الإستعمار البريطاني في السودان وموقفه من الإسلام «1-4»:د. محمد سعيد القدال

الإستعمار البريطاني في السودان وموقفه من الإسلام «1-4»:د. محمد سعيد القدال


10-13-2004, 04:45 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=95&msg=1097639130&rn=0


Post: #1
Title: الإستعمار البريطاني في السودان وموقفه من الإسلام «1-4»:د. محمد سعيد القدال
Author: merfi
Date: 10-13-2004, 04:45 AM

الإستعمار البريطاني في السودان وموقفه من الإسلام «1-4»
د. محمد سعيد القدال
* لماذا نطرح سياسة الاستعمار البريطاني نحو الاسلام في السودان على بساط البحث الآن؟ هل نريد ان ننكأ جراحات بعد أن كادت تندمل؟ لا، ليس هذا هو الهدف. ولكننا نستعيد دروس التاريخ، والتاريخ لا يرحم. ولو ادرك الذين يتصدون لصناعة التاريخ سواء عن وعى او بغير وعى هذه الحقيقة، لربما ثابوا لبعض رشدهم، إن كانت السلطة قد تركت لهم بعض الرشد.
وحتى نفهم سياسة الاستعمار البريطاني «البغيض» تجاه الاسلام في السودان، علينا ان نحدد اهداف الاستعمار وسياساته بشكل عام. الاستعمار نتاج التطور الرأسمالي عندما بلغ مرحلة تصدير رأس المال المالي. فأخذ يرتاد بقاع الارض وفجاجها ليحقق رأس المال اعلى درجات الربح. فكانت الخطوة الاولى غزو بلاد العالم. وتم تهيئة الظروف الدبلوماسية لذلك الغزو في مؤتمر برلين «1884- 1885» الذي اتفقت فيه الدول الرأسمالية على اقتسام العالم سلمياً الى مناطق نفوذ. فكان غزو بريطانيا للسودان في العام 1896، إحدى الملاحم المأساوية التي شهدتها القارة الافريقية في اخريات القرن التاسع عشر. فمن أجل أن تستثمر الرأسمالية أموالها وتحصل على ربح وفير، سقط آلاف القتلى من اهلنا صرعى السلاح الناري وفيالق الغزو الرأسمالي. فعندما يسيطر الربح على هاجس الناس تنهار امامهم كل القيم سواء أكانوا من البريطانيين أو الهنود أو الاسلاميين الطفيليين. يحدث هذا على امتداد التاريخ البشري.
وبعد أن تمكن الاستعمار البريطاني من هزيمة الدولة المهدية، شرع في إعادة صياغة المجتمع السوداني ليستقبل رأس المال المالي. فأخذوا في تأسيس نظام حكم مركزي، واخذوا في تحويل ملكية الارض الى فردية أو وضعها في يد الدولة، وانشأوا خطوط السكة الحديد لتربط مناطق الانتاج الزراعي بالميناء الحديث الذي أسس عند العام 1907، ثم بدأوا في اجراء التجارب الزراعية المكثفة، واقاموا المعاهد التعليمية ووضعوا التجارة الخارجية في يد الشركات الاجنبية وربطوها بالسوق الرأسمالية العالمية. ولكن واجهتهم مشكلة الدين.
فقد احتل الاستعمار السودان على انقاض دولة وطنية دينية. أما الوطنية فلم يعيروها اهتماماً، لأنها لم تشكل خطراً مباشراً على وجودهم في ذلك الحين، ولم تكن من أسباب تعكير صفو الأمن. أما الاسلام فقد ظل يقينه باقياً في النفوس، ويتجلى في مختلف الاشكال حسب قدرات اهل السودان في ذلك الوقت. ومنها ما كان يهدد استقرار النظام الجديد ويحول دون تطبيق سياساته الرامية لخلق مناخ للاستثمار، فصاغ سياساته نحو الاسلام في اربعة أهداف:-
1/ مهاجمة الدولة المهدية وإظهار سلبياتها، وهو هجوم كان يجد له صدى في نفوس بعض الفئات التي قاست تحت وطأة تلك السلبيات.
2/ منافقة الشعور لاهل السودان، والظهور بمظهر المدافع عن معتقداتهم وشعائرهم.
3/ قمع اية حركة لها توجه ديني. واستعمال أقصى درجات العنف. فما زال هاجس المهدية يؤرق الحكم الجديد.
4/ احتواء بعض المؤسسات الدينية ورجال الدين، ليقفوا بجانب حكمهم والعمل على تقديمه للناس.
فمنذ أن حطت جيوش الغزو الاستعماري أقدامها على ارض السودان العام 1896، شنَّ كتشنر هجوماً على الدولة المهدية. فقال في أول خطاب له إن المهدي والخليفة عبد الله قاما بتفسير القرآن على هواهما، واستنبطا أحكاماً شرعية كما أرادا. وأن الخليفة فرق كلمة المسلمين، وأثارت اعماله سخط العالم الاسلامي، وأن مكة والخليفة العثماني ينظران إلى هذا العمل بعين المقت والكراهية، وقدم كتشنر بعض التجاوزات التي حدثت في عهد الخليفة في حق بعض زعماء القبائل والطرق الصوفية. ثم استمر ليقول إن الخديوي اخذته الشفقة على المسلمين المظلومين، فصمم على انقاذهم من الظلم، فارسل جيوشه كي تهدم اركان دولة التعايشي وتقيم حكومة شرعية مؤسسة على العدل والاستقامة وتبنى المساجد وتعين على نشر الدين القويم. ثم طلب من الاهالي استقبال الجيوش الغازية بالترحاب وإلا:- «فالويل لمن رفض نعمة ربه وكرم خديوينا العظيم».
وعندما زار اللورد كرومر السودان في العام 1899، وضَّح سياسة الحكومة الدينية بجلاء قائلاً :« إن جلالة الملكة وشعب جلالتها المسيحي شديدو الاخلاص لدينهم، ولكنهم يعرفون أيضاً كيف يحترمون ديانة الآخرين. وتحكم جلالة الملكة رعايا من المتدينين بدينكم أكثر مما يحكم أي عاهل في العالم، ويعيش هؤلاء تحت حكمها الرحيم. وديانتهم وشعائرهم الدينية موضع احترام وتقدير. ولكم أن تثقوا ان هذا المبدأ سوف يتبع في السودان، ولن يكون هناك اي تدخل اطلاقاً في شؤون دينكم».
لقد كانت الحكومة الاستعمارية تدرك مكانة الدين في نفوس أهل السودان، بل كان بعض مفكريها يعتقدون أن إمكانية التطرف الديني في السودان كامنة في عمق بسيط تحت السطح، لذلك كانت حريصة على الظهور بمظهر المدافع عن معتقدات البلاد الدينية. وفي نفس الوقت كانت تتوجس خيفة من التنظيمات الصوفية، أو ما يسميه الباحثون الاسلام الشعبي. فأعلن كرومر منذ العام الاول بأنه لن يسمح لزعماء الطرق الصوفية ببناء مساجدهم وقباب مشايخهم التي هدمت خلال حكم الدولة المهدية. وحذَّر حكام المديريات من «الفقرا» وزعماء الطرق الصوفية الذين اتهمهم باستغلال جهل الناس، كما حمَّلهم كل ما نتج أخيراً من عداء للأجانب.
وكان ونجت الحاكم العام (1899-1916) يعتبر الطرق الصوفية بؤرة يمكن ان تنفجر منها ثورة اخرى مثل المهدية. ولا شك ان تدريب ونجت وخلفيته وعمله في مجال المخابرات لسنوات قد هيمن على منهجه الاداري، كما هيمن على مساعده سلاطين باشا. فهما لا ينظران الى الحركات الدينية إلا من الزاوية الامنية الضيقة. دون الاعتبار الكافي للمحتوى التاريخي الذي يمكن أن تنفجر فيه مثل تلك الحركات. هذه مشكلة الاجهزة الامنية. ولكن المشكلة الاكبر هي انسياق الانظمة السياسية وراء التقديرات الامنية قصيرة النظر. ودونكم والإعتذارات الاخيرة التي قدمها الرئيس الاميركي بوش ورئيس الوزراء البريطاني بلير حول انسياقهما وراء التقارير الامنية عن اسلحة الدمار الشامل. والامثلة كثر.
فكانت السياسة البريطانية تقوم على التعاون مع الطرق الصوفية، كما كانت تتدخل في أمورها الداخلية.
على أن الحركات الدينية لم تُنه بنهاية الدولة المهدية وقيام الحكم الإستعماري. فانبثقت حركات كانت تستلهم تراث المهدية، واتخذ بعضها الآخر من فكرة المنقذ وصاحب الوقت ونبي الله عيسى رؤية لمستقبلها ولواء حاربت تحته حتى الموت.
ولنا ان نقف هنا لنسأل عن اسباب انفجار تلك الحركات وتعددها رغم جو الارهاب، وما هي الآثار التي خلفتها؟ هل كان اولئك النفر يدركون ان حركاتهم محكوم عليها بالفشل؟ وإذا كان الامر كذلك، لماذا اقدموا عليها، هل كانوا يقومون بمغامرة انتحارية، أم كانوا يتوقعون النجاح دون ان يكونوا مدركين للظروف المحيطة بهم وبتوازن القوى الجديدة في البلاد؟
لا شك ان الثورة المهدية التي فجرها حفنة من الزهَّاد في الجزيرة أبا بقيادة الامام المهدي، قد بقيت تراثاً يتناقله الناس، وتوهموا ان الظلم يمكن ان يقهر «بسيف العشر»، غير مدركين، لضعف وعيهم الاجتماعي، ان الثورة لا تتكرر مرة اخرى بنفس الطريقة مثل المسرحية. لذلك كانت تلك الحركات تعبر عن رؤية مهدوية محدودة، وعن تقليد لا يخلو من جمود. مما جعلها معزولة ولم تحظ بتأييد الناس. كما كشفت تلك الحركات ان الضيق والعنت ما زالا يغلفان حياة السواد الاعظم من أهل البلاد، دون ان يبصروا لهم مخرجاً. فلم يكن امامهم إلا اللجوء الى المنقذ صاحب الوقت. فالدين لا يحمل للناس يقيناً فحسب، بل يحمل لهم ايضاً مخرجاً في ساعات الضيق، كما يحمل لهم بشرى بآخرة آتية يحفها النعيم. فيستخفون بأمر هذه الدنيا التي لا تحمل لهم بارقة خلاص من مآسيهم. فيقدمون على الموت غير عابئين بالنتائج. ولكن الجهاد والفداء لهما اطارهما التاريخي. وليسا مجرد عمل انتحاري.
ولم تمض تلك الحركات دون أن تترك أثرها في مجرى الحركة السياسية السودانية. فقد حافظت رغم فشلها على جذوة النضال مشتعلة في النفوس، ولولا اشتعالها لخبا بريق الأمل في نفوس المضطهدين. والدماء التي انسكبت على السفح، اضاءت السبل «للقادمين مواكب فمواكب». وشغلت تلك الحركات الادارة البريطانية، فصرفتها كثيراً عن ما كان يعتمل في المجتمع من حركات أخرى بعيدة عن دائرة النشاط الديني. ولا شك أن فشل تلك الحركات كان اعلاناً عن إنتهاء دور الحركات الدينية التقليدية في النشاط السياسي. فقد كانت تلك الحركات تحمل الحنين إلى الماضي أكثر مما تحمل هموم الحاضر وأشواق المستقبل.
ووصف الاستاذ احمد خير تلك الحركات بأنها ضاربة في غياهب الجهل وتائهة في سراديب التعصب، وكانت تعكر صفو الأمن بين الفينة والأخرى، وتزهق الأرواح قبل أن يلقى قادتها حتفهم في حومة الوغى أو على خشبة المشانق دون كبير عطف أم اهتمام من الرأي العام. «كفاح جيل». وهذا تقييم لا يخلو من إجحاف. ولكنه يحمل رؤية الفئات الجديدة التي برزت لتقود العمل الوطني. فانفتح الطريق أمامها.
فما هو الجانب الآخر من السياسة البريطانية نحو الدين؟