وردي وأنتماء الورد للصحو .. مكي علي ادريس

وردي وأنتماء الورد للصحو .. مكي علي ادريس


10-28-2004, 04:34 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=95&msg=1098977651&rn=0


Post: #1
Title: وردي وأنتماء الورد للصحو .. مكي علي ادريس
Author: mo
Date: 10-28-2004, 04:34 PM

ليس ما يجعل الناس أصحاء أقوياء هو ما يأكلون ، وليس ما يجعلهم علماء هو ما يقرءون وإنّما ما يتذكرون ، ولا يجعلهم أفاضل أو أتقياء ما يتشدّقون به أو يتظاهرون وإنّما ما يفعلون) لورد باكون.
في منتصف عام 1983م ، أتاح لي الفنّان وردي فرصة اللقاء بالكاتب الراحل جمال محمد أحمد ، ذات ليلة صيفية، في منزل الكاتب الكبير بالخرطوم ، وكنت أيامها بأولى سنوات الدراسة بمعهد الموسيقى والمسرح ( قصر الشباب والأطفال). جلست في حضرة رجلي الأدب والغناء السوداني والنشوة تلكز فؤادي ، وقد أخبرني صديقي الحميم المحامي حسن عبد الماجد – شفاه الله من وعكته - أنّ الفنان وردي دعانا جميعا ، تلبية لرغبة الكاتب الكبير في الاستماع لاغاني البلد (النوبية) ، وكان الغناء والأدب والحديث الطافح بالضوء من أهله، ليلتئذ دار الحديث حول (هل الفن للفن أم الفن للحياة ) ، ومستقبل الموسيقى السودانية و( قصص نوبية من سرّة) وسالم فوحيمر، والثقافة الموسيقية. كان كل شيء يبدو لي فخماً ، متعاظماً في وقار، وانفضّ سامرنا وفي النفس أشياء وأشياء عمّن انتظموا على الأرائك الدبلوماسية في ليلتي تلك ، الأولى والأخيرة، في حضرة أصحاب سالم فوحيمر ويقظة شعب
وذهب العمر بالكاتب المرموق ، وهو يحمل للحياة كل الحب، وظل الفنّان الكبير يجوب الآفاق ، مبحراً في غسق الأنجم وملكوت العشق المسكوب في شغاف الأرض، يولمها أوجاع القلب ليبدد في الناس الجفاء. مازال يحلم بالسنا و(الليل أبخل ما يكون على النهار المستباح). قال ذات مرة : أرفض أن أتشاءم ، ولكننا على موعد مع الإخفاق ما لم نتصالح مع ذواتنا ونعترف بالآخر) ، ويمضي قطار العمر يستكنه في العشب الرواء ، حثيثاً في مواويل المدائن وعشق هوية الأبنوس ، وانتماء الورد للصحو ، أغنيةً تتدحرج في محاجر السفح الخضير ، يصادق البلابل والمنزل المقابل والعزف والهديل ..
جاء الكاتب المرموق من (سرّة) بنواحي وادي حلفا يحمل بين جنبيه حباً جارفاً للوطن وإفريقيا وطار بأجنحة الدبلوماسية إلى العالم ، والتقى بابن صواردة القادم إلى أمد رمان بأغنياته النوبية في ملتقى النيلين وصدحا باسم السودان ( أم در والطوابي في صدرك وسام) كما سبقهما إليها الخليل الشاعر القادم من جزيرة صاي ( قدلة يا مولاي حافي حالق بالطريق الشاقيه الترام ). جاءوا إلى ملتقى النيلين وشهروا في وجه الربى الممطورة تلالاً من النور والأغنيات. وامتهنوا اللّهاث خلف فساتين الكلام ،فتمايدت الأوتار وضجّت مدن الغناء في زمان انفجار الأوردة.
الأستاذ الراحل جمال محمد أحمد أحب التعامل مع الأدب بمنطق الحياة أكثر من اللغة، فقد أنتج أدباً يتوجه حثيثاً إلى الحكمة بأسلوبه الصارم الدقيق،ولطالما شاخت الكراهية بين جنبيه لكل حشو وتنميق لا يخدم أغراض نصوصه،ولا أدّعي أنّ وردي اختط منهجاً مغايراً في مساره الإبداعي، فقد تجاوز مرحلة الغناء للقدود والغنج إلى التغني بهموم العامة ونبض الشارع وقضايا الشعب والإنسان حيث كان ،وشغل نفسه باكتشاف الشيّق والمبتكر من ضروب التأليف الموسيقى وفنون الأداء المتناغمة والذوق السوداني, على تعدديته وثراء ممارساته وطقوسه، وبهذا حفر اسمه عميقاً في ذاكرة المستمع داخل وخارج السودان . ووضع باقتدار سمات مدرسة الغناء السوداني الحديثة ، هذا دون إغفال لدور الرواد من حملة لواء الإبداع والمجيدين من المحدثين، لا يتسع المجال لذكرهم ، كما أنه لا يتسع للتحليل الأكاديمي لأعمال الرجل، فلذلك فرسانه المغاوير ولكن القدرات الفطرية التي ميّزت شخصية وردي وأهلته للقيام بدوره الكبير هذا في مجال الموسيقى والغناء السوداني جديرة بالاهتمام تحليلاً ودراسة . قال في مجمل تصريحاته الفنية أنّ كونه قادماً من الشمال النوبي، ميّز أعماله بتلك السمة التي لا تخفى على المستمع، وأعني هنا تماما، ما قاله د. مكي سيد احمد بأن أهل (نوبة) الشمال يتميّزون بعقلية موسيقية كبيرة . ولا يستبعد أن تكون لهذه الخصوصية أبعاداً إثنية ، ناتجة عن التكوينة المتأثرة بفعل الهجرات البشرية والثقافية المتعددة عبر التاريخ ،في إنسان تلك البقعة , ويضيف البعض الآخر المؤثر البيئي شكلاً ومحتوىً. غير أنّ القدرات الفطرية (الموهبة)، وحدها، لا تفي كشرط نجاح في مشوار النبوغ ، وهذا الذي برع فيه الأستاذ وردي ، فقد أدرك مبكّراً الإجابة على السؤال التقليدي ( لماذا وكيف يغنّي؟)، وأزعم أنه اتّجه إلى : صقل موهبته بالدراسة والتحصيل المستمر والبحث الدقيق في الموسيقى ك (علم) إلى جانب إرادة لا تلين أعانته على تجويد أعماله ورفع كفاءته بالمران والجهد الجهيد، وتوخّي الدقة في اختيار نصوصه وموسيقاه ، والحرص على ترقية الأداء البشري والآلي وتوظيف المتاح من آلية التقنية ببراعة العارف المستنير. وظّف آلة الطنبور (التقليدية) في أغنية ( الود- أندرية رايدر) وأدخل الافتتاحيات الموسيقية المقنّنة في أغنيات ( جميلة ومستحيلة) و(السنيلاية) وغيرها ،والحديث عن أعماله الوطنية، ذو شجون ، ولا أقول ( على نفسها جنت براقش) ولكنها تتطابق والمقولة ( من الحب ما قتل ).
العزم الأكيد والإرادة القوية صنعت من الرجل ، الفنّان الموسيقار المطرب الشاعر وردي. ليس هذا فحسب ، فالفنًان وردي الذي نعرفه، لم يصل إلى ما وصل إليه بمعزل عن رهط المبدعين، الروّاد والمحدثين، من الإعلاميين والجمهور الذي عشقه بصدق، ومن الشعراء والكتّاب وأهل النغم والمغنى، تتلمذ على أيديهم وانتصح بتجاربهم وبحث طويلاً عن نفسه بينهم ، ثم رسم لنفسه خارطة إبداعية ملوّنة بسماته وتطلّعاته وأعلن أنّه جاء.
الفنّان وردي ليس فلتة أو معجزة فنية هبطت من السماء ، ولكنّه مشروع إنسان جاد. عرف ، بذكاء ، كيف يخطّط وينجح ويسجّل اسمه في سجلّ تاريخ الموسيقى والغناء الإنساني. هذه تجربة رائدة لأحد عمالقة الإبداع في بلادنا، والسؤال هو : إلى أي حد يمكن الاستفادة من هذه التجربة ، الماثلة أمام العيان، بكل تجلّياتها وعظمتها في المحتوى والوسيلة؟ وكيف السبيل لإيقاف هذا المد الخرافي من تفريخ النسخ وترسيخ فرية ( الفنّان المقلّد حتى النخاع) وحكاية ( أدّينا حاجة مسموعة) . إنّ حواء السودانية ( ما قطّت) وهي التي أعطت وما فتئت ، ولازال أمام الواعدين الوقت الكافي ومساحات التثبت من قدراتهم واقتحام المسار الفني برويّة ( مش تفحيط). حفظت العناية مبدعنا الأستاذ وردي فقد قال لبعضهم ( في وردي واحد بيغنّي) وظل حتى الآن يدعو لأهمية بناء الشخصية الإبداعية بعيداً عن ( همبتة الأسماء) وتاريخ الرموز.. و(نواصل)




____________
Ullekin ashri tA Ullin