويبدو ان النبي جلس الى جنب جدار، فهمّ احد بني النضير بالطلوع فوق البيت لكي يرمي حجراً علي النبي فيقتله. ولكن النبي ترك مكانه من عند الجدار ورجع الى المدينة وارسل محمد بن مسلمة يأمر يهود بني النضير بالخروج من المدينة. فرفضوا الخروج، وعندئذ امر الناس بالخروج اليهم، وحاصرهم خمسة عشر يوماً وهم يقاومون في حصونهم.

وعندها امر رسول الله – ص - بقطع نخيلهم والتحريق فيها[66]. فنادوا عليه: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيب من صنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها، اذا كان لك هذا فخذه وان ان لنا فلا تقطعه[67]. وتنبه جماعة من المسلمين الى ان النخيل سوف يصير لهم بعد هزيمة بني النضير، فمنعوا أبا ليلى المازني وعبد الله بن سلام من ان يقطعوه، وكان النبي قد أوكل اليهما قطعه[68]. وذهب جماعة منهم الى النبي وقالوا له كيف نقطع النخيل وسوف يصير لنا؟ فانزل الله: " ما قطعتم من لينةٍ او تركتموها قائمة على اصولها فبأذن الله" [69]

ولما اشتد عليهم الحصار سألوا رسول الله ان يجليهم ويكف عن دمائهم على ان لهم ما حملت الابل من اموالهم. فحملوا ما استطاعوا من اموالهم وخرجوا الى خيبر ومنهم من سار الى الشام. وخلوا النخيل والمزارع لرسول الله، فكانت له خاصة لان المسلمين لم يحاربوا من اجلها.

غزوة بني قريظة
بعد غزوة الخندق اخبر الرسول اصحابه ان جبريل اتى اليه واخبره ان الله قد امره ان يغزو يهود بني قريظة، رغم الحلف الذي كان بينه وبينهم، فساروا اليهم وحاصروهم خمساً وعشرين ليلة. فبعثوا الى رسول الله ان ابعث الينا ابا لُبابة بن عبد المنذر نستشيره في امرنا. فارسله لهم، فلما رأوه جهش اليه النساء والصبيان يبكون، فرق لهم ، فقالوا: يا ابا لبابة أترى ان ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم. واشار بيده الى حلقه انه الذبح.

فاجتمع نفر من الاوس، وكانوا حلفاء بني قريظة، وقالوا للنبي: يا رسول الله انهم كانوا موالينا دون الخزرج، وقد عفوت عن بني قينقاع موالي الخزرج، فاعف عن بني قريظة. فقال النبي: يا معشر الاوس الا ترضون ان يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى. فقال: ذلك الى سعد بن معاذ. فقالوا لسعد: يا ابا عمرو احسن في مواليك، فان رسول الله انما ولاك ذلك لتحسن فيهم. فقال لهم: قد آن لسعد الا تأخذه في الله لومة لائم. وحكم سعد بان يُقتل الرجال وتُقسم الاموال وتسبى الذراري والنساء. فقال له النبي: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة ارقعة.
وخرج النبي الى سوق المدينة وامر ان تُحفر بها خنادق ثم انزلوا رجال بني قريظة وضربت اعناقهم في تلك الخنادق، حتى بلغ عددهم ستمائة او سبعمائة قتيل، وقال آخرون ان القتلى كانوا ثمانمائة الى تسعمائة. وقتل منهم امرأة واحدة، هي زوجة حسن القريظي، كانت قد رمت بحجر نحوالنبي في ايام الحصار.ورغم ان النبي قد وافق مقدماً ان يقبل حكم سعد، وعندما سمعه قال انه حكم الله، لكنه خالف حكم الله واعدم امرأةً رغم ان سعد قال تُسبى النساء. وقد رأينا سابقاً أن قتادة ومجاهد قالا: لا يجوز أن يُفادى الاسير المشرك الا بالمرأة لأن المرأة ألاسيرة لا تُقتل.

و بعث الرسول سعد بن زيد الانصاري بسبايا من سبايا بني قريظة الى نجد فابتاع له بهم خيلاً وسلاحاً، واختار لنفسه ريحانة بنت عمرو بن خُناقة وعرض عليها ان تسلم فيتزوجها، او تكون مما ملكت يمينه. فقالت: يا رسول الله بل اتركني في ملكك فهو اخف علي وعليك[70]. وقد يسال سائلٌ: أيُعقل ان يحكم الله من فوق سبعة ارقعة بقتل كل هذا العدد من الاسرى وسبي نسائهم واطفالهم، مع العلم بانهم لم يحاربوا الرسول، وان كانوا قد شجعوا قريشاً على حربه؟

غزوة خيبر
في السنة السابعة للهجرة قرر النبي غزو يهود خيبروكان فيهم يهود بني قينقاع ويهود بني النضير الذين سبق ان أُخُرجوا من المدينة. فسار النبي بجيشه حتى نزل بوادي يقال له الرجيع، فنزل بين اهل خيبر وبين غطفان ليحول بينهم وبين ان يمدوا اهل خيبر وكانوا لهم مظاهرين. بدأ الرسول بالاموال يأخذها مالاً مالاً ويفتحها حصناً حصناً، فكان اول حصونهم افتتح حصن ناعم ثم القموص، حصن ابن ابي العقيق، واصاب النبي منهم سبايا منهن صفية بنت حُيي بن أخطب، فاصطفى النبي صفية لنفسه. ثم جعل النبي يتدنى الحصون والاموال.

فلما فتح النبي من حصونهم ما فتح وحاز من اموالهم ما حاز، انتهوا الى حصنهم الوطيح – وكان آخر حصون خيبر- حاصرهم النبي بضع عشرة ليلة. قال ابن اسحق: واتى النبي بكنانة بن الربيع بن ابي الحقيق – وكان عنده كنز بني النضير- فسأله فجحد ان يكون له علم بالكنز، فاتى النبي برجل من يهود، فقال الرجل للنبي: اني قد رايت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة. فقال النبي لكنانة: أرايت ان وجدناه عندك، أأقتلك؟ قال: نعم. فأمر النبي بالخربة فحُفرت فاخرج منها بعض كنزهم ثم سأله ما بقي فأبى ان يؤديه، فأمر به رسول الله الزبير بن العوام فقال: عذبه حتى تستأصل ما عنده، فكان الزبير يقدح بزنده في صدره حتى اشرف على الهلاك، ثم دفعه رسول الله الى محمد بن مسلمة فضرب عنقه[71].
وحاصر النبي اهل خيبر في حصنهم حتى اذا ايقنوا بالهلكة سألوه ان يأخذ مالهم ويحقن لهم دماءهم.ففعل. وكان النبي قد حاز الاموال كلها الا ما كان من حصن الوطيح. ولما نزل اهل خيبر من حصنهم سألوا النبي ان يعاملهم بالاموال على النصف، وقالوا: نحن اعلم بها منكم واعمر لها، فصالحهم النبي على النصف، على انا اذا شئنا ان نخرجكم اخرجناكم. فلما سمع اهل فدك بما حدث لاهل خيبر، بعثوا الى النبي يسألونه ان يسيّرهم ويحقن دماءهم ويخّلوا له الاموال، ففعل.

والانطباع الذي يخرج به القارئ من كل هذه الغزوات ان الدافع لها كان مادياً اكثر منه الحرص على اقناع اليهود والوثنيين بالدخول في الاسلام. فلم يهتم النبي بمحاولة اقناع اي قبيلة من اليهود بالاسلام، خاصةً وانه ذكر في معاهدته معهم " لليهود دينهم وللمسلمين دينهم"، ولذا لم يحاول اقناعهم وقد اترف ان لهم دينهم، فأصبح الدافع الوحيد لغزوهم هو اخذ اموالهم وقتلهم او طردهم من المكان. والدافع لقتل اليهود كان قوياً عند النبي بدليل قتله كل اسرى بني قريظة وكذلك نيته قتل يهود بني النضير لولا ان تدخل عبد الله بن ابي بن سلول. أما تعذيب الاسرى فيظهر انه مباح في الاسلام بدليل ان النبي امر بتعذيب كنانة بن الربيع حتى يدلهم على الكنز، وعندما فشل التعذيب في حمله على الافشاء بالكنز، قتلوه. ولم يذكر المؤرخون ان النبي عرض على كنانة ان يسلم ويحقن دمه، بل كان كل همه ان يعرف مكان الكنز المدفون.

وفي العام السادس للهجرة خرج الرسول في سبعمائة رجل الى مكة يريد العمرة، فمنعه اهل مكة وطلبوا منه الرجوع في العام القادم. واخيراً، بعد عدة ايام، عقدوا صلح الحُديبية بين النبي وبين اهل مكة. وكان ممثل اهل مكة في الصلح سهيل بن عمرو. فدعا النبي علي بن ابي طالب ليكتب الصلح. فكتب علي: " هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحنا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعض، على انه من اتى رسول الله من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم ترده عليه. وان بيننا عيبة مكفوفة، وانه لا اسلال ولا إغلال، وانه من احب ان يدخل في عقد رسول الله وعهده دخل فيه، ومن احب ان يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه"[72].

وبعد ثمانية عشر شهراً هجم بنو بكر على خزاعة ويبدو ان قريشاً ساعدت بني بكر بالسلاح والكُراع. فركب عمرو بن سالم، من خزاعة، يستنجد بالنبي. فجهز النبي جيشاً كبيراً وغزا مكة رغم صلح الحُديبية الذي وضع الحرب بينهم عشر سنوات. وقال ابن اسحاق: قد كان رسول الله عهد الى امرائه الا يقاتلوا الا من قاتلهم، غير انه اهدر دم نفرٍ سماهم وان وجدوا تحت استار الكعبة وهم: عبد الله بن ابي سرح، وعبد الله بن خطل، رجل من بني تيم بن غالب، وكانت له قينتان، اسم احدهم فرتانا وواسم الاخرى غريبة، امر بقتلهما معه، والحويرث بن نقيد بن وهب بن عبد قصي، ومقيس بن صبابة، وعكرمة بن ابي جهل، وسارة، وكانت مولاة لعمرو بن هاشم من بني عبد المطلب، وهند بنت عتبة، زوجة ابي سفيان. ولكن هند بايعت الرسول فسلمت.

اما عبد الله بن سعد بن ابي سرح قد امر بقتله لانه كان قد اسلم وكتب الوحي للنبي لمدة من الزمن، ثم ترك وارتد لانه قال كان يكتب الوحي وكان يقترح على النبي بعض التعديلات فيما كان قد املاه عليه، وكان النبي يوافق علي التعديل، فمثلاً في احد المرات قال له النبي اكتب: " ان الله عزيز حكيم" فقال له عبد الله: اليس من الافضل ان تقول " ان الله عليم حكيم؟" فوافق النبي[73]. فقال عبد الله لو كان هذا من عند الله لما قبل ان يغيره، فترك وارتد. وعندما دخل النبي مكة فر عبد الله الى عثمان بن عفان وكان اخاه من الرضاعة، فلما جاء به ليستامن له صمت عنه الرسول طويلاً ثم قال: " نعم ". فلما انصرف مع عثمان قال النبي لاصحابه: " أما كان فيكم رجلٌ رشيد يقوم الى هذا الرجل حين رآني قد صمتُ فيقتله" فقالوا: يا رسول الله هلا أومأت الينا؟ فقال: " ان النبي لا يقتل بالاشارة"[74]. واسلم عبد الله وحسن اسلامه، وفي ايام خلافة عثمان، اصبح عبد الله قائدا لجيوش العرب في شمال افريقيا، وابلى بلاءً حسناً جعل الخليفة عثمان يعزل عمرو بن العاص من ولاية مصر ويولي عليها عبد الله.

وعبد الله بن خطل قيل انه ارتد وقتل خادمه وكان مسلماً، اما قينتاه فكانتا تغنيان بهجاء الرسول. فقُتلت احداهما وهربت الاخرى. اما عكرمة بن ابي جهل فكان ممن يؤذيه بمكة قبل الهجرة، وهرب عكرمة الى اليمن واسلمت امرأته ام حكيم بنت الحارث بن هشام، فأستامنت له النبي فأمنه. اما سارة مولاة بني عبد المطلب فاستُومن لها فأمنها وبقيت حتى اوطأها رجل من المسلمين فرساً له بالابطح فقتلها الفرس. اما الحويرث بن نقيد فقد قتله علي بن ابي طالب. واما مقيس بن صبابة فقتله رجل يدعى نُميلة بن عبد الله، رجل من قومه، فقالت اخت مقيس:

لعمري لقد اخزى نُميلةُ رَهطَه وفجّع اضياف الشتاء بمقيسٍ
فلله عينا من رأى مثل مقيس اذا النفساء اصبحت لم تُخّرس[75]
قال الواقدي: امر رسول الله بقتل ستة رجال واربع نسوة. وذنب الاربع نساء وبعض الرجال انهم هجوا الرسول فاباح دمهم حتى لو وجدوا تحت استار الكعبة. والكعبة كانت حرماً آمنا لكل العرب، لا يؤذى من دخلها حتى وان كان قاتلاً. والقرآن يقول عن اول بيت بُني للناس، وهو الكعبة، في سورة آل عمران الاية 97: " فيه آياتٌ بيناتٌ مقام ابراهيم ومن دخله كان آمناً..." ولكن هذا لم يمنع النبي ان يأمر بقتلهم حتى لو وجدوا متعلقين بأستار الكعبة.
وهذه لم تكن اول مرة يأمر فيها النبي بقتل من هجاه او اغضبه. فقد امر بقتل النضر بن الحارث من بني عبد الدار بن قصي من قريش، وهم من اقربائه، وكان النضر علي علم بقصص الانبياء وقصص اهل فارس، فكان يعقب النبي في مجالسه بمكة ويقول للاعراب: انا اقص عليكم قصصاً احسن من قصص محمد. وكان يقص عليهم اخبار ملوك فارس وقصص انبياء اليهود. فلما وقع النضر اسيراً في غزوة بدر، امر الرسول بقتله، وكان من نصيب المقداد بن عمرو. فلما امر الرسول بقتله وكان المقداد يطمع في الفداء، قال المقداد للرسول: هذا الرجل اسيري ويحق لي ان افاديه. فقال الرسول له: هل نسيت ما قال هذا الفاسق عن الاسلام. فقتلوه في الاثيل. وقالت اخته قتيلة بنت النضر في رثائه:

يا راكباً ان الاثيلَ مظنةُ من صبح خامسةٍ، وانت موفق
ابلغ بها ميتاً بان تحيةً ما ان تزال بها النجائب تخفق
مني اليك، وعبرةً مسفوحةً جادت بواكفها واخرى تخنق
هل يسمعني النضرُ ان ناديته أم كيف يسمع ميت لا ينطق
أمحمدٌ يا خيرَ ضن كريمةٍ في قومها، والفحلُ فحلٌ معرق
ما كان ضرك لو مننتَ؟ وربما منّ الفتى وهو المغيظ المحنق
او كنت قابل فديةٍ فلينفقن بأعز ما يغلو به ما يُنفق
فالنضرُ اقربُ من أسرت قرابةً وأحقهم ان كان عٍتقٌ يُعتق
ظلت سيوف بني امية تنوشه لله ارحامٌ هناك تشقق
صَبْراً يُقادُ الى المنية مُتعباً رَسفَ المقيّد وهو عانٍ موثق

مرة اخرى يقاد الاسير وهو مكتوف الايدي والارجل الى المنية، لا لذنب غير انه اغضب الرسول. واين العفو والعرب تقول العفو عند المقدرة شجاعة. والقرآن يقول للرسول : " وجادلهم بالتي هي احسن" ، " لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك" وهذه اخت النضر تقول: ربما منّ الفتى وهو المغيظ المحنق. فلو كان الفتى العادي يمن وهو مغيظ ومحنق، ما كان اولى بالنبي ان يمن ويصفح، وقد صفح انبياء قبله. فمثلاً، عيسى بن مريم يقول: " اذا صفعك احد على خدك الايمن، فأدر له خدك الايسر".

ويبدو ان قتل الاسرى كان متعارفاً عليه بين المسلمين. قال ابن عباس : بعث رسول الله خالد بن الوليد حين افتتح مكة الى بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة. فلما رآه القوم اخذوا السلاح، فقال خالد: ضعوا سلاحكم فان الناس قد اسلموا. فقال رجل من بني جذيمة يقال له جحدم: ويلكم يابني جذيمة انه خالد! والله ما بعد وضع السلاح الا الإسار، وما بعد الاسار الا ضرب الاعناق. والله لا اضع سلاحي ابداً. فأخذه رجال من قومه فقالوا: يا جحدم أتريد ان تسفك دماءنا؟ ان الناس قد اسلموا ووضُعت الحرب و آمن الناس. فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه، ووضع القوم سلاحهم لقول خالد. فقال حكيم بن جكيم عن ابي جعفر: فلما وضع الناس السلاح امر بهم خالد فكُتفوا ثم عرضهم على السيف فقتل منهم من قتل.[76]

وفي سنة خمس بعث الرسول زيد بن حارثة الى وادي القرى فلقي بني فزارة، فأصيب عدد من اصحابه وجُرح زيد. فلما رجع الى المدينة نذر الا يمس رأسه غسل من جنابة حتى يغزو بني فزارة. فلما شُفي من جراحه بعثه الرسول في جيش الى بني فزارة، فلقيهم بوادي القرى فأصاب فيهم واسر ام قَرفة – وهي فاطمة بنت ربيعة بن بدر – عجوزاً كبيرة وبنتها، وكان العرب يضربون المثل بأم قرفة لعزتها فيقولون: أعز من أم قَرفة. وقال الاصمعي: من أمثالهم في العزة والمنعة: أمنع من أم قَرفة. وكان النبي يقول لأهل مكة: أرأيتم لإن قتلتُ أم قرفة؟ فيقولون: أيكون ذلك؟ فامر النبي زيد بن حارثة ان يقتل ام قرفة، فقتلها قتلاً عنيفاً، ربط برجليها حبلين ثم ربطهما الى بعيرين حتى شقاها[77]. فأمر النبي بالطواف برأسها في دروب وازقة المدينة[78]

ويبدو ان الاغتيالات السياسية كانت متفشية في زمن النبي. ففي السنة الثانية للهجرة بعث الرسول عبد الله بن عُقبة ليغتال ابا رافع سلام بن ابي الحقيق اليهودي وكان سبب قتله انه كان يظاهر كعب بن الاشرف على الرسول. فدخل عبد الله الحصن وكمن تحت حمار الى ان اغلق البواب ابواب الحصن وعلق المفاتيح من داخل الباب. وكان ابو رافع يسمر مع اصحابه، فلما تفرقوا عنه، اخذ عبد الله بن عقبة المفاتيح وصعد اليه. ويقول عبد الله: فجعلت كلما فتحت بابا اغلقته عليّ من داخل. قلت: إن القوم نذروا بي لم يخلصوا اليّ حتى اقتله. قال: فانتهيت اليه، فاذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا ادري اين هو من البيت! قلت: ايا رافع! قال: من هذا؟ قال: فاهويت نحو الصوت فاضربه ضربة بالسيف وانا دهش فما اعي شيئا، ثم وضعت ضبيب السيف في بطنه حتى اخرجته من ظهره[79].

واليهودي الاخر، كعب بن الاشرف لم يكن احسن حظاً. فهو كان يهجو النبي ويألب قريشاً ضده. قال ابن اسحاق: قال النبي : من لابن الاشرف؟ فقال له محمد بن مسلمة اخو بني عبد الاشهل: انا لك به يا رسول الله انا اقتله. فقال له الرسول: افعل ان قدرت على ذلك. فرجع محمد بن مسلمة، فمكث ثلاثاً لا يأكل ولا يشرب الا ما يعلق نفسه. فذُكر ذلك لرسول الله، فدعاه فقال له: لم تركت الطعام والشراب؟ فقال: يا رسول الله قلت لك قولاً لا ادري هل أفي به ام لا. قال له الرسول: انما عليك الجهد. فذهب ابن مسلمة ومعه سلكان بن سلامة بن وقش، وكان اخاً لكعب من الرضاعة. ومشى معهم رسول الله الى بقيع الغرقد ثم وجههم وقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم اعنهم ". ثم رجع الى بيته. وعندما وصلوا حصن كعب بن الاشرف نادى عليه سلكان فنزل اليهم كعب في ملحفته، وكان عريساً، وخرجوا يتمشون فهجموا عليه بسيوفهم وقتلوه.[80]

وبعث الرسول عمرو بن امية الضمري وسُلمة بن اسلم بن حريس الى مكة وقال لهما: اخرجا حتى تأتيا ابا سفيان بن حرب، فان اصبتما منه غرةً فاقتلاه. ولكن عندما وصلا الكعبة عرفهم اهل مكة مما اضطرهما للهرب دون ان يصيبا ابا سفيان.[81]

وفي النخلة كان خالد بن سفيان الهذلي يألب بني هذيل ضد النبي فارسل النبي عبد الله ين انيس الجهني ليقتله، وقال له: انه قد بلغني ان خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي يجمع لي الناس ليغزوني، فائته فأقتله. فلما اتاه سأله خالد: من الرجل؟ قال: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لذلك. فقال خالد: اجل انا في ذلك. فسار معه عدة خطوات وحمل عبد الله عليه بسيفه فقتله وحمل رأسه للنبي. فأعطاه النبي عصاً وقال له: تحضّر بهذه في الجنة. ولما مات عبد الله بن انيس أدرجت العصا في كفنه[82]

كان ابو عفك رجلاً مسناً، قيل ان عمره كان عشرين ومائة عام، قال شعراً هجا به النبي، فقال النبي: من لي بهذا الرجل؟ فتطوع سالم بن عمير لقتله. فسار اليه سالم وقتله، فاثار هذا العمل حفيظه شاعرة اسمها اسماء بنت مروان، فقالت شعراً هجت فيه النبي. فارسل النبي اليها عمير بن عُدي الذي تسلل الى خيمتها ليلاً وهي ترضع وليدها فقتلها[83]

وفي سنة ثمانية للهجرة عندما كان النبي يجهز لحملته ضد الروم، تناهى الى سمعه ان بعض الرجال كانوا مجتمعين في بيت يهودي اسمه شويلم وكانوا يخططون لمعارضة الحملة، فارسل النبي طلحة بن عبيد الله مع عدد من الرجال ليحاصروا المنزل ويحرقوه. رجل واحد فقط استطاع ان ينجو من المنزل وكسر رجله في محاولته الهروب من النار.
ازواج النبي
حدثنا ابن سعد عن ابيه ان الرسول تزوج خمس عشرة امرأة، دخل بثلاث عشرة، وجمع بين احدى عشرة وتوفى عن تسعة[84]. وتقول الدكتوره عائشة عبد الرحمن أنه تزوج بعد خديجة عشر زوجات منهن الشابة الفتية والمرأة الناضجة.[85] ولكن في روايات اخر انه تزوج اثنتين وعشرين زوجة، واثنين مما ملكت ايمانه واربع نسوة هدين انفسهن له. تزوج في الجاهلية وهو ابن بضع وعشرين سنة خديجة بنت خويلد بن اسد بن عبد العُزى، وهي اول من تزوج، فولدت له ثمانية اطفال وفي رواية اخرى عشرة.

ولم يتزوج النبي على خديجة في حياتها ، فالما ماتت تزوج عائشة بنت ابي بكر، وقال آخرون اول امرأة تزوجها بعد خديجة كانت سؤدة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس، وكانت ثيباً وكان زوجها قبل النبي السكران بن عمرو بن عبد شمس. اما عائشة فكانت طفلة صغيرة عمرها ست سنوات عندما تزوجها بمكة ولكنه دخل عليها بالمدينة وعمرها تسع سنوات. قالت عائشة: عندما قدمنا المدينة نزل ابو بكر السنح في بني الحارث، فجاء رسول الله فدخل بيتنا فاجتمع اليه رجال من الانصار ونساء، فجاءتني امي وانا في ارجوحة بين عذقين يُرجح بي، فانزلتني ثم وفت جُميمةً كانت لي ومسحت وجهي بشئ من ماء ثم اقبلت تقودني، حتى اذا كنت عند الباب وقفت بي حتى ذهب بعض نفسي ثم اُدخلت ورسول الله جالس على سرير في بيتنا. فاجلستني في حجره، فقالت: هولاء اهلك فبارك الله لك فيهن وبارك لهن فيك. ووثب القوم والنساء فخرجوا، فبنى بي رسول الله في بيتي وانا يومئذ ابنة تسع سنين[86]. ولما توفي الرسول كانت عائشة ابنة ثمان عشرة سنة.
ثم تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب وكانت قبله عند خُنيس بن حُذافة بن قيس.

ثم تزوج ام سلمة واسمها هند بنت ابي امية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وكانت قبله عند ابي سلمة بن عبد الاسد بن هلال من بني مخزوم، ومات ببدر، وكان ابن عمة الرسول واخوه من الرضاعة، ارضعتهما ثويبة، مولاة لابي لهب. وامه برة بنت عبد المطلب، وولدت لابي سلمة عمر وسلمة وزينب ودرة. وتميزت أم سلمة بجمال نادر ووضاءة باهرة، وكانت جموع شباب تتسارع لتخطب ودها ولتطلب يدها. وعندما ترملت تقدم اليها ابو بكر الصديق يطلب يدها ولكنها ردته في رفق. وتقدم اليها كذلك عمر بن الخطاب فردته كذلك.[87] فبعث اليها الرسول عمار بن ياسر ليخطبها له فتعللت بطفلتها الرضيعة، فأخذ عمار الطفلة وذهب بها لمن ترضعها، فقبلت ان تتزوج الرسول.[88]

ثم تزوج جُويرية بنت الحارث بن ابي ضرار، زعيم قبيلة المصطلق وكانت قبله عند مالك بن صفوان ذي الشفر، وكانت قد وقعت في الاسر في غزوة بني المصطلق في السنة الخامسة للهجرة، وكانت من نصيب احد المحاربين، وطلبت منه ان تفدي نفسها فقبل ولكنه طلب سعراً عالياً ما كانت لتقدر عليه. فذهبت للنبي تطلب منه التدخل لتقليل ما طلب آسرها. وتخبرنا عائشة انها بمجرد ان رأت جويرية عند بابها اصابها الهلع لان جويرية كانت في غاية من الجمال، وكانت عائشة متاكدة ان النبي بمجرد ان تقع عينه عليها سيتزوجها. وعندما دخلت جويرية عليه وطلبت منه التدخل عرض عليها ان يدفع هو الفدية ويتزوجها، فوافقت.

ثم تزوج ام حبيبة بنت ابي سفيان بن حرب وكانت قبله عند عبيد الله بن جحش وقد هاجرا الى الحبشة مع المسلمين الاوائل، فتنصر عبيد الله ومات بالحبشة. فبعث الرسول عمرو بن امية الضُمري الى النجاشي فزوجه ام حبيبة وساق عنه اربعمائة دينار مهراً لها.

وتزوج بعد ذلك زينب بنت جحش بن رئاب وكانت امها اميمة بنت عبد المطلب عمة الرسول. وكان اسمها اولاٌ بَرّة فلما اسلمت سماها النبي زينب، وزوجها الى زيد بن حارثة وكان قد تبناه الرسول ورباه كإبنه بعد ان اعتقه، وكان يدعى زيد بن محمد. ويقال انها كانت من اجمل النساء. فلما جاء الرسول يخطبها لزيد، رفضت ان تتزوج من هو اقل منها، فقال لها الرسول: بلى، تزوجيه ونزلت الاية :" وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى الله ورسوله امراً ان يكون لهم الخيرة من امرهم"[89]. فتزوجته. ولم تمكث مع زيد الا سنةً واحدة وطلقها، وقيل طلقها لانها كانت تستعلي علية لانه كان عبداً للرسول قبل ان يتبناه. ولكن بعض المؤرخين يقول ان الرسول اتى يوماً يزور زيداً، ولم يكن زيد بالبيت، ووقعت عينه على زينب وعليها قميص لها مردع بالزعفران فوقعت في نفسه فقال سبحان الله مقلب القلوب ثلاث. فأخبرت زينب زيداً بذلك، فقال زيد: أطلقها لك يا رسول الله.[90]

وأما أبن أسحق فيقول: مرض زيد بن حارثة فدخل عليه رسول الله – ص- وزينب بنت جحش امرأته عند رأسه فقامت لبعض شأنها فنظر اليها رسول الله – ص- ثم طأطأ رأسه فقال: سبحان الله مقلب القلوب والابصار، فقال زيد أطقها لك يا رسول الله؟ فقال: لا، فانزل الله عز جل: " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه أنعمت عليه".[91]

وفي رواية ثالثة ان النبي ذهب ليزور زيداً فارسل الله ريحاً رفعت الستر وزينب متفضلة ( شبه عارية) في منزلها فرأى زينب فوقعت في نفسه ووقع في نفس زينب أنها وقعت في نفس النبي- ص- فلما جاء زيد أخبرته بذلك فوقع في نفس زيد ان يطلقها. وقال أبن عباس " وتخفي في نفسك" الحب لها و " تخشى الناس" أي تستحيهم وقيل تخاف وتكره لائمة المسلمين لو قلت طلقها ويقولون أمر رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها حين طلقها.[92]

وعرف زيد في نفسه ان ايامه مع زينب اصبحت معدودة. فذهب الى الرسول ليخبره انه اراد ان يطلق زينب. ورغم حب الرسول لها، حاول الرسول ان يقنع زيداً بان يمسك اليه زوجه. واخيراً تم الطلاق. وبعد انتهاء العدة، نزلت علي النبي آية تخبره ان الله قد زوجه زينب: " واذ تقول للذي انعم الله عليه وانعمت عليه امسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبدئه وتخشى الناس والله احق ان تخشاه فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في ازواج ادعيائهم اذا قضوا منهن وطراً"[93]. فجاء النبي الى بيت زينب ودخل بها دون الحاجة الى عقد قران او شهود او صداق.

ثم تزوج صفية بنت حُيي بن اخطب من يهود بني النضير، وكانت زوجة كنانة بن الربيع، الذي كان في اسرى يهود خيبر وقتله محمد بن مسلمة بأمر النبي، وكانت في السبايا. فلما استعرض النبي السبايا وراى صفية القى رداءه عليها ليعلم الجميع انه اصطفاها لنفسه. واخذتها الماشطة أم أنس بن مالك كي ما تقينها ( تزينها) فقالت أنها لم تر في النساء أضوأ منها. وتزوجها الرسول ودخل عليها في نفس اليوم الذي قُتل فيه زوجها، وهم في طريقهم الى المدينة.

ثم تزوج ميمونة بنت الحارث بن حزن وكانت قبله عند عمير بن عمرو، وهي اخت ام الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب عم النبي. وكانت كذلك عمة خالد بن الوليد.

وتزوج امرأة من بني كلاب بن ربيعة يقال لها النشاة بنت رفاعة، وكانوا حلفاء لبني قريظة وكان بعضهم يسميها سنا بنت اسمة بن الصلت.

ثم تزوج الشنباء بنت عمرو الغفارية وكانوا ايضاً حلفاء لبني قريظة، فعركت، اي جاءها الحيض يوم دخلت عليه ومات ابنه ابراهيم قبل ان تطهر، فقالت: لو كان نبياً ما مات احب الناس اليه. فسرحها الرسول قبل ان يبني بها

ثم تزوج غزية بنت جابر من بني ابي بكر بن كلاب، بلغ الرسول عنها جمال وبسطة في الرزق، فبعث ابا سعيد الانصاري فخطبها عليه، فلما قدمت على النبي قالت: اني لم استامر في نفسي، اني اعوذ بالله منك. فقال النبي: امتنع عائذ الله. وردها الى اهلها

وتزوج بعد ذلك اسماء بنت النعمان بن الاسود فلما دخل بها وجد بها بياضاً في اجزاء من جلدها فردها الى اهلها. ويقال انها استعاذت منه فردها

وقيل انه تزوج زينب بنت خزيمة، وهي التي يقال لها ام المساكين، من بني عامر بن صعصعة وكانت قبله عند الطفيل بن الحارث

وتزوج كذلك شراف بنت خليفة، والعالية بنت ظبيان، وقتيلة بنت قيس بن معد يكرب وتوفي عنها قبل ان يدخل بها، وفاطمة بنت شريح وخولة بنت الهُذيل وعمرة بنت يزيد من بني رولس بن كلاب، وفاطمة بنت الضحاك.[94]

ومما ملكت ايمانكم كانت عنده مارية القبطية التي اهداها له المقوقس " وكانت شابة مصرية حلوة جعدة الشعر جذابة الملامح جاءت من ارض النيل"[95] وولدت له ابراهيم. وكذلك كانت عنده ريحانة بنت زيد من بني قريظة

وهناك اربع نسوة هدين انفسهن للنبي وكان قد ابيح له الاحتفاظ بهن بعد نزول الاية الخمسين من سورة الاحزاب: " يا ايها النبي احللنا لك ازواجك اللاتي اتيت اجورهن وما ملكت يمينك مما افاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وأمرأة مؤمنة ان وهبت نفسها للنبي ان اراد النبي ان يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين". هولاء النسوة هن: ام شريك و ميمونة و زينب و خولة.

يقول مشائخ الدين ان النبي تزوج كل هولاء النسوة ليستميل القبائل اليه لنصرته. ولكن التاريخ يقول غير ذلك. فالنبي كان في اضعف موقف لما كان في مكة وكانت قريش تحاربه وتضطهده. وظل في مكة ثلاث عشرة سنة بعد بدء الرسالة وهو مضطهد. لكنه ظل طوال هذه المدة مع خديجة لم يتزوج غيرها حتى ماتت قبل ثلاث سنوات من هجرته الى المدينة. وعندما هاجر الى المدينة اصبح في حمى الاوس والخزرج ولم يمضي وقت طويل حتى خضعت الغالبية العظمى من القبائل له واصبح في موقف لا تستطيع اي قبيلة ان تهدده، واصبح غنياً بعد كل الانفال التي جمعها المسلمون من الغزوات. ومن ثم كان جل زواجه في المدينة ما عدا عائشة بنت ابي بكر، تزوجها بمكة بعد وفاة خديجة لكنه لم يدخل بها الا بعد ان هاجر الى المدينة. وتقول بعض الروايات انه تزوج كذلك سؤدة بنت زمعة بن قيس في مكة.

فلننظر الى نسائه، تزوج عائشة بنت ابي بكر وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وكان الاثنان، ابوبكر وعمر، اول من آمن به وكليهما من قريش، فلو كان بالامكان استمالة قريش له لفعلا ذلك دون ان يتزوج بنتيهما. فزواجه من عائشة وحفصة لم يكن، اذاً، لاستمالة قريش، ولكنه قد يكون مكافأةً لابي بكر وعمر لنصرته والائمان به. ثم تزوج جويرية بنت الحارث وصفية بنت حُيي اليهوديتان بعد ان قتل زوجيهما واعداداً كبيرة من رجال بني قريظة وبني النضير، فهذا الزواج كذلك لم يكن لاستمالة القبائل اليهودية لانه شن عليهم الحرب واجلاهم عن المدينة وقتل رجال بني قريظة قبل ان يأسر ويتزوج جويرية وصفية. ثم تزوج ام حبيبة بنت ابي سفيان وهي بالحبشة، وليس من المعقول ان يستميل مثل هذا الزواج ابا سفيان الذي ظل يكن العداء لمحمذ وللاسلام رغم زواج ابنته من مسلم وهجرتها الى الحبشة، بل بالعكس، قد يكون اسلام ابنته وهجرتها قد زاد من كراهيته للنبي، وزواج محمد منها لا يمكن الا ان يكون قد زاد من هذه الكراهية .

اما هند بنت امية فكان زوجها الاول ابن عمة الرسول واخوه في الرضاعة ولو كان الزواج من محمد يحتمل ان يستميل قبيلتها، لاستمالها الزواج الاول من ابن عمة النبي وأخوه من الرضاعة. اما زينب بنت جحش فقد كانت ابنت عمته ولم يكن هناك اي احتمال ان زواجها كان سيؤثر في قريش، بل بالعكس، فقد نفّر هذا الزواج القرشيين لان زواج طليقة الابن بالتبني لم يكن من عاداتهم.
وميمونة بنت الحارث كانت اخت ام الفضل زوجة العباس عم النبي. وثلاث نساء، الشنباء، وغزية واسماء بنت النعمان، فقد طلقهن قبل ان يبني بهن، ولا يُعقل ان يستميل هذا التصرف قبائلهن.

اما زواج عائشة فقد ترك المفسرين وكُتاب السيرة في حيرة من امرهم. اذ كيف يفسرون دخول رجل في الربعة والخمسين من عمره بطفلة في التاسعة من عمرها، كانت تتأرجح مع صديقاتها على ارجوحة امام بيتها، وفي يدها جُميمة، اي لُعبة من لعب البنات؟ ولما توفي النبي كانت عائشة في الثامنة عشرة من عمرها، وحرّم عليها الزواج من بعده. " وما كان لكم ان تؤذوا رسول الله ولا ان تنكحوا ازواجه من بعده ابداً ان ذلكم كان عند الله عظيماً" ( سورة الاحزاب، ألآية 53)
بعثته
كان اليهود في فلسطين وفي يثرب ينعتون من جاورهم من العرب ب " الاميين"، ولا يعنون بهذه الكلمة الجهل بالقراءة والكتابة، بل يعنون بها شيئاً بمعنى :" القوم " اي " كوييم" و " جوييم" وتعني هذه الكلمات في اللغة العبرية " الغرباء"[96]. لانهم في نظر انفسهم انهم هم شعب الله المختار الذي اختص بالوحي والنبوة، وما غيرهم هم الغرباء عنهم، ويعرفون عندهم ب " Goyim"، وهي صيغة الجمع من المفرد " كوي" "Goy". فكلمة " الامي" و " الاميين" كلمة تطلق على كل من هو غير يهودي[97]. فكلمة " امي" مرادفة لكلمة " كوي" في العبرانية وكلمة " Ethnos" في اليونانية وتعني " الشعب" او " الامة". وقد ورد في القرآن: " فان حاجوك فقل: "اسلمت وجهي لله ومن اتبعن. وقل للذين اوتوا الكتاب والاميين: أأسلمتم"[98]. والمراد بالذين اوتوا الكتاب اليهود والنصارى. أما الاميون فهم الذين لا كتاب لهم اي من غير اليهود والنصاري.

وكذلك ورد في سورة الجمعة، الاية الثانية " هو الذي بعث في الاميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته". وكلمة العرب لا تعني فقط الذين في مكة والمدينة، فقد كان هناك عرب في الشام يدينون بالمسيحية وكان جزء كبير منهم يقرأ ويكتب، وكذلك عرب العراق كانوا على قدر كبير من العلم وعرب جنوب الجزيرة كانت القراءة والكتابة متفشية فيهم. وحتى مكة والمدينة كانت فيهما نسبة لا يستهان بها على علم بالقراءة والكتابة، خاصة الجاليات اليهودية. فهل نفهم أن كل هولاء لم يكن محمد قد بُعث فيهم لانهم لم يكونوا أميين؟ ولما كانت كلمة " اميين" تعني " كوييم" اي من امة غير يهودية، فيكون محمد قد بُعث لكل العرب المتعلمين منهم وغير المتعلمين.

وفي آية اخرى: " ومن اهل الكتاب من ان تأمنه بقنطار يؤده اليك، ومنهم من ان تأمنه بدينار لا يؤده اليك الا ما دمت عليه قائماً، ذلك بانهم قالوا: ليس علينا في الاميين سبيل"[99]. ومما لا شك فيه ان " الاميين" هنا تعني العرب الذين لم يكونوا يهوداً ولا تعني الذين لا يعرفون القراءة والكتابة. واذا اخذنا بهذا المعنى فان الرسول الامي لا تعني ان محمداً لم يكن يقرأ ويكتب، وانما كان من امة غير يهودية.

ونحن نعلم ان محمداً كان يسافر في تجارته الى الشام وكان يلتقي احبار اليهود ورهبان النصارى هناك ويستمع اليهم، وفي طريق عودته للحجاز كان يمر بارض ثمود وعاد ولا بد انه سمع قصصهم وما آلوا اليه. وكان يخرج الى حراء في كل عام شهراً من السنة يتنسك فيه، وكان هذا من نُسك قريش في الجاهلية، وكان اذا فرغ من مجاورته لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة[100]. فأعتكافه شهراً كاملاً في غار حراء يستدعي ان يكون معه رفقاء يستانس بهم او كتاب يدرسه، لانه لا يُعقل ان يظل شهراً كاملاً معتكفاً بمفرده يتأمل في أمور العبادة، ولم تكن هناك صلاة تشغل وقته، دون أن يفقد صوابه. فإن لم يكن بمفرده، فمن كان معه بالغار؟ هل كان ورقة بن نوفل او أحد الصبية النصاري، وهل كان يحاورهم في أمور دينهم؟ فكتب السيرة لا تخبرنا هل كان يتعبد منفرداً أم لا.

وكان في مكة في تلك الايام جماعة من النصارى الغرباء النازحين لاسباب من الرق والتجارة والتبشير، ومنهم نفر كانوا على درجة من الفهم والمعرفة، يعرفون القراءة والكتابة. من هولاء رجل روى المفسرون ان اسمه " جبر" وانه كان غلاماً لعامر بن الحضرمي، وانه كان قد قرأ التوراة والانجيل، وكان محمد يجلس اليه[101].

ويقول الطبري ان آل الحضرمي كانوا يملكون عبدين هما جبر ويسار، فكانا يقرآن التوراة والكتب بلسانهما، فكان الرسول يمر عليهما فيقوم يستمع منهما. وقال الضحاك ان النبي كان دائماً يجلس الى سلمان الفارسى يتعلم القصص منه.

ولا بد ان كل هذه القصص التي سمعها في الشام وفي مكة وكذلك تعبده في غار حراء، لا بد ان كل هذه الاشياء اثارت في نفسه تساؤلات كثيره دفعته في بعض الاحيان الى التخيل والاحلام وجعلته من وقت لآخر في حالة نفسية قابلة للايحاء " trance " خاصة اذا كان يتعبد منفرداً في الغار لمدة شهر كامل كل عام. وقال مالك عن هشام بن عروة، سئل الرسول: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: " احياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو اشده عليّ، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، واحياناً يتمثل اليّ الملك رجلاً يكلمني فأعي ما يقول"[102]. فواضح انه احياناً كان يسمع اصواتاً كصلصلة الجرس، واحياناً يتخيل اليه انه راى رجلاً يكلمه.

وفي اول مرة نزل فيها الوحي عليه لما كان بغار حراء، جاءه الملك فقال: اقرأ. فقال محمد: ما انا بقارئ. قال: اخذنئ فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم ارسلني. فقال: أقرأ. فقلت: ما انا بقارئ. فاخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم ارسلني. فقال: اقرأ. فقلت: ما انا بقارئ. فاخذني فغطني الثالثه حتى بلغ مني الجهد. ثم ارسلني فقال: " اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الانسان من علق، اقرأ وربك الاكرم. الذي علم بالقلم. علم الانسان ما لم يعلم".
وخرج محمد من غار حراء وهو يرتجف ودخل على خديجة فقال: زملوني زملوني.[103] والذي يتضح من هذه القصة هو: اما ان يكون محمد قد كان نائماً في الغار فحلم بجبريل، او خُيل اليه وهو صاحٍ، أن رجلاً أتى اليه وطلب منه ان يقرأ ثم غطه لما رفض ان يقرأ. وكون جبريل غطه وطلب منه أن يقرأ توحي لنا بأن جبريل كان عالماً بان محمداً يستطيع ان يقرأ لكنه رفض ان يقرأ، فغطه ثلاث مرات حتى خشى محمد على حياته، او ان يكون جبريل يجهل ان محمداً لا يستطيع القراءة والكتابة، والا لما طلب منه ان يقرأ، وهذا امر بعيد الاحتمال اذا ايقنا ان جبريل هو روح القدس والواسطة بين الله ومحمد. ونستطيع ان نقول ان محمداً كان يقرأ ويكتب ولذا طلب منه جبريل ان يقرأ، أو ان جبريل لم ينزل عليه وانما خُيل له.

وهناك دليل آخر أن محمد كان يقرأ ويكتب، فقد ذكر البخاري عن أبن عباس أن النبي لما حُضرَ، أي لما كان على فراش موته، وكان في البيت رجال، طلب منهم إحضار الدواة والقلم، وقال لهم: هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً. فقال بعضهم: إن رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتابُ الله.[104] فهاهو الرسول يقول لهم: أكتب لكم كتاب، ولم يقل أُملي عليكم كتاب.

ووصف كُتاب السيرة النبوية عن عائشة، ان محمداً عندما كان يأتيه الوحي كانت كل اعضاء جسمه ترتجف لفترة من الزمن، ثم يتصبب عرقاً ثم ينام، وعندما يصحو من نومته يخبرهم بالوحي. ونحن كأطباء، نعلم أن هذه الاوصاف كلها، خاصةً صلصلة الجرس في ألاذن، من أعراض الصرع, وتُسمى " Aura" وعادةً تسبق هذه الاعراض التشنج الذي يحدث لمرضى الصرع.

ولقد ذهب بعض المستشرقين وخاصة جوستاف فيل " Gustav Weil "[105] الى أن محمداً كان يعاني من داء الصرع، واستشهدوا بأنه ولد وبصره شاخص الى السماء. وإذا جاء المولود وبصره شاخص الى السماء، وهو عكس الوضع الطبيعي للمولود، تتعثر عملية الولادة وتطول وغالباً ما يحدث نزيف بسيط في عدة أماكن من الدماغ تؤدي في بعض الحالات الى حدوث الصرع في الشخص عندما يكبر.

وقد يقول قائل أن الخلوة المتكررة بغار حراء قد أثرت فعلاً في محمد فصار يتوهم حدوث اشياء غير طبيعية. فنجد في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله – ص- " إني لأعرف حجراً بمكة كان يُسلم عليّ قبل أن أُبعث، إني لأعرفه ألآن".[106] فهل يصدق انسان عاقل أن حجراً جماداً لا حياة له ولا لسان ولا حبال صوتية كان يتكلم ويسلم على محمد حتى قبل ان يصير نبياً؟ وإذا كانت الحجارة تعرفه وتكلمه، لماذا شج الحجر وجه محمد في غزوة أحد عندما انهزم المسلمون؟ لماذا لم يرتعب هذا الحجر ويسقط قبل ان يضرب وجه محمد ويشجه؟

ويقال ان خديجة بعد ان زملت محمداً عندما جاءها يرتجف، ذهبت من توها الى ابن عمهما ورقة بن نوفل، وكان قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الانجيل بالعبرانية ما شاء الله ان يكتب. فاخبرته بما حدث لمحمد، فقال ورقة بن نوفل لمحمد: يابن اخي، هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني اكون حياً، اذ يخرجك قومك. فقال الرسول: " او مخرجي هم؟" فقال: نعم. وان يدركني يومك انصرك نصراً مؤزّراً[107]. وكان ورقة بن نوفل وقتها رجلاً مسناً اعمي. ولم يخطر ببال كُتاب السيرة النبوية ان يسألوا انفسهم: لماذا اذاً لم يسلم ورقة بن نوفل في وقتها إذا عرف أن الذي نزل على محمد انما هو الملك الذي نزل على موسى، وأن محمد نبي الله؟ خاصة إذا عرفنا أن خديجة بنت أخيه قد اسلمت في ذلك الوقت ؟ واي نصرٍ كان سيقدمه لمحمد ان كان حياً حين اخرجوه من مكة، وورقة رجل مسن اعمى؟

واستمر الوحي لفترة من الزمن ثم توفي ورقة بن نوفل، فتوقف الوحي فترة من الزمن حتى حزن الرسول حزناً جعله يفكر في ان يلقي بنفسه من رؤوس شواهق الجبال. فكلما اوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه تبدى له جبريل فقال: يا محمد انك رسول الله. فيسكن جأشه، فيرجع. فاذا طالت عليه فترة الوحي غدا كمثل هذا[108].

وهناك سؤالان يفرضان نفسهما علي القارئ: لمذا حزن محمد على ورقة بن نوفل كل هذا الحزن حتى كاد يقتل نفسه، ولم يبد نفس الحزن عندما مات عمه ابو طالب الذي رباه وحماه من قريش؟ ولماذا لم يظهر نفس الحزن عندما قُتل عمه حمزة ومُثل به؟ والسؤال الثاني: لماذا توقف الوحي بموت ورقة بن نوفل؟ هل حزن عليه جبريل كذلك وقرر عدم النزول بالوحي؟ ام ان ورقة بن نوفل كان هو الوحي؟