عن التأويل/ لقصي مجدي سليم

عن التأويل/ لقصي مجدي سليم


12-09-2004, 03:25 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=95&msg=1102559102&rn=5


Post: #1
Title: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم
Author: مأمون التلب
Date: 12-09-2004, 03:25 AM
Parent: #0

هنا بين يديكم بحث لقصي مجدي سليم ... عن الـاويل
الموضوع.. يفتح نافذة جديدة نحو موضوع التأويل الذي شغل بال المفكرين كثيراً، ولا تزال أسئلتة معلقة..
أن يكون التأويل حل للمشاكل والأزمات التي يمر بها الفكر الاسلامي؟
ما هي الخلافات والحوار الفكري والصراعات والمواضيع التي دارت بين الطوائف الاسلامية الكبيرة (السنة،الشيعة،المعتزلة،الصوفية)؟
كيف قارن بينها الكاتب.. وتوصل إلى تحليلات قيمة ومفيدة ؟
ما هي الأسئلة الجديدة لهذه الورقة.... ؟
دعونا نقرأ... ونحاول الاجابة على هذه الأسئلة وغيرها من ما أثاره الكاتب......
ـــــــــــــــــــــــــ


[red\]عن التأويل وتطور مفهومه في اللغة والنص الأدبي والديني


الاهداء
يهدى هذا البحث اربع مرات:
الى الإنسان... اينما كان...
نحن في إنتظارك.. فأقبل حتى يموت فينا الحيوان.
ثم الى من تاقت نفسهم الى السلام، والحرية، والعدل، والمساواة، والفكر الحر. ونأت عن الجهل، وغرض النفوس الدنيئة، فاستمعت.. ووعت.. واتبعت أحسن القول....
هلا صبرتم.. فإن الغد أجمل.
ثم الى رجل عرفته ذات صباح مشرق، فترك في نفسي أثرا باقيا، مساء وصباحا.... إلى أستاذي عبد الحفيظ على الله (دع جمال الوجه يظهر** لا تغطي يا حبيب).
ثم إلى إنبثاق نفسي خارجي..
يا له عرس يلاقي
كل مثل فيه مثله...
(من قصيدة "هذه العذراء حبلى" للشاعر عوض الكريم موسى)
مقدمة

لعله لا توجد كلمة في العربية أثارت جدلا بين الباحثين مثل كلمة تأويل. فهي الكلمة التي إمتازت بفتح الأفق وإكتشاف المثير والجديد، كما أنها هي نفسها التي أظهرت الطوائف الاسلامية بإختلافها الموضوعي وغير الموضوعي الذي وصل حد الإقتتال، كما هي بذاتها التي أخرجت المدارس النقدية المتميزة ودارت حولها أفكارها ومفاهيمها، وهي هي التي تثير جدلا واسعا الان بين مفكري العصر الحديث، وهي هي التي عن طريقها يبلغ الاديب والفقيه ذروة غاياته.
واللغة الصرفة في حد ذاتها تأويل ـ هكذا ـ دون نص معين أو محدد. وهذا يتضح من أمرين .. أولهما عمل اللغة الأساسي ودلالة مفرداتها، وثانيهما معنى التأويل في اللغة العربية.
فاللغة إشارة عن طريق المفردات يتضح بها معنى في ذهن المخاطب، ولكن الطريف في الامر أن هذا المعنى المراد لا يتحدد الا عن طريق الممارسة العملية للمخاطَب والمخاطِب .
فعند اللفظ بكلمة ما من شخص ما الى شخص آخر فإنه تتم عملية إرجاعية سريعة للكلمة في ذهن المخاطَب فتختلط بالممارسة وعندها يتحدد المفهوم. وهذا الأمر نفسه يحدث للمخاطِب ولكن بطريقة عكسية إذ تحدد الممارسة أولا شكل الكلمة التي يريد إخراجها وبعدها يخرج اللفظ محددا بممارسته.
والملاحظ هنا انه وحتى يتم التفاهم بين الطرفين لابد وأن تتقارب ممارستهما للكلمة المعينة، وما إختلاف الرأي إلا إختلاف ممارسة. إذن فاللغة أو بالأصح العبارة يتم فهمها عن طريق الارجاع للكلمة في مدركات وتجارب الذهن.
والتأويل في اللغة هو الارجاع. أوّلَ الشئ أي أرجعه، وآل إليه الشئ أي رجع إليه(1). ومن هنا يبرز كيف أن التأويل قد أتخذ له اصطلاحا معنى التفسير.. فكأن التأويل هو إرجاع للكلمة المرادة الى أصل أبعد من المعنى الحرفي لها. أي أن التأويل إرجاع أبعد من إرجاع المفردة العادية، أو قل هو إرجاع ثنائي، أولا يتم إرجاع الكلمة إلى الذهن لمعرفة معناها عن طريق الممارسة ـ كما أوضحنا سابقا ـ ثم يتم إرجاع المعنى الى ما وراء المعنى المصطلح عليه للتوصل الى ( معنى المعنى).
ولكن عمل التأويل الاساسي يكون في الجمل والمعاني عكس التفسير الذي يتعلق بشرح الالفاظ والمفردات(2) لهذا فقد إصطلحنا على الأول ( وهو تأويل اللغة الصرفة) على أنه تفسير. كما إصطلحنا على الثاني(وهو إرجاع المعنى ...) على أنه تأويل.
ويبرز هنا سؤال مهم وهو: ما الحوجة الى التأويل في الأساس بمعناه الثاني!؟
ولعل الحاجة اليه تكمن في حقيقة وخصائص اللغة العربية نفسها، فهي تمتلك خصائص لا توجد في أغلب لغات العالم التي نعرفها.. وأول هذه الخصائص تعلق المعنى بكلمة واحدة وتعلق الكلمة بمعنى واحد. فكل كلمة في العربية يقابلها معنى واحد لا تشترك معها فيه كلمة أخرى. ولقد إهتم الناطقين بالعربية القدماء بخلق مفردات جديدة لكل ما يحدث حولهم ـ أو لا يحدث. فالسير عندهم غير المشي، والجلوس لا ينطبق على القعود، والطرق ليس هو القرع.. وهكذا دواليك ..
ومن هذه الخاصية برزت خاصية أخرى وهي كثرة المفردات حتى جاز أن نقول أن العربية هي مجموعة لغات إتحدت في لغة واحدة، فنجد أن القبائل العربية القديمة كان فيها من لا يفهم مفردات القبائل الأخرى، ولقد سأل عمر بن الخطاب عن معنى (أبّا) في قول القرآن {وفاكهة وأبا} فقال ( لقد عرفنا الفاكهة فما الأب) رواه الطبري وقال عنه ابن كثير إسناد صحيح(3). والأمثلة كثيرة لا تعد على إختلافهم في الفهم وتعدد السنتهم حتى أنك لتمر على كلام (حمير) فلا تفهم منه شيئا ولقد خاطبهم الحديث النبوي المشهور بلغتهم فقال:(ليس من أمبر امصيام في أمسفر). أي ليس من البر الصيام في السفر. ولم يقتصر إختلافهم على المفردات بل تعدى الى القواعد وعمل الحروف .
وكان لولع العرب بالبلاغة أكبر الأثر في تفجير طاقات اللغة العربية وإخراج فنونها المختلفة فظهر التشبيه بأنواعه ثم تطور التشبيه الى إستعارة ثم المجاز فالكناية الخ .. وكانوا في كل فن يخرج من اللغة مباشرة متقدمين على من سواهم من الاجناس فبرعوا في الشعر حتى صار صفة لهم وبالغوا في الرجز واهتموا بالخطابة والرسائل الخ ..
والتأويل قبل كل شئ هو فن مجيد يضفي على المعنى اللغوي روحا وعلى السامع اللبيب طربا لا يدانيه طرب. وماكان لهم ـ وهم كذلك ـ أن يتوانوا عن إيجاده واللغة عندهم تحتمل ـ بما ذكرنا ـ ما لا تحتمله سواها.
وقد يبدو للوهلة الاولى أن هذا التبرير غير كافي لوجود التأويل، ولعل الاعتراض قد ينشأ من عمل اللغة الان، فهي لغة تهتم بالجوانب العلمية والمحددة، ولا تهتم بالجمال الا في أضيق نطاق. ولكن هذا الامر لم يكن هكذا قبل آلاف السنين، فما بالك بقوم لم يكن لهم من الحضارة شئ يذكر، ولم تكن لهم رغبة في صنعها، وهم في ضنك العيش مرتاحون له، غير مفكرين في تغييره، ولهم عاطفة تجرفهم للعيش في اسوأ مكان، تحيطه الصحراء على إمتداد الأفق، ولقد فارقتهم تعقيدات الحياة، وجانبهم تنظيم الدولة، وجافاهم توحد المجتمع.. وهم مع ذلك، كما يحدثنا صاحب المقدمة (ابن خلدون):
(أبعد الأمم عن سياسة الملك لأنهم أكثر بداوة من سائر الأمم، وأبعد مجالاً في القفر، وأغنى عن حاجات التلول وحبوبها لاعتيادهم الشظف وخشونة العيش، فإستغنوا عن غيرهم فصعب إنقياد بعضهم لبعض لإيلافهم ذلك وللتوحش..)(4) .. كل هذا وغيره جعل لهم وقتا لم يقضوه في صنع حضارة ولا بناء أمة بل وفروه للغتهم فأخرجوا منها أصناف الفنون ولم يتوانوا في إضافة كل ما هو جميل حتى يعينهم على سوء حالهم.
ولن يكون هناك إعتراض كبير بعد أن نعرف أن ما صنعه العرب بلغتهم أشبه بحضارة اليونان وإهرامات النوبيين وعلوم العصر الحديث ـ كل في حقله.
ولكن الحقيقة التي يجب توضيحها هي أن اللغة العربية بقواعدها ونحوها وبلاغتها وبكل خصائصها هي لغة جمالية في المقام الاول، لغة تهتم بالشكل إهتماما يفوق أي لغة أخرى. وهي بـ(جمالياتها) هذه تكاد أن تكون معطلة للحياة في شكلها المادي المعاصر.
لهذا ليس بغريب أن تصبح اللغة العربية اليوم لغة لا يتحدث بها أحد اليوم، ولغة مهملة من أهلها. لا أعني بالطبع أن اللغة العربية لا وجود لها في الحياة تماما كما حدث للهروغلوفية وللإغريقية القديمة(اللاتينية) وأمثالهما.. ولكن اللغة العربية وإن كانت هي لغة (الكتابة والأخبار والصحف الخ...) الا انها فقدت أهم خاصية للغة وهي التخاطب اليومي بين ناطقيها كما أنها في وسائل الاعلام التي ذكرنا صار الاهتمام بها موضوعيا أكثر من انه شكلي. فكثير ما طالعنا علماء اللغة بسخطهم مما يحدث في وسائل الاعلام من أخطاء لغوية وكلهم ينشد مع حافظ على لسان اللغة العربية قوله :
أرى كل يوم في الجرائد مزلقا
يدنيني الى القبر بغير أناة
وإثر هذا الموت الذي صاحب اللغة العربية برزت إشكالات جديدة تمثلت في فقدان الرابط الذي يربط(المخاطَب)بـ(المخاطِب) فزادت هوة الخلاف، ونشب الصراع الدامي في كل الميادين (الدينية، الثقافية، الفكرية، السياسية الخ...) وصار كل فريق يدعي العلم ويجهّل الآخرين.
ولعل هذا الصراع ينقسم في الاساس الى شقين، الاول هو الشق الكلاسيكي الذي يطالب بالالتزام باللغة حرفيا والرجوع اليها كليا وجعلها تبعث من جديد. والاخر هو الشق التجديدي الذي يرى ضرورة تطور اللغة وتقبل الواقع الجديد.
وينقسم أي من الفريقين الى عدة فرق، فالفريق الاول ـ الكلاسيكي ـ ينقسم الى فرق كلاسيكية مرنة وفرق كلاسيكية متشددة. وينقسم التجديديون الى تجديديين يرون الاشكال في اللغة نفسها وأنها صارت غير مجدية، وآخر (ترميمي)(5) يرى أن الخلل يكمن في الشكل فقط وأنه يمكن إصلاحه.
ولا يظنن ظان أن هذا الاشكال قد برز لتوه في العصر الحديث بل كانت جذوره في الماضي ضاربة كما أشرنا في البداية الى علاقة الدلالة وبروز الطوائف الدينية ولكنه في العصر القديم قد إختلف عن العصر الحديث. فهو هناك كان صراع داخل اللغة، يلتزم بها ويقر بمرجعيتها الفقهية. اما في العصر الحديث فلقد صار صراع (لغى) ومدارس فكرية لها ارتباط باجناس مختلفة ولغى أخرى.
وتزداد الهوة إتساعا بين الفرق عندما يتعلق الإشكال (بكلمة) واحدة داخل اللغة التي هي محل خلاف أصلا.
كما تزداد الهوة أيضا عندما يتعلق الاشكال بشكل أدبي له حصانته التاريخية واللغوية اللذين هما موضع خلاف أيضا ..
الأول هو صراع التأويل، والثاني هو خلاف الشعر. من هنا كانت الحاجة واضحة للتصدي لهذه المشكلة عن طريق النقاش والحوار والتفكير الحر حتى يتسنى لنا الخروج من هذا المأزق الحرج الذي نمر به منذ ألف عام ونيف، هذا في مجال التأويل. ومنذ ما يقارب المائة عام، هذا في مجال الشعر.
هذه الورقة تهدف في المقام الأول لتوضيح فكرة هي خلاصة تجربة صغيرة جدا في النقاش والقرأة(لـ ،ومع) مختلف الاراء والمدارس الدينية والفنية والفكرية وهي فكرة قد صاغها في الذهن كل هذا ثم قد صاغها الحوار الجاد مع الأصدقاء ومع الذين كانت ممارستهم وتجاربهم في هذه الحقول تفوق الكاتب مئات المرات ولكني رأيت أن التعبير أفضل الوسائل وأقربها لزيادة الفهم .. أو كما يقول السادة الصوفية :(المرء مطوي تحت لسانه) وقولهم:( تحدثوا تعرفوا)...ولقد كان تأويلي الشخصي للمقولة الثانية(أن تحدثوا للعلماء تعرفوا بجهلكم، فيتم تصحيحكم).
وإن كان في ظني أن النقاش والحوار الغرض الأساسي منه هو (الإمتاع الذهني)، وهو غاية الانسان الحر المفكر، أو، الانسان المفكر الحر، الا ان هذا الامتاع الذهني لا يتم بمعزل عن البحث الجاد لخير الانسانية ومصلحتها. فذروة المتعة هي بسمة في وجه إنسان، ومصلحة توصلها له، وخيرا أنت سببه.
ما نحاول إيصاله في هذه الورقة ينتصر في الاساس للتجديد مع إبراز عيوبه في الطرح وإيجابياته. ويرفض المنهج الكلاسيكي مع التأكيد على جودة بعض اطروحاته ومماشاتها مع الواقع الحالي. ولكنها على أي حال ليست ورقة توفيقية فهي تنتمي كما أسلفنا الى مدرسة التجديد في الأساس ... ولكنه ليس إنتماء أكمه، أعماها عن سلبيات وايجابيات المدرستين.
وليس من سبيل لتوضيح فكرة الورقة ـ أكثر من ذلك ـ سوى مطالعتها والوقوف على جوانبها المختلفة، وإني لأرجو أن اكون موفقا في توضيحي .
وقبل ختام هذه المقدمة أحب أن أشير الى أمر مهم ستطرق له هذه الورقة في متنها ولكن وجبت الاشارة له هنا لأهميته وعلاقته الوطيدة بموضوع الورقة... وهو أمر القرآن الذي هو بين دفتي المصحف الان . فهذا القرآن قد نزل بإجماع أهل اللغة والفقه بلغة العرب ـ أي أنه نزل بالعربية. ولكن لا بد للتنبيه الى أن هذا لا يعني قط أنه عربي !! وانما وجب التفريق بين نزوله بالعربية وبين حقيقته التي هو عليها. ففي القرآن كثير من الكلمات غير عربية مثل كلمة (مشكاة) والتي تعني الكوة بلغة الحبش(6). وكلمة (قسورة) وهي أيضا كلمة حبشية وتعني الأسد(7). وأمثالهما كثر. كما أنه لا يخفى أن كل أسامي الأنبياء التي وردت في القرآن غير عربية هذا عدا ( محمد ، صالح ). كما أن القرآن يبدأ تسع وعشرون سورة، على اربع عشرة تشكيلة غير عربية وهي:(ألم، المص، الر، المر، كهيعص، طه، طسم، طس، يس، ص، حم، حم عسق، ق، ن). ولقد أجمع مفسرو القرآن على تعذر تفسيرها(8) (أي أن لا معنى لها في العربية، ولا مدلول محدد لها). وهذا لا يعني أن القرآن لا يفسر باللغة العربية، ولكنه يعني أن للقرآن طرق للفهم تختلف وتتنوع، والتفسير إحداها وليس كلها. قال ابن عباس في قول القرآن(أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) قال : الماء هو القرآن والأودية قلوب العباد(9). وهذا ليس بتفسير بل تأويل للمعنى الذي تعطيه اللغة ويعطيه التفسير.
إذن فاللغة لا تفك أسرار النص القرآني، تماما كما أنها لا تفك أسرار النص الأدبي... فكلاهما ـ بإختلاف درجاتهما ـ فوق اللغة من حيث التفسير.
وهذا أمر نتركه للورقة حتى لا نحمل هذه المقدمة ما لا تحتمل.
وقبل ختام هذه المقدمة أحب أن أشكر أصدقائي الذين كان لحواراتهم, الجادة والمثمرة، فضلا كبيرا لتشكيل وعيي الحاضر ودافعا مهما لكتابة هذه الورقة وأخص بالذكر الصديق الشاعر (مامون الفاتح التلب) الذي وجدت فيه صدرا رحبا ورأيا سديدا وأذن صدق واعية. كما أشكر الصديق (عبدالرحمن عثمان "عبودي")
ذلك الفتى الذي قد جاء قبل الأوان...في زمن يرحل فيه الأفذاذ قبل الاوان. ولقد كانت لحوارات الصديق (شريف محمد عثمان) أثرا واضحا داخل هذه الورقة.. فله شكري وتقديري .
كما أحب أن أشكر الأساتذة الأجلاء (علي الزبير)، الذي تقدم بإضافات واسعة أفادتني كثيرا، ووالدي الأستاذ (مجدي سليم) على قرأته للفصل الأول من هذه الورقة قبل طبعها، وخالي الاستاذ (الطيب عبد الرحيم) الذي أفادني بتوفير وقته ومكتبته الخاصة.
كما أشكر كل من ساعدني بتشجيعه ورأيه لتكميل هذا العمل المتواضع .
قصي مجدي سليم مدني / أغسطس (2004)





هوامش المقدمة





1/المعجم الوجيز :ص30

2/ الموسوعة الفلسفية العربية، عاطف العراقي ، كلمة تأويل ، ص207،الجزء الأول

3/تفسير القرآن العظيم،إبن كثير،المجلد الرابع،ص543

4/ابن خلدون، المختار من المقدمة،ص99

5/الترميميون .. مصطلح أخذناه من الأستاذ الباقر العفيف وكان يقصد به رجال الدين الترميميين الذين لا يرون الاشكال في الفقه نفسه بل يطالبون بالبناء على ما سبق.ورأينا ان المصطلح يؤدي دوره هنا بنفس الصورة التي إرتأها الاستاذ الباقر.

6/ابن كثير/سبق ذكره،ص347، المجلد الثالث.

7/المصدر السابق،ص513،المجلدالرابع.

8/راجع ابن كثير مصدر سابق ، والشوكاني فتح القدير،المجلد الاول،تفسير أول سورة البقرة.

9/راجع تفسير القرطبي.. سورة الرعد آية رقم 17.










الفصل الأول

الدلالة والتأويل في اللغة والنص القرآني
(بحث في النظرية العامة لـ:
المعتزلة،اهل السنة، الصوفية )

اولا: مفهوم التأويل لغة وتطوره.
تقول العرب (أوّلَ) الشئ إذا أرجعه. ولغير المهتمين باللغة العربية من نحوها وصرفها وقواعدها وإشتقاقاتها نحب أن نقول شيئا يعين على فهم أمر مهم وهو:أن اللغة العربية أكثر اللغى إشتقاقا وتحتوي على كلمات كثيرة جدا تتفق في جذورها وكلمات تتفق في الأصل، ولنمسك الكلمة موضوع البحث كمثال نجد أن:
{(آل) تعني رجع، و(أول) أرجع، و(آل) نفسها تعني أهل وعيال وأتباع وأنصار المرء، و(آلة) هي أداة العمل كأداة الطرب، وفي المكانيكا جهاز يحول القوى المحركة الى قوى آلية، وهكذا...}1.
والملاحظ هنا أن كل هذه الكلمات مأخوذة من كلمة آل، وهي في جميع إستخداماتها نجد أن معنى الرجوع ينطبق عليها. فـ(آل) الرجل تعني أهله وعياله الخ.. أي من ينتسب اليه (ويرجع اليه). والآلة ذلك الجهاز الذي يحول القوى المحركة الى قوى (ترجع) الى الآلة. وأوّل الكلام عندما تعني التفسير فهي (إرجاع) الكلمة الى معنى في الذهن يتفق وموضوعها الذي أطلقت له أو هي (إرجاع) الكلمة الى معناها الاصطلاحي .... وهكذا فقس ..
مثال آخر :
كلمة (جبل) وهي تعني ما علا من سطح الأرض وجاوز التل إرتفاعا وإستطال. وهو ثابت لا يتزحزح. و(جَبَلَ) على وزن (فَعَلَ) تعني طَبَعَهُ على كذا، و(الجِبِلّة) الأرض الصلبة، كما أنها تعني الطبيعة والخلقة، والأمة أو الجماعة من الناس. وكل هذه المعاني تتفق مع بعضها البعض في المعنى الجذري لها.. فلأن الجبل مثبت في الأرض صارت الجبلة هي الصفة التي تعلق بالانسان فكأنها(مثبتة) فيه. والجبل ما إستطال وإرتفع، فصارت الجبلة هي الأمة لأنها تتكاثر وتزداد2. وهكذا .. وفي قول القرآن {ولقد أضل منكم جبلا كثيرا}3 أي خلقا كثيرا4.
ولا تخلو كلمة في اللغة العربية من إشتقاقات عديدة لها. فعن طريق إرجاع الكلمة الى جذرها يمكن معرفة معناها اللغوي وبالتالي معرفة الإصطلاح بدقة ولماذا أتخذ لمعنى آخر غير المعنى اللغوي الحرفي، والسبب هو القرينة في كلا المعنيين تماما كما هو الحال في الاستعارة، فقوله :
(لم أرى قبلي من مشى البحر نحوه
ولا رجلا قامت تعانقه الأُسدُ)
فهنا قد إستعار المتنبي بالبحر ليصف سيف الدولة، وبالأُسد ليصف من كان بمجلسه إذ وقفوا للترحيب به جميعا وأما القرينة فهي إستحالة الترحيب للبحر وأستحالة المعانقة للأسود. لهذا فعن طريق القرينة يفهم المرء المراد من القول.
إذن فكلمة (آل) (إيالاً) و (أيلولةً) و(مآلاً) تعني رجع وصار و(آل) عنه تعني إرتد. و(آل) على القوم تعني ولي عليهم فهم رعاياها ويرجعون اليه وهو مسئول عنهم. و(أوّل) الشئ اليه أرجعه، و(أوّل) الكلام يعني فسره وتأول الكلام تعني أيضا فسره... وهنا يجب أن نذكر تلك الخاصية التي ذكرناها عن اللغة العربية وهي (تعلق الكلمة بمعنى واحد، وتعلق المعنى بكلمة واحدة)، عليه، فلا يمكن أن تكون كلمة (أوّلَ) الكلام بمعنى فسره وكذلك تأول .. وإنما أوّل تعني إرجاع الكلمة الى اللغة، وإرجاع القرينة التي تنتج عن تفسير الكلمة الى معنى إصطلاحي متفق عليه. اما تأول فتعني إرجاع القرينة الى معنى إصطلاحي غير متفق عليه، وهو بالتالي محل خلاف بين المتأولين. ومن هذه الكلمة الثانية بالذات أشتقت كلمة تأويل .. ألتي يُظن بأنها لم تستخدم الا في عصر الاسلام ولكننا لا نتفق وهذا الظن إذ هنالك شواهد على إستخدام الكلمة مثل ما ذكره إبن هشام في السيرة :
(أن ربيعة بن نصر ملك اليمن رأى رؤيا هالته فدعى الكهنة وقال لهم: إني رأيت رؤيا هالتني فأخبروني بتأويلها...الخ...)5. ولقد وردت لفظة تأويل في هذه القصةأكثر من ثلاث مرات وهي قصة حدثت قبل الاسلام بأكثر من مائة عام. ولكننا نعتقد أن الكلمة وجدت رواجا في عصر الاسلام أكثر من أي عصر سابق كما أنها قد إكتسبت شكلا إصطلاحيا جديدا في عهده وهذا ما سنتطرق له في موضعه .
ثانيا:مفهوم الدلالة لغة وتطورها.
{(دلّ) على الشئ واليه (دَِلالة) بكسر الدال وفتحها، تعني أرشد، فهو دال والشئ مدلول عليه واليه. و(الدلالة) هي الارشاد، وما يدل عليه اللفظ عند إطلاقه ـ أي ما يرشد اليه ـ واستدل بالشئ على الشئ إتخذه دليلا عليه يعني إشارة. والدليل هو المرشد)6.
ونحن نستخدم جمع (دليل) في محل جمع (الدلالة) فنقول لما يوجد على المتهم (أدلة) والصحيح أن نقول (دلائل) أو(دلالات) ـ حسب الموضع ـ لأن (الأدلة)جمع لعاقل ومفردها دليل.
ومرة أخرى نُذكّر بتلك الخاصية التي تتميز بها العربية وهي (تعلق الكلمة بمعنى واحد..).. وبما أن الدلالة تعني ما يرشد عليه اللفظ عند إطلاقه ـ هكذا ـ دون حاجة الى تفسير خاص أو تأويل معين، فكأن ببروز كلمة دلالة قد تحدد معنى جديد(للتفسير) وذلك بفضل تلك الخاصية العجيبة التي كررنا ذكرها. فالتفسير لا يكون الا لما استعصى على الفهم، أي ان التفسير هو توضيح ما لم يمكن فهمه دون توضيح. أما الاشارة المحضة التي يفهم منها شيئا ما فهي ليست تفسير. لنقرأ معا معنى تفسير القرآن من المعجم إذ يقول:[فسر الشئ أي وضحه، وآيات القرآن الكريم أي شرحها ووضح ما تنطوي عليه من معان واسرار واحكام]7.
إذن فالتفسير هو توضيح (ما إنطوت) عليه من (معان) و(أسرار)، وليس شرح ما هو ظاهر وواضح لأن هذا ما تدل عليه الكلمات أي أنه عمل الدلالة لا التفسير. لأن الكلمة متعلقة بما سواها عن طريق الممارسة، فعندما نقول (أسد) فهي إشارة لشكل محدد نعرفه من خلال التجربة، وهذا أمر لا يحتاج لاكثر من الاشارة ـ اي الدلالة.
ولكن ربما ـ أقول ربماـ وجد شخص لا يعرف ما هو شكل الاسد.. ولا ماهية الاسد أصلا، عندها يتم تفسير الكلمة بوصف الشكل والنوع والخصائص الخ..وأما تأويل كلمة أسد فيقع اذا ذكرت الكلمة بقرينة مانعة لاستخدامها المتعارف عليه (كما ذكرنا في مثال بيت المتنبي عن البحر والأُسد).
إذن فكل مفردات اللغة في حالة التجريد هي دلالة لشئ ما موجود في الذهن عن طريق الممارسة، فإذا قلت ممارسة الشخص برز دور التفسير، فهناك من يحتاج لتفسير كلمة حاجة لا تكون لغيره الذي يقنع بمجرد الاشارة فقط.
هكذا فإن المفردة يختلف عملها بإختلاف الاشخاص، فإذا كا عالم بها فهي دلالة، وإن كان جاهل بها فهو في حاجة للتفسير. اما علاقة التأويل بالدلالة فهذا ما سنحاول الاجابة عنه الان.
ثالثا:علاقة التأويل بالدلالة.
للدلالة دور مهم في عملية التأويل، يختلف بإختلاف المأول للنص، ولكنه لا ينعدم البتة حتى وإن كان التأويل ضعيفا فإننا نجد ان هنالك دلالة ما عليه رغم ضعفه. ولا تكتمل عملية التأويل دون مساعدة الدلالة. فمحاولة الكشف عن المعاني وإبراز الغرض منها يحتاج المأول فيها إلى ذخيرة لغوية كبيرة، ومقدرة فائقة على التصور، وتجربة جيدة في الممارسة، تعينه على خلق الترابط اللغوي الذي يقنع العقل. ودون هذا، فهي محاولة فجة غير مرتاضة بأدب العلم. والحكم أيضا على أي محاولة يتطلب نفس المقدرة على التأويل. فالمأول والمستمع يقتسمان الملعب بالتساوي، بل (رب مستمع اوعى) فيحلق في سماء تأويل المأول بما لا يراه المأول نفسه تماما كما قال افلاطون في مقولته المشهورة عن الشعراء بأنهم يكتبون أشياء قد لا يدرون معانيها، لان الشاعر ملهم وهو ينقل ما يسمعه فقط، وقد لا يفهم في بعض الاحايين ماينقله.
ولعل علاقة (الدلالة، التفسير، التأويل) هي علاقة ترابطية متدرجة تبدأ من قاعدة الدلالة وتنتهي في قمة التأويل ـ حيث لا إنتهاء ـ مرورا بدرج التفسير المتعالي. وعمل التأويل أصلا في النص لا في المفردة المنفصلة. ولا نعني بالنص فقط المكتمل بداية ووسطا ونهاية ـ وإن كان لهذا الترابط دورا مهما في هذه العمليةـ ولكن أجزاء النص ايضا تفي بالغرض اللازم. فإن كان النص مترابطا كوحدة موضوعية لزم أن يكون التأويل مترابطا فلا يخرج عن السياق العام للنص. وأكبر مثال لذلك النص القرآني فيجب على المأول أن ينتهج نهجا مترابطا لا يختلف والنصوص القرآنية المختلفة. وقد تضلل دلالة الآيات عن المعنى المراد، فلا ينفع العمل بها، ولا العمل بالتفسير الذي قد يصبح متحاملا على اللغة حتى أنه قد يلجأ الى طرق هي أبعد عن العقل ولا تقنع ذي لب ولا جاهل، وتصبح حينئذ حاجة النص للتاويل حاجة حياة أو موت. فلا بد حينها إبعاد الدلالة الحقيقية للنص والذهاب الى الدلالة المجازية وهذا هو بالضبط مفهوم التأويل عند (أبن رشد)8.
رابعا : علاقة الدلالة والتأويل بالنص القرآني.
وعن ترابط التأويل وضرورته للنص وعجز الدلالة من جهة، والتفسير من جهة أخرى عن توضيح معنى النص ، يطالعنا القرآن بقوله:
{أينما تكونوا يدرككم الموت، ولو كنتم في بروج مشيدة. وإن تصبهم حسنة يقولوا: هذه من عند الله. وإن تصبهم سيئة يقولوا: هذه من عندك. قل : كل من عند الله، فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا؟. ما أصابك من حسنة، فمن الله، وما أصابك من سيئة، فمن نفسك. وأرسلناك للناس رسولا. وكفى بالله شهيدا}9
اولاً نجد ان الدلالة فقط قد تدخلنا في مشكلة كبيرة، ففي الايات تناقض واضح تعطيه الدلالة وهو تناقض لا يفترض قيامه عند مؤمن بالنص القرآني، لانهم يرددون الاية التي في نفس السورة وبعد آيتين فقط من الايتين المذكورتين {أفلا يتدبرون القرآن!! ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه إختلافا كثيرا}.
ولعجز الدلالة عن تدارك هذا الوضع قد يبدو أن التفسير قد يفك التعارض القائم، ولكن أي محاولة للتفسير جاءت غير مقنعة، ومتحاملة على اللغة التي هي أساس التفسير عند أهل التفسير. ولدينا مثالين في التفسير سنعرضهما على التوالي. قال ابن كثير في هذه الآيات:
[{وإن تصبهم حسنة} أي خصب ورزق وثمار ونحو ذلك ......{يقولوا هذه من عند الله، وإن تصبهم سيئة}أي قحط وجدب ونقص في الثمار......{يقولوا هذه من عندك} أي من قبلك وبسبب إتباعنا لك وإقتدائنا بدينك...... وهكذا قال هؤلاء المنافقون الذين دخلوا في الاسلام ظاهرا وهم كارهون له في نفس الأمر ولهذا أصابهم شر إنما يسندونه الى إتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم......{ قل كل من عند الله} اي الجميع بقضاء الله وقدره وهو نافذ في البر والفاجر والمؤمن والكافر .........أي الحسنة والسيئة. ثم قال تعالى مخاطبا لرسوله صلى الله عليه وسلم والمراد جنس الانسان ليحصل الجواب{ما أصابك من حسنة فمن الله } اي من فضل الله ومنته ولطفه ورحمته {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} أي فمن قبلك، ومن عملك أنت ]10
(مجموعة النقاط الواردة في النص هي كلمات رأينا حذفها دون أن تخل بالنص الاصلي)
ويبدو أن المفسر قد أخذ على عاتقه أن يخوض في الامر حتى منتهاه دون أي إشارة حتى لاختلاف دلالة الكلمات، ولتعارضها.... بل تجاهلها تماما ولم يشر حتى مجرد إشارة لذلك .. وأكثر من هذا فهو قد قام بتفسير الآيات بشكل غريب فهو في الآية الأولى قد فسر معنى (الحسنة) ومعنى (السيئة) فقال عن الاولى:
(أي خصب، ورزق، وثمار، ونحو ذلك). وقال عن الثانية: (أي قحط وجدب ونقص في الثمار) ....
ثم إنه لم يقم بتفسير معنى الحسنة والسيئة في الاية الثانية {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} وكأنه لا يرى أي تناقض بين القولين!! فان كان معنى الحسنة والسيئة في الموضعين واحدا فهذا يحتاج الى تبيين ...لأن الاية الاولى تقول بوضوح مفرداتها (الحسنة والسيئة تصيب بأمر الله). والاية الاخرى تقول مفرداتها وبوضوح أيضا (الحسنة تصيب من الله، والسيئة تصيب من عمل الانسان). والموضوع هو في الاساس علاقة: الحسنة، السيئة، بالله، والانسان.
(فإن كانت السيئة الاولى تعني القحط والجدب الخ..) وهي من الله ثم الثانية تعني نفس الشئ وهي من عمل الانسان فهذا لعمري هو التناقض بعينه والذي كان يجب على المفسر أن يتصدى له. ولقد علق إبن كثير على قول مطرف بن عبد الله : (ما تريدون من القدر أما تكفيكم الآية التي في سورة النساء {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك} أي من نفسك والله ما وكلوا إلى القدر وقد أمروا، وإليه يصيرون). فعلَّق عليه بقوله: (وهذا كلامٌ متين قوي في الرد على القدرية والجبرية أيضاً).
ولو أن المفسر نفسه إنتهج نهج (أهل السنة) الذين يدعي الإنتماء إليهم لما وقع في هذا الخطأ الفاضح فهو بذلك الإدعاء يرفض قول (المعتزلة) بأن الإنسان مخير في كفره وإيمانه ولكنه في نفس الوقت يرفض عكس قول المعتزلة. وليس هنالك أعجب من أن يكون الإنسان (لا هو مخير، ولا هو بمسير). ولقد أورد حديث طويل في ختامه يقول النبي لأبي بكر وعمر: (إحفظا قضائي بينكما، لو أراد الله أن يعصى لما خلق إبليس) ثم ذكر أنه حديث غريب (موضوع مختلق) وذكر غرابته في بداية الحديث، أما وضعه وإختلاقه ذكرا في نهايته على لسان شيخه إبن تيمية. والعجيب أن هذا الحديث نفسه هو الذي يمتلك القدرة على حل وفض التعارض القائم في هذه الايات ... ولولا أن المفسر أراد أن يلوي عنق الحقائق ليثبت نظريته العجيبة التي هي ضد الجبر وضد الاختيار !!
المثال الثاني:
ولقد كان الشوكاني أكثر صدقاً فذكر أن هناك من يرى إختلافا في الآيات وإن كان هو لا يرى ذلك البتة:
[{وإن تصبهم حسنة} هذا وما بعده مختص بالمنافقين، أي أن تصبهم نعمة نسبوها إلى الله، وإن تصبهم نقمة نسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرد الله عليهم ذلك بقوله:{قل كل من عند الله} ليس كما تزعمون. قوله {ما أصابك من حسنة فمن الله} هذا الخطاب إما لكل من يصلح له من الناس، أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعريفاً لأمته: أي ما أصابك من خصب فمن الله بفضله، وما أصابك من جهد وبلاء فمن نفسك بذنب أتيته فعوقبت عليه...... وقيل إن هذا من كلام الذين لا يفقهون حديثا: أي فيقولون ما أصابك من حسنة فمن الله وقيل أن ألف الإستفهام مضمرة: أي وما أصابك من سيئة (أفمن نفسك). وهذا خلاف الظاهر. وقد نظن أن قوله{وما أصابك من سيئة فمن نفسك} مناف لقوله{قل كل من عند الله} وليس الأمر كذلك، فالجمع ممكن كما هو مقرر في مواطنه]11.
وقد يكون الجمع ممكنا لو شرح لنا إمكانيته ووضح لنا مواطن تقريره، ولكن ما تعطيه لنا اللغة بتفسيرها الظاهر ومن خلال دلالة الكلمات لا يجعل النصين متوائمين، وكل قول خلاف ذلك هو قول خلاف الظاهر، ومحاولة للتأويل.
وتأويل النص القرآني لأنه خلاف الظاهر فقد سماه المتصوفة علم الباطن. وهو علم الكشف عن المعنى لا باللغة فقط ولا بالدلالة فقط بل بقمتيهما معا. فهو توضيح للمعنى عن طريق فهم (النظرية العامة) للقرآن أولاً، ثم تمديد اللغة لأقصى حد يمكن أن تصل إليه. وقد يبلغ أحدهم درجة من السكر تجعله يقطع حبل اللغة عن قارب النص فيسبح في بحر بلا شاطئ.
وأول نظرية في الدين يعتمدها المتصوف (العارف) بالتصوف حقا هي أن الانسان مسير في كل شئ. ولإعتمادهم _ المتصوفة أعني _ على التأويل دوما، وبعدهم عن ظاهر النص، فإن حجتهم _ سواء اتفقنا أو إختلفنا معها _ هي الأقوى والأكثر ترابطاً من غيرها. لأن تفسير القرآن يصطدم بالتناقض الظاهر بين الآيات فيجد المفسر نفسه أمام حل من إثنين:
I. إما أن يحاول تطويع النص بأي شكل كان وعلى حساب اللغة.
II. وإما أن يردد قول النبي: (إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه فآمنوا به)12.
ومرحلة الإيمان هذه كانت تنفع في عصر البداوة والبساطة. ثم ولعلم المفسر بأنه لا يستطيع أن يعول على الإيمان فقط _ وإلا فما جدوى تفسيره في الأساس_ لهذا نجد أن جلهم قد جعل الأولى هي الحل الأمثل بالنسبة له، فأخذوا يطوعون اللغة كي تلائم النص غصبا. فهم تارة يقولون بتخيير الانسان في كفره وايمانه، وانه محاسب بعمله، وتارة أخرى يرجعون الافعال كلها الى الله... والحق اٌقول أنني منذ أن بدأت الاهتمام بالتراث الاسلامي حوالي عام 1993م كان أشد ما يحيرني هو التناقض القائم داخل الطائفة الواحدة ... ولكن أكثر طائفة أصابتني بالحيرة هي طائفة أهل السنة .. هم ضد الجبرية وضد القدرية .. هم ضد تسيير الانسان وضد تخييره ... هم ليسوا مع علي ولا مع معاوية ..ولا مع طلحة ولا الزبير .. ولا أم المؤمنيين عائشة ... طائفة منهم ضد الرأي ... وطائفة تؤكد عليه وتدعمه ثم بعد هذا كلتاهما تمدح الأخرى .. جماعة منهم ترى العمل بالاستحسان كالإمام ابو حنيفة ومالك .. وأخرى تكفر من يعمل به كالشافعي ثم نرى التاريخ يذكر لنا إطناب الشافعي عليهما كقوله: الناس في الفقه عيال لابي حنيفة ... يقول اصحاب مذاهب أهل السنة أن الخلاف بين الائمة ليس في الاصول وهو خلاف لا يخرج من الدين ولا من الملة بل هو ممدوح ... وهذا قول منافي للواقع فكتب الفقه تمتلئ بالخلافات التي وصلت حد التكفير (كتارك الصلاة ، وشارب الخمر ، ومصادر الفقه الخ..)... إنها حقا طائفة عجيبة!.
اما مشاكل المفسرين المحدثين فهي أكبر من هذا بكثير، فكثير من آيات القرآن تقول بأن الأرض مسطحة. وهذا ما يعطيه ظاهر النص. كما أن تفاسير القدماء لظواهر الطبيعة جاء جلها بعيدا عن الواقع العلمي.
لقد بدا من الواضح أن كل التفاسير (قديمها) و (وحديثها) تصادم النصوص القرآنية بعضها البعض، كما تصادم الواقع العلمي الحديث. كما بدا من الواضح جدا أن أي محاولة للتفسير هي محاولة لموت النص بأسرع وسيلة ممكنة.

يتبع

Post: #2
Title: Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم
Author: مأمون التلب
Date: 12-09-2004, 03:26 AM
Parent: #1


• التفسير بين التخيير والتسيير.
تعتبر مشكلة التخيير والتسيير من المشاكل الاولى التي طرأت على الفكر الاسلامي بعد فترة ما يسمى بالفتنة الكبرى. وكان لإعتزال واصل بن عطاء الله للحسن البصري أكبر دور في تفجير هذه المشكلة.
من الواضح تماما أن نصوص القرآن تمتلئ بتسيير الانسان، كما توجد إشارات أخرى لتخييره. ولقد بنى المعتزلة موقفهم ضد التسيير على فكرة العدل الالهي التي هي أحد اهم الاصول الخمسة للمعتزلة.
والعدل الالهي يتطلب أن الله لا يجبر عبدا على فعل ما ثم يحاسبه عليه. وهذه الفكرة، (مع الاربع الباقيات)، كانت بمثابة نظرية عامة للمعتزلة في النظر الى كافة النصوص القرآنية وكذلك النصوص النبوية.. ولأن المعتزلة أصحاب نظرية في النص لهذا نجد أن تأويل المعتزلة كان ـ بلا شك ـ أكثر ترابطا من تفسير أهل السنة.
ولكنه ـ في ذات الوقت ـ وبناء على النص نفسه ـ كان متهافتا بالمقارنة مع تأويل فلاسفة المتصوفة الذين يعتمدون على نظرية مغايرة ومختلفة تماما مع نظرية المعتزلة.
فنظرة التخيير المطلقة جعلت المعتزلة في مطب حاولوا الفكاك منه بشتى الطرق والوسائل، حتى انهم عمدوا الى تغيير دلالة النص الظاهرة شكلا لعدم تمكنهم من تأويل بعض النصوص وفق نظريتهم. ولقد قاموا بانكار النصوص النبوية التي لا تتماشى مع فلسفتهم في التاويل ... وهذا بلا شك عجز عن التاويل. ففي المثال الاول قاموا بتغيير سورة الفلق عند قول القران :
{قل أعوذ برب الفلق* من شرِ ما خلق} الى (من شرٍ ما خلق). وبوضع تنوين على كلمة (شر) أصبحت (ما) هنا نافية، وهذا بخلاف إجماع أهل القرآن في هذا النص13. ولم يتم هذا التغيير على أساس مرجعي أو نقلي، وإنما قام على أساس النظرية العامة التي ترفض خلق الله للشر وأنه حادث من صنع الانسان ... ولو تابعنا هذه الفكرة لوجدناها أشبه بفكرة تعدد الالهة التي كانت عند الاغريق فهناك اله للخير وآخر للشر وثالث للحب الخ.. ولو واصل المعتزلة على هذا المنوال لإحتاجوا لتغيير 20% من آيات القرآن ومن الاحاديث النبوية كلها تقول بخلق الله للشر، ولأفعال الناس جميعها.
وفي المثال الثاني فلقد رفض المعتزلة كل الاحاديث التي تدعم فكرة التسيير، لا طعنا في رواتها، ولا في أسانيدها، بل طعنا في بنيتها ـ أي المتن ـ إذ لا يتماشى أيضا والنظرية العامة لهم .
ورغم أننا نقر أن الحديث لا يثبت خطأه من صحته لمجرد قوة السند فقط. الا اننا نؤكد ان الحديث صحيح الرواية لا يمكن تجاهله لمجرد عدم اتفاقه مع نظريتنا العامة في الدين، وكذلك لا يمكن أن نفعل بالحديث ضعيف الرواية. بل ان الحديث ضعيف الرواية يظل من المقبول الاخذ به اذا اتفق والنظرية العامة ولكن العكس ليس صحيح. أي لا يصح دفعه لمجرد خلافه مع النظرية العامة.
لأن النظرية العامة (للمسلم) مبنية في الاساس على النص، والايمان به، فالنص هنا هو نص (مؤمن) به سلفا، ووفق مجموع النصوص تتشكل النظرية العامة.
فاذا جاز الاتفاق ان النصوص النبوية قابلة للاخذ والرد وفق سندها فان النصوص القرآنية غير قابلة لذلك. فكيف إذن يتم التحايل على النص ليماشي نظرية تختلف تماما وذلك النص!!!!!!!!.
يقول النص القرآني :{الله خالق كل شئ}14 (وكل) هنا لا تحتمل التحايل على النص، لا دلالة، ولا تفسيرا.. فهي تعني (كل) بلا إستثناء من أصغر وحدة بناء في المادة الى أكبر عنصر تم إكتشافه مرورا بالانسان، وشكله، ومشاعره، وافعاله...الخ...
ولكن أسوأ ما وقع فيه المعتزلة هو نزولهم بعلياء التأويل الى درك الدلالة. فالتأويل عندهم يبدأ بالدلالة نفسها ـ تأويلا، والا ما عمدوا لتغيير آية (الفلق) المذكورة. وهذا يكشف عيبا في نظريتهم الكلية اذ هي معارضة للنص القرآني وبالتالي فالحل يكمن في تغيير ذلك النص. وهو نفسه ـ لو تذكرنا ـ عيب المفسر ولكن بصورة معكوسة، فالمفسر يقوم:
*بتطويع اللغة للنص.
والمعتزلة يقومون:
*بتطويع النص للنظرية.
هذا ما كان في شأن المعتزلة وتأويلهم، أما أهل السنة ومن يدعي الانتماء اليهم مثل (ابن كثير ،وابن قيم الجوزية، وابن تيمية...) فهم لايرحبون بالتأويل... ولقد رفضه الصغاني في كتابه( ترجيح اساليب القران على اساليب اليونان) وابن تيمية في كتابه(درء تعارض العقل والنقل) وكذلك السيوطي15 ولكن الجرجاني يوافق عليه بشرط ان يكون موافقا للكتاب والسنة16. وعلى العموم فإن أهل السنة وان كانوا لا يرحبون بالتأويل كقاعدة عامة لهم الا انهم قد مارسوا التأويل فعلا ومثال لذلك الاية التي أولها ابن عباس وذكرناها في المقدمة وهي معتمدة بهذا التأويل عند ابن كثير والقرطبي. كما أن هناك تفسيرا لمحمد بن جريري الطبري عنوانه(جامع البيان في تأويل آي القرآن) ورغم ان الكتاب لا يحتوي على تأويل، بذاك المفهوم الذي أوردناه، للتأويل إلا ان اعتماد التأويل في حد ذاته من الطبري يعد إعترافا به رغم إختلاف المفاهيم.
واما تفاسير اهل السنة وتأويلاتهم فهي لا تخدم قضية التسيير والتخيير كثيرا اذ ظل موقفهم منها ـ ومن كثير من القضايا ـ موقف المراقب من بعد، ويتدخل في بعض الاحايين على إستحياء. ولعلنا نذكر أن سبب إعتزال (واصل) للـ(بصري) كان في الاساس لعدم تكلم الآخير في مرتكب الكبيرة أهو كافر أم مؤمن. لهذا نجدهم تارة مع التسيير اذا خالفوا المعتزلة، وأخرى مع التخيير إذا خالفوا الجبرية17، ولكن يغلب عليهم التسيير في كثير من الاحيان. ولقد ألف الغزالي (المتصوف السني )كتابا أسماه (الاقتصاد في الاعتقاد) ينادي فيه بالكف عن الكلام في هذه القضية، ولعل النظرية العامة لأهل السنة هي ما أجمله الغزالي في كتابه هذا... ولكنه إتفاقا لا يقوم بين اهل السنة والتصوف السني لأنهم وإن كان عدائهم للتصوف السني أقل من عدائهم لفلاسفة المتصوفة الا انه عداء قائم.. ولن ينفك تعارضهم لأن كلا المنطلقين مختلفين ... فالغزالي صاحب (الاقتصاد في الاعتقاد) وبعد تركه للفقه وتوجهه للتصوف إنصرف الى تأليف الكتب التي تعين السالك في طريق التصوف مثل ما اشتهر به(احياء علوم الدين) وكل ما ورد في تلك الكتب كان يصدر عن شخص (يسلك) صغار المريدين وهي لا تنتمي بالطبع لكتب الفقه والتفسير والتي هي في الاساس إبراز وجهات نظر وتنظيم لحياة الناس ومرافقهم. لهذا فان ما أجمله الغزالي في (الاقتصاد) وهي بمثابة نظرية عامة لاهل السنة، لا يفيد كثيرا تناوله في هذا الموضع اذ ليس هنا محله. فنحن لا نبحث في الاعتقاد ومشاكله، وانما همنا في الاساس البحث عن مشاكل التأويل في النص القرآني، وليس اهل السنة بمعين كبير في هذه القضية، إذ يبنون نظريتهم على الإيمان فقط، ولا ننسى قول من يدعي الانتماء اليهم في العصر الحديث تطبيق القرآن الكريم والسنة وفق فهم السلف الصالح)!!!.
ولعل الشريك الاساسي الذي يقتسم الموقف مع المعتزلة هم فلاسفة المتصوفة. فإن كان أهل السنة والمتصوفة السنيين يحجمون عن الكلام فإن فلاسفة المتصوفة لا يحجمون عن ذلك، بل يتوسعون في القول، والكشف، حتى بنوا نظرية موازية تماما لنظرية المعتزلة. ورغم أن المتصوفة هم الأقرب لأهل السنة من المعتزلة الا انهم ظلوا محل حرب الفقهاء المتواصل. بل وصل الامر بهم الى التآمر مع الخلفاء لقتلهم ، كما فعلوا بالسهروردي إذ دفعوا (الناصر الايوبي) الى قتله في قضية هي من المضحكات18.
وكما تآمروا على محي الدين بن عربي في مصر وحاولوا قتله لولا أن ساعده الشيخ (البجائي) على الهرب19. وكما فعلوا بالحلاج المشهور فعلوا ايضا نفس الشئ مع عبد الحق بن سبعين إذ دسوا له السم بتحريض من (الملك المظفر) ملك اليمن20. والتاريخ مليئ بعداء الفقهاء للمتصوفة القدماء والمحدثين إبتداء من (الجنيد شيخ الطائفة الصوفية) و (الشبلي) و (الغزالي) نفسه الذي لم يسلم من الأذى حيا وبعد إنتقاله .. مرورا بـ(الجيلاني) و(الرفاعي) و(البدوي) و(الدسوقي) وهم عند الصوفية يدعون بالأقطاب الاربعة.. وصولا (للتجاني، والسكندري، وابوالعباس المرسي، وابن ابي جمرة).. وحتى عصرنا الحالي وهذا سيأتي في موضعه ..(وعلى المهتمين مراجعة ذلك في مواضعه مثل كتاب الطبقات الكبرى).
ولعل السبب الاساسي الذي يخلق هذا العداء بين الفقهاء والمتصوفة (سنيين وفلاسفة) هو مقدرة الصوفية على التأويل بطريقة مترابطة هي أكثر إقناعا وجذبا للناس من غيرهم ... وهناك سبب آخر هو التأويل نفسه دون حاجة لترابطه أو إقناعه، ولهذا السبب كان حظ المعتزلة من التعذيب لا يغفل رغم أنه كان أقل من المتصوفة، وهذا رغم ان التصوف بشكله المتكامل قد ظهر بعد الاعتزال بمدة طويلة.
والنظرية العامة للصوفية وهي أن{الله خالق كل شئ} بلا إستثناء، يكثر ذكرها في أثرهم وكتبهم بطرق مستورة تارة وأخرى واضحة لا تقبل الشك..جاء في كتاب أخبار الحلاج أن (عبد الله بن طاهر الأزدي قال: كنت أخاصم يهوديا في سوق بغداد. وجرى على لفظي أن قلت له ياكلب. فمر بي الحسين بن منصور ونظر الي شزرا وقال: لا تنبح كلبك. وذهب سريعا، فلما فرغت من المخاصمة قصدته فدخلت عليه فأعرض عني بوجهه، فاعتذرت إليه فرضى ثم قال: يا بني الأديان كلها لله عز وجل، شغل بكل دين طائفة لا إختيارا فيهم بل إختيارا عليهم، فمن لام أحدا ببطلان ما هو عليه فقد حكم أنه أختار ذلك لنفسه، وهذا مذهب القدريةـ والقدرية مجوس هذه الأمةـ وأعلم أن اليهودية والنصرانية والاسلام وغير ذلك من الاديان هي ألقاب مختلفة وأسام متغايرة، والمقصود منها لا يتغير ولا يختلف...)21. ولقد قال ابن عربي شعرا مثل هذا المعنى سيذكر في هذا الفصل من الورقة (انظر ص24).
ويقول ابن عربي:[فاعلم أن العبد تارة يقيمه الحق في معصيته، وتارة يقيمه في طاعته] ثم أنشد في هذا المعنى:
( اذا عصى الله قد وفى حقيقته
وان اطاع فقـ د وفى طريقته)22

• عودة للنص القرآني {وإن تصبهم حسنة ...الخ}
ان هذا النص وفق نظرية المتصوفة يصير قابلا للحياة مرة أخرى، فهم يقرون في البداية أن الله خالق كل شئ أي أن (كل من عند الله) فالخير والشر والحسنة والسيئة كلها من عند الله فالتفسير الذي هو قاعدة التأويل لا يتهرب من توضيح المقصود من دلالة الايات والالتفاف على اللغة(كما رأينا في مثال اهل السنة) فالسيئة هي السيئة لا مبرر لتحويل دلالتها وصرفها عن موضعها الظاهر وهي من عند الله، لا متصرف معه أحد. ثم أن هذه السيئة التي هي من عند الله كان لها سبب(وهو أيضا من الله) وهذا السبب ليس فرضا لحدوثها لان الخالق لا يتعلق فعله بالاسباب ـ ضرورة ـ وإن تعلق. فأنت عندما تعصي الله يكون هذا سببا للبلاء أي السيئة بالسيئة ... ولكن مايفك التعارض في قوله {كل من عند الله} هو أنك لا ترتكب السيئة الا بإرادة الله وأمره. فالكفر بالله سيئة وهي مصيبة مقدرة من الله تقوم بها أنت، فلولا الكافر ما كان كفر... والأيمان بالله حسنة وهو مقدر عليك وهو قائم بلا حاجة للإنسان ـ هذا في الشريعة، وإن كانت هناك حاجة للإنسان في الحقيقةـ لأن غاية الايمان هي التوحيد، والله غني عن توحيد الإنسان له إذ وحّد ذاته بذاته في قوله:{شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم}23.
قال ابن عربي:
({وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله} إلى آخره..أثبت أنهم قدريون، يضيفون الخيرات الى الله، والشرور الى الناس، يتشبهون بالمجوس في إثبات مؤثرين مستقلين في الوجود، وإضافتهم الشرور الى الرسول ـ لا الى أنفسهم ـ كانت لأنه باعثهم ومحرضهم على ما يلقون بسببه الشر عندهم. فأمر الرسول بدعوتهم الى [توحيد الأفعال] ونفي التأثير عن الأغيار، والإقرار بكونه فاعل الخير والشر بقوله:{ قل كل من عند الله، فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا}لإحتجابهم بصفات النفوس وإرتجاج آذان قلوبهم التي هي أوعية السماع والوعي. ثم بين ان الله فضلا وعدلا فالخيرات والكمالات كلها من فضله، والشرور من عدله ـ أي يقدرها علينا ويفعلها بنا لإستعداد وإستحقاق فينا يقتضي ذلك. وذلك الاستحقاق انما يحدث من ظهور النفس بصفاتها وإرتكابها المعاصي والذنوب الموجبة للعقاب، لا بفعل آخر ـ كما نسبوا ما أصابهم من الشر الى الرسول ـ لأن الاستحقاق مرتب على الإستعداد .... فكذبهم وخطأهم في قدريتهم بإثبات أن السبب الفاعلي للخير والشر ليس الا الله وحده بمقتضى فضله وعدله. وأما السبب القابلي فهو وان كان ايضا منه في الحقيقة الا ان قابلية الخير هو من الاستعداد الاصلي الذي هو من الفيض الاقدس الذي لا مدخل لفعلنا واختيارنا فيه وقابلية الشر من الاستعداد الحادث بسبب ظهور النفس بالصفات والافعال الحاجبة للقلب، حتى إحتاج للصقل بالرزايا والبلايا لا من قبل الرسول او غيره)24.
وأول ما نلحظه في هذا التأويل هو المقدرة الفائقة على ربط النظرية العامة بالآية. فما تخلى ابن عربي عن نظريته رغم إختلاف ظاهر النص معها، كما انه لم يعمد الى تغيير النص لكي يوائم تلك النظرية، وأيضا لم يقم بشرح لغوي بعيد عن دلالات المفردات الظاهرة.
لقد قام وبصورة بارعة بدمج تأويله مباشرة مع النص مستخدما نظريته كمنهج عتيد لا يتغير، فكانت النتيجة هذه الكلمات المترابطة التي ـ إن إختلفنا أو إتفقنا معهاـ لا نستطيع أن ننكر أنها لم تضحي بالنص أمام معبد النظرية، كما أنها لم تتخلى عن النظرية لصالح ظاهر النص. هذا عكس ما يفعله المعتزلة وخلافا لتفاسير أهل السنة.
وبصورة مقتضبة جدا ولكنها واضحة يسوق لنا الامام القشيري تأويله لهذه الآية:
(... ثم أخبر أنه لضعف بصائرهم ومرض عقائدهم اذا أصابتهم حسنة فرحوا بها وأظهروا الشكر، وإن أصابتهم سيئه لم يهتدوا الى الله فجرى فيهم العرق المجوسي فأضافوه الى المخلوق، فرد عليهم وقال: قل لهم يا محمد كل من عند الله خلقا وإبداعا، وإنشاء واختراعا، وتقديراوتيسيرا. قوله جل ذكره{ ما أصابك من حسنة ، فمن الله، وما أصابك من سيئة، فمن نفسك. وأرسلناك للناس رسولا. وكفى بالله شهيدا} ما أصابك من حسنة فمن الله فضلا، وما أصابك من سيئة فمن نفسك كسبا وكلاهما من الله سبحانه خلقا)25.
وأول ما يلحظه المتنبه في هذين التأويلين وكذلك في القصة التي أوردناها عن الحلاج سابقا هو ربطهم (المتصوفة الثلاثة) لمن يعتقد بتعدد الأفعال وإضافة الفعل للمخلوق، بالمجوس.. وكأنهم قد نقلوا أقوالهم عن بعضهم البعض .. لنشاهد مرة أخرى تلك الأقوال:
الحلاج فمن لام أحدا ببطلان ما هو عليه فقد حكم أنه أختار ذلك لنفسه، وهذا مذهب القدرية ـ والقدرية مجوس هذه الأمة ـ وأعلم أن اليهودية والنصرانية والاسلام وغير ذلك من الاديان هي ألقاب مختلفة وأسام متغايرة، والمقصود منها لا يتغير ولا يختلف...).
إبن عربي {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله} إلى آخره..أثبت أنهم قدريون، يضيفون الخيرات الى الله، والشرور الى الناس، يتشبهون بالمجوس في إثبات مؤثرين مستقلين في الوجود ).
القشيري ... ثم أخبر أنه لضعف بصائرهم ومرض عقائدهم اذا أصابتهم حسنة فرحوا بها وأظهروا الشكر، وإن أصابتهم سيئه لم يهتدوا الى الله فجرى فيهم العرق المجوسي فأضافوه الى المخلوق ).
ولم يرد ذكر المجوس في تفسير هذه الايات في كل التفاسير التي إعتمدناها لهذا البحث وهي
(تفسير القرآن العظيم )لابن كثير، (فتح القدير) للشوكاني، (تفسير القرطبي)القرطبي.
ولعل ترابط قول الصوفية وتوحدهم في التأويل يرجع الى قوة منهجهم وتوافق نظريتهم مع النص القرآني وإتفاقهم على مصادرهم.
ولكن لا يظنن ظان أن التفسير المجرد لا يخدم النص القرآني البتة فيقوم التأويل بديلا عن التفسير، فهذا قول خاطئ لأن التفسير يمكنه أيضا حل كثير من معضلات الدلالة. فالآيات قطعية الدلالة والتي لا تحتاج الى تفسير أو تأويل مثل قوله:{فذكر. إنما أنت مذكر*لست عليهم بمصيطر}26،أو قوله{ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن....}27أو قوله{ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}28، أو قوله{وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فاليكفر...}29، أو قوله{ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم.. جميعا. أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}30، أو قوله{لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي...}31. كل هذه الآيات وأخواتها ـ كثرـ هي واضحة الدلالة في الدعوة الى الله بالرفق وعدم التسلط في هذه الدعوة، وعدم قهر الناس حتى يؤمنوا. ولكنها آيات تصطدم مع أحاديث نبوية ومع آيات أخرى هي أيضا قطعية الدلالة.. كقوله: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير}32 وقوله:{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله، فإن إنتهوا فلا عدوان الا على الظالمين}33، ثم قوله{ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير}34، وقوله{فإذا انسلخ الأشهر الحرم، فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم، وأحصروهم، واقعدوا لهم كل مرصد. فإن تابوا، وأقاموا الصلاة، وءأتوا الزكاة، فخلوا سبيلهم. إن الله غفور رحيم}35، وآخر مثال قوله{قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}36.
وكل هذه الآيات تنافي دلالتها ما كان من دلالات سابقة في الطائفة الأولى التي أوردناها. فالطائفة الأولى تأمر النبي أن يذكر الناس ولا يسيطر عليهم، وأن يدعوهم بالرفق واللين، وأن لا يقابل الشر بالشر بل يقابله بالخير والإحسان، وأن لا يكره الناس في الدخول الى الدين، بل يتركهم وحرياتهم.. وهذا أشبه بقول الانجيل:{ولكني أقول لكم ايها السامعون: أحبوا أعدائكم، أحسنوا الى مبغضيكم، باركوا لاعنيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون اليكم. من ضربك على خدك فاعرض له الآخر أيضا، ومن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك أيضا، وكل من سألك فأعطه، ومن أخذ الذي لك فلا تطالبه}37.
ثم بدأت الطائفة الثانية بآية فيها الإذن لهم أن يردوا الظلم عن نفسهم، ثم أن يحاربوا الناس لدرء الفتنة، ثم محاربتهم ليقيموا الدين، ثم قتال اهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، وقتال المشركين حتى يسلموا والا فهي الحرب معلنة عليهم أبدا، وفي هذا السياق جاء حديث نبوي في صحيح البخاري باب(زكاة1) برقم(1400) يقول: (أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله)..ومن الواضح بما لا يدع مجالا للشك أن فهم هذه الايات بالدلالة فقط تجعل القرآن متناقضا ومعارضا بعضه بعضا، ولقد قام التفسير بفض هذا التعارض بإستناده أيضا على نظرية عامة (هي محل خلاف عند أهل التفسير ولكنها تعمل عند الجمهور) ومفادها أن في القرآن ناسخ ومنسوخ. والنسخ هنا بمعنى الإبطال والإزالة، فما كان من أحكام واضحة الدلالة (كما في الطائفة الأولى مثلا) يتم نسخها بأحكام أخرى واضحة الدلالة أيضا. وعلم الناسخ والمنسوخ من أهم العلوم الاسلامية والجهل به يضع المسلم في موضع خطير، سأل علي بن أبي طالب رجلا يعظ الناس: أعلمت الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا؛ قال: هلكت وأهلكت!.وهكذا قد أخرج أهل التفسير أنفسهم من مطب خطير ليواجهوا الاسئلة التالية:
1/لماذا أنزل الله حكما ثم خففه وبإمكانه إنزال المخفف من البدء؟.
2/لماذا نسخ الله آياتا ـ في ظني، وظن كل مؤمن بالعدل والمساواة ـ هي قمة في التعامل الحضاري ونموذجا جيدا يحاول الناس في العصر الحديث أن يصلوا اليه. بآيات هي دونها من حيث روح التعامل؟، بل ومن حيث مراد الدين نفسه فقوله{يا ايها الذين آمنوا إتقوا الله حق تقاته ، ولا تموتن الا وانتم مسلمون}38، قد نسخ بقوله{فاتقوا الله ما استطعتم، واسمعوا واطيعوا، وانفقوا خيرا لانفسكم، ومن يوق شح نفسه فأولائك هم المفلحون}39. ولا أعتقد أن أي شخص يمكنه أن يقول أن مراد الله في الأصالة ليس هو أن يتقى حق تقاته، بل ان يتقى بقدر الاستطاعة!! .
3/ثم ماهو مصير الايات المنسوخة؟.
ونحن بالطبع لم نسأل من علة النسخ لان علته كما نعلم هي التخفيف، ولكنا تجاوزنا هذا الأمر وقفزنا لنسأل عن علة إنزال المشدد ثم شفع بالتخفيف بعد زمن ...
هنا يقف التفسير عاجزا عن حل هذه المعضلة، مما نحى بطائفة منهم لإنكار النسخ نفسه، وهذا قول غريب جدا لأن النسخ موجود في ظاهر النص بلا لبس أو غموض .. يقول {ما ننسخ من آية، أو ننسأها، نأت بخير منها ، أو مثلها. ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير}40، ولا شك (لغوي) هنا أن النسخ قد تم، اللهم الا أن يكون هناك تأويلا وهذا ليس محل نقاشنا الآن، لأنه ليس عمل أهل التفسير.
ولا تزال الاسئلة الثلاث تقبع في مكانها من غير رد مقنع لأهل التفسير... وهنا تظهر للتأويل خاصية أخرى وهي معرفة الغايات الحقيقية للنص أو قل أن للتأويل القدرة على ربط الغاية بالنص بصورة مقنعة ومتسقة مع (النظرية العامة). ولا أقول أن كل المأولين قد تطرقوا لهذه الغايات، بل ان المثال الوحيد الذي أمامنا هو للأستاذ محمود محمد طه، يقول : (قوله {ما ننسخ من آية} يعني :ما نلغي، ونرفع من حكم آية... قوله{أو ننسأها} يعني نؤجل من فعل حكمها...(نأت بخير منها} يعني أقرب لفهم الناس، وأدخل في حكم وقتهم من المنسأة....{أو مثلها} يعني نعيدها، هي نفسها، الى الحكم حين يحين وقتها.. فكأن الآيات التي نسخت انما نسخت لحكم الوقت، فهي مرجأة إلى أن يحين حينها..فإذا حان حينها، فقد أصبحت هي صاحبة الوقت ويكون لها الحكم.....هذه هي الحكمة وراء النسخ..فليس النسخ، اذن، الغاء تاما، وانماهو ارجاء يتحين الحين، ويتوقت الوقت)41، وعندما نعلم أن الاستاذ يرى بأن الله ما أنزل المنسوخ إبتداء الا لأن القرآن جاء يحمل بين طياته كل ما تريد السماء قوله، لنا، ولمن سبقونا، وللذين من بعدنا.. عندها لا يتبقى لنا سؤال بلا إجابة..فإن قلت لم الاختلاف في الاحكام؟ كان الجواب بسيطا..لإختلاف الزمان والمكان.
وفي رأيي أن الأستاذ محمود محمد طه، أفضل المتصوفة في توضيح (النظرية العامة) للتصوف بطريقة حديثة ومختصرة، كما أنه قد دفع بالنص القرآني الى العلياء، فجاء تأويله قمة يتقاصر دونها كل تأويل. فهو لا يكتفي بتأويل النص فقط، بل يبحث في تأويل سببه، وعلته، وغرضه، وزمانه، ومكانه، وإستخداماته المتعددة. فيجيئ التأويل متسقا مع النظرية العامة التي اعتمدها، والتي لا تختلف كثيرا مع النظرية العامة للتصوف، بل تستند عليها في رقيها وعروجها.
وإن كان الأستاذ قد لاقى من بعض (أدعياء التصوف) كثير من النصب والمشقة، بل بلغ بهم(ولأول مرة في تاريخ التصوف) أن تآمروا مع السلطة الزمنية لقتله. لقد شهدنا هذه الحرب بين المتصوفة والمذاهب الأخرى وكان المتصوفة دوما هم محل الانتقام والتنكيل والقتل، ولكنا لم نشهد(ولا مرة واحدة)إستخدام المتصوفة السلطة الحاكمة لقتل أعدائهم...لهذا فنحن لا نعد من تآمر على الأستاذ من المتصوفة بل هم ـ كما ذكرنا ـ أدعياء تصوف.
وأيضا كانت جناية الاستاذ ـ كبقية الصوفية المعذبين والمقتولين ـ هي التأويل، ونوعيته التفردة.
ولنقم بتلخيص ما ذكرناه في هذا الباب:
1. إن الدلالة غير قادرة تماما على فك معاني النص القرآني، لأن النصوص القرآنية فيها كثير من التضارب الظاهر (الدلالة). لهذا كانت الحاجة للتفسير ماثلة، حتى تتم الموائمة بين النصوص المختلفة شكلا.
2. والتفسير لا يتم بمعزل عن (نظرية عامة ) للمفسر، ينتهجها حتى يتسنى له التفسير على ضوءها.
3. تلك النظرية العامة جعلت المفسرين في كثير من الاحيان يلجأون الى تطويع اللغة للنص فخرجت أغلب تفاسيرهم غير مقنعة، ومثار للجدل والإختلاف فيما بينهم، فعمدوا الى إلباسها ثوب القدسية وذلك عن طريق المطالبة بالإيمان والتصديق، دون الحاجة الى دليل أو إقناع.. حتى صار موت النص وشيكا.
4. التأويل هو صاحب القدرة الحقيقية لبث الروح في النص من جديد، ولكن ولضمان نجاح هذه العملية يجب أن تتسق (النظرية العامة) مع التأويل، كما يجب الحفاظ على النص سليما دون تحريف، فلا شك أن تحريف النص هي إحدى أدوات قتله.
5. يعتبر الصوفية هم الأجدر في هذا الميدان فلقد كان تأويلهم متسقا مع (نظريتهم العامة) كما أنهم حافظوا على النص سليما.
6. حافظ مفسرو أهل السنة على النص ولكنهم لم يخرجوا بتفاسير مقنعة، كما أنهم بحالة صمتهم التي هم فيها لم يشرحوا نظريتهم العامة بصورة سليمة.
7. المعتزلة عمدوا على تغيير النص ولم يحافظوا عليه حتى يتفق مع نظريتهم العامة (وهي الأصول الخمسة).
8. كان للأستاذ محمود محمد طه فضلا عظيما في دفع التأويل ليخدم أغراضا غير بنية النص الشكلية فقط. بل تعدته لتبحث في ما وراء النص. وهذا ما سيكون له الباع الأكبر في الباب المقبل والذي يبحث في تطور مفهوم التأويل في النص القرآني.

خامسا: تطور مفهوم التأويل في النص القرآني.
لقد ذكرنا قبلا كيف أن الكلمة يتحدد مفهومها، دلالة، عن طريق الممارسة، ولقد جاء التأويل ليخبرنا كيف أننا نحدد مفهوم المعنى أيضا عن طريق الممارسة. لهذا فإن التأويل ـ عكس التفسيرـ قابل للتطور، ذلك التطور الذي لا ينفي ما سبقه بل يؤكده بدعوى حكم الوقت. فهم ـأي اهل التأويل ـ وإن تعارض تأويلهم فلا يقولون بأن المعارض قد نفى بعضه بعضا بل يؤكدون على كل الآراء، كل حسب زمانه ووقته(فإن أنت تمعنت في الأضحية وهي وسيلة للتقرب الى الله في زمن النبي إبراهيم ثم رأيتها في زماننا هذا كيف إنتقلت من التضحية بالانسان الى الحيوان، ثم وجدت فهما دقيقا لهذا الإختلاف في المقدار..عندها لن يتعذر عليك فهم رأي الصوفية في إختلاف التأويل حسب المكان .. والحال). فإذا خدم التأويل غرضه صار من اللازم الانتقال الى تأويل آخر. بهذا نضمن حياة النص الى الأبد، إذ يظل يعمل في كل الظروف ..وهذا، لعمري، بعينه قولهم (الاسلام صالح لكل زمان ومكان) ولكنه صلاح لا يتم الا بهذا الفهم لأن (القرآن لا ينطق، بل ينطق عنه الرجال).
وتحديد المعنى عن طريق الممارسة يتطلب جهدا أكبر من تحديد الكلمة. فأنت إن لم تكن رأيت (جملا) فمن السهل أن يوصف لك شكلا، وفي أي شئ يستخدم، وعدد أنواعه الموجودة والمنقرضة...... تماما كما نعرف الان الكثير عن الديناصورات دون أن نشاهدها. فالتفسير قد يحل محل الممارسة في تحديد الدلالة، وهنا تكمن سهولة هذه العملية.
أما في التأويل فليس هناك بديلا عن الممارسة والتجربة(لأن التأويل من مكملات عمل اللغة، ومن المهارات الفائضة منها) ولهذا بالضبط فإن المتصوفة عموما يحتمون بنصوص كثيرة تدعو للممارسة التي بفضلها ينتج العلم. ومن هذه النصوص ما يرجع للقرآن والحديث النبوي، ومنها ما ابتدعوه بأقوالهم الشخصية ... فمن القرآن يستدلون بقوله:
{واتقوا الله، ويعلمكم الله، والله بكل شئ عليم}42. ومن الحديث {من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم}. ومن آثارهم(أسلك .. تعلم) أي إنتظم في سلك التصوف بسلوكك، تعلم.
ولكي لا ندخل في قضايا عقائدية نحن في غنى عنها، فاننا نحب أن نقرر حقيقة تتفق وما ينحى له المتصوفة وهي أن التأويل لا يمكن قيامه بمعزل عن نظرية (أيدلوجية)......بالمعنى العام لأيدلوجيا...... تحكم التأويل وتحدد مساراته. وهذه النظرية تمتلك معجمها الخاص بها (للكلمات) و(الجمل) و (المفاهيم)... فالله عندهم ـ أي الصوفية ـ يختلف عن الله عند المعتزلة، والذين بدورهم يختلف مفهومهم له عن الله عند أهل السنة.. وهكذا ... وكذلك جملة (لا اله الا الله) يختلف مفهومها بين هذه الطوائف ـ كل حسب نظريته العامة. فالإصطلاح في القاموس الأيدلوجي يختلف عن الاصطلاح في اللغة الصرفة.
وبما أن اللغة مغلقة تجاه الإصطلاحات ـ أي أنها لا تنتج إصطلاحا خارجا منهاـ فكل الإصطلاحات ما هي الا معان موجودة سلفا في اللغة، لهذا فإن اللغة لا تقبل بالممارسة خارجها. ولأن التفسير مرتبط باللغة فهو بدوره لا يقبل بالممارسة خارج نطاقهاـ وإن حدث ذلك فهو قول يكلف التفسير ما لا يطيق، وأكبر مثال لذلك السور التي تبدأ بحروف لا تؤدي تشكيلاتها المختلفة الى معنى لغوي فأجمع المفسرون على تعذر تفسيرها بقولهم[الله أعلم بمرادها]،ولقد أوضحنا كيف أن كافة التفاسير التي نأت عن اللغة جاءت غير منطقية البتة.
ولكن التأويل يقبل تلك الممارسة، ويقرها، بل لا يقبل العيش بدونها، فهو إن أغلقت في وجهه الممارسة فقد خاصية أساسية من خواصه المتعددة. وهذا لأن الإصطلاح في أي قاموس أيدلوجي قابل للإتساع والتمدد. بل قد يخرج عن اللغة نفسها ـ إذا لزم الأمرـ ويبحث عن دلالات أخرى في لغات أخرى. وهذا التمدد والإتساع متاح لكل باحث داخل أي نظرية أيدلوجية.
(إذن فإعمال [الفكر] داخل النظرية الأيدلوجية هو الوسيلة [للمارسة] التي تحدد المعنى).
ولأن القرآن (كلام الله) ـ بإتفاق الطوائف الثلاث موضوع البحث ـ فإننا يجب في البدء أن نحدد المصدر الذي أنتج ذاك (الكلام) ولا ننخدع بهذا الإتفاق الشكلي!.
(فكلام الله) عند المعتزلة لا تعطي نفس المعنى لكلام الله عند الصوفية أو أهل السنة. فعند المعتزلة (القرآن) مخلوق والكلام ليس صفة قديمة لله. وعند اهل السنة فإن القرآن غير مخلوق والكلام صفة قديمة لله.أما أهل التصوف فلهم إتفاق مع الرأي الثاني ولكنه إتفاق لا يتم لأنهم يفرقون بين:
1/الله الذات . 2/ الله الصفات والأفعال . 3/الله الإسم العلم .
يقول الأستاذ محمود محمد طه:
( وحضرات التنزلات كثيرة،لا تحصى، ولكنها جميعا تنضوي تحت ثلاث، فأن الذان العلية، تنزلت من إطلاقها، وصرافتها، الى مرتبة الإسم العلم ـ ثم إلى مرتبة الصفة(الإرادة)ـ ثم الى مرتبة الفعل (القدرة)ـ..ومن هذه الثلاث جاء خلق المخلوقات، فحضرة العلم أحاطت بالمخلوقات، وحضرة الإرادة خصصت الصورة الأولى، وحضرة القدرة أبرزتها إلى الوجود الأول، وفق تخصيص الإرادة، وإحاطة العلم، ثم باشرت إبراز تعاقب الصور في نسق حكيم، وتسلسل دقيق، تضبط منازله الإرادة الرشيدة، ويوجه خطوه العلم المحيط الى سدة الذات العلية في علاها.. والسير الى سدة الذات العلية، في علاها، إنما هو تطور من الكثافة الى اللطافة، أو قل من الجهل، الى المعرفة..)43
ويفصل القول أكثر من ذلك متابعا:
(فالله في ذاته الساذج لا يعرف، ولا يسمى، ولا يوصف، ولكنه[بمحض فضله] تنزل من صرافة ذاته، الى منازل اسمائه، وصفاته، وافعاله...ثم أنزل القرآن ليحكي هذه التنزلات، لكي يعرفه عباده، فيسيروا الى عتبة ذاته..والتنزلات في جملتها سبع، تتكرر بغير حساب.. وهذه السبع سميت بالصفات النفسية، وهي:الحياة، والعلم، والارادة، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام.. هذه صفاته تبارك،وتعالى، وهي، في نفس الوقت، صفات عباده. فإنه قد خلقهم على صورته..بيد أن صفاته، تبارك، وتعالى، في مطلق الكمال، وصفات عباده في طرف النقص..ثم هو أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأوجب الواجبات، ليسير عباده اليه ليلاقوه..ولقد أسلفنا القول بأن السير الى الله ليس بقطع المسافات وإنما هو بتقريب الصفات من الصفات ـ تقريب صفات العبد التي هي في طرف النقص، الى صفات الرب، التي هي في مطلق الكمال.....)44
( وعن تنزلات القرآن هذه قال تعالى:{وقرآنا فرقناه، لتقرأه على الناس على مكث، ونزلناه تنزيلا) ..فالقرآن في مقام الجمع، والفرقان في مقام الفرق.. وقوله {فرقناه} تعني: فرقناه من بعد جمعية، فعددنا وجوهه..وتعنى أنزلناه منجما، ومفرقا..وقوله{ونزلناه تنزيلا}..يعني تنزيلا من بعد تنزيل، في مراتب التنزلات السبع، التي سلفت الإشارة اليها..وهذه التنزلات انما هي تنزلات الذات، من صرافتها الى مراتب الصفات..وهذه الصفات..أعلاها صفة الحياة، وأدناها صفة الكلام، وهي مرتبة على هذا النحو:الله حي، وعالم، ومريد، وقادر، وسميع، وبصير، ومتكلم.. وهو في ذلك حي بذاته، وعالم بذاته، ومريد بذاته، وقادر بذاته، وقادر بذاته، وسميع بذاته، وبصير بذاته، ومتكلم بذاته، لا يقع منه شئ من هذه الصفات بجارحة على نحو مايقع منا نحن.. فهو تعالى، لا يتكلم بلسان، ولا يبصر بعين، ولا يسمع بأذن، وإنما يتكلم بذاته، ويبصر بذاته، ويسمع بذاته.. والقرآن العربي الذي هو بين دفتي المصحف الآن هو كلامه تعالى....)45.
هذا الكلام يعتبر أدق وصف لمفهوم (كلام الله) عند المتصوفة، وهو ـ على طوله الذي أوردناه ـ يفيدنا في ثلاث مواضع :
أولها:نقل رأي الصوفية في كلام الله بصورة واضحة ومختصرة، تغنينا عن مجلدات ضخمة، وفيها من الإضافات الجيدة والمبتكرة شئ كثير.
ثانيها:توضيح الرأي المضاد لرأي المعتزلة، بطريقة توضح رأي المعتزلة عن طريق نظرية (التميز بالضد).
ثالثها: توضيح قصور رأي أهل السنة في (كلام الله)، إذ أنهم يرفضون كلام المعتزلة دون توضيح (لنظريتهم العامة) ـ وهذا ليس كما فعل المتصوفة، وكما شهدنا الآن من كلام الأستاذ ـ هذا القصور دفعهم لرفض منطق المعتزلة ولكنهم في كثير من التفاسير يلجأون إلى آراء هي أقرب لآراء المعتزلة (وهذا سيجيئ في موضعه).
والمعتزلة يرون(أن إثبات صفة القدم للقرآن هي إثبات[قديمين]، [الله، والقرآن]، وهذا في رأيهم شرك لا يكون. ويتعارض مع أهم أصل من أصولهم الخمسة، أصل التوحيد).
وأول تناقض يرى في هذا القول هو إثبات صفة القِدَم(لله)، ونفي صفة الكلام له بغير مبرر، لأنه إن كان الله (قديم) فهي صفة، وهي قديمة، وكون الله متصفا بصفة قديمة ـ أيا كانت هذه الصفةـ هذا يعني أنه يمكن إتصافه بصفات أخرى قديمة، والقول بإتصاف الله بصفة الكلام، ولكنها صفة غير قديمة، ينفيها بالضرورة... وإن كان هذا النفي متعلقا بزمن محدد... لأنه يعني أن الله لم يكن متكلما ثم صار كذلك.
والصفات إما متعلقة بالذات، وإما غيرية، ولا تحتمل الجزئية في ذلك، لأننا نتكلم عن مطلق، فإن كانت (القِدَم) صفة ذاتية فهذا يعني أن كل الصفات ذاتية، وهي قائمة بالذات. والقول بعكس ذلك يعني نفي صفة (القِدَم) نفسها عن الذات، وهذا ممكن على إفتراض أن(القِدَم) صفة غيرية متعلقة بالزمان والمكان! وهي ليست الذات التي هي خارج الزمان والمكان!!. فتصبح (القِدَم) شيئا غير الذات، ولكنه إفتراض ـ على غرابته ـ لا يعين تلك النظرية، فإن صح ذلك فهذا يعني أن صفة (الكلام) أيضا غيرية وينتفي إرتباط قدمها مع الشرك .
والصفات إن كانت حادثة، فالقدرة حادثة، وإبراز الحوادث يحتاج الى قدرة !!! فكيف برزت القدرة نفسها؟؟؟...
والقرآن يقول:{ حم* والكتاب المبين*إنا جعلناه قرآنا عربيا، لعلكم تعقلون* وإنه، في أم الكتاب، لدينا، لعلي حكيم}46..وللمتمعن في هذا النص فإنه يشاهد إثبات صفتين من صفات الله للقرآن، وهذا في قوله:{لعلي حكيم}..كما أن قرينة {لدينا} تجعلنا نقف برهة لنتأملها جيدا ...
يقول الأستاذ محمود (فإن كلمة {لدينا} هنا، ليست ظرف مكان، وانما هي للتناهي، حيث ينتهي الزمان والمكان..)47
وهذا لعمري قول لا يمكن أن لا نتفق معه ـ هذا إن كنا نتحدث عن مطلق حقا. (فلدى) الله يعني عنده كقوله:{يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب}48.. (وعنده) هذه إن كانت تفترض المكان والزمان فهذا تحديد للمطلق لا يجوز في حقه. فإن تعذر إثبات المكان فهذا يعني الإطلاق فالذي يعني بدوره إتصاف القرآن بهذه الصفة.
إن القول (بخلق القرآن) قول يجعل (النظرية التدينية) برمتها فاسدة ...خصوصاً تلك المتعلقة بالإسلام. ودعوى المعتزلة إلى نفي صفة (القِدَم) للقرآن بحجة أنها شرك، لدعوى تلاقي ما يرد عليها بنفس حجتها، هذا من الناحية الموضوعية، أما من الناحية الشكلية فهناك أيضاً ما يضحدها من نصوص القرآن نفسه .. فقوله: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون}49، يعني أن ظهور الإرادة متعلق بقوله: كن. فإن كانت كن هذه مخلوقة فهي في حاجة إلى كن أخرى وهذه في حاجة إلى ثالثة.. وهكذا دواليك.. فمتما توقفت عملية الخلق في هذه الفرضية إنتفت عن الله صفة أخرى وهي أنه (خالق) فإذا أراد أن يخلق فيجب عليه (خلق) هذه الصفة.
أما أهل السنة فانهم لا يقرون بخلق القرآن _ كما ذكرنا _ ولكنهم لا يوضحون لنا ماهية القرآن. فهو عندهم (كلام الله) هكذا فقط.. وعندما ضرب الإمام (أحمد بن حنبل) في هذه القضية كان يقول: (لا أقول بقول لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمسك عنه صحابته) وكذلك قال (البخاري) و (الطبري) .. إلخ.. فكلهم متفقون على أن القرآن هو (كلام الله) القديم، وأن الله كان متكلم ولا زال وسيكون بلا بدء ولا نهاية. ولكن تصورهم لله لم يكن كافياً لبناء نظرية تدافع عن هذا القول وتدفع الرأي الآخر. وفي رأيي أن المشكلة الأساسية التي يقع فيها أهل السنة هي: إغلاقهم لمفهوم الله في دائرة هي أقرب للعباد ـمن حيث قصورهم ـ منها للإطلاق.
ولعل أوضح هذه الآراء هو رأي تلك الطائفة التي تدعي الإنتماء لأهل السنة ولكنهم لم يتمسكوا بنهجهم وابتدعوا في عقيدة أهل السنة الكثير، وأعني طائفة (أهل التوحيد) والتي ازدهرت على يد الشيخ (ابن تيمية) ثم ظهرت في العصر الحديث باسم (جماعة أنصار السنة المحمدية) وهي فرع من مجموعة كبيرة تضم تلك التنظيمات (الوهابية).
يحكي ابن بطوطة عن ابن تيمية فيقول: (فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع، ويذكرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا. ونزل درجة من درج المنبر. فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء، وأنكر ما تكلم به...)50، ولعل من الظلم درج هذا القول وأمثاله ضمن أهل السنة كما هو واضح من معارضة الفقيه المالكي له، ولكن أهل السنة أنفسهم لا يستطيعون الرد على هذا القول بنظرية متكاملة .. وعندما إنبرى الشيخ (إبن القيم الجوزي)51 لمثل هذه الجماعات جاءت رسالته تدعو للتمسك برأي السلف في الامساك عن مثل هذه التشبيهات لله. وكانت كل ردوده عباره عن تبيين أن هذا الرأي لا ينتمي لأهل السنة. ولعل هذا الأسلوب مقبول في الرد على جماعة تدعي ذلك الإنتماء وتفترضه أساساً لدعوتها، ولكنه غير مقبول عند الباحث عن حقيقة الأمر.
ومرة أخرى فقد أنبرى الصوفية لهذه القضية فألف الشيخ (محي الدين بن عربي) كتاباً أسماه: (رد المتشابه إلى المحكم من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية)، فند فيه تلك الآراء وأوضح خطأها وطرح نظرية التصوف كبديل لها بصورة موسعة وواضحة، ذلك التوسع الذي لا يقره إبن القيم ولا يعتد به فهو القائل: (وما رأيت أحمق من جمهور قصاص زماننا، فإنه يحضر عندهم العوام الغشّم فلا ينهونهم عن خمر وزنا وغيبة ولا يعلمونهم أركان الصلاة ووظائف التعبد بل يملؤون الزمان بذكر الاستواء وتأويل الصفات وأن الكلام قائمٌ بالذات فيتأذى بذلك من كان قلبه سليما وإنما على العامي أن يؤمن بالأصول الخمسة.... ويقنع بما قال السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق. والإستواء حق، والكيف مجهول)52.
وما بين احجام أهل السنة وقول المتصوفة تظل قضية التشبيه والتجسيم محل رفضهما بتضييق الفرع الأول وتوسع الثاني. ولكن ذلك التضييق قد أضر في هذا العصر بقضية (التوحيد) لأن كثير من المسلمين ينتمون إلى طائفة أهل السنة، وبهذا ظلت كثير من الأسئلة دون أجوبة. ولهذا فإننا لا نقف كثيراً عند أهل السنة ومنطقهم فهم لا يفيدون التأويل إلا بالقدر الذي يجعلهم مجرد مراقب ومتفرج وشاهد على التأويل في العصور السابقة.
ورغم أن المعتزلة قد بنوا آراءاً كثيرة أثبت المنطق خطأها إلا أنها قد أفادت عملية التأويل أيما إفادة. فهم قد صنعوا النقيض الذي يدفع (الديالكتيك) للتطور.
والحق يقال أن هناك ثمة تشابه بين رأي المعتزلة في الصفات ورأي الصوفية. فالمعتزلة يرون أن الصفات حادثة وأن الله قديم ولكنه حدوث تم (بالخلق)، والصوفية يقولون بأن الذات الإلهية لا تحيط بها العبارة ولا الإشارة وأنها صرفة.. ومجردة، ثم أنها تنزلت في الإسم العلم (الله) وهذه مرتبة قيد وتنزل الاسم العلم إلى مرتبة الصفات والأفعال، و(الله) في مرتبة الاسم العلم المقيد (حادث)، ولكنه حدوث لم يتم بالخلق بل عن طريق التنزل وهما يكمن الخلاف الأساسي فحدوث الصفات بالخلق (كما يعبر المعتزلة) قول غير مقنع، (فالخالق) نفسها صفة ويتوجب حدوثها خلق.. وهذه جدلية تعرضنا لها سابقا ولسنا في حاجة لاعادتها هنا..
ولكن الجديد الذي أضافه الصوفية هو (الله) الذات الحادث وهذا قبل الصفة. وحدوثه تم عن طريق التنزل لا الخلق كما أسلفنا. و (الله) علم مقابل للإنسان الكامل عندهم53، والذي هو نفسه ـ أي الانسان الكامل ـ الذات المحمدية، لهذا قد عبر الأستاذ محمود محمد طه عن هذا التنزل بقوله: (الذات المحمدية هي أول قابل للتجليات الإلهية)54. كما أن الأسماء الحسنى هي في حق الإنسان الكامل.
بهذا فإن الكلام صفة ـ كما أوضحنا أيضاً ـ قائمة بالذات لا مخلوقة، وهذا تبرير ـ في رأيي ـ يخرج مفهوم (الحدوث) عند كلا الطرفين من أزمته.. فالحدوث مقرر عند الطرفين ولكن كيفية المتصوفة أقرب للعقل والمنطق من المعتزلة، ثم أن هذه الكيفية نفسها تعطي للتأويل سمة اضافية يستمدها من كون أن النص مطلق المصدر وهي أنه قابل للتطور والتجدد، فكلما فض جزءاً من النص في مرحلة من السير وجد نقصاً وإغلاقا يحتاجان إلى تكميل وفض في حيزٍ آخر وهكذا دواليك. ولكن نظرية المعتزلة تحد من التأويل بجعل النص مستمد من محدود وهي الصفة الحادثة المخلوقة. يقول الأستاذ محمود محمد طه: (ثم حقيقة القرآن.. ما هي؟؟ هي العلم المطلق.. وعندما تأذن الله أن يسرع الإنسان في معرفة المطلق نزله من الإطلاق إلى القيد، فكانت، في قمة القيد، الإشارة، وفي قاعدة القيد العبارة..)55... ولا شك أن فرص المأول في أن يعمل داخل نص لا محدود يتيح له فرصة للعمل والممارسة، أفضل من نص مغلق في وجهه. وإن كنا نريد لعملية التأويل هذه أن تستمر نحو تطور رأسي(لا نهائي، وفق ما يقول المسلمون: أن القرآن صالح لكل زمان ومكان) فلا سبيل أمامنا غير إعتماد أن النص القرآني هو نص مطلق المصدر وهو في ذاته نزل من الإطلاق للقيد. بهذا نضمن تطور عملية التأويل واستمرارها دون توقف. هذا ليس تطويع (المعنى) للنظرية، ولكنه معنى يقبله النص كما يقبله المنطق وهو بالطبع مطابق للنظرية.
وإن كان هناك آخرون يرون أن فكرة المعتزلة أقرب (للحيوية والدينماميكية) كما عبر عنها (نصر حامد أبو زيد)56، فهي رؤية ما قامت لتقوم على مقاربة فكرة المعتزلة للنص القرآني، بل قامت لأنها تفترض أن (معنى قِدَم القرآن وأزلية الوحي يجمد النصوص الدينية ويثبت المعنى الديني)..وتفترض أيضاً أن (معنى حدوث القرآن وتاريخية الوحي هو الذي يعيد للنصوص حيويتها، ويطلق المعنى الديني ـ بالفهم والتأويل ـ من سجن اللحظة التاريخية إلى آفاق الإلتحام بهموم الجماعة البشرية في حركتها التاريخية)56... وافتراض أن معنى قِدَم القرآن يجمد النصوص الدينية هو افتراض وضعه في الذهن أن القائلين به (من المتشددين) قد قاموا بالفعل بتجميد النصوص، ولكنه لا ينسحب بالضرورة على كل القائلين به. والكاتب نفسه يفصل بين (الدين) و (الفكر الديني) حيث يمثل الأخير الاجتهادات البشرية لفهم (الدين) الذي يمثل النصوص المقدسة الثابتة تاريخياً57. ونحن نقر بأن التأويل إن كان قاصر عن مجارات الواقع وإيجاد الحلول للقضايا المستعصية فهو يظل بلا فائدة ترجى ويجعل النص عاجزاً أمام قضايا حياتية. ولكننا نشير إلى أمرين مهمين:
أولهما: ليست مهمة التأويل الأولى البحث عن حلول موائمة بين النص والواقع، بل إن هذا قد يكون من الآثار التي ينتجها التأويل. لأن مهمة التأويل هي فك طلاسم النص عن طريق منهج متكامل غير متناقض.
ثانيهما: إن من القائلين (بقِدَم القرآن) طائفة لم تجمد النصوص الدينية، بل انطلقت بها إلى آفاق "الالتحام بهموم الجماعة البشرية في حركتها التاريخية". وهي طائفة أكثر مرونة من المعتزلة نفسهم. ولعل أبرز دليل عليها أبيات إبن عربي التي تقول:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذ لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان وديراً لرهبان
وبيتاً لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنّى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني.

هذا من جانب. ومن جانب آخر فإن النص من حيث هو نص لا يشكل عبئا على أحد، كما لا يشكل أي تأويل كان. ولكن الإشكال قد ينتج من محاولة فرض النص ثم فرض التأويل وهذين أمرين قد قام بهما المعتزلة في فترة حكمهم إبان الحكم العباسي.
إن الجماعات المتشددة التي تحاول فرض مفهومها الديني بالقوة، هي إمتداد طبيعي للإعتزال الذي منذ تكونه كان دلالة واضحة لرفض الحوار عن طريق (الإعتزال). وأما تمسك هذه الجماعات بآراء هي أقرب للمعسكر الآخر فما هو الا تمسك بقشرة لا غير أملته عليهم الكثرة البشرية التي تنضوي تحت معسكر (أهل السنة، والصوفية).
واما القول بأن (معنى قدم القرآن..يثبت المعنى الديني..) فهو قول حق..لا أدري ما الضير منه!!خصوصا وإن كان هذا متفقا مع المعنى الديني، لا محاولا للإلتفاف عليه.
وهناك عبارة أخرى للدكتور نصر أبوزيد تحتاج الى تصحيح وهيأن الفكر الديني هو الاجتهادات البشرية لفهم تلك النصوص، وتأويلها، وإستخراج دلالاتها ..)58. فالفكر الديني هو حقا الإجتهادات البشرية لفهم النصوص، ولكن ليست كل آليات المفكرين واحدة. فالتأويل، وإستخراج الدلالات، عبارتان وردتا وكأنهما الطرق (الموحدة) لكل مفكر في الحقل الديني، وهذا خطأ قد تطرقنا له في الأبواب التي تعالج علاقة التأويل بالدلالة، وعلاقة التأويل والدلالة بالنص القرآني.. فاليراجع في موضعه من هذا البحث.
والقول بأن (معنى قدم القرآن وأزلية الوحي يجمد النصوص الدينية..) وبالمقابل أن (حدوث القرآن يعيد للنصوص حيويتها...الخ...) قول يحتاج منا لدفعه بأكثر مما ذكرنا. وسوف نخصص الفصل القادم للحديث عن الى أي مدى قد دفع (القائلين بقدم القرآن) النصوص ـ عن طريق التأويل ـ حتى تحررت من "سجن اللحظة التأريخية الى آفاق الإلتحام بهموم الجماعة البشرية في حركتها التأريخية ". وهو حديث قد يكون مفيدا أيضا لهذا الباب الذي تحدث عن تطور مفهوم التأويل في النص القرآني. وسوف نأخذ الأستاذ محمود محمد طه نموذجا بوصفه من القائلين بقدم القرآن المحدثين، مما يتيح لنا دراسة معاصرة لهذه القضية.

Post: #3
Title: Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم
Author: مأمون التلب
Date: 12-09-2004, 03:29 AM
Parent: #1


سادسا: آثار التأويل على القضايا المعاصرة :
(الأستاذ محمود محمد طه نموذجا)
إن معنى قِدَم القرآن وأزلية الوحي لا يعنيان البتة جمود النصوص الدينية، لا فكرا، ولا تاريخا. فمن الجانب التاريخي فانه من المعلوم لدى كل المهتمين بالتراث الاسلامي أن عمر بن الخطاب الخليفة الثاني في الدولة الاسلامية، قد أبطل صرف الزكاة (للمؤلفة قلوبهم) وهم فئة قد نزل النص القرآني يحددهم (بعينهم) من ضمن مستحقي الزكاة، ولقد كانت حجته في ذلك، زمان نزول النص، مقارنة بالواقع الحالي.
ومعلوم لدى المهتمين بالفقه الاسلامي أن كثير من إجتهادات الصحابة قد جاءت منافية لظاهر النصوص الدينية. وإن كانت هذه الإجتهادات كلها تحوم حول إطار واحد، الا أنها قد أثبتت أن المنطق مقبول من حيث المبدأ، هذا رغم الشروط التي وضعت له والأطر التي تنظم طرقه.
ويعتبر الأستاذ محمود محمد طه أهم العاملين في هذا الحقل لسببين:
اولهما: أنه قد تجاوز إرتباط النص الديني بالزمان والمكان المحددين. هذا مع كسر الشروط التقليدية للإجتهاد.
وثانيهما: إنسحاب آثار تأويله على الواقع المعاش، فقدم حلولا متسقة والنص الديني، ومجاوبة لحاجة البشرية اليوم.
ليس من الممكن قرأة فكر الأستاذ محمود محمد طه بمعزل عن الفكر الصوفي ككل، فالأستاذ يعتبر أن التصوف الإسلامي في الحقيقةهو تقليد السيرة النبوية، فالنبي، في خاصة عمله، قبل البعث، وبعد البعث، هو عمدة الصوفية..، فالصوفية، في حقيقة نشأتهم هم أنصار السنة المحمدية)59.
كما أنه يقر بأنهم كانواهم حفظة الدين وعلماءه ومرشدي الناس اليه)60. ولكن هذا الإتفاق الكبير مع التصوف لا يجعلنا نركن الى القول بأن الأستاذ محمود محمد طه هو أحد المتصوفة... هكذا... دون إضافات تذكر. فإن كان حقا أن الأستاذ يعتمد الصوفية كمرجعية لازمة إلا أننا يمكن أن نقول مطمئنين : إن الأستاذ محمود محمد طه قد جاء بفكر جديد كل الجدة لا يعتبر إمتداداً للتصوف بالمعنى الحرفي... لماذا؟!
لأن التصوف الاسلامي ـ على مكانته الرفيعة ـ يعتبر أيضاً امتداداً للفكر السلفي. (ليست السلفية الشكلية التي أعتبرت اصطلاحاً الآن على الاصولية والإرهاب). والسلفيون وإن كان بينهم خلاف وصل إلى حد الإقتتال إلا أن هناك أشياء يتفق فيها، الشيعي، والخارجي، وأهل السنة، والصوفية، والمعتزلة. مع إختلاف آلياتهم.
فليس هنلك طائفة منهم تنكر الجهاد، ولا قصور المرأة أمام الرجل، ولا الحجاب، ولا قوامة الرجل، ولا الإمامة (مع خلاف في مفهومها)..إلخ.. ، باختصار كلهم يتفقون على الشريعة الاسلامية بصورتها السلفية... وأما خلافهم وإن وصل حد التكفير والقتل فما هو إلا خلاف شكلي لا غير. والصوفية أفضل هؤلاء الطوائف لأنهم لا يفرضون رأيهم بالقوة على من سواهم، كما أنهم قد كانوا في ذلك الزمان متطورين بتأويلهم على من سواهم. وهناك أفضلية أخرى وهي نهيهم عن أي تنظيم حربي خارج على الدولة. وإن كان كل تأويل للمتصوفة يعتبر طفرة في ذلك الوقت إلا أننا بدخول العصر الحديث قد شهدنا تطوراً مذهلاً في شكل الأفراد والمجتمعات أدخل شيوخ الصوفية إلى (مراكز العلاج الطبية) بعد أن كانوا هم قبلة المرضى في زمنٍ سابق.
يقول الاستاذ محمود محمد طه: (ولقد ازدهر التصوف في القرون السبعة التي تلي القرن الثالث، وكانت قمته في القرنين السادس والسابع، ثم لحق التصوف من التبديل، والتغيير، والضعف ما لحقه، مما نراه الآن، وهو، على ما هو عليه، من هذا الضعف، وهذا الإنحراف عما كان عليه السلف، أقرب إلى الدين، من كثير من المظاهر الكاذبة التي تدعي الدين وتعيش باسمه)61.
إن العجز الواضح الذي يعتري الفكر الديني الإسلامي عامة أمام مقتضيات العصر من (حرية ومساواة وعدالة إجتماعية وديموقراطية وحقوق إنسان) يقف فيه القائلين بقِدَم القرآن على قدم المساواة مع القائلين بحدوثه.
لهذا فإن اعتبرنا الأستاذ محمود محمد طه صوفياً من الناحية الشكلية، لا نعتبره كذلك من الناحية الفكرية والموضوعية. لقد قدم الأستاذ محمود محمد طه تأويلاً للقرآن جعله ممكناً ومقتضيات العصر الحديث، كما أن أفكاره السياسية والإصلاحية تعتبر طفرة في الدين تساوي تلك الطفرة التي شهدتها العلوم وتوجت بالقنبلة الذرية في هيروشيما، وبالقنبلة التكنولوجية التي جعلت العالم قرية صغيرة.
إن قراءة فهرست كتاب للأستاذ مثل كتاب (الرسالة الثانية من الإسلام) يوضح بدرجة كافية مدى تطور مفهوم الدين لديه.. فنقرأ مثلاً:
(الباب الخامس
الصفحة
1- الرسالة الأولى 108
2- أمة المؤمنين 116
3- الجهاد ليس أصلاً في الإسلام 118
4- الرق ليس أصلاً في الإسلام 124
5- الرأسمالية ليست أصلاً في الإسلام 125
6- عدم المساواة بين الرجال والنساء ليست أصلاً في الإسلام 126
7- تعدد الزوجات ليس أصلاً في الإسلام 127
8- الطلاق ليس أصلاً في الإسلام 129
9- الحجاب ليس أصلاً في الإسلام 131
10-المجتمع المنعزل رجاله عن نسائه ليس أصلاً في الإسلام 133
الباب السادس
1- الرسالة الثانية 134
2- المسلمون 139
3- المجتمع الصالح 142
4- المساواة الإقتصادية "الإشتراكية" 143
5- المساواة السياسية "الديموقراطية" 149
6- المساواة الإجتماعية 155)62

إن هذا الفهرست وحسب يعتبر طفرة في المفهوم الديني الإسلامي لم يسامح عليها الأستاذ محمود محمد طه البتة، فلاقى ما لاقى من محاكم الردة وكتب المعارضين المتهمين له بالزندقة طوراً وبالكفر طوراً آخر حتى توجت باغتياله صبيحة الجمعة 18/يناير/1985م .
وعلى هذا فإن الاستاذ لم يكن مهموماً وحسب بتوليف مفهوم ديني يماشي التطور الإنساني فغامر بانشاء نظرية قد تعارض الدين، بل كان الدين (بنصوصه) هو مرتكزه الأساسي الذي ينطلق منه لاسيما النص القرآني، وهو من القائلين بقدمه كما أسلفنا.
وأولى نظريات الأستاذ في القرآن كنص قديم هو أنه (مثاني) بمعنى أن كل معانيه (معنيين، معنيين)، وبمعنى أن مضمونه ثنائي أيضاً، وبمعنى أن شكله ثنائي. فالقرآن أصول وفروع، وهو مكي ومدني، وهو من حيث المعاني ظاهر وباطن، وهو من حيث هو قرآن مقروء في دفة المصحف باللغة العربية (وهذا ما تم انزاله) وقرآن في اللوح المحفوظ عند الله (حيث لا عند) وهذا في الإطلاق.
وتنسحب هذه المثاني على الدين نفسه، فالإسلام رسالتان وليس رسالة واحدة و (محمد) النبي هو نبي الرسالتين معاً. والإسلام أمتان كل أمة منهما صاحبة رسالة من الرسالتين (أمة المؤمنين) وهذه صاحبة الرسالة الأولى و(أمة المسلمين) وهذه صاحبة الرسالة الثانية. لأن الإسلام إسلامان.. إسلام في طرف البداية، وإسلام في طرف النهاية. أما الإسلام الأول فهو إسلام الأعراب في قوله:
{ قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم. وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا. إن الله غفورٌ رحيم}63. وهذا بالطبع إسلام لا يعني ما ذهب إليه القرآن في قوله: { يا أيها الذين آمنوا، اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} ولا في قوله:{قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين* لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين}64. فهذا هو الإسلام في طرف النهاية. ومراقي الدين في مفهوم الأستاذ سباعية الدرج تبدأ بالإسلام، ثم الإيمان، ثم الإحسان. وهذه مراقي أمة المؤمنين، أما مراقي أمة المسلمين والتي لم تدخل في الوجود بعد فهي تبدأ بالإسلام، ثم الإيمان، ثم الإحسان، ثم علم اليقين، ثم علم عين اليقين، ثم علم حق اليقين، ثم الإسلام مرة أخرى ولكن شتان ما بين الإسلام الأول والإسلام الأخير فإن النهاية تشبه البداية، ولا تشبهها.
أما من الناحية الدينية فإن هذا الرأي يلاقي أسانيده وتأويلاته المترابطه ولاغنى للباحث عن مراجعتها في كتب الأستاذ ومؤلفاته العديدة ومحاضراته وندواته. وأما عن انسحابها على الواقع المعاش فقد أنتجت أفكاراً وتعاليما مثالاً لها الفهرست الذي أوردناه. ولنقم بشئ من التفصيل في هذه الأفكار وانسحابها على الواقع المعاش.
• الإسلام رسالتان:
لا شك أن كل محاولات الفقه الإسلامي السلفي كانت تنصب للموائمة بين النصوص الدينية، والتطور البشري باختلاف أنواعه. ومن هنا ظهرت أهمية الإفتاء، إذ هو إيجاد مبرر ديني لفعل ما.
ولقد توسعت أبواب الفقه ومصادره وشروطه ولكنها كلها كانت تنظم مجتمعاً بدائيا لحد كبير بالقياس مع المجتمع الآني. فإن كان (القياس، والإستحسان، وسد الذرائع، والإجماع...إلخ) ينفع في مجتمع منغلق على نفسه، ووسائل مواصلاته هي الذواب، وطرق حكمه الوراثة، ومكان التعلم هو المسجد، وحاجاته بسيطه وغير معقدة. إن كان ينفع في مجتمع بهذا الشكل فهو لا ينفع للعصر الحالي الذي وحدت المواصلات أفراده فصار الناس وكأنهم يعيشون في بيت واحد، وتطورت علومه إلى حد مذهل حتى لأفراده المعاصرين ناهيك عن القدماء. إن هذا الإختلاف بين العصرين وضع الدين في موضع حرج عبر عنه الأستاذ بقوله إما أن يكون الإسلام، كما جاء به المعصوم، بين دفتي المصحف، قادراً على استيعاب طاقات مجتمع القرن العشرين فيتولى توجيهه في مضمار التشريع، وفي مضمار الأخلاق، وأما أن تكون قدرته قد نفدت، وتوقفت عند حد تنظيم مجتمع القرن السابع، والمجتمعات التي تلته مما هي مثله، فيكون على بشرية القرن العشرين أن تخرج عنه، وأن تلتمس حل مشاكلها في فلسفات أخريات، .. وهذا ما لا يقول به مسلم...)65.
ولاعيب في الفقه إذ كان ينظم مجتمع الرسالة الأولى فيتوسع فيها ويشملها ولكن عيب فقهاء اليوم هو عدم شعورهم بضرورة التطور من مستوى الرسالة الأولى إلى مستوى الرسالة الثانية ـ وهذا تطور شبيه بالتحول النوعي، وإن لم يكن كذلك.
والإسلام رسالتان، بمعنى أن الدين أصول وفروع، وكذلك القرآن، فالرسالة الأولى مستمدة من القرآن المدني وهو قرآن نزل لينظم (معظمه) مجتمع القرن السابع وما تلته من قرون مثله. ومنه أُستمدت الشريعة الإسلامية التي نعرفها اليوم وأصولها وفقهها.
(والرسالة الأولى هي التي وقع في حقها التبيين بالتشريع وهي رسالة المؤمنين.. والمؤمنون غير المسلمين، وليس الإختلاف بين المؤمن والمسلم إختلاف نوع، وإنما هو إختلاف مقدار، فما كل مؤمن مسلم، ولكن كل مسلم مؤمن)66.
(ولقد نشأ الإسلام بين القريتين: مكة والمدينة: بدأ في مكة، فلما انهزم فيها هاجر إلى المدينة، حيث انتصر... ما انتصر الإسلام وإنما انتصر الإيمان. ولقد جاء القرآن بين مدني، ومكي. ولكل من المدني والمكي مميزات يرجع السبب فيها إلى كون المدني مرحلة إيمان والمكي مرحلة
إسلام)67.
(والإختلاف بين المكي والمدني ليس إختلاف مكان النزول، ولا إختلاف زمن النزول، وإنما هو إختلاف مستوى المخاطبين. فيا أيها الذين آمنوا خاصة بأمة معينة. ويا أيها الناس فيها شمول لكل الناس)68.
وكأن جلية الأمر (الذي لا يحتاج إلى جلية) أن الأصل في الدين المكي وعندما نزل الأصل نزل على غير أمته وما نزل عليهم إلا لأن السماء تريد قول كل ما تريد قوله. ثم أنه ولما ثبت ـ بالدليل العملي ـ عجزهم عن الأصل نسخ الأصل بالفرع وهو المدني، وهو ـ أي المدني ـ أدخل في حكم وقتهم وخير لهم من المكي نسبة لقصور مجتمعهم.
وإن كان المدني لا يستطيع مجاراة العصر الحالي، فهو يقر الجهاد على غير المسلم، ويفرض الجزية، ويحجب المرأة، ويعدد الزوجات، ويقر الطلاق، ويفرق بين المسلم وغير المسلم، والرجل والمرأة، ويمنع تولي غير المسلم الحكم وكذلك المرأة، ويقر الشورى التي هي غير الديموقراطية، بل لا يعترف بالديموقراطية حتى... إلخ.. فإن كان هذا هو المدني في معظمه فإن الشريعة المستمدة منه غير صالحة لهذا المجتمع، أو قل، للإنصاف، أنها غير ما يريد هذا المجتمع.. وإن كان الدين يقف هنا لكان الأمر قد اتضح وانجلى بأن الدين والعصر الحديث في مفترق طرق على أحدهما مفارقة الآخر. ولكن المكي لا يقر ما أقره المدني فهو ينادي بالحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والديموقراطية.... إلخ.. مما يعارض معظم المدني تماماً. والشريعة المستمدة من المكي هي أدخل في حكم هذا الوقت، وخير له من المدني، أو قل، للإنصاف، هي أمشى في هواه من المدني.
وبما أن النسخ لمعظم المكي قد تم فكأن الأمر للمدني قد دان واستقر، ولكن موعود آية النسخ لازال قائماً: {ما ننسخ من آية، أو ننسئها، نأت بخيرٍ منها، أو مثلها...} والموعود قائم في قوله: {ننسئها} والتي تعني في اللغة (نرجئها) وقائم في قوله : {أو مثلها} والتي تعني أن مثل الحكم عائد، لأن النسخ يكون في الأحكام.
فكأن المكي ما نُسخ إلا إرجاءً وأن نسخه إلى أمد. وهذا حديث تطرقنا له في هذه الورقة فاليراجع في موضعه.
من هنا جاءت دعوة الأستاذ محمود محمد طه ملائمة لهذا العصر "والتحمت بهموم الجماعة البشرية في حركتها التاريخية" على عكس ما قال الدكتور نصر أبوزيد عن القائلين (بقِدَم القرآن). بل إن ما جاء به الأستاذ أُعتبر في نظر المعارضين خروجاً عن الدين نفسه، لا لشئ إلا لأنه "أعاد للنصوص حيويتها وأطلق المعنى الديني، بالفهم والتأويل، من سجن اللحظة التاريخية" وهذا أيضاً على عكس مقال الدكتور.
قبل أن نختم هذا الفصل نحب أن ننوه إلى أن أي دعوة فكرية دينية لا ينبئ شكلها الظاهر عن جوهرها الحقيقي. فليس القول (بقِدَم القرآن) يعتبر قولاً (متشدداً) فقط لمجرد قوله. ولكن يجب البحث وراء طرق إثبات هذا القول وإنسحاب آثاره الحقيقية على الواقع المعاش.
ثم أنّا نريد أن ننوه أن دعوى الأستاذ محمود محمد طه لا تعتبر محاولة لموائمة الدين مع الحياة، بل هي فكرة دينية في المقام الأول قامت على مفهوم ديني، وعلى نهج وتعاليم دينية. ولكن كان من نتاجها هذا التقارب ما بين الدين والعلم. ثم إن فكر الأستاذ لا يتضح بما أوردناه من نصوص لأننا ما أردنا أيضاح فكره في المقام الأول بل أخذنا من فكره ما يلائم موضوع هذه الورقة.. وعلى المهتمين بهذا الأمر مراجعة الأستاذ محمود محمد طه ومحاضراته.

Post: #4
Title: Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم
Author: مأمون التلب
Date: 12-09-2004, 03:31 AM
Parent: #1

هوامش البحث:

1 المعجم الوجيز، ص60
2 المصدر السابق،ص91
3 سورة يس،آية رقم60
4 تفسير القرآن العظيم،ابن كثير،المجلد الثالث،ص679
5 السيرة النبوية،ابن هشام،ص18
6 المعجم الوجيز،232
7 المصدر السابق،ص471
8 الموسوعة الفلسفية العربية، ص207.


9 (سورة النساء /الايات..78ـ79).
10 تفسير القرآن العظيم/س ذ/ص616
11 فتح القدير/ الشوكاني /المجلد الأول/ص489
12 ابن كثير/س ذ/المجلد الأول/ص400
13 الشوكاني/س ذ/المجلد الخامس/ص520
14 سورة الزمر(آية رقم 62)
15ـ 16الموسوعة الفلسفية العربية،ص208

17 لعله من المفيد أن نذكر أن قضية التسيير والتخيير في الأساس تستخدم (لفعل الإنسان المكتسب) مثل الكفر والأيمان،والخير والشر،والبر والفجور ...الخ.. وليس هناك إختلاف بين المسلمين على تسيير الإنسان فيما عدا ذلك ،هذا عدا المعتزلة الذين يقولون بأن الموت أيضا مكتسب (فلولا القاتل لما مات القتيل)وهذا خلاف الجمهور الذين يقولون بعكس ذلك.
18 كان سبب قتله الأساسي سؤالهم لههل الله قادر على خلق نبي بعد محمد)؟ فقالنعم).
19 الفتوحات المكية/المجلد الأول/ص11
20 ابن سبعين وفلسفة الصوفية/د ابو الوفا الغنيمي التفتازي/ص65
21 أخبار الحلاج ومعه الطواسين/ص54
22 الفتوحات المكية/المجلد الثالث/ص73
23 سورة آل عمران(آية رقم1
24 تفسير ابن عربي/الجزء الأول/ص155ـ156
25 لطائف الإشارات/الإمام القشيري/ص349
26 الغاشية(آية رقم21)
27 النحل (آية رقم125)
28 فصلت (آية رقم34)
29 الكهف(آية رقم29)
30 يونس(آية رقم99)
31 البقرة(آية رقم256)
32 الحج(آية رقم39)
33 البقرة(آية رقم193)
34 الأنفال(آية رقم39)
35 التوبة(آية رقم 5)
36 التوبة(آية رقم29)
37 إنجيل لوقا(6 : 28 ـ 31)
38 آل عمران(آية رقم102)
39 التغابن(آية رقم16)
40 البقرة(آية رقم106)
41 الرسالة الثانية من الاسلام/الاستاذ محمود محمد طه/ص9ـ10
42 البقرة (آية رقم282)
43 القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري/ص19ـ20
44 المصدر السابق/ص20ـ21
45 المصدر السابق/ص21
46 الزخرف(الآيات1ـ4)
47 القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري/ص18
48 الرعد(آية رقم39)
49 يس(آية رقم82)
50 رد المتشابه الى المحكم من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية /ابن عربي/ص56ـ57
51 هو جما الدين ابو الفرج بن علي القرشي البغدادي الحنبلي،حفيد أبو بكر الصديق(511ـ597)،ولقد أوردنا ترجمته هذه لكي نفرق بينه وبين (إبن قيم الجوزية) الذي هو من تلاميذ ابن تيمية.
52 صحيح البخاري مع كشف المشكل/المجلد الأول/مقدمة المحقق/ص(ط)
53 راجع (الإنسان الكامل في معرفة الاواخر والاوائل) للشيخ عبد الكريم ابراهيم الجيلي.
54 القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري/ص39
55 المصدر السابق/ص7
56 نصر حامد أبوزيد/نقد الخطاب الديني/الطبعةالرابعة/ص202
56 المصدر السابق/ص202
57 المصدر السابق/ص197
58 المصدر السابق/ص197
59 الأستاذ محمود محمد طه يدعو الى :طريق محمد/طالثامنة/ص31
60 المصدر السابق/ص30
61 المصدر السابق/ص31
62 الرسالة الثانية من الاسلام/طالسادسة/الفهرست
63 الحجرات(آية رقم14)
64 الأنعام(الآيات162ـ163)
65 الرسالة الثانية من الاسلام/ص8
66 المصدر السابق/ص108
67 المصدر السابق/ص109

68 المصدر السابق/ص110










قائمة المراجع والمصادر:
1. القرآن الكريم.
2. الكتاب المقدس.
3. تفسير ابن عربي/دار صادر بيروت/د.ت.
4. لطائف الإشارات(تفسير صوفي كامل للقرآن الكريم)/ الهيئة المصرية العامة للكتاب2000م/ إدارة التراث/ تقديم وتعليق وتحقيق/ دكتور ابراهيم بسيوني.
5. تفسير القرآن العظيم/إسماعيل ابن كثير/دارالتقوى ـ عالم المعرفة للنشر والتوزيع ج م ع/د.ت.
6. فتح القدير/محمد بن علي الشوكاني/دار إحياء التراث العربي بيروت/د.ت.
7. صحيح البخاري /دار الحديث القاهرة 2000م/تحقيق الدكتور مصطفى الذهبي.
8. السيرة النبوية/عبد الملك بن هشام/المكتبة التوفيقية القاهرة/تحقيق دكتور محمد فهمي السرجاني. د.ت.
9. الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل/الشيخ عبد الكريم ابراهيم الجيلي/المكتبة التوفيقية القاهرة/د.ت.
10. ابن سبعين:وفلسفة التصوف/دتور ابو الوفا الغنيمي التفتازاني/دار الكتاب اللبناني بيروت/الطبعة الأولى 1973.
11. أخبار الحلاج والطواسين/تقديم وتعليق وتصحيح :عبد الحفيظ محمد مدني الهاشمي/الناشر: مكتبة الجندي/ الطبعة الثانية1970م.
12. المعجم الوجيز/ مجمع اللغة العربية ج م ع/طبعة خاصة بوزارة التربية والتعليم1999م.
13. المختار من المقدمة لابن خلدون/اعداد دكتور محمد عناني/مهرجان القراءة للجميع ج م ع 1997م.
14. الفتوحات المكية في معرفة الأسرار المالكية والملكية/الشيخ محي الدين بن عربي/دار احياء التراث العربي بيروت/الطبعة الاولى 1998م.
15. رد المتشابه الى المحكم من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية/محي الدين بن عربي/مكتبة مدبولي القاهرة/د.ت.
16. نقد الخطاب الديني/الدكتور نصر حامد ابوزيد/الطبعة الرابعة.
17. الموسوعة الفلسفية العربية/معهد النماء العربي/الطبعة الاولى1986م/رئيس التحرير د. معن زيادة.
18. الرسالة الثانية من الاسلام/محمود محمد طه/الطبعة السادسة ام درمان1986م.
19. طريق محمد/محمود محمد طه/الطبعة الثامنة ام درمان 1975م.
20. القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري/محمود محمد طه/ام درمان1971م.

Post: #5
Title: Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم
Author: تاج السر حسن
Date: 12-09-2004, 04:11 AM
Parent: #4

من أجمل ما قرأت فى (القرن العشرين).

(مامون التلب) و(قصى) .... اشعر ان الأستاذ / محمود ، لم يمت.

Post: #6
Title: Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم
Author: مأمون التلب
Date: 12-09-2004, 04:19 AM
Parent: #1

شكرا استاذ تاج السر حسن
على الجملة المختصرة والمعبرة
تحياتي... حتى يأتي قصي

Post: #7
Title: Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم
Author: قصي مجدي سليم
Date: 12-11-2004, 04:55 AM
Parent: #1

شكرا للصديق مامون التلب على إنزاله الفصل الاول من البحث هنا
وقبلها في سودانيات ...


Quote: من أجمل ما قرأت فى (القرن العشرين).

(مامون التلب) و(قصى) .... اشعر ان الأستاذ / محمود ، لم يمت.


العزيز تاج السر .. مدحت بحثي المتواضع بكلمات أرجو أن ينال نصيبا منها
ومدحتني بقول أرجو أن أنال مثقال ذرة منه...
وقبل هذا وبعد ذاك كلنا يشعر شعورك الذي تشعر ... مرحبا بك شريكا في الشعور

Post: #8
Title: UP
Author: مأمون التلب
Date: 12-11-2004, 11:48 AM
Parent: #1

UP

Post: #9
Title: Re: UP
Author: محمد صالح علي
Date: 12-11-2004, 12:27 PM
Parent: #8

قصي
مجهود عظيم
لك التحية
ٍ
مأمون شكراً

Post: #10
Title: Re: UP
Author: Muhib
Date: 12-11-2004, 01:15 PM
Parent: #9

Up >>Good job indeed ..

Post: #11
Title: Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم
Author: قصي مجدي سليم
Date: 12-12-2004, 07:40 AM
Parent: #1

شكرا محمد صالح على المرور (وأتمنى أن تكمل قرأته)
لقيتني كيف ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
الستاذ مهيب
شكرا على المرور والتعليق

Post: #12
Title: Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم
Author: Yaho_Zato
Date: 12-12-2004, 08:06 AM
Parent: #11

كنت أنتظر خروج هذا العمل منذ فترة.. وفي الأيام الأخيرة فكرت أن أسألك يا قصي "وين موضوع التأويل؟".. واليوم أجده أخيرا قد بث للقراء..

لا أدري إن كان عندي ما أريد التعقيب عليه الآن.. ولكني بالتأكيد أحث كل قراء هذا المنبر على قراءة هذا العمل المتمكن والعميق والثري جدا بالمعلومات الوافية والتحليل الحصيف..

وشكرا للعزيز مأمون على نشر هذا العمل..

Post: #13
Title: Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم
Author: مأمون التلب
Date: 12-12-2004, 09:44 AM
Parent: #1

تحية للجميع
وللصديق قصي لمنحي حق نشر هذا العمل الممتاز
والذي أتمنى أن يقرأه الجميع
وان تتم مناقشته بشكل يفتح أسئلة جديدة ومفيدة للجميع
..
تحاتي للجميع مرة أخرى
وللاستاذ قصي مجدي سليم.. وميسون طبعا

Post: #14
Title: Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم
Author: قصي مجدي سليم
Date: 12-12-2004, 11:02 AM
Parent: #1

لا زلت مندهشا حتى الان من الترحيب الذي يلاقيه هذا العمل ..
شكرا للصديق (سميي) قصي همرور ..
وشكرا للجميع .. ولا زلت في انتظار التعليقات النقدية التي سترفد ان شاء الله هذا العمل وتكمل نقصه

Post: #15
Title: Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم
Author: مأمون التلب
Date: 12-12-2004, 10:57 PM
Parent: #1

up
لمزيد من القراءة

Post: #16
Title: UP
Author: مأمون التلب
Date: 12-13-2004, 07:07 AM
Parent: #1

UP
تاني

Post: #17
Title: Re: UP
Author: Yaho_Zato
Date: 12-13-2004, 04:35 PM
Parent: #16

عزيزي قصي..

أعجبني منطق الإستدلال وسياقة الأمثلة.. كما أعجبني التحليل العام لمحتوى أصول طروحات المعتزلة وأهل السنة.. وكذلك أعجبني النقد المتماسك لبعض تحليلات الدكتور نصر حامد أبو زيد، وهذه المرة الأولى لي التي أقرأ فيها نقدا موضوعيا حصيفا لكتابات الدكتور أبو زيد في خضم إشارات التأييد والإعجاب (في هذا المنبر خاصة)، وقد سرني أن يأتي هذا النقد من جانبك.. كما استفدت جدا من الإبحار في الأصول اللغوية لمصطلح التأويل..

ولك المودة..

Post: #18
Title: Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم
Author: مأمون التلب
Date: 12-13-2004, 11:49 PM
Parent: #1

UP
لمزيد من القراءة

Post: #19
Title: Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم
Author: قصي مجدي سليم
Date: 12-15-2004, 11:20 AM
Parent: #1

Quote: عزيزي قصي..

أعجبني منطق الإستدلال وسياقة الأمثلة.. كما أعجبني التحليل العام لمحتوى أصول طروحات المعتزلة وأهل السنة.. وكذلك أعجبني النقد المتماسك لبعض تحليلات الدكتور نصر حامد أبو زيد، وهذه المرة الأولى لي التي أقرأ فيها نقدا موضوعيا حصيفا لكتابات الدكتور أبو زيد في خضم إشارات التأييد والإعجاب (في هذا المنبر خاصة)، وقد سرني أن يأتي هذا النقد من جانبك.. كما استفدت جدا من الإبحار في الأصول اللغوية لمصطلح التأويل..

ولك المودة..

اخي العزيز قصي (سميي)
تحياتي مرة أخرى .. وأرجو أن أستمع الى البقية .. فالنقد يفيدني
ويزيد البحث بهاء... أرجو منك أن تنزل مساهمتك التي أنزلتها لي في الصالون هنا.
حتى تعم الفائدة .. ويتسنى لي الرد عليها ... وإذا شئت كتبنا بالطريقة التي قلتها لك

Post: #20
Title: Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم
Author: محمد حسن العمدة
Date: 12-15-2004, 04:42 PM
Parent: #19

فليظل هذا البوست مرفوعا حتى اجد متسعا لقراءته

واحرص يا مامون ما يغطص وسط الزحمة دي


نعم قصي مجدي سليم كما توقعت له منذ سنوات وربنا يحفظك ويوفقك


ولتحيا الفكرة من جديد بيد من لم يعاصرو مفجرها رغما عن اختلافي معها

ولكنها فكرة اولا واخيرا

Post: #21
Title: Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم
Author: معتز تروتسكى
Date: 12-15-2004, 09:39 PM
Parent: #20

قصي مجدي سليم000
ياراجل يبقى التفكير شى عميق لشى بجى من الاخر00
حقيقة نحسدك لهذا الاطراء فابقى 10 ياصديق00

مامون ودالتلب 00
ياعزيزى يبدو انك ترتب فينا احساس بالالفه الشكل العام عندى لم يكتمل لانك تاتى الحروف الفكريه وبالتاكيد تحتاج الى مساحة ساعات ودى بقت صعبه 00على العموم بقدر ما قرات هنا اخذت الباقى واحتفظت به الى حين كما يقال (شى محرض للتفكير)000
سلمته كتير 00

دائما ما يأتي سير الكتابه في احلك الظروف وربما يكون الإنسان مليئا برغم قلة المسير وانعدام الحروف... ده مامون000

شكرا 00شكرا 000

Post: #22
Title: Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم
Author: Yaho_Zato
Date: 12-16-2004, 07:52 AM
Parent: #21

حاضر يا قصي.. ننشر المساهمة هنا.. حتى تعم الفائدة.. ويتسنى لك الرد عليها..


عزيزي "جدا" قصي..

سأحاول هنا أن ألتقط نقطة واحدة شغلتني أكثر من غيرها من النقاط.. تلبية لطلبك المشرف لي..

تقول في "سادسا" من ورقتك الآتي


كما أنه يقر بأنهم كانواهم حفظة الدين وعلماءه ومرشدي الناس اليه)60. ولكن هذا الإتفاق الكبير مع التصوف لا يجعلنا نركن الى القول بأن الأستاذ محمود محمد طه هو أحد المتصوفة... هكذا... دون إضافات تذكر. فإن كان حقا أن الأستاذ يعتمد الصوفية كمرجعية لازمة إلا أننا يمكن أن نقول مطمئنين : إن الأستاذ محمود محمد طه قد جاء بفكر جديد كل الجدة لا يعتبر إمتداداً للتصوف بالمعنى الحرفي... لماذا؟!
لأن التصوف الاسلامي ـ على مكانته الرفيعة ـ يعتبر أيضاً امتداداً للفكر السلفي. (ليست السلفية الشكلية التي أعتبرت اصطلاحاً الآن على الاصولية والإرهاب). والسلفيون وإن كان بينهم خلاف وصل إلى حد الإقتتال إلا أن هناك أشياء يتفق فيها، الشيعي، والخارجي، وأهل السنة، والصوفية، والمعتزلة. مع إختلاف آلياتهم.
فليس هنلك طائفة منهم تنكر الجهاد، ولا قصور المرأة أمام الرجل، ولا الحجاب، ولا قوامة الرجل، ولا الإمامة (مع خلاف في مفهومها)..إلخ.. ، باختصار كلهم يتفقون على الشريعة الاسلامية بصورتها السلفية...


في اعتقادي.. الأستاذ محمود متصوف.. بل هو رأس المتصوفة.. فالتصوف كما عرفه هو نفسه (سنة النبي).. أما الصوفية فهم اهل الطرق والسابقين ممن حاولوا سلوك هذا الطريق فبلغوا فيه وبه مبالغا عظيمة.. وهؤلاء هم الطائفة التي يمكن أن يصنفوا اليوم مع الإتجاه السلفي، وهم يشتركون مع الأستاذ في "التصوف" ولكن الأستاذ لا يشترك معهم في مصطلح "الصوفية".. لأن "التصوف" هو طريق محمد.. وهذا ليس فيه أحد إن لم يكن الأستاذ محمود فيه.. أعتقد أن الدقة في الإصطلاح أحيانا تكون مطلوبة في أوراق بهذه الجدارة.. ولأنها آتية من وجهة نظر شخص متبني لطرح الأستاذ، فعليه ربما يكون من الأفضل عدم استخدام نفس المصطلح بدلالة مختلفة عن استعمال الأستاذ لها.. رغم أني أعرف ما قصدت بـ"التصوف الإسلامي".. وليس لي في هذه النقطة غير الإشارة بتحري الدقة "خصوصا في كتابات بهذه الجدارة".. وهو رأي عابر على كل حال..

الأمر الثاني، وهو الأهم في نظري.. هو أن الصوفية لا يختلفون اختلافا شكليا مع باقي الطوائف كما ذكرت- في نظري- لأن القول بالإختلاف الشكلي يوحي بالقول بالإتفاق الجوهري من سياق الكلام.. والإتفاق بين الصوفية وباقي الطوائف السلفية في أمر التشريع لا يعني أن الإختلاف بينهم وبينهم شكلي، بل هو بالعكس يعني أن الإتفاق بينهم هو الشكلي.. أما من ناحية الجوهر فهو خلاف بين.. بل لكأن الصوفية يدينون بدين غير دين السلفية تماما (أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه، فالحب ديني وإيماني).. الإختلاف في الجوهر بين الصوفية وباقي أهل الفكر السلفي واضح.. حتى أن التاريخ يثبت لنا أن أعداء الصوفية لم ينكروا على الصوفية حالهم الظاهر من زهد والتزام بالرياضات الروحية (وهو أمر شكلي) اكثر من إنكارهم لأفكارهم وأقوالهم.. فالحلاج لم يقتل لأنه ترك الصلاة مثلا.. ولكن لانه قال (مافي الجبة إلا الله) وما شابه ذلك من الأقوال كما ينسب إليه اليوم.. وهذه العبارة داخلة في الفهم الجوهري عند الصوفية.. ولكنها عند باقي السلفية تعتبر هدما تاما لعقيدة الإسلام، وهي عند الصوفية جوهر الإسلام..

والتشريع السلفي في حد ذاته تشريع شكلي.. لانه تشريع يحكم بالمظهر لا بالجوهر أو باطن الأمر، وهذا هو حال التشاريع المجتمعية في أي مكان أو زمان كانت.. والصوفية عندما اتفقوا مع اهل الفكر السلفي فيه فعلوا ذلك بمعنى أنهم التزموا به شكليا لانه الوسيلة عندهم إلى باطن غير باطن بقية السلفية.. فابن عربي مثلا لا يرى المرأة كما يراها السلفية، ولكنه في زمانه كان يوصى بالقبض على ميزان الشرع، وميزان الشرع فيه من إضطهاد المرأة ما فيه كما تعلم.. ولم يكن يرى أهل الذمة أقل حقا "دستوريا" منه، ولكنه لم يخالف شرع الجهاد وشرع معاملة الذمي في الدولة الإسلامية.. بل بالعكس أوصى بها في معنى ما أوصى بالقبض على ميزان الشرع، والعض عليه بالنواجذ كما ورد في كتابه (العبادلة) وبعض كتبه الأخرى.. وكما يرد في كتاب الأستاذ (دقائق حقائق الدين) من قول ابن عربي (إياك أن ترمي ميزان الشرع من يدك في العلم الرسمي، بل بادر إلى العمل بكل ما حكم وإن فهمت منه خلاف ما يفهمه الناس. مما يحول بينك وبين إمضاء ظاهر الحكم به فلا تعوِّل عليه، فإنه مكر إلهي في صورة علم إلهي من حيث لا تشعر، واعلم أن تقديم الكشف على النص ليس بشئ عندنا لكثرة اللبس على أهله وإلا فالكشف الصحيح لا يأتي قط إلا موافقا لظاهر الشريعة، فمن قدم كشفه على النص فقد خرج عن الانتظام في سلك أهل الله، ولحق بالأخسرين أعمالا) انتهى النص..

مفهوم الحق والباطل في التشريع في الفكرة الجمهورية قائم على النص القرآني بما لا يخالف ظاهر النص، كما هو أيضا قائم على العرف.. والعرف أمر نسبي دوما يتعلق بحكم الوقت.. أما الجوهر فهو ليس كذلك.. هو واحد في كل زمان وكل مكان.. وهذا الجوهر هو الذي تشترك فيه الفكرة الجمهورية مع التراث الصوفي الإسلامي، وحتى غير الإسلامي.. هي امتداد له بهذا المعنى.. وعلى هذا فإن الصوفية لا يمكن أن يكونوا متفقين جوهريا مع باقي السلفية.. بل هم مختلفين معهم تمام الإختلاف.. ولكنهم كانوا متفقين معهم شكليا (من ناحية التشريع) لاعتبارات حكم الوقت.. وهذه لا تثريب عليهم فيها، بل هم كانوا أحق بها من الطوائف الأخرى.. إلا بعد أن ظهرت الفكرة الجمهورية..

حتى ألخص كلامي.. قولك (باختصار كلهم يتفقون على الشريعة الاسلامية بصورتها السلفية... وأما خلافهم وإن وصل حد التكفير والقتل فما هو إلا خلاف شكلي لا غير) هو قول أرجو منك مراجعته، ثم يكون لك فيه ما يكون بطبيعة الحال.. فخلاف هؤلاء مع الصوفية قد وصل حد التكفير والقتل لأنه كان اختلافا جوهريا وليس شكليا.. والإتفاق بينهم في موضوع الشريعة هو الإتفاق الشكلي بعينه.. وليس العكس

هذا مع وافر تقديري ومحبتي


قصي همرور


Post: #23
Title: Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم
Author: قصي مجدي سليم
Date: 12-16-2004, 10:11 AM
Parent: #1

العزيز ود العمدة (ودأهلي)
لا زلت تذكرني بعبارات الإطراء (التي أرجو أن انال حظا منها)
فهذا من ذوقك الرفيع (وأمنياتك الدائمة للآخرين بالمستقبل الجميل)
والذي نفسه بغير جمال
لا يرى في الوجود شيئا جميلا

الاستاذ تروتسكي
او بلغة الشيوعييين (المرتد) تروتسكي...
انت عارف يا حبيب كأنه كتب على الزمان أن يكون المرتدين فيه هم اهل
التفكير ومحاولة صنع الجديد وعدم الركود (والركون) مع الماضي
الاحظ دوما تغيير (صورك) مرة عسكري ومرة مدني ومرة بنية صغيرونه حلوة
وما عارف كان في تالتة ولا رابعة .. انا غايتو بخش ليك بوستات (على استحياء)
شكرا لك على المرور وأرجو أن أقرأ مساهمتك النقدية (فأنا في إنتظار) هكذا مساهمات
فهلا استجبت لي ؟؟
صديقي (سميي) قصي
شكرا على تثبيت المساهمة القيمة ... ولي عليها تحفظ في بعض النقاط وإن كنت متفقا مع أغلبها.. بس أديني كم يوم (أمور ناس متزوجين ... وكده)
شكرا شكرا شكرا لك

Post: #24
Title: up
Author: مأمون التلب
Date: 12-19-2004, 00:15 AM
Parent: #1

UP

Post: #25
Title: Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم
Author: قصي مجدي سليم
Date: 12-20-2004, 11:07 AM
Parent: #1

اسف جدا يا قصي همرور يا صديق على تأخر الرد
ذهبت الى مدني نسبة الى مرض الوالدة وعدت بالأمس
سوف آتيك قريبا

Post: #26
Title: Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم
Author: Yaho_Zato
Date: 12-22-2004, 07:31 PM
Parent: #25

عزيزي.. ألف كفارة وسلامة للوالدة الكريمة..

ولا عليك يا صاحب.. خذ من الوقت ما يكفيك دون أي حرج..

Post: #27
Title: Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم
Author: قصي مجدي سليم
Date: 12-24-2004, 09:16 AM
Parent: #1

شكرا يا عزيزي (قصي) على الدعوات الطيبات وربنا يتقبل منك
كمان بعتذر ليك تاني عن تأخر الرد نسبة لظروف العمل والاجازات الطويلة دي هنا وان شاء الله اول ما تنتهي اجازة الكريسماس نرجع كلنا للبوست ده تاني ..
لكن عندي إشارة :
لقد أعجبتني مداخلاتك وتصحيحاتك اللطيفة والتي جاءت نسبة لعدم دقتي في بعض التعابير كما انها تفتح افقا جيدا لمتابعة الدراسة والذهاب بها ابعد مما هي عليه. وكما قلت لك فان لي مداخلات طفيفة لا اريد ان اذكرها الان حتى لا اتسبب في تشتت الموضوع.
ارجو ان تواصل الكتابة حول خواطرك في المقال ومعرفتك التي تظهر مقدار ذكاءك وزكاءك
اخوك وصديقك (قصي)