رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء

رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء


02-10-2006, 06:39 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=85&msg=1148446756&rn=5


Post: #1
Title: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: نهال كرار
Date: 02-10-2006, 06:39 AM
Parent: #0

ارض العجائب ... جنوب إفريقيا أرض الذهب والعاج

في إطار البعثات التي يرسلها “المركز العربي للأدب الجغرافي- ارتياد الآفاق” تجوّل الكاتب الروائي السوداني محسن خالد في جنوب افريقيا، وشملت رحلته ثلاث مدن أساسية هي جوهانسبورج، وبريتوريا، وكيب تاون، حيث زار معالم أساسية فيها، وكتب يومياته وانطباعاته عما رآه هناك في أماكن طالما قرأ عنها وظواهر طالما سمع بها، لاسيما في الحقبة السابقة على انهيار الأبارتهايد، أو نظام الفصل العنصري. ونص الرحلة سيصدر عن “دار السويدي” في ابو ظبي في عداد سلسلة “سندباد الجديد”. وهنا قطوف من رحلة الكاتب محسن خالد إلى جنوب افريقيا التي تعتبر الأولى لكاتب عربي منذ زمن طويل، ربما منذ أن زارها الأمير محمد علي باشا في عام ،1925 ووضع كتاباً عنها تحت عنوان “رحلة إلى جنوب افريقيا”. يقول الروائي محسن خالد:

منذ رؤيتي الأولى للناس، هنا، رأيتُ العنصرية فيهم منهارة، أصبحوا خليطاً من دون هُويَّة، عدا هُويَّة الإنسان المتكلِّم.
المتكلِّم بإحدى عشرة لغة هي: الإنجليزية، English، والأفريكانز Afrikaans، والهوسا Xhosa، والزولو Zulu، والسوتو الشمالي Northern Sotho، والسوتو الجنوبي Southern sotho، والتسونجا Tsonga، والفيندا Venda، والنيدبيلي Ndebele، وتسوانا Tshwana، وسويزي Swazi.
وجوهانسبرج مدينة ملتاعة، وناعسة في شبه خدر لملامح لاتينية، بفعل أشكال الناس المتكوِّنة من أوروبيين وأفارقة وآسيويين. وبنزولك في مطارها ستستغني عن هذه المفردة الطويلة، فهم يختصرونها ب”جوبيك” Jobec، ويعرفون أنّ الشخص غريب بنطقه للاسم كاملاً.
تضاريسها تطابق تضاريس القارة السمراء عند حوافها العليا، الجزائر وتونس والمغرب، لولا رفاه العمران هنا، وتطاول التكنولوجيا التي ساعدتهم أكثر على تذليل الهضاب والمرتفعات وتطويعها في كثير من التناسق.
أخذني “زكريا” سائق التاكسي لعمق المدينة، حيث فندق بروتيا.
ويشير إليّ زكريا بيده: هذا حي الصينيين. وبالفعل تشعر بأنك عبرت من خلال شارع آسيوي بكامل التقاليد، يمر موكبٌ موسيقي صيني، تلمح أُناساً زُرقاً هنا وهناك.
متاريس وحصون
يؤشِّر زكريا بيده من جديد، هنا حي الهنود. ويسترسل: لم يتم بيننا وبين الآسيويين انصهارٌ كما ينبغي، التداخل تم بين الأفارقة وأهل الأبارتيد.
قلتُ له، أعرف الآسيويين، سيعيشون معكم إلى الأبد وسيظلون كما ظلَّ اليهود يحلمون بخصوصية لهم على مرِّ التاريخ.
قال لي: أيام الأبارتيد، كانت هذه الأحياء كلها، بما فيها أحياؤنا، خنادق محفورة ضد بعضها بعضاً، لم يكن باستطاعة أي فرد من حي، أن يعبر إلى آخر، منذ الساعة السادسة مساء، وستُطلق النيران على أي متجول بين حي وآخر، الأوروبيون يتمركزون في حي سانتون، وسويتو الآن للأفارقة.

متحف الأبارتيد:

هو من أكثر متاحف جنوب افريقيا جدية، وخُصِّص له مبنى ضخم ومترامي الأنحاء.. الخضرة تُحيط به من كل ناحية، ويجاور مدينة شذور الذهب، إن جازت الترجمة، ال Gold Reef City ومدينة الألعاب والسحرة والرقص وكل ما يخطر ببالك من المتع الإفريقية والأوروبية، وفي داخلها أقيم متحف المناجم، الشيء الذي لا أظنه يتكرَّر في الدنيا، ولا أعتقد بأنَّ له مثيلا في أي مكان آخر عدا هذه المدينة، وسنعود لنستعرضه لاحقاً.
وهذا المعرض لا يُركِّز على الضحايا والسوء العنصري بقدر ما يتناول حياة بعض المساهمين في بناء جنوب افريقيا غير العنصرية. كما يقوم باستعراض الأبارتيد لجوار الأنظمة المشابهة له في العالم. في داخل المعرض يُوجد استعراض تاريخي لحركة السود بداخل أمريكا وكفاحهم نقطة نقطة، كما يقوم بالنظر إلى نظام الأبارتيد كذهنية ونقاش وليس كحالة مُشتكى منها وللعرض- فحسب، كما لمست في معظم المعارض الأخرى، وأيضاً يهتم بالجانب التاريخي للمسألة، بقراءة جنوب افريقيا تاريخياً، ويرد الحالة كلها إلى ظهور الذهب، فجوهانسبرج القديمة والتي كان اسمها في السابق ويت ووتر ساند، وعند اكتشاف الذهب فيها لم يتبدّل اسمها فقط، ولم تتأثَّر بهذا التغيّر جنوب افريقيا فحسب، بل العالم بأسره.
فخارطة جنوب افريقيا الإثنية كانت صافية الأفريكانية في عام 1887 إلا من بعض الأسر الأوروبية هنا وهناك. وباكتشاف الذهب تسارعت أعداد الأوروبيين في رنّة ذهب واحدة إلى ثلاثة آلاف أسرة. وبمرور تسعة أعوام فقط ارتفع الرقم إلى مائة ألف أوروبي.
وبدأ الصراع الأوروبي داخل القارة، وتقاتل الإنجليز والبوير في الحرب الشهيرة والمعروفة باسم “حرب البوير”.
وجرى قتال من لا يهمه شيء، البوير استخدموا تكتيكات الغوريلا كما يقول التاريخ، بينما الإنجليز اتبعوا طريقة “سياسة الأرض المحروقة” أي صراع من لا يهمهم الهدم والحرق والخراب، أو كما يقول مثلنا السوداني “جلداً ما جلدك، جُر فوقه الشوك”.
فدهسوا بذلك 30 ألف إقطاعية زراعية، ودمروا 20 قرية، وبكسب الإنجليز للحرب قاموا بوضع الجميع في معسكرات كالزرائب بما في ذلك الأفارقة والأفريكانيين إن جازت الترجمة، فهناك مصطلحان يستخدمان هنا، بالنسبة للمفردتين Africans بالنسبة للأفارقة الخُلَّص أو Afrikaner للمهجنين المستوطنين.
فكان مجموع هذه المعسكرات 44 معسكراً للبيض، و29 معسكراً للسود، هذا قبل إجراء المعاهدة الشهيرة بينهم عام 1902 والتي قادت إلى الاتحاد بين الإنجليز والبوير.

قانون عنصري:

المتحف يبدأ بالدخول إلى شبه أكشاك مسيّجة بالحديد، تم فيها تكبير بطاقات نظام الأبارتيد لتصبح واضحة جداً، ولتبيين تدرّجات الألوان التي كانت معتمدة من قبل لتصنيف قيمة الناس. تبدأ هذه البطاقات بألوان باهتة جداً تبدأ من أكثر الأشكال إفريقية وتمضي مرتفعة - كما يُراد لها- قليلاً قليلاً كلما كان للشخص تداخل بأعراق أخرى، أي الملونين، تبدأ كما قلنا من أقصى افريقيا وتمر عابرة بآسيا من خلال الهنود السود أو البنجاب وحتى الصينيين، بينما يعتبرون اليابانيين من البيض، وإلى أن تنتهي بالأوروبيين.
كما تُوجد هنا كنموذج، الفقرة الدستورية الأشد لؤماً وظلماً في تاريخ البلاد التي تعتبر أنها تحكم الآن من خلال النظام الديموقراطي الأرقى والأكثر كفاءة في العالم كله، لأنّ هذا البلد اختبر كافة أشكال وألوان الظلم والقمع، فخرج دستوره الحالي ناضجاً ومعافى من الأمراض جميعها. وهذه الفقرة قد بُروزت في خط عريض ووضعت في مدخل معرض البطاقات، وكان برلمان الأبارتيد الكولونيالي House of Assembly قد ناقشها وأجازها في إحدى جلساته بتاريخ 15 مارس/آذار ،1950 وهي تقول: “الرجل الأبيض سيِّدٌ في جنوب افريقيا، من صميم طبيعة “أصله''، ومن صميم طبيعة “ميلاده”، ومن صميم طبيعة و''صايته” سيظل سيِّداً حتى النهاية”.
وهذه العبارة لم تكن المدخل إلى هذا المعرض فحسب، وإنما كانت المدخل إلى جنوب افريقيا كلها، والموجز لما كان يجري فوق هذه الأرض، ولسمعة هذا البلد بالخارج.

شخصيات بارزة:

وبالخروج من هذه القاعة تلتقي بالمدرّج المعدّ للشخصيات التي أسهمت في بناء جنوب افريقيا. وهنا أعدّوا أقفاصاً من المرايا، تحمل صورة الشخص من قفاه ومن أمامه، بعضهم حين كان طفلاً وبعضهم عند شبابهم، وآخرون في شيخوختهم، مع ملاحظة أنّ الجدار الممتد بمحاذاة هذه الصور -التي تبدو كالتماثيل من خلال تلك الزوايا المقطعية التي أُخذت بها- يقوم فيه معرضٌ مذهل، الجدران مجوّفة أو مفرّغة فيما يشبه الأفران البدائية، التي تصنع داخل الجدران، ثم قام فنانون كبار إما بالتلوين عليها، أو بالنقش والنحت على هذه الجدران. وهنا السمة الثانية لأي متحف داخل جنوب افريقيا، فمتاحفهم كلها تتميز بمعارض تشكيل مجاورة، وبمتاجر فنيّة لبيع لوحات ومشغولات فنية وتحف وهدايا، من نفس مادة المتحف، ليشتريها الزوّار والسياح كذكريات عن هذه المتاحف.
الشخصيات هنا كثيرة جداً ولكن من أكثر الشخصيات التي لفتت انتباهي مويرا Moira Seligman حفيدة هيرمان مؤسّس مدينة صوفيا عام 1897 ومساند البوير الشهير في الحرب الأنجلوبويرية، وقد سمَّى هذه المدينة “صوفيا تاون” على اسم زوجته صوفي التي جاء والداها، أبوها “وولف” وأمها اليهودية “جولدا ميلر”، إلى جنوب افريقيا في ثمانينات القرن التاسع عشر، وتعتبر أول امرأة يهودية تصل إلى جوهانسبرج. أما بحلول عام 1905 فقد كان هناك 6 آلاف مهاجر يهودي بجنوب افريقيا. ومعرض الشخصيات هذا مجاورٌ وفي الصالة نفسها التي خُصِّصت لتناول نضال السود في أمريكا، والمعرض يبدأ بتلك الملابس البيضاء - الشبحية - التي كان يرتديها بيض أمريكا في هجوماتهم الليلية على أماكن وجود السود لقتلهم وتعذيبهم، وما جسّدته السينما الأمريكية كثيراً في تناولها لتاريخ أمريكا القريب وتاريخ الحرب الأهلية، هذا المعرض مخصّص لمناقشة هذه الذهنية الإنسانية المريضة والاقصائية، شخصية الخوف المطلق، لأنّ العنصري هو في الحقيقة شخصية رهابية بامتياز، لدرجة أن يشعر بالخوف والتهديد من مجرّد وجود إنسان لا يشبهه.


يتبع

Post: #2
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: نهال كرار
Date: 02-10-2006, 06:40 AM
Parent: #1

تحديث النظام العنصري:

الصالة أو البهو العملاق، ممكننة وفي قمة الرفاه التكنولوجي، والسيور حاملة التوجيهات وخرائط المبنى من نوع تلك اللوحات الضوئية الكبيرة في المطارات تلف مضيئةً ومقدّمةً المعلومات للزوّار. تواجهك في المقدمة سلسلة أخرى من الصالات المتصلة ببعضها بعضاً، مدرّعة أو مجنزرة من هالك نظام الأبارتيد، كانت تستخدم في قمع المظاهرات ودهسها، وللخلف منها قليلاً تُوجد غرفة سلاح ضخمة، مخصّصة لجميع المسدّسات وأنواع البنادق التي كانت تستخدمها الشرطة الكولونيالية، ثم تقودك الدهاليز نفسها وأجهزة الفيديو والشاشات الضخمة تقدّم مادةً صورية وتفسيرية وحتى شخصيات من التي ذكرناها وغيرها تتكلم عن ذلك النظام الجهنمي.
الصالة التي بعدها مُخَصَّصَة لشخصيات سوداء وبيضاء لتاريخها صلة بالعمل ضد النظام الكولونيالي، وأشهر شخصية هنا هو هاندريك فيروورد رئيس وزراء جنوب افريقيا عام ،1957 والذي حاول مجرّد عمل تحديث للأبارتيد، لما أدركه بوعيه من كون هذا النظام لن يصمد في وجه العالم الجديد وحركات التحرر التي كانت تذرع الدنيا عرضاً وطولاً، ونظراً لأنّ الدنيا جاءت من عهد العصور الوسطى دون شك. وهاندريك ليس بالرجل الجاهل، فهو بروفيسور في علم النفس الاجتماعي، ومجال تخصّصه “النوع - العنصر، أو الريس”. كما أنَّه كان يفهم بالقطع طبيعة أولئك الهمج العنصريين الذين كانوا يسيطرون على جنوب افريقيا، لذا مع أول محاولة منه قلنا لمجرّد عمل “ديكوريشن” لفجاجة نظام الأبارتيد، كان الرد عليه هو محاولة اغتياله بعد عودته من زيارة إلى شارفيل وأنت تشاهد على شاشات العرض العملاقة أحاديثه وخطبه، وحتى موته وسقوطه صريعاً أمام الناس كالرئيس السادات، إذ إنّ المحاولة الثانية لاغتياله لم تخب، فالرجل الذي قام بها هو ديمتري أحد أعضاء برلمان جنوب افريقيا في العام 1966 والذي قام بتصفيته بمسدس أثناء إحدى جلسات البرلمان.

ستيف بيكو في هوليوود:

وصالة تلو صالة يتابع المعرض آليات وسبل فرض نظام الأبارتيد، حتى يصل إلى مراحل النضال وتكوين حزب المؤتمر، خلاياه وعمله السري، والطلابي، وحتى مرحلة المواجهات اليومية والفارطة، حتى الذروة، وفشل كل وسائل القمع والإبادة والتعذيب في إيقاف الأمور والثورة، وإلى أن تصل شعارات شهداء افريقيا وحزب المؤتمر، الذين يتربّع على قمتهم بالطبع ستيف بيكو، المعروف جيداً في العالم كله، ومن اغتيل في سجون العنصريين، ومن قامت السينما الأمريكية بتقديمه عبر فيلم ضخم وشهير، لعب دور ستيف فيه الممثل الأميركي دينزل واشنطون الحائز لجائزة الأوسكار. وكذلك الشهيد الطفل والتلميذ هيكتور بيترسون وآشلي كريل وفيوزيلي ميني وليليان نجوي، كما يُوجد أرشيف بكل المفاوضات التي جرت حتى الوصول إلى الاتفاقية الخاتمة التي أنهت نظام الأبارتيد إلى الأبد، والتي جرت بين ديكلرك ومانديلا، وتربّع إثرها نيلسون رئيساً لوزراء جنوب افريقيا غير العنصرية.
وبهذه الخاتمة للمتحف، تجد نفسك في نهاية الجهة الأخرى للمبنى العملاق، حيث توجد كما في كل متاحف جنوب افريقيا دكاكين صغيرة لبيع الهدايا الفنية والمشغولات من مادة المتحف، ثم مكتبة لمن شاء أن يشتري كتباً معيّنة حول المواد الثقافية المطروحة في المتحف.

حتى الزنازين عنصرية:

الزنازين فيه كانت بعرض 3 أمتار في طول 3 أمتار بالنسبة للمعتقلين البيض، وبعرض 2 ونصف متر في طول متر بالنسبة للسود. الخلية التي كان يُعتقل فيها مانديلا معروفة باسم الخلية رقم ،4 وهو كان معتقلاً في قسم البيض وليس مع السود لحجبه عن الاتصال بشعبه وللمزيد من إهانته، حيث أمضى زمناً طويلاً قبل أن يتم ترحيله إلى جزيرة روبن بمدينة الكاب، وكذلك المهاتما غاندي الذي جاء به الاستعماريون الإنجليز إلى هذه التلَّة كي يتم لهم حذفه من الوجود والعالم، والمهاتما كان موضوعاً مع السود لأجل منعه من الاتصال بالمناضلين الآخرين من البيض، ولجعل اللغة حاجزاً بينه وبين من يساكنهم من الزنوج.
والحمّامات مفتوحة وفي صف طويل، بحيث لا يحجبك شيءٌ عَمَّن يجاورك، كما أن هناك قائمة بطريقة التغذية التي كانت متبعة هناك، وتقريباً الأسود لا يأكل شيئاً، ولا تدري كيف كان يعيش، من دون خبز وسكريات على الإطلاق.
وحالياً أضافوا إلى المكان متجراً يمكنك أن تشتري منه بعض الكتب والكتابات والشعارات المرسومة على الملابس، أي تمّت عولمة النضال وتسويقه كمنتج استهلاكي.
أما قسم السجينات السوداوات فيبدو أكثر فاجعة من قسم البيضاوات المجاور له، وهنا تطالعك الأسماء الشهيرة والمعروفة لمناضلات بوزن “نولندي” و”سيبنجولي” و”ياني” و”ليليان” و”ألبرتينا”. وفي الفناء الثالث، هناك قسم أرشيفي خاص بالمقتنيات، وأيضاً تطالعك صورة الزعيم غاندي، وأشياء أخرى أو حتى مشغولات فنية ومجسمات قمن بإنجازها أثناء فترات العقوبة.
معرض هيكتور بيترسون: أخبروني أنه يقوم في حي سويتو البعيد قليلاً، ورافقني إليه سائق التاكسي بيتر، قلت له في الطريق: ماذا الآن يا رجل؟ ها أنتم بخير ومعكم وطن حر وديمقراطي.
فأجاب: ولكن معنا أحزاناً لن تزول قريباً، وأشار إلى المناجم التي تُحيط بجوهانسبرج، والتي أغلقوها بعد نمو حركة العمران فيها، وبعد ترهُّل المدينة بشكل عام، فالسود الذين كانوا منفيين خارج المدينة رحلوا إلى داخلها من جديد مع تغيرات الأوضاع، وسقوط نظام الأبارتيد.
قلت له: ماذا؟ قال لي: إن هذه المناجم لم تُدفن هكذا بحركة سلمية تدعم نمو هذه المدينة وحركة العمران فيها وحسب، أبداً، الأمر ليس بكل هذه الكمية من الطيبة، مدافن الذهب القديمة هذه هي باختصار تُمَثِّل الآن مقابر عشرات الآلاف من أبناء افريقيا. هؤلاء ليسوا بغباء الصرب وبيض أمريكا ليخلفوا مدافن جماعية، لتكتشف في مقبل الأيام كما قُدِّر لمذابح التاريخ الجماعية كلها أن تُكتشف وتدان. الأمر هنا مختلف يا مستر خالد، لقد جاءوا بالمناضلين هنا وصبوهم مع مواد التعدين الكيميائية والمُذيبة في باطن الأرض، كي لا يُكتشفوا مطلقاً وإلى الأبد. وبيتر رجل ذكي، التفت وسألني: هل تزور قبور أقربائك الراحلين؟
نعم يا بيتر، أمي تحديداً أزورها وأجلس معها أكثر مما كنت أفعل وهي في الحياة، أما أبي فمدفون في مكان بعيد، ومع ذلك ربما زرتُه خمس أو ست مرات.
تركته لألتقط صوراً للمناجم التي أُغلقت جميعاً، واستحالت إلى منشآت ومبانٍ مدنية وأحياء، إذ لا يُمكن أن تتم حركة تعدين بجوار المدينة.
وحي سويتو وحده يبدو كمدينة كاملة، وهذا شيء يُمَيِّز مدن جنوب افريقيا كلها، الضخامة والاتساع، خصوصاً مدن المقدمة الأربع، جوهانسبرج والكاب تاون وبريتوريا، وديربن. بعد فراغي من التصوير بداخل متحف هكتور بيترسون، خرجت لشارع الأنتيكات والتحف الفنية، هنا المكان ذكّرني كثيراً بجنوب السودان، الفيلة والزراف والحيوانات، والأقنعة الإفريقية المتعلّقة بالطقوس والتي هي أم الأقنعة في الدنيا، الراقصون، الخرز والسكسك، بهاء الفنون كله، المصاغ من الأبنوس والمهوقني، وأشجار أخرى لا علم لي بها.

يوم في “سجن”

تلّة الدستور، التي كانت سجناً كئيباً دخله أشهر المناضلين ضد الثقافة الاستعمارية في التاريخ الحديث، وهما مانديلا وغاندي.
هذه التلَّة تقع على الشارع الذي يحمل اسم جون كويتزي الكاتب الجنوب إفريقي الحائز لجائزة نوبل، ولم أكن أعرف أنها مجاورة لفندق بروتيا، بل على بُعد خُطوات، ذهبت إلى أحد سائقي التاكسي، وقلت له: اذهب بي إلى التلَّة، ولم يوضّح لي أبداً أنها إلى يمين مدخل فندقي مباشرة، بل أعطاني إحساس من سيذهب بي إلى مكان بعيد بدايةً وفي غاية الأهمية النائية عن هنا، لفَّ من شارع تلو شارع، وجاء بي من ناحية لا يمكن لغريب أن يكتشف أنها مجاورة لمكان إقامته، تناقشنا حول هيكتور بيترسون، الذي تشابه قصته قصة الشهيد القرشي عندنا كسودانيين كثيراً، أول طالب يُرمى بالرصاص شهيداً عند اندلاع الثورة، ضد التعليم باللغة الإنجليزية، كانت المطالبة بأن يتم تعليم الأفارقة بلغاتهم، قال لي السائق: إن متحف هكتور بيترسون بعيد جداً، يبعد نحو ثلاثين كيلومترا من هنا، ليعطيني رقم تلفونه بعدها وينصرف بعد أن يُشير إلى بوابة المكان، أي تلَّة الدستور، فأجدها منيعة تعبر عن روح المعمار هنا، بل ولا يمكن لأحد اكتشافها كما أراني الدليل كيفية نمو الأماكن المجاورة لهذا المكان، فقد كان بالأساس مكاناً سرياً وقلعة حصينة من دون شك، كما أوضح لي الدليل.
جعلوني أدفع 15 رانداً من دون أن يجاوبوا عن سؤال من هو كويتزي المسمَّى الشارع باسمه، ليدخلوني بعد ذلك إلى قاعة جميلة تُعرض فيها بعض الأفلام الوثائقية التي تتحدث عن تاريخ القلعة حين كانت سجناً، والمعاناة التي كانت توّفرها للمناضلين والمقاتلين ضد نظام الأبارتيد، وأسماء المناضلين والمناضلات من السود والبيض وغيرهم، الذين كانوا مسجونين هنا.


جريدة الخليج

Post: #3
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: Tragie Mustafa
Date: 02-10-2006, 07:35 AM
Parent: #2



شكرا نهال كرار

لنقلك المقال

وشكرا اديبنا ورحالتنامحسن خالد

لاشراكك لنا في التعرف على تلك البقعه الفريده من العالم جنوب افريقيا.

لكم احلم ان ازورها ان مد الله في العمر.

تراجي.

Post: #4
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: عاطف عبدالله
Date: 02-10-2006, 12:26 PM
Parent: #3

الأخت نهال
شكرا لك وأنت تكرمينا بهذا المقال للرائع محسن خالد ولكن ..
المقال تعرض لكثير من القطع والبتر على أيدي القائمين على صحيفة الخليج الإماراتية ..
عليه أتمنى من الأخ الصديق محسن خالد بأن يتولى هنا نشر المقالات كاملة وبالصور كمان لمشاهداته في الجنوب الأفريقي
هذا لا يقلل من جهدك في نقل المقال هنا ، مع وافر أحترامي لك

Post: #5
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 02-10-2006, 01:43 PM
Parent: #4

شكرا نهال.. شكرا عاطف للتنويه.. إذ كنت أحس في قرارة نفسي وكأن شيئا ما يخل بإيقاع الكتابة هنا ولا أدري أين ذهب محسن خلال اليومين الماضيين وترك الحفلة رابة بهناك (وجه ضاحك)!.

Post: #6
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: محمدين محمد اسحق
Date: 02-10-2006, 03:18 PM

اختي نهال كرار ..لك التحية والتقدير ..
وتحية تقدير أخري للأخ محسن خالد ......

ما قرأته من اقتباسك لمقال محسن خالد زاد ايماني
أكثر بأنه لا توجد ارض رحبة في هذا الكون تسع الضحية
والجلاد معأ سوي افريقيا ..ولم أري اناس لديهم رحابة الاحتفاء
و السعة مثل هؤلاء الأفارقة ..
فطوبي لهم ..وطوبي لمن ساكنهم وخالطهم..

Post: #7
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: القلب النابض
Date: 02-10-2006, 09:33 PM
Parent: #6

العزيزة نهال كرار

جزاك الله خيراً وانت توصلينا بهذه الأفكار الكبيرة والرؤية من وراء الأشياء

التحية لك ولمحسن خالد

سلام من الله عليكم

Post: #8
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: عمر الفاروق
Date: 02-11-2006, 00:50 AM
Parent: #1

نهال كرار :
أصبأت عن دين اباءك وأجدادك ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

Post: #9
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: محسن خالد
Date: 02-11-2006, 03:06 AM
Parent: #8

...

نهال كَرَّار، ست الدار، تحياتي ومرحبا،..
شكراً وافياً على نقلك لهذا المقال، وكوني بخير أبداً بخير،..

Tragie Mustafa،..
تحياتي وأتمنى لك زيارة تلك البلاد، فهي إمكانات أوربا في إفريقيا،..
بذهابي إليها أدركت أنّ تاريخ النضال في تلك البلاد لا يمكن مقايسته بأية مكان آخر،..

الروائيان عاطف عبد الله والبرنس، إزيكما، غايتوالكاتب البقولوا ليهو إنت صحفي انتهوا منو خلاص،..
لما أنشر مقالي الكتبتو وما كتبو لي صحفي حينها تنجلي طلاسم القطع واللصق، الجماعة ديل بتكون عندهم مساحة، ويجذوا يجذوا، لاحدي الكلام ما يطلع قدر المساحة، يلصقوا الصور والسلام،..


محمدين محمد اسحق،...
تحياتي يا رجل، وأتمنى أن تقودك الأيام إلى هناك، وما أجمل ما قلته، ذاك كائن، وبكل رحابة صدر ومحبّة،..

القلب النابض،..
والتحية لك وكوني بخير أبداً، ولك التحايا


عمر الفاروق،..
إزيك يا عمر،
يا بنيّ ما تبحر معنا، أنا عازمك صبيان،..
..

سأقوم بإنزال المادة التي كتبتها بنفسي بدون حذوفات والمنشورة بخصوص مدينة جوهانسبيرغ، وعلى التوالي مع كل جمعة سأقوم بإنزال المادة المتعلّقة بموضوع الحلقتين القادمتين عن الكاب تاون وبريتوريا، لو نشرتها كلها هسع بضبحوني،..


...

Post: #10
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: bayan
Date: 02-11-2006, 04:06 AM
Parent: #9

الحبيبة نهال

سعدت بالسياحة بعيون محسن.. شكرا لك كثيرا

قد كانت لي صديقة هندية من جنوب افريقيا كان حلمها في فيلادلفيا ان تسكن في

"وياتنيبرهود" ما ان تجد شقة خالية وتتصل تكون قد أخذت.. (وش متحير)

الهنود الذين يسكنون هناك هم اكثر الناس عقدا في العالم ..
ودائما يودون الا يعدوا مع السود...

شكرا لك نهال
مودة كثيرة

Post: #11
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: محسن خالد
Date: 02-11-2006, 07:02 AM
Parent: #10

..


تحياتي يا دكتورة بيان،..

كوني بخير،..

بس هسع الهنود والبيض -أولاد اللذينة- كلهم يتمنوا حاجةً تشربكم مع السود في جنوب إفريقيا، أمانة أولاد أعمي ما ضفرو الخلق دي جنس ضفر؟
عارفة في الأحداث القوية عام 96 في ناس "بيض" تركت حتى بناياتها وعماراتها، ما معروف سيدها منو،..

وكت الكوع يحر نحجا العروض ونصينها،..

أفى ما قال العبادي،.

شوية وننزل الفصل من قلمو

أنوّه إنو دي كتابة مشاهدات كما ذكر صديقي الروائي عاطف عبد الله، ما شفتنه بتاعة كتابة، وإنما نقل القارئ إلى حيث كنت،

...

Post: #12
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: محسن خالد
Date: 02-11-2006, 07:11 AM
Parent: #11

..

منذ رؤيتي الأولى للناس رأيتُ العنصرية فيهم منهارة، أصبحوا خليطاً دون هويّة، عدا هُويّة الإنسان المتكلّم...
المتكلِّم بإحدى عشرة لغة هي: الإنجليزية، 1- English، الأفريكانز 2- Afrikaans، والهوسا 3- Xhosa، والزولو 4- Zulu، السوتو الشمالي 5- Northern Sotho، والسوتو الجنوبي 6- Southern sotho، والتسونغا 7- Tsonga، والفيندا 8- Venda، والنيدبيلي 9- Ndebele، وتسوانا 10- Tshwana، وسويزي 11- Swazi.
جوهانسبيرج مدينة ملتاعة، وناعسة في شبه خدر لملامح لاتينية، بفعل أشكال الناس المتكوّنة من أوروبيين وأفارقة وآسيويين، بنزولك لمطار جوهانسبيرغ ستستغني عن هذه المفردة الطويلة، فهم يختصرونها لـ"جوبيك Jobec"، وهم يتعرّفون على أنّ الشخص غريباً بنطقه للاسم كاملاً...
تضاريسها تطابق تضاريس القارة السمراء عند حوافها العليا، الجزائر وتونس والمغرب، لولا رفاه العمران هنا، وتطاول التكنولوجيا التي ساعدتهم أكثر على تذليل الهضاب والمرتفعات وتطويعها في كثير من التناسق،..
أخذني "زكريا" سائق التاكسي، الذي شاغبته قائلاً...
Too much white people, who are them?
ففهم الملعون قصدي وأجابني فوراً: no more fighting man
سألته، أحقاً أصبح الجميع لا يرغبون في القتال؟
قال نعم. رأيتُ الشوارع هادئة، القليل من البيض يصادفونك في الـ down town..
كنا في طريقنا لعمق المدينة الـ down town، حيث فندق بروتيا Protea Hotel
يشير إليّ زكريا بيده: هذا حي الصينيين، وبالفعل تشعر بأنك عبرت من خلال شارع آسيوي كامل القِصَر والتقاليد، يمر موكبٌ موسيقي صيني، تلمح أُناساً زُرقاً هنا وهناك،....
يؤشِّر زكريا بيده من جديد، هنا حي الهنود...
يسترسل لم يتم بيننا وبين الآسيويين انصهارٌ كما ينبغي، التداخل للغرابة تم بين الأفارقة وأهل الأبارتيد،..
قلتُ له، أعرف الآسيويين هؤلاء، سيعيشون معكم إلى الأبد وسيظلون كما ظلَّ اليهود يحلمون بخصوصية لهم على مرِّ التاريخ،..
قال لي: أيام الأبارتيد، كانت هذه الأحياء كلها، بما فيها أحياؤنا، خنادق محفورة ضد بعضها بعضاً، لم يكن باستطاعة أي فرد من حي، أن يعبر لآخر، منذ الساعة السادسة مساء، ستُطلق النيران على أي متجول بين حي وآخر، الأوربيون يتمركزون في حي سانتون، وسويتو الآن للأفارقة،..
بفندق بروتيا، المطل على حديقة جميلة، لولا أنك تلمح ما يشبه السياجات، السياجات هنا ملمح أساسي من ملامح المعمار الكولنيالي السابق، لدى دخولك المتاجر تلمس التحصينات، البنوك والشركات، المؤسسات، وكل شيء، بُني وفي الخاطر أنه قلعة أو متراس، التوقع لهجوم هو روح المعمار هنا،..
الكنيسة المواجهة لفندق بروتيا تنطبق عليها هذه الوصفة أيضاً، ينهض أمامها تلتوار ضخم، وينزلق في شارع ضيق لأجل التحكم فيمن يمر به، لينتهي بمبنى بداخل الأرض، يلوح جميلاً وفاتناً لأنّ مجموعة من العشبيات المزهرة تُشكّل بساطاً مفروشاً أمامه، من خلف المبنى مباشرة ينهض مسرح سيفيك العملاق، والراقي في آن، بذهابي إليه مساءً سأصادف عرضاً لبعض أعمال شكسبير، اسكتشات مسرحية مأخوذة بتفرق من أعماله،…
أعجبتني تلك الكنيسة المواجهة للفندق لدرجة أنني ذهبت وصليتُ فيها، تشبه المساجد كثيراً، وإن بنكهة تلك المسلات البنائية التي نراها في الريف النمسوي، ثم يقودك الشارع مباشرة إلى قصر الجوريسمJorissem Palace المبنى العظيم، والفاره والقلعة هو الآخر، مدخله كمتاريس الحرب العالمية الثانية بوسط أوربا،...
متحف الأبارتيد Apartheid Museum
هو من أكثر متاحف جنوب إفريقيا جدية، وخُصِّص له مبنى ضخم ومترامي الأنحاء، الخضرة تُحيط به من كل ناحية، ويجاور مدينة شذور الذهب، إن جازت الترجمة، الـGold Reef City..
مدينة الألعاب والسحرة والرقص وكل ما يخطر ببالك من المتع الإفريقية والأوربية، والتي يُوجد بداخلها متحف المناجم، الشيء الذي لا أظنه بالمكرَّر في الدنيا، ولا أعتقد بأنَّه يُوجد في أي مكان آخر عدا هذه المدينة، وسنعود لنستعرضه لاحقاً...
هذا المعرض لا يُركِّز على الضحايا والسوء العنصري بقدر ما يتناول حياة بعض المساهمين في بناء جنوب إفريقيا غير العنصرية، كما يقوم باستعراض الأبارتيد لجوار الأنظمة المشابهة له في العالم، فبداخل المعرض يُوجد استعراض تاريخي لحركة السود بداخل أمريكا وكفاحهم نقطة نقطة، كما يقوم بالنظر إلى نظام الأبارتيد كذهنية وكنقاش وليس كحالة مُشتكى منها و-للعرض- فحسب، كما لمست في معظم المعارض الأخرى، أيضاً يهتم بالجانب التاريخي للمسألة، بقراءة جنوب إفريقيا تاريخياً، ويرد الحالة كلها، إلى ظهور الذهب، فجوهانسبيرج القديمة والتي كان اسمها في السابق ويت ووتر ساند Witwatersrand باكتشاف الذهب فيها لم يتبدّل اسمها فقط، ولم تتأثَّر بهذا التغيّر جنوب إفريقيا فقط، بل العالم بأثره...
فخارطة جنوب إفريقيا الإثنية كانت صافية الأفريكانية في عام 1887م إلا من بعض الأسر الأوربية هنا وهناك، وباكتشاف الذهب تسارعت أعداد الأوربيين في رنّة ذهب واحدة إلى ثلاثة آلاف أسرة، وبمرور تسعة أعوام فقط ارتفع الرقم إلى مائة ألف أوروبي،..
ثم بدأ الصراع الأوربي داخل القارة، وتقاتل الإنجليز والبوير في الحرب الشهيرة والمعروفة باسم حرب البوير،..
وجرى قتال من لا يهمه شيء، البوير استخدموا تكتيكات الغوريلا كما يقول التاريخ، بينما الإنجليز اتبعوا طريقة "سياسة الأرض المحروقة" Scorched earth policy أي صراع من لا يهمه نتائج الهدم والحرق والخراب، أو كما يقول مثلنا السوداني "جلداً ما جلدك، جُر فوقه الشوك"،..
فدهسوا بذلك 30 ألف إقطاعية زراعية farmsteads ودمروا 20 قرية، وبكسب الإنجليز للحرب قاموا بوضع الجميع في معسكرات كالزرائب بما في ذلك الأفارقة والأفريكانيين إن جازت الترجمة، فهناك مصطلحان يستخدمان هنا، بالنسبة للمفردتين Africans بالنسبة للأفارقة الخُلَّص أو Afrikaner للمهجنين،..
فكان مجموع هذه المعسكرات 44 معسكراً للبيض، و29 معسكراً للسود، هذا قبل إجراء المعاهدة الشهيرة بينهم عام 1902م والتي قادت للاتحاد بين الإنجليز والبوير.
المتحف يبدأ بالدخول إلى شبه أكشاك مسيّجة بالحديد، تم فيها تكبير بطاقات نظام الأبارتيد لتصبح واضحة جداً، ولتبيين تدرّجات الألوان التي كانت معتمدة من قبل لتصنيف قيمة الناس، تبدأ هذه البطاقات بألوان باهتة جداً من أكثر الأشكال إفريقيةً وتمضي مرتفعة –كما يُراد لها- قليلاً قليلاً كلما كان للشخص تداخل بأعراق أخرى، أي الملونين، تبدأ كما قلنا من أقصى إفريقيا وتمر عابرة بآسيا من خلال الهنود السود أو البنجاب وحتى الصينيين، بينما يعتبرون اليابانيين من البيض، وإلى أن تنتهي بالأوربيين،..
البطاقات المستخدمة هنا، كلها بطاقات حقيقية ولأشخاص حقيقيين تم تكبيرها لأجل العرض فحسب. محطة البطاقات هذه هي المحطة الأولى التي يبدأ بها المعرض، وهي مسيّجة بأعمدة ودرابزين من الصلب، كي لا يتم لمسها فتتلف.
كما تُوجد هنا كنموذج، الفقرة الدستورية الأشد لؤماً وظلماً من تاريخ البلاد التي تعتبر الآن تُحكم من خلال واسطة النظام الديموقراطي الأرقى والأكثر كفاءة في العالم كله، لأنّ هذا البلد اختبر كافة أشكال وألوان الظلم والقمع، فخرج دستوره الحالي ناضجاً ومعافى من الأمراض جميعها، هذه الفقرة قد بُروزت في خط عريض ووضعت في مدخل معرض البطاقات، وكان برلمان الأبارتيد الكولونيالي House of Assembly قد ناقشها وأجازها في إحدى جلساته بتاريخ 15 مارس 1950م، وهي تقول:
The white man is master in South Africa, and the white man, from the very nature of his origins, from the very nature of his birth, from the very nature of his guardianship will remain master in South Africa to the End.
(الرجل الأبيض سيِّدٌ في جنوب إفريقيا، من واقع طبيعة "أصله"، ومن واقع طبيعة "ميلاده"، ومن واقع طبيعة و"صايته" سيظل سيِّداً حتى النهاية)،...
وهذه العبارة لم تكن المدخل إلى هذا المعرض فحسب، وإنما كانت المدخل لجنوب إفريقيا كافّة، والموجز لما كان يجري فوق هذه الأرض، ولسمعة هذا البلد بالخارج.
بالخروج من هذه القاعة تلتقي بالمدرّج المعدّ للشخصيات التي أسهمت في بناء جنوب إفريقيا، وهنا قد أعدّوا أقفاصاً من المرايا، تحمل صورة الشخص من قفاه ومن أمامه، بعضهم حين كان طفلاً وبعضهم حين شبابهم، وآخرون حين شيخوختهم. مع ملاحظة أنّ الجدار الممتد بمحاذاة هذه الصور -التي تبدو كالتماثيل من خلال تلك الزوايا المقطعية التي أُخذت بها- يقوم فيه معرضٌ مذهل، الجدران مجوّفة أو مفرّغة فيما يشبه الأفران البدائية، التي تُصنع داخل الجدران، ثم قام فنانون كبار إما بالتلوين عليها، أو بالنقش والنحت على هذه الجدران. وهنا السمة الثانية لأي متحف داخل جنوب إفريقيا، فمتاحفهم كلها تتميز بمعارض تشكيل مجاورة، وبمتاجر فنيّة لبيع لوحات ومشغولات فنية وتحف وهدايا، من نفس مادة المتحف، ليشتريها الزوّار والسياح كذكريات عن هذه المتاحف.
هذا المدرّج إسفلتي طويل ويتصاعد تدريجياً ليقودك إلى داخل متحف الأبارتيد من الجهة الثانية، والمادة المعروضة في أول صالة المتحف هي شخصيات هذا المدرّج وبعض متعلقاتهم مع قصصهم وإيضاحات حول إسهاماتهم في بناء جنوب إفريقيا غير العنصرية، الشخصيات هنا كثيرة جداً ولكن من أكثر الشخصيات التي استوقفتني مويرا Moira Seligman حفيدة هيرمان Lithuanian Herman Tobiansky مؤسّس مدينة صوفيا عام 1897م ومساند البوير الشهير في الحرب الأنجلوبويرية، وهو قد سمَّى هذه المدينة "صوفيا تاون" على اسم زوجته Sophy التي جاء والداها، أبوها "وولف" وأمها اليهودية "قولدا ميلر"، إلى جنوب إفريقيا في ثمانينات القرن التاسع عشر، وتعتبر أول إمرأة يهودية تصل جوهانسبيرغ، أما بحلول عام 1905م فقد كان هناك 6000 مهاجر يهودي بجنوب إفريقيا.
ومعرض الشخصيات هذا مجاورٌ وفي نفس الصالة التي خُصِّصت لتناول نضال السود في أمريكا، هنا المعرض يبدأ بتلك الملابس البيضاء –الشبحية- التي كان يرتديها بيض أمريكا في هجوماتهم الليلية على أماكن وجود السود لقتلهم وتعذيبهم، ما جسّدته السينما الأمريكية كثيراً في تناولها تاريخ أمريكا القريب وتاريخ الحرب الأهلية. هذا المعرض كما أسلفت هو مخصّص لمناقشة هذه الذهنية الإنسانية المريضة والإقصائية، شخصية الخوف المطلق، لأنّ العنصري هو في الحقيقة شخصية رهابية بامتياز، لدرجة أن يشعر بالخوف والتهديد من مجرّد وجود إنسان لا يشبهه.
بعودتك من نفس فسحة الصالة، لدخول المعارض المخصّصة في شكل سياجات كالغرف، هنا كل شيء محمي بالخرسانة والصلب والدرابزين والجنازير الغليظة، يا رب محمد ويسوع، هذه البلاد كانت حظيرة وترسانات في وجه كلا الفريقين، فالعيش وسط أجواء –ترسانات- كهذه يقع مفعوله على الجميع، وبدون استثناء، فإن كان الأسود سيكون هو المنفي بخارج هذه التحصينات، فإن الأبيض سيكون هو المُعَلَّب بداخلها.
الصالة أو البهو العملاق، ممكننة وفي قمة الرفاه التكنولوجي، والسيور حاملة التوجيهات وخرائط المبنى من نوع تلك اللوحات الضوئية الكبيرة في المطارات تلف مضيئةً ومقدّمةً المعلومات للزوّار. تواجهك في مقدمة سلسلة أخرى من الصالات المتصلة ببعضها بعضاً، مدرّعة أو مجنزرة من هالك نظام الأبارتيد، كانت تستخدم في قمع المظاهرات ودهسها، وللخلف منها قليلاً تُوجد غرفة سلاح ضخمة، مخصّصة لجميع المسدّسات وأنواع البنادق التي كانت تستخدمها الشرطة الكولونيالية، ثم تقودك الدهاليز نفسها وأجهزة الفيديو والشاشات الضخمة تقدّم مادةً صورية وتفسيرية وحتى شخصيات من التي ذكرناها وغيرها تتكلم عن ذلك النظام الجهنمي الـHellish.
الصالة التي بعدها مُخَصَّصَة لشخصيات سوداء وبيضاء لتاريخها صلة بالعمل ضد النظام الكولنيالي، وأشهر شخصية هنا هو Hendrik Verwoerd رئيس وزراء جنوب إفريقيا عام 1957م، والذي حاول مجرّد عمل أبديتنغ للأبارتيد، لما أدركه بوعيه من كون هذا النظام لن يصمد في وجه العالم الجديد وحركات التحرر التي كانت تذرع الدنيا عرضاً وطولاً، ونظراً لأنّ الدنيا كانت قد جاءت من عهد العصور الوسطى دون شك، وهاندريك ليس بالرجل الجاهل، فهو بروفيسور في علم النفس الاجتماعي، ومجال تخصّصه "النوع –العنصر، أو الريس". كما أنَّه كان يفهم بالقطع طبيعة أولئك الهمج العنصريين الذين كانوا يسيطرون على جنوب إفريقيا، لذا مع أول محاولة منه قلنا لمجرّد عمل ديكوريشن لفجاجة نظام الأبارتيد، كان الرد عليه هو محاولة اغتياله بعد عودته من زيارة إلى شارفيل Sharpeville وأنت تشاهد على شاشات العرض العملاقة أحاديثه وخطبه، وحتى موته وسقوطه صريعاً أمام الناس كالرئيس السادات، إذ إنّ المحاولة الثانية لاغتياله لم تخب، فالرجل الذي قام بها هو ديمتري "Dimitri Tsafendas" أحد أعضاء برلمان جنوب إفريقيا في العام 1966م والذي قام بتصفيته بمسدس أثناء إحدى جلسات البرلمان..
صالة تلو صالة يتابع المعرض آليات وسبل فرض نظام الأبارتيد، حتى تصل إلى مراحل النضال وتكوين حزب المؤتمر، خلاياه وعمله السري، والطلابي، حتى مرحلة المواجهات اليومية الفارطة، وإلى الذروة، وفشل كل وسائل القمع والإبادة والتعذيب في إيقاف الأمور والثورة، وحتى تصل شعارات شهداء إفريقيا وحزب المؤتمر، الذين يتربّع على قمتهم بالطبع ستيف بيكو Steve Biko، المعروف جيداً في العالم كله، من أُغتيل في سجون العنصريين، ومن قامت السينما الأمريكية في تقديمه عبر فيلم ضخم وشهير، لعب دور إستيف فيه الممثل الأسود دينزل واشنطون الحائز لجائزة الأوسكار. وكذلك الشهيد الطفل والتلميذ هيكتور بيترسون Hector Peterson و آشلي كريل Ashley Kriel وفيوزيلي ميني Vuyisile Mini وليليان نجوي Lilian Ngoyi. كما يُوجد أرشيف بكل المفاوضات التي جرت حتى الوصول إلى الاتفاقية الخاتمة التي أنهت نظام الأبارتيد إلى الأبد، التي جرت بين ديكلرك ومانديلا، وتربّع إثرها نيلسون رئيساً لوزراء جنوب إفريقيا غير العنصرية.
وبهذه الخاتمة للمتحف، تجد نفسك في نهاية الجهة الأخرى للمبنى العملاق، حيث يُوجد كما في كل متاحف جنوب إفريقيا دكاكيناً صغيرة لبيع الهدايا الفنية والمشغولات من مادة المتحف، ثم مكتبة لمن شاء أن يشتري كتباً معيّنة حول المواد الثقافية المطروحة في المتحف.



يوم في "سجن" الـConstitution Hill
أو تَلَّة الدستور، التي هي في الأصل كانت سجناً لئيماً، دخله أشهر مناضليْن ضد الثقافة الاستعمارية في التاريخ الحديث، وهما مانديلا وغاندي،..
هذه التلَّة تقع على الشارع الذي يحمل اسم جون كويتزي الكاتب الجنوب إفريقي الحائز لنوبل، ويومي معها بدأ حافلاً، إذ لم أكن أعرف أنها مجاورة لفندق بروتيا، بل على بُعد خُطوات منه، ذهبت إلى أحد سائقي التاكسي، وقلت له اذهب بي إلى التلَّة، ولم يوضّح لي أبداً أنها إلى يمين مدخل فندقي مباشرة، بل أعطاني إحساس من سيذهب بي إلى مكان بعيد بدايةً وفي غاية الأهمية النائية عن هنا، لفَّ من شارع تلو شارع، وجاء بي من ناحية لا يمكن لغريب أن يكتشف أنها مجاورة لحيث مكان إقامته، تناقشنا حول هيكتور بيترسون، الذي تشابه قصته قصة الشهيد القرشي عندنا كسودانيين كثيراً، أول طالب يُرمى بالرصاص شهيداً حين اندلاع الثورة، ضد التعليم باللغة الإنجليزية، كانت المطالبة بأن يتم تعليم الأفارقة بلغاتهم، قال لي السائق بأنّ متحف هكتور بيترسون بعيد جداً، يبلغ الثلاثين كيلومترا من هنا، ليعطيني رقم تلفونه بعدها وينصرف بعد أن يُشير إلى بوابة المكان –أي تلَّة الدستور، فأجده تحصينة منيعة كما قلنا عن روح المعمار هنا، بل ولا يمكن لأحد اكتشافها، كما أراني الدليل كيفية نمو الأماكن المجاورة لهذا المكان، فقد كان بالأساس مكاناً سرياً وقلعة حصينة دون شك، كما أوضح لي الدليل شارحاً لمعنى اسم المكان، ومرَّ بي من أمام فوهات لم أتبيّنها حين دخولي وحدي، هذه الفوهات كانت لمواسير المدافع التي تحمي المكان، والأبراج المعلَّقة هنا وهناك تُريك مدى التحصينات التي كانت متخذة. حين تنظر من الخارج إلى التلّة لا ترى شيئاً، لأنهم قاموا باختيار هذه الهضبة الصغيرة وتجويفها بالداخل، مع تثبيت أنّ الأماكن من حولها ليست منخفضة بدرجة كبيرة، هكذا أقاموا السجن ببطن ذلك التجويف بحيث لا يمكن لأحد الانتباه للمكان أو رؤية أي شيء.
جعلوني أدفع 15 رانداً دون أن يجاوبوا على سؤال من هو كويتزي المسمَّى الشارع باسمه، ليدخلوني بعدها إلى قاعة جميلة تُعرض فيها بعض الأفلام الوثائقية التي تتحدث عن تاريخية القلعة حين كانت سجناً، ومدى المعاناة التي كانت توّفرها للمناضلين والمقاتلين ضد نظام الأبارتيد، وأسماء المناضلين والمناضلات من السود والبيض وغيرهم الذين كانوا مسجونين هنا،...
المكان بشكل جذري تمَّ تصميمه من أجل سلب الأحياء بداخله حياتهم، بعد الانتهاء من مشاهدة الأفلام الوثائقية ذهبوا بي في جولة حول المكان، وهو ملاصقٌ للسجن الآخر المخصَّص للنساء،..
الزنازين فيه كانت بعرض 3 متر في طول 3 متر بالنسبة للمعتقلين البيض، وبعرض 2 ونصف متراً في طول متر بالنسبة للسود، الخلية التي كان يُعتقل فيها مانديلا معروفة باسم الخلية رقم 4، وهو كان معتقلاً في قسم البيض وليس مع السود لحجبه عن الاتصال بشعبه وللمزيد من إهانته، هو مَضَّى هنا زمناً طويلاً قبل أن يتم ترحيله إلى جزيرة روبن بمدين الكاب، وكذلك المهاتما غاندي الذي جاء به الاستعماريون الإنجليز إلى هذه التلَّة كي يتم لهم حذفه من الوجود والعالم، والمهاتما كان موضوعاً مع السود لأجل منعه من الاتصال بالمناضلين الآخرين من البيض، ولجعل اللغة حاجزاً بينه وبين من يساكنهم من السود،..
الحمّامات مفتوحة ومتراصّة في صف طويل، بحيث لا يحجبك شيءٌ عَمَّن يجاورك. كما هناك قائمة بطريقة التغذية التي كانت متبعة هناك، وتقريباً الأسود لا يأكل شيئاً، ولا تدري كيف كان يعيش، بدون خبز وسكريات على الإطلاق،..
حالياً أضافوا للمكان متجراً يمكنك أن تشتري منه بعض الكتب والكتابات والشعارات المرسومة على الملابس، أي تمّت عولمة النضال وتسويقه كمنتج استهلاكي،..
رأيتُ المكان الذي كان يُحتبس فيه مانديلا بالضبط وكذلك المكان الذي كان مخصصاً للمهاتما غاندي، والخليتان تعرفان باسم الرجلين،...
بعدها رأيت الشبك المخصَّص للتشكيليين وهو شيء عجيب، إذ يخصصون مساحة من الحديد كالنافذة على جدران الزنازين من الخارج، للفنانين التشكيليين ليرسموا عليها لوحات تتعلّق مواضيعها بذلك المكان، وأيضاً يرسمون على جدران العنابر بطولها من الخارج، وهناك تمثالان ضخمان الأول منهما لرجال سود يقطرون عربةً متكونة من أبدانهم. أما الآخر فهو نحت بديع لديناصور تم تشكيله من عقب شجرة كاملة، إذ جاء الفنان بذلك العقب وقام بتحويره وتشكيله ليعطي صورةً فذةً وعملاقة لديناصور في طريقه إلى الهلاك، واللهب يخمد بين فكيه كالزبد،..
وأيضاً هنالك جهاز يشبه طريقة الصلب أو الخوزيق كثيراً من ناحية تثبيت الضحية عليه، كان يستعمل في عقوبة السود، أو قل هو تطوير لنظام الفلقة لتثبت الأرجل أسفل تلك الآلة التي تشبه السلَّم، وتُثبت اليدان في الأعلى ثم يتم ضرب السجين بعد ذلك بحيث لا يصبح في وسعه أن يُبدي أي حركة، أو زحزحة،...
ثم انتقلت لسجن النساء المجاور، والذي تدخله بنفس الشريط الأحمر الذي يلبسونك له في سجن الرجال، بداخله يُوجد شكلٌ مخروطي ضخم جداً وعالٍ كشجرة الميلاد، وقد بُني بكامله من قطع الملابس والمتعلقّات المخضّبة بدماء المناضلات والمسجونات، وفُرَش التسريح والسواك وغيرها من الحاجات والمتعلقات اليومية للنزيلات، بدا لي ذلك الشكل كتلخيص مُرْ للأوضاع التي كانت كما بدا لي في غاية البشاعة بل والإرعاب،..
أيضاً نجد أنَّ السجينات البيض مفصولات عن السود، هناك أشرطة فيديو مدارة تتحدث فيها المناضلات بعد انهيار الأبارتيد، ويحكين فيها عما عانينه من تعذيب وأذى،..
بالداخل أيضاً يُوجد معرض للوحات تشكيلية كانت قد رسمتها الفنانة فاطمة مير، التي كانت نزيلة في هذه الزنزانة عام 1976م بتهمة الإرهاب، التهمة التي كانت توجه للناشطين ضد نظام الأبارتيد، ولوحاتها رُسمت في بساطة نافذة، وبألوان إفريقية محرضة ومفجعة في آن،..
سجن النساء البيض حوى صوراً وتعريفات بمناضلات كبار من البيض أمثال فيلوتViolet Weinberg وابنتها التشكيلية شيلا Sheila التي سُجنت في البداية تأديباً لها على لوحات عَبَّرت فيها عن ظلم ومعاناة السود، وسجنت لمرة ثانية من أجل الضغط على والدتها Violet التي كانت نزيلة بنفس السجن، وهناك صورة بداخل الزنزانة تجمع بين الأم والابنة ومانديلا،..
وأيضاً زنزانة المناضلة البيضاء "استر" Esther Barsel و"بربارا" Barbara Hogan و"ديزي"Daisy De Melker اللائي عشن في زنزانات متجاورة، لا يزيد طولها عن ثلاثة متر بعرض مترين، ولا تكاد تسع لشخص واحد نحيف،..
أما قسم السجينات السود فيبدو أكثر فاجعة من قسم البيضاوات المجاور له، وهنا تطالعك الأسماء الشهيرة والمعروفة لمناضلات بوزن "نولندي" Nolundi Ntamo و"سيبنقولي" Sibongile Tshabalala و"ياني" Yvonne Ntonto Mhlauli و"ليليان"Lilian Keagile و"ألبرتينا" Albertina Nontsikelelo Sisulu ...
في الفناء الثالث هناك قسم أرشيفي خاص بالمقتنيات، وأيضاً تطالعك صورة الزعيم غاندي، وأشياء أخرى إما كانت أثارةً للمناضلات أو حتى مشغولات فنية ومجسمات قمن بإنجازها أثناء فترات العقوبة،..

معرض هيكتور بيترسون Hector Peterson
أخبروني بأنَّه يقوم في حي سويتو Soweto البعيد قليلاً، رافقني إليه سائق التاكسي بيتر، قلت له في الطريق، ماذا الآن يا رجل؟ ها أنتم بخير ومعكم وطن حر وديمقراطي،..
أجاب، ولكن معنا أحزانٌ لن تزول قريباً، أترى؟ وأشار إلى المناجم التي تُحيط بجهانسبيرج، والتي أغلقوها بعد نمو حركة العمران بها، وبعد ترهُّل المدينة بشكل عام، فالسود الذين كانوا منفيين بخارج المدينة رحلوا إلى داخلها من جديد مع تغيرات الأوضاع، وسقوط نظام الأبارتيد،..
قلت له.. ماذا؟ قال لي إن هذه المناجم لم تُدفن هكذا بحركة سلمية تدعم نمو هذه المدينة وحركة العمران فيها وحسب، أبداً، الأمر ليس بكل هذه الكمية من الطيبة، مدافن الذهب القديمة هذه هي باختصار تُمَثِّل الآن مقابر عشرات الآلاف من أبناء إفريقيا، هؤلاء ليسوا بغباء الصرب وبيض أمريكا ليخلفوا مدافن جماعية، لتكتشف في مقبل الأيام كما قُدِّر لمذابح التاريخ الجماعية كلها أن تُكتشف وتدان. الأمر هنا مختلف يا مستر خالد، لقد جاؤوا بالمناضلين هنا وصبوهم مع مواد التعدين الكيمائية والمُذيبة في باطن الأرض، كي لا يُكتشفوا مطلقاً وإلى الأبد...
بيتر رجل ذكي، التفت وسألني، هل تزور قبور أقربائك الراحلين؟
نعم يا بيتر، أمي تحديداً أزورها وأجلس معها أكثر مما كنت أفعل وهي في الحياة، أما أبي فمدفون في مكان بعيد، ومع ذلك ربما زرتُه خمس أو ست مرات،..
أترى؟ نحن في أرضنا وفي بلدنا إفريقيا لم نكن نحظى حتى بقبر كريم، دعك من الحياة الكريمة،..
قلت له بوضوح، كل الذين سألتهم هنا من أبناء إفريقيا، يقولون بلسان مسيحي معافى نحن سامحناهم،..
إنهم يكذبون، يقول بيتر بعدم اكتراث،..
قلت له، اشتريتُ دي في دي، من الكونستيتيشن هل، وكان البي شوب ديسموند توتو يتكلّم عن نظريته الخاصة في الغفران والتسامح المشهورة، كما يحرِّض عليه، بالرغم من أنَّه يؤكّد الصعوبة، وإن كان يؤكّد أيضاً مقدرة المؤمن على فعل ذلك،...
قال لي بيتر، هناك شيء يا مستر خالد، نحن كلنا وبلسان واحد نقول، لا يمكنك مسامحة شخص لا يشعر بالأسف تجاه ما اقترف، ولَمْ ولن يقول أنا آسف، بل معظمهم يشعر بأنّه غُلِب على أمره فحسب، كيف يمكنك مسامحة شخص كهذا،..
شعرتُ بأنَّه الشخص المخلص الوحيد الذي تحدّث معي بصراحة في الأمر، فالكل متفقون على أن يجيبوا الأغراب: no more fighting
تركته لألتقط صوراً للمناجم التي أُغلقت جميعاً، واستحالت إلى منشآت ومبانٍ مدنية وأحياء، إذ لا يُمكن أن تتم حركة تعدين بجوار المدينة،..
حي سويتو وحده يبدو كمدينة كاملة، وهذا شيء يُمَيِّز مدن جنوب إفريقيا كلها، الضخامة والاتساع، خصوصاً مدن المقدمة الأربع، جوهانسبيرغ والكاب تاون وبريتوريا، وديربن،..
يلتفت نحوي بيتر ويقول مازحاً، هناك نكتة تقول إنّ اسم سويتو Soweto جاء من أنّ السود شُرِّدوا منه، وكانوا يقولون للأوربيين so wait to Know
أي اصطبروا، فستعلمون...
بعد بلوغنا متحف هكتور، اكتشفت أنه مسمَّى باسمه فقط، كما يُوجد قبره بوسطه، ولكن في حقيقة الأمر هو مخصَّص لكل اليافعين من المقاومين والتلاميذ الذين حصدتهم بنادق الكولونيال،..
هناك شارع ممتد، إلى داخل المدينة، وآخر فرعي ينشق منه، يمتلئ بكامله بنحاتين وباعة الأنتيكات، لتدخل منه إلى الساحة مباشرة، لتُواجه بالصورة الشهيرة لهكتور بيترسون، حين استشهاده، بينما أخته المفجوعة تهرول بجانبه، يحمله ماكوبو Mbuyisa Makhubu أحد الطلبة، والذي اختفى بدوره لاحقاً، بعد ظهوره في الصحف من خلال هذه الصورة وهو يحمل جثمان هيكتور بيترسون، الصورة معلّقة على دكة عالية، بينما بحيرة صغيرة تجري بمياهها من تحتها، إلى عمق الساحة، يُوجد القبر، وعلى مدى أمتار تنتصب كنيسة جميلة، ومثل هذه الكنائس الصغيرة، تشبه كثيراً، المصليات أو المساجد الصغيرة، فهي تنتشر في كل مكان هنا،..
بداخل المتحف عرفتُ أنَّ أخت هيكتور بيترسون تعمل فيه، ولكن كانت في إجازة فطلبتُ منهم إعطائي تلفونها فرفضوا، فعزمت بداخل نفسي على العودة إليها لاحقاً بعد أن أقوم بزيارة الكاب تاون وجزيرة روبن، التي بلغت شهرتها في تاريخ السجون والمنافي الحديثة ما لم تبلغه جزيرة سيلانة،..
المعرض كما أسلفت مخصّص للشهداء اليافعين، ولنشاط المدارس الذي كان مناهضاً للأبارتيد، هناك صور الشهداء، خوتسو Khotso Seatlholo وتحت الصورة مقولته الناضجة بالنسبة لعمره: Liberation is a noble cause without which I have no reason to live if I cannot fight to attain it
(التحرّر قضية نبيلة، بدونها لا أمتلك سبباً للعيش، إن لم أُكافح لنيلها)
وأيضاً صورة ماكوبو Mbuyisa Makhubu الذي قلنا كان يحمل جثمان هيكتور بيترسون في الصورة ثم اختفى بعدها،..
وكذلك الشهيد هاستنغز Hastings Ndlovu الذي رموه بالرصاص أثناء عبوره لجسر أورلاندو الغربي.
بعد فراغي من التصوير بداخل متحف هكتور بيترسون، خرجت لشارع الأنتيكات والتحف الفنية، هنا المكان ذكّرني كثيراً بجنوب السودان، الفيلة والزراف والحيوانات، والأقنعة الإفريقية المتعلّقة بالطقوس والتي هي أم الأقنعة في الدنيا، الراقصون، الخرز والسكسك، بهاء الفنون كله، المصاغ من الأبنوس والمهوقني، وأشجار أخرى لا علم لي بها،..


...

Post: #39
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: alin
Date: 02-18-2006, 06:52 AM
Parent: #12

*

Post: #13
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: ahmed haneen
Date: 02-11-2006, 08:15 AM
Parent: #1

صديقي محسن سلامات

يا حبيب اهديك هذة الصورة من بروفايل ألأخت د ندي مصطفي
مع تحياتي لها

http://www.arab3.com/upload/images/Feb06/berberawi_sow8.jpg

Post: #14
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: محسن خالد
Date: 02-11-2006, 08:31 AM
Parent: #13

..

إزيك يا صاحبي أحمد حنين،..

الصور جاياك ما تشفق، بنكوس ليها في بصير،..

كن بخير وشكراً للأستاذة ندى،..

Post: #15
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: نهال كرار
Date: 02-11-2006, 01:07 PM
Parent: #1

تحياتي للجميع الى حين عودة

Post: #16
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 02-11-2006, 01:44 PM
Parent: #15

الود محسن دا ثروة قومية (يا نهال) أتمنى أن تظل في حياتنا طويلا طويلا!.

Post: #17
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 02-11-2006, 01:51 PM
Parent: #16

Quote: الروائيان عاطف عبد الله والبرنس، إزيكما، غايتوالكاتب البقولوا ليهو إنت صحفي انتهوا منو خلاص




ها أنت (ياصديقي) تذكرني ببعض المفارقات في "الحياة اللندنية". كان إبراهيم أصلان ينشر ما أكتبه بعد رسوخ الثقة على (((بياض))). وحين أخبره محمد علي فرحات محرر "آفاق" وقتها بما حدث بدأ ينظر نحوي بحيرة!!!.

Post: #18
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: محسن خالد
Date: 02-12-2006, 06:46 AM
Parent: #17

..

إزيك يا برنس،..
شكراً علي التنويهة الحلوة، بس يا صاحبي البرنس المشكلة نحن ككتاب المابنثق فيهم، لأنو همهم هو السمسرة بالكتابة، بمعنى طرحها في أقرب مادة قابلة للتسويق، ونحن بنحاول نخليها ذات حَفر وتروية ونفتح عليها ومنها صمامات تانية، هم ما بتعنيهم أبداً إلا كسمسارين صغار،..
كن بخير،..


..

Post: #19
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: نهال كرار
Date: 02-12-2006, 07:26 AM
Parent: #1

الأخت تراجي
تحياتي

ولك الشكر والتقدير


الأديب عاطف عبدالله

تحياتي

Quote: عليه أتمنى من الأخ الصديق محسن خالد بأن يتولى هنا نشر المقالات كاملة وبالصور


ها قد استجاب محسن لطلبك

لك الشكر والتقدير


الأديب عبدالحميد البرنس

وشكرا لمرورك يا البرنس


Quote: تحياتي للجميع الى حين عودة


على فكرة الى حين عودة دي حقوقها محفوظه للبرنس

لك التحية والتقدير



أخوي محمدين
تحياتي

ولك الشكر والتحية والتقدير


العزيزة القلب النابض
تحياتي

أسعدني مرورك من هنا
لك الشكر والتقدير يا عزيزتي



عمر الفاروق

Quote: أصبأت عن دين اباءك وأجدادك ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟


آآي



العزيزة د. بيان
تحياتي

Quote: سعدت بالسياحة بعيون محسن.. شكرا لك كثيرا


وكذلك أنا

وسعدت أكثر بوجودك

لك التحية والتقدير

Post: #20
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: نهال كرار
Date: 02-12-2006, 07:37 AM
Parent: #19

وكل الشكر لمحسن خالد

على هذا المقال الممتع والجميل

وكأننا سافرنا لجنوب أفريقيا


لك الشكر والتقدير

Post: #21
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: نادية عثمان
Date: 02-12-2006, 07:39 AM
Parent: #19

نهال

لك التحية وانتى تتحفينا بروائع السرد الواقعى للكاتب المدهش محسن خالد


Quote: الود محسن دا ثروة قومية (يا نهال) أتمنى أن تظل في حياتنا طويلا طويلا!.



وبما اننى والاستاذ محسن لسنا بصديقين للدرجة التى تسمح لى بأن اقول هذا القول فقد اقتبسته من الود البرنس صديقى الكاتب الجميل ..وارجو ان يقبلها الاستاذ محسن خالد بذات الاريحية التى اقتبستها بها (وجه على غير عادته زائغ النظرات بنصف ابتسامة لايدرى مبعثها فى انتظار الرد )!!

Post: #23
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: نهال كرار
Date: 02-12-2006, 08:04 AM
Parent: #21

ناااااااادية

يا زولة وين انتي

والله مشتاقين


Quote: وبما اننى والاستاذ محسن لسنا بصديقين للدرجة التى تسمح لى بأن اقول هذا القول فقد اقتبسته من الود البرنس صديقى الكاتب الجميل ..وارجو ان يقبلها الاستاذ محسن خالد بذات الاريحية التى اقتبستها بها (وجه على غير عادته زائغ النظرات بنصف ابتسامة لايدرى مبعثها فى انتظار الرد )!!



وجه زائغ النظرات ليه ؟؟ وبنصف ابتسامة كمان

والله يا نادية موتيني من الضحك


لك التحية والتقدير يا عزيزة

Post: #25
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: نادية عثمان
Date: 02-12-2006, 09:04 AM
Parent: #23

نهااااااااااااااااااااااااال


Quote: وجه زائغ النظرات ليه ؟؟ وبنصف ابتسامة كمان

والله يا نادية موتيني من الضحك


لك التحية والتقدير يا عزيزة



اضحك الله سنك ياحبيبة ..وادام على وجهك النضر ابتسامته الناضرة يارب..


نهال خلاص عرفت القصة ..ايمان قالت انك اتصلتى عشان تقولى لى بركة الخلصتى امتحان ومعليش لانى كنت فى شغل برة ..

تسلمى ياحبيبة ..وبكون فى انتظار هدية النجاح سمح ؟!!

Post: #24
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: محسن خالد
Date: 02-12-2006, 08:24 AM
Parent: #21

...


نادية عثمان،..
تحياتي يا نادية بدون أستاذة او أي حروف استئذان أخرى،..
أولاً في التبادي أنا حزين لأني ما قابلتك لما جيتي الإمارات،..
تانياً إنت زمان مش قلتِ إني صاحبك من زمااان، من زمن تاني أو شنو كدا ما بعرف، نظام حنك ودخلة حلوة كدي،..
أها في ناس كتار جداً جداً، بكونوا قالو ليك إنك "حلوة"، أعتبريني القائل البعد رقم 35 مليون، يعني شهادة آخر محب جمال سوداني،..
إنت كاتبة، شوتي الكلام ساي، الدمو تقيل بزعل، والذكي بعرف براهو وببتسم، زمان كنت بداعي واحد صاحبي بقوليهو: إن شاء ربنا يرميك في ناس تقول النكتة وتعتذر، وبعد سنين طويلة كتب لي، ياخي أنا زهجت من الاعتذارات دي، وجد مشتاق ليك يا محسن ولأشرف وموسى حسن ومحمد قرشي والصحابي الصادق، وكل الناس البفهموها وهي في بطن أمها،..
كوني بخير، يا نادية،..


...

Post: #22
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: عبد الله عقيد
Date: 02-12-2006, 07:58 AM
Parent: #1


الأخت نهال كرار
لك التحية والشكر

على أصابع اليد الواحدة
يعد الرجال الذين وجدوا لاسم السودان
مساحة بين الفعاليات الثقافية والمعرفية
العربية والأفريقية
وهذا الفتى المتكامل الإبداع محسن خالد
قطعا سيضاف إلى هذا العقد الفريد
بجواهره القليلة النفيسة والمتوهجة
نسأل الله له العافية والتوفيق

Post: #26
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 02-12-2006, 01:09 PM
Parent: #22

وكن بخير أنت أيضا يامحسن وكذلك العزيزة نهال. محبتي لكل من مر أومرت من هنا. البرنس.

Post: #27
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: طارق جبريل
Date: 02-12-2006, 03:45 PM
Parent: #1

تسجيل حضور ومتابعة بي مزاااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااج

Post: #28
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: نهال كرار
Date: 02-14-2006, 03:38 AM
Parent: #1

الأخ الكريم عبدالله عقيد
تحياتي

ولك الشكر والتقدير



الأديب عبدالحميد البرنس

وكن أنت أيضا بخير


الأخ طارق جبريل

لك الشكر والتقدير

Post: #29
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: نهال كرار
Date: 02-14-2006, 03:41 AM
Parent: #28




مدرجات عرض الشخوص بداخل متحف الأبارتيد







راقصتان من مدينة القولد ريف

Post: #30
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: نهال كرار
Date: 02-14-2006, 03:45 AM
Parent: #29




الروائي محسن خالد بداخل محل الأنتيكات بجوهانسبيرغ








قبر الشهيد هكتور بترسون

Post: #31
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: نهال كرار
Date: 02-14-2006, 03:58 AM
Parent: #30

الصور التي أنزلت في جريدة الخليج مع المقال

Post: #32
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: انور الطيب
Date: 02-14-2006, 09:28 AM
Parent: #31


ست الدار / نهال كرار / الأديب الرحالة / محسن خالد ، والله أولا أعجبت بالبوست لأن فيه تعريف بأشياء كثيرة ، أدب الرحلات ، جنوب أفريقيا ، و الفكي بتاعنا محسن خالد ، وبعدين يا محسن خرتايتك دي جزء منها ما ظاهر في الصورة لكن يبدو انها خرتاية حناكيش " ها ها " ، غايتو ما حانحكم عليها لحدي ما نشوف باقيها ، لك منا الحب والتقدير أينما رحلت أو حللت.

Post: #33
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: انور الطيب
Date: 02-14-2006, 09:29 AM
Parent: #31


مكرر

Post: #34
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: نهال كرار
Date: 02-17-2006, 10:48 AM
Parent: #1

الحلقة الثانية


بعد انهيار نظام "الأبارتايد" العنصري في إفريقيا
ارض العجائب ... "روبن أيلاند".. سجن أسطوري يحرسه البحر


في إطار البعثات التي يسيّرها “المركز العربي للأدب الجغرافي ارتياد الآفاق” تجول الكاتب الروائي السوداني محسن خالد في جنوب إفريقيا، رحلته شملت ثلاث مدن أساسية: جوهانسبرج، بريتوريا، وكيب تاون، حيث زار معالم أساسية في هذه المدن، وكتب يومياته وانطباعاته عما رآه هناك في أمكان طالما قرأ عنها وظواهر سمع بها، لاسيما في الحقبة السابقة على انهيار “الأبارتايد”، أو نظام الفصل العصري.

نص الرحلة سيصدر عن “دار السويدي” في أبو ظبي في عداد سلسلة “سندباد الجديد”. هنا قطوف من رحلة الكاتب محسن خالد إلى جنوب إفريقيا التي تعتبر الأولى لكاتب عربي منذ زمن طويل، ربما هي الأول بعد أن زارها الأمير محمد علي باشا في 1924 ووضع كتاباً عنها تحت عنوان “رحلة إلى جنوب إفريقيا”. قدمنا في الأسبوع الماضي جوهانسبرج، واليوم يواصل الكاتب جولته في مدينة الكاب، يقول محسن في يومياته التي سجلها:

في مطار كاب تاون، بينما المسافرون يعبرون في عجلة، من مختلف اللغات والألوان، مزعزعين بين تاريخهم المُرّ، وجنوب إفريقيا اليوم، صاحبة أنزه وأقيم دستور ونظام برلماني، كنتُ أعبر بينهم وأنا المذهول، وقلبي يعدو متعثراً فوق ذكرياتٍ كثيرة، الحزن الوجودي الفاتر يُلَفّعني كالنار، لأول مرّة أحسست بتلك العبارة الساذجة التي تقول: “يُمَزِّق نياط القلب”، التي كانت تضحكني فيما مضى، وحين أقرأها تمتلئ أشداقي بالضحك، وقلبي بالمرح، من حالها وحال لغتها الهشَّة، مباشرة الاستجداء للرحمة. رحمتك يا رب، ثم رحمتك يا صباح “سندي وودز مان”.



نحو قمة الأسود:

هذا كان حين مغادرتي لمدينة الكاب يوم السبت 7 يناير، وكنتُ قد هبطتُ في مطارها ببداية الشهر نفسه، حللتُها في ضحى غائم، وقلبي ينكت كأنّه على موعد عشق، ومن ورائه خلفية خافتة وجارية مثل نهر، نحو سمو مرتقب. لم أكن أعرف بأنني سأصعد مع المتسلقين إلى قمة جبال المائدة التي تُحاصر “كاب تاون” كمائدة مستديرة، والمدينة تتفَلَّت منها هنا وهناك، لتوجد منافذ وألسنة لاعقة للمحيط الأطلسي، من أعلى تلوح تلك المائدة ملعوقة لدى جانبين بألسنة من المحيط. أعلى القمة يُسَمَّى “قمة رأس الأُسود”، من هناك رأيتُ السحاب يمور في مرمى كَفّي، وبين قدميّ، والبعيد مني أراه فوّاراً يتماوج وينكب أمام الجبال مثل شلال وهمي، أو كفتاة فاقعة البياض سندت ظهرها إلى المخفي من الصخور، وتركت شعرها تتلاعب به ريح الجبال. شوارع المدينة البعيدة من ذلك العلو تلوح كأزقة صغيرة تتعرّج هنا وهناك في الأسفل، بين المنازل البيضاء والطوبية القانية. وأثناء نزولي من قمة الأسود بعدة أمتار، وتسلّق المتر هنا يساوي الكثير من الرعب والحذر والزمن، اجتياز المتر في عرض هذه السماء الرحبة والسحاب، لا يساوي مسافة المتر فوق الأرض، وجدتُ شجرة جميلة وظليلة، اختارت لنفسها كل تلك الرفعة والخيلاء، جلستُ تحت ظلها لأرى المدينة من زاوية محيطة ومهيمنة، ولأكتب وصفي هذا، سميتُها شجرة السمو العاطفي، فقد حملت من جميع جوانبها نقوشاً لمحبين كُثر رسموا بأعينهم وكاميراتهم مشهد مدينة الكاب من هنا، كما سجّلوا أسماءهم في ارتباط الحب بالحفر على جذعها، نقش ليليان لجانب ستيوارت، وبيتر مع حبيبته لورا، قمتُ بنقش محسن خالد بجانب سندي وودز مان، الصبيّة البحّارة، من باب المرح والاحتفاظ بالمكان وروح اللحظة، فقد شعرتُ بوخز مجهولها الدافئ في قلبي، بينما أنا أنزل مطار مدينة الكاب، وحين كانت هي في تلك الساعة لدى المنطقة المعروفة بالوتر فرونت Water front “الواجهة البحرية” تُعِدُّ الزوارق التي تحمل الناس من لدى بوابة مانديلا الشهيرة، من حيث يعبرون إلى جزيرة روبن، التي احتُبِس فيها مانديلا مع معظم مشاهير النضال الوطني في جنوب إفريقيا.

في أوّل مرة قدمتُ فيها لبوابة مانديلا لم أكن أعرف أنّ متحف “الأكوريم” يجاور البوابة، فالناس يقصدون الوتر فرونت، لأسباب عديدة، أهمها بالطبع الذهاب لجزيرة روبن، وكذلك الخروج في رحلات الصيد، وأيضاً لمشاهدة سباقات الزوارق البحرية، أي كان بوسعي أن أتوقع وجود متحف التاريخ الملاحي لجنوب إفريقيا بالقرب من هنا، وبالفعل تأكدتُ من ذلك بالذهاب إليه، أما “الأكوريم” فقد توقعتُ أن يكون إلى داخل المرسى أكثر، وهو يُسَمَّى في دعاية تقديمه ب “Two Oceans Aquarium”، أي المتحف المخصّص لعرض طبيعية الحياة البحرية بالنسبة لمحيطين، المحيط الأطلسي والمحيط الهندي، هذا بالرغم من أنَّ المتحف يحتوي أيضاً على عرض دقيق لحياة الكائنات بداخل نهر لورينز Lourens River.



جزيرة روبن:

قلتُ عليّ الآن الذهاب لبوابة مانديلا ومنها إلى جزيرة روبن، وسأعود للاستمتاع بهذا المتحف مرة ثانية، كنتُ محظوظاً لكوني شهدتُ السباق العالمي للزوارق الذي نظمته شركتا سوني أريكسون وفولفو، ثم تحركنا بعد ذلك ناحية الجزيرة في الساعة الواحدة من يوم الجمعة. الجانب الأسفل من القارب مُهَيكل بطريقة تشبه مقهى متحركاً، قاعة كبيرة الحجم، وهناك تلفزيون يعرض حال المساجين أيام روبن أيلاند في فتوتها ودورها.

اخترتُ أن أكون في الطابق الأعلى كي أرى جيداً، وأتمَكَّن من التصوير، وآخذ راحتي في تدوين ملاحظاتي، مكبرات الصوت كانت تزودنا بالمعلومات والسرد التاريخي، منذ أن كانت الجزيرة قرية عادية وإلى أن استحالت لسجن يضم المجرمين والسياسيين في بقعة واحدة. تذكرتُ سؤال ذلك الإنجليزي لي على قمة جبال المائدة، حين قال لي بأنَّ موقع الجزيرة واضح ومكشوف، فقلت له هذا الآن فقط، لأنه من المسموح لك النظر إلى الجزيرة من كل الزوايا، بل ومن قمة رأس الأُسود. وبالفعل في السابق كان هناك نوع من التعتيم الممارس على موقع الجزيرة. أما الآن فيكفيها أنها أصبحت مادة للدعاية والسياحة. هذه الجزيرة كانت في تاريخها القديم جداً مُجَرَّد منطقة وادعة بمساجدها وكنائسها وتجارها وسُكَّانها من كل شاكلة ولون وصقع، وإن كانت المياه العذبة تُجلب لها من الخارج. الكنيسة التي بداخلها بناها الكابتن ريتشارد وولف Captain Richard Wolfe في عام 1841م، وهناك مستوصف طبي ومدرسة ابتدائية ومسجد وسوبر ماركت كبير، أي أنها في السابق كانت تعيش حياةً مستقرة وطبيعية إبّان عام 1657م قبل أن تُحَوّل إلى سجن لم تنقضِ عجائبه إلا في سنة 1996م. أثناء تجوالنا كانت هناك الكثير من الغزلان البرية تتجول في انسراح وحرية تامة، المقبرة أجمل ما أثارني، لأنها تحتفظ بمدافن قديمة جداً، لبحارين وقناصين وقراصنة ورهبان ومساجين وقتلة ومناضلين، قساوسة وأئمة مساجد من جميع الجنسيات.



السجين المعمر:

كانت إجراءات الأبارتيد تعمل مع مانديلا دائماً بسياسة العزل، كما تُحَرِّم عليهم الحديث مع بعضهم بعضاً، كي لا يكون هنالك تنوير، أو تنظيم وتخطيط لأي فعل جماعي. كنا محظوظين لأنَّ السجين السياسي السابق فينسنت ديبا Vincent Diba كان دليلنا، هم يتعاقدون مع من بقي حياً من السجناء السابقين كي يشرحوا للزوار والمبعوثين الصحفيين والسياسيين ما كان يجري في روبن أيلاند، وفنسنت لا تبدو عليه الشيخوخة أبداً، يلوح كرجل في بداية العقد الخامس وإن كان مسجوناً منذ عام 1923م وقضى 18 عاماً بداخل روبن أيلاند.

وشرح لنا كيف كان يقوم السجناء بتدريس بعضهم بعضاً، ثم قادنا لقوائم الطعام التي كانت تقدم للسجناء، ما تزال بطاقة فنسنت كسجين موجودة، وهي مكبّرة بحجم واضح ليتم قراءة البيانات من عليها، والجزيرة كانت مخصصة للسجناء السود والهنود ومن الأجناس الأخرى غير الأوروبية فحسب، الأوروبيون لم يكن يتم سجنهم هنا على الإطلاق، الأكل موضوعٌ كبير بالنسبة للسجناء طبعاً، وكانت تمرر أجندة السيطرة من خلاله فهم لا يعطونهم ما يكفيهم ليكون التفكير فيه دوماً، والصراع حوله، ومع الحرمان من الدخان يتم تشتيت قدرات السجين الذهنية تماماً بجعله بهيمة ينحصر تفكيرها في متطلبات غرائزها اليومية فحسب، ومع الحرمان من الصحف والتلفاز والراديو لأجل العزل المعرفي، يكتمل لهم إزالة السجين من الوجود.



زنزانة مانديلا:

ذهب بنا فنسنت بعد ذلك في جولة حول السجن، كنتُ متشوقاً لأرى زنزانة مانديلا، يسمونها الخلية رقم 5 وفيها تُوجد متعلقاته، ذكروا بأنَّ الملعقة التي كان يستخدمها قد سُرقت بواسطة أحد السياح، ولذلك أُغلقت “الخلية” وأصبحت متحفاً للحفاظ على ما تبقى من متعلقات مانديلا. هناك البطانية التي كانت له، وهي تشبه البطاطين العسكرية، كوز للشراب ومسند مُغَبَّر، الزنزانة تبدو مترين في مترين. تدافع الناس هنا لأخذ الصور، فالوقت المسموح به يشارف على الانتهاء، أخذتُ الكثير من الصور بتلكئي المعهود، الدليل ينبهني لكوني لا أُراعي القوانين، قلت له، جئت من بلاد بعيدة لكي تترسخ الأشياء في رأسي، ولكي أؤرّخ لها في سجل مذكراتي بكاميرتي، إنني كاتب وما أنا بسائح، أخذنا فنسنت بعدها إلى الفصل الدراسي الذي كان في السابق ملجأ للسجناء، يتدارسون فيه ما سمح السجّان بذلك؟

هواء صافٍ كان يلفح وجوهنا بينما نحن نخرج إلى فسحة العنابر الكبرى، كانت هنالك منارة عالية للجزيرة، لا تضاهيها في الارتفاع إلا تلك الأبراج المخصصة للدرك والحُرَّاس، الساحة العامة ينتصب فيها بفخار “كولينالي” أصيل مدفعٌ كبير كان يستخدم في الحراسة، فلم يكونوا يستبعدون أن يتم الهجوم على الجزيرة، فمعظم قادة النضال في جنوب إفريقيا كانوا بداخلها، وربما يصدرون تعليماتهم لخلاياهم السريّة بمهاجمتها، لذا فالحراسة على الجزيرة لم يكن يقوم بها مجرّد طاقم حُرّاس، أبداً، بل مليشيا عسكرية كاملة وبكامل عتادها.



Post: #35
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: نهال كرار
Date: 02-17-2006, 10:51 AM
Parent: #34

رأس الرجاء الصالح:

الصباحات دائماً من الممكن أن تكون نساءً، في صباح “سالي دومينك” الأشقر قليلاً، الصباح البعيد والمعروش بالرذاذ، نَسَّقت لي مديرة نُزل تويليب مع سائحة سويدية من جذور فرنسية للذهاب إلى منطقة رأس الرجاء الصالح البعيدة جداً من الكاب، في نَفْس الصباح الذي كنت قد هيأتُه لمهمة أخرى، فقد رأيت الجميع لا يذهبون من مدينة الكاب دون رؤيتها وتوديعها من لدى أعلى قمة في جبل المائدة، تُعرف برأس الأسود، ولكن ما كان بوسعي أن أُفوِّت تلك الفرصة لرؤية رأس الرجاء الصالح، حافّة القارّة الغامضة، قارّة السحر والغابة، الخلق والطقس الديني، الأقنعة وكنوز سليمان، ورؤية كورنتها المبذولة بكل مجانية التاريخ والبحار، لأمزجة المغامرين الكبار، القراصنة والغزاة، المستطلعين، وتُجّار العاج والذهب والرقيق، قلت إذن لنذهب إلى ما هو أبعد، إلى رأس الرجاء الصالح، بالرغم من أنّها دونها المدن والجبال، وتكلفتها تكون مرتفعة جداً لو حاول الشخص أن يذهب إليها بمفرده، لذا تشاركتُ نفقات الذهاب مع سالي دومينك، صاحبة ذلك الصباح، ليكن رأس الرجاء الصالح، وجبال المائدة بالأصل هي منتظرة منذ القديم، فلتُضف لانتظارها قليل انتظار.

أمتعنا ذلك الصباح المجنّح والمعروش بالرذاذ، قبل أن نصل إلى مدينة سايمون Simonصs Town التي هي أكبر مدينة في تلك الأنحاء، نزلنا كي ندخل إلى مرسى السفن الضخم الذي يقوم على وجهها البحري، ولكن الحُراس منعونا من الدخول إلى هناك، غافلتهم قليلاً والتقطتُ بعض الصور ليأتي أحدهم ويقول لي امسحها الآن وفوراً، ومَدّ بوزه ناحية الكاميرا مدعياً أنه “بصير” بالتكنولوجيا، فجعلتها تُصَوِّت تصويتات مضحكة لأؤكد له أنها لم تمسح الصور فحسب، بل أعلنت توبتها عن التصوير، وتطالب بكاهن للاعتراف.



المشهد من الأعالي:

أوّل ما تلمحه موقع لاستئجار الدرّاجات تعين الناس في التسلّق، وإن رأينا أنّ الدراجات ستكون مرهقة أكثر من السير على الأقدام، كما أنّك تستخدمها لمسافة صغيرة بعدها يستحيل الاعتماد عليها، اتفقنا على ذلك ثلاثتنا، السائق وسالي وأنا. ركنّا السيارة وانطلقنا في المرتفعات التي تمتلئ ببشر من كل أنحاء الدنيا. كلهم يقصدون رأس الجبل لبلوغ تلك “القِرْمَة” الشهيرة من جبل نقطة رأس الرجاء الصالح، التي تراها من الأرض معيّنة بمحطة ضخمة أسفلها قليلاً، أما النقطة نفسها فهي تشبه أبراج المراقبة المعروفة، وإن كانت مستديرة، ومسيّجة لحجب الناس عن الهاوية التي تحيطها من الجوانب كلها، من ذلك العلو ترى السفن العملاقة مثل سفن أطفال ورقية.

واصلنا في زحفنا ذلك لأكثر من ساعة ونصف، حتى بلغنا المحطة بقرب النقطة النهائية، هنا أقاموا بناءات مسيّجة ومكاتب تعطي الكثير من المعلومات عن رأس الرجاء الصالح، بالإضافة لمحطة صغيرة لآلة الفنكيلور Funicular إذ يسمونها، أي ترولي الجبال الذي يسير بالحبال الكهربائية المُعَلَّقة، فالناس الذين لا يستطيعون التسلّق يركبونه، وهناك من يركبه لأجل المرح والاستمتاع بركوبه

القناني المعلقة بالشجر: هبطنا مرة ثانية وتجوّلنا بين شعاب الجبل والحشائش، التسكّع في الطبيعة طاقة مجانية للروح دون شك، أخذ نهارُنا يجفل بعيداً، ومعه الحماسة والنشاط الصباحيين، أفواجٌ تصل وأفواجٌ تغادر، زحفنا مرة ثانية ناحية الأرض، لنرتاح قليلاً في المطاعم والاستراحات المقامة بأسفل قمة رأس الرجاء الصالح. ثم انطلقنا إياباً من جديد. تركنا المدينة وقفلنا عائدين إلى كاب تاون.


أبطال الهروب الكبير


أذكر أنني في رحلة العودة لمحت فنسنت يجلس معنا في الزورق ورائي لم يكن هناك كرسي مجاور له، دعوته ليجلس بقربي وأخذت أتحدث معه حول السجن والسجناء، أنا شخصياً شغلتني فكرة الهرب من هذه الجزيرة، سألته، هل هناك من فكّر في الهرب أو من استطاع ذلك؟

أجاب نعم، وقاطعني بسؤال من أي بلد قدمت، قلت له أنا سوداني وجئت من الإمارات. قال الإمارات بلد ثري. قلت له نعم.

قال: هناك سجينان سياسيان حاولا الهرب، ديفيد ستورمان David Stuurman الذي نجح في الهروب ولم يُقبض عليه ثانية. والنجاح في عملية كهذه لا بُدّ له أن يتم على مراحل، الإفلات أولاً من حُرّاس الساحة الداخلية للعنابر، ثم من حُرّاس البوابات الخارجية للسجن، وبعدها مرواغة المليشيا العسكرية المتخندقة خارج كل ذلك، لتفصل بين مجمل الجزيرة ومياه المحيط، قال إنّ المناضل ديفيد أفلت من كل هذه الحراسات بالليل، ثم نجح بعدها في المرحلة الأخطر من كل ذلك، وهي تمضية الليل كله سباحة حتى شواطئ مدينة الكاب والإفلات من الحارس الكبير “الغرق”، أما السجين الثاني الذي حاول الهرب فهو ماكانا Makana والذي نجح في خداع الحرس، واجتياز كل تلك السياجات والمتاريس، ولكن لم يفلح في خداع المحيط الأطلسي، فلقي مصرعه غرقاً.

أضاف بأنَّه في الثمانينات استطاع أحد المجرمين السجناء أن يهرب هو الآخر من هنا، المسألة ليست مستحيلة فحسب، بل الهرب من الكاتارز يبدو مزحة مسلية مقارنة بالهرب من جزيرة روبن الشهيرة.

هنا أمضى مانديلا من العمر ما يكفي لولادة إنسان وعيشه حتى مرحلة تخرّجه من الجامعة. معظم من دخل هذا المكان إما أنَّه مات من سوء التغذية والمعاملة، وإما أنّه أُصيب بالوحشة وانتحر بنفسه، أو أُصيب بكامل الجنون ليُلْقِي به الحُرّاس بعدها في مياه المحيط، كما قال لي فنست. الذي تنفرط أعصابه ولا يستطيع التماسك، يُلقى في المحيط، هذا قانون معروف هنا، فهم لم يعتقدوا بأنّ الأسود يمتلك عقلاً بالأساس، لكي يبعث بعدها إلى مصحة تستعيده له، والذي ينجو من كل ذلك يموت موتاً طبيعياً بالداخل، لأنّ المعتقلين كلهم محكومون بالتأبيدة. ولاحت بوّابة مانديلا من بعيد، كعروقٍ للمدينة في المحيط، بين غَبَش المياه والضباب، فما أصدق أنها بوّابة، من هنا ولج تاريخُ هذه البلاد منطقة لا يدخلها الزمن نفسه إن لم يكن في صحبة مانديلا.

Post: #36
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: نهال كرار
Date: 02-17-2006, 11:18 AM
Parent: #35



السجن بداخل جزيرة روبن أيلاند






السياجات داخل جزيرة روبن






بوابة مانديلا في يوم سباق عالمي للزوارق






تمثال مانديلا ببوابته

Post: #37
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: نهال كرار
Date: 02-17-2006, 11:23 AM
Parent: #36





مدينة الكاب من قمة رأي الأسود






نقطة رأس الرجاء الصالح






هاهنا أمضى مانديلا 23 عاما بزنزانته داخل جزيرة روبن

Post: #38
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: نهال كرار
Date: 02-17-2006, 11:25 AM
Parent: #37

الأخ الكريم / أنور الطيب
تحياتي

ولك التقدير والإحترام

Post: #40
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: محسن خالد
Date: 02-18-2006, 09:15 AM
Parent: #38

..

ود عقيد الخيل،..
إزيك آود العم،..
كتير والله عجبني كلامك، وكتَّر خيرك، أديتني فوق الفضل، وأتمنى بحق إني أقدر أدفع باسم سوداني للخارج، وشكراً لك وكتير فرحان بهذه الزيارة،..
كن بخير أبداً،..
ودم طيّباً

طارق جبريل،..
كيف الأهواء من ناحيتها؟ ما بقدر أقول اسمها اليومين ديل، لأنو أغنيتي حالياً هي سندي وودز مان،..
تحياتي،..


أنور الطيب،..
الرجل الجميل والرائق، والطيب
شكراً لك على هذه المحبّة، ضَحَّكني الاتهام الحنكوشي، عارف براي مرات أتلَفَّت وأتخيل واحد من بتوع ناحيتنا يلمحني ويكورك فيك من بعييد، آزول تسوَّد عليك، المُخْلا شني الدارعها في رقبتك زي جراب القمباره،..
(القمباره) ديل البجذو صوف البهائم،..
بس يا صاحبي أنور دي شنطة اللاب توب،..

Alin
Hi u
thanx



إزيك يا نهال ست الدار، ح تشوفي الفرق لما أنزل النص، وبرضو عازم صاحبي البرنس يشوف فهم الصحفيين لصياغة الجُمَل..
كوني بخير
..

Post: #41
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: انور الطيب
Date: 02-18-2006, 10:04 AM
Parent: #40

الأخت نهال / الأخ محسن تحياتي لكما ، وبعد........

استمتعت جدا بهذا " البوست" الرائع وأكثر ما أعجبني يامحسن تصويرك المزدوج بآلة التصوير و القلم معا في هذه اللقطة الرائعة التي صورت فيها " الكاميرا" بطريقة تغار منها " سندي" حارسة بحرك .

Quote: غافلتهم قليلاً والتقطتُ بعض الصور ليأتي أحدهم ويقول لي امسحها الآن وفوراً، ومَدّ بوزه ناحية الكاميرا مدعياً أنه “بصير” بالتكنولوجيا، فجعلتها تُصَوِّت تصويتات مضحكة لأؤكد له أنها لم تمسح الصور فحسب، بل أعلنت توبتها عن التصوير، وتطالب بكاهن للاعتراف.



ولكم محبتي

Post: #42
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: محسن خالد
Date: 02-19-2006, 09:31 AM
Parent: #41

..
أنور الطيب،..


تحياتي يا أنور، بحارسة البحر شكلنا نسينا عمنا مانديلا بجاي،..

كن بخير، ودما طيباً

وسأقوم بإنزال الحلقة التي كتبتها بدون تدخلات المحررين،

Post: #43
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: محسن خالد
Date: 02-19-2006, 09:53 AM
Parent: #42

..

Quote:
الكاب تاون


في مطار كاب تاون، بينما المسافرون يعبرون في عجلة، مخطوفي البال، مخطوفي اللغات والألوان، مزعزعين بين تاريخهم المُرّ، وبين جنوب إفريقيا اليوم، صاحبة أنزه وأقيم دستور ونظام برلماني، كنتُ أعبر بينهم وأنا المخطوفُ كلّه، وكُلّ ما اختُطِف. أحسست بذاك الصباح طويلاً كجدران، وأنا مكرّسٌ بتمامي لأمسي الذي نَفَق، قلبي يعدو متعثراً فوق ذكرياتٍ كثيرة، الحزن الوجودي الفاتر يُلَفّعني كالشَّرَى، لأول مرّة أحسست بتلك العبارة الساذجة التي تقول: "يُمَزِّق نياط القلب"، التي كانت تضحكني فيما مضى، وحين أقرأها تمتلئ أشداقي بالضحك، وقلبي بالمرح، من حالها وحال لغتها الهشَّة، مباشرة الاستجداء للرحمة. رحمتك يا رب، ثم رحمتك يا صباح "سندي وودز مان".
هذا كان حين مغادرتي لمدينة الكاب يوم السبت 7 جانوري، وكنتُ قد هبطتُ في مطارها ببداية الشهر نفسه، حللتُها في ضحى غائم، وقلبي ينكت كأنّه على موعد عشق، ومن ورائه خلفية خافتة وجارية مثل نهر، نحو سمو مرتقب، لم أكن أعرف بأنني سأصعد مع المتسلقين إلى قمة جبال المائدة التي تُحاصر كاب تاون كمائدة مستديرة، والمدينة تتفَلَّت منها هنا وهناك، لتنوجد منافذ وألسنة لاعقة للمحيط الأطلسي، من أعلى تلوح تلك المائدة ملعوقة لدى جانبين بألسنة من المحيط. أعلى القمة يُسَمَّى "قمة الأُسود"، من هناك رأيتُ السحاب يمور في مرمى كَفّي، وبين قدميّ، والبعيد مني أراه فوّاراً يتماوج وينكب أمام الجبال مثل شلال وهمي، أو كفتاة فاقعة البياض سندت ظهرها إلى المخفي من الصخور، وتركت شعرها تتلاعب به ريح الجبال. شوارع المدينة البعيدة من ذلك العلو تلوح كأزقة صغيرة تتعرّج هنا وهناك في الأسفل، بين المنازل البيضاء والطوبية القانية. أثناء نزولي من قمة الأسود بعدة أمتار، وتسلّق المتر هنا يساوي الكثير من الرعب والحذر والزمن، اجتياز المتر في عرض هذه السماء الرحبة والسحاب، لا يساوي شبحة المتر فوق الأرض، وجدتُ شجرة جميلة وظليلة، اختارت لنفسها كل تلك الرفعة والخيلاء، جلستُ تحت ظلها لأرى المدينة من زاوية محيطة ومهيمنة، ولأكتب وصفي هذا، أسميتُها شجرة السمو العاطفي، فقد حملت من جميع جوانبها نقوشاً لمحبين كُثر رسموا بأعينهم وكاميراتهم مشهد مدينة الكاب من هنا، كما سجّلوا أسماءهم في ارتباط الحب بالحفر على جذعها، نقش ليليان لجانب استيوارت، وبيتر مع حبيبته لورا، قمتُ بنقش محسن خالد لجانب سندي وودز مان، الصبيّة البحّارة، من باب المرح والاحتفاظ بالمكان وروح اللحظة، فقد شعرتُ بوخز مجهولها الدافئ في قلبي، بينما أنا أنزل مطار مدينة الكاب، وحين كانت هي في تلك الساعة لدى المنطقة المعروفة بالوتر فرونت Water front-الوجه البحري- تُعِدُّ الزوارق التي تحمل الناس من لدى بوابة مانديلا الشهيرة، من حيث يعبرون إلى جزيرة روبن، التي احتُبِس فيها مانديلا مع معظم مشاهير النضال الوطني في جنوب إفريقيا.

متحف الأكوريم


في أوّل مرة قدمتُ فيها لبوابة مانديلا لم أكن أعرف أنّ متحف الأكوريم يجاور البوابة، فالناس يقصدون الوتر فرونت لأسباب عديدة، أهمها بالطبع الذهاب لجزيرة روبن، وكذلك الخروج في رحلات الصيد، وأيضاً لمشاهدة سباقات الزوارق البحرية، أي كان بوسعي أن أتوقع وجود متحف التاريخ الملاحي لجنوب إفريقيا بالقرب من هنا، وبالفعل تأكدتُ من ذلك بالذهاب إلى المتحف، أما متحف الأكوريم فقد توقعتُ أن يكون إلى داخل المرسى أكثر، وهو يُسَمَّى في دعاية تقديمه بـ"Two Oceans Aquarium"، أي المتحف المخصّص لعرض طبيعية الحياة البحرية بالنسبة لمحيطين، المحيط الأطلسي والمحيط الهندي، هذا بالرغم من أنَّ المتحف يحتوي أيضاً على عرض دقيق لحياة الكائنات بداخل نهر لورينز Lourens River، هنا بالطبع تلعب التكنولوجيا والإمكانيات دورها، فالمتحف شيء مذهلٌ بالفعل، وتبدأ المخلوقات المعروضة بداخله من أقلّها ضآلة، كالكائنات الرخوة والبدائية، شديدة القرب من النباتات، وحتى بلوغ الحيتان الضخمة من فصيلة أبي سيف وأبي منشار وجميع أنواع أسماك القرش. الكائنات الغريبة أو التي تتميز بنوعٍ من التمَيُّز يُنَوَّه إليها في اللافتات الإرشادية المنتشرة في كل مكان، بالإضافة للشابّات والشبّان الأدلاء والمتخصصين في قيادة الزوّار بداخل المتحف.
لقد أعجبتني نجوم البحر، التي لم أكن أعرف أنها ليست عمياء فحسب، بل هي خُلقت بدون عيون، وأنّ مياه البحر هي التي تجري بداخل أقنيتها بدل الدم، وأنها لخروج أو دخول الطعام إلى أمعائها تقوم بقلب تلك الأمعاء إلى الداخل والخارج فحسب، وليس عبر منافذ مخصّصة ومعلومة كما هو الحال مع المخلوقات الأخرى.
وهي أنواعٌ شتّى، منها النجوم الحمراء، والشوكية spiny. كما شاهدتُ جميع أنواع السرطانات والرخويات الأخرى، الذي يصلح للأكل منها والسام. أمّا أهم نوع أثَّر في من هذه الأنواع، وكان الجميع يلتف من حول سياجه الزجاجي ليتأمله أو ليصوره أو حتى ليرسمه، فالمعرض يستهوي الكثير من الفنانين التشكيليين الذين يهتمون برسم الأسماك وكائنات البحر، فهو سمك الصندوق أو الـBox Jelly Fish ، وهو عبارة عن صندوق مربّع بكل دقة وهندسة، من يراه يظن أنّه "قيطان" فانوس أبيض، من نوع تلك الفوانيس القديمة التي تعمل بالسبيرتو، لولا أنّه في شكل مربّع غير قيطان الفانوس المثلّث الشكل، ونظراً لرهافتها وضعفها، كتلك الحلوى التي يسمونها حلاوة قطن، وبالفعل تشبه هذه الأسماك أن تكون مخلوقة من القطن الرهيف للغاية وناصع البياض، أو هي بالضبط تبدو كأنّها تشكّلت من خيوط العنكبوت. ولذلك فهي قاتلة وفتّاكة للغاية، كحال كل المخلوقات الضعيفة والواهية، لا بُدّ لها أن تتمَيّز بأسلحة دمار لا يمكن صدّها، وذلك من أجل الحفاظ على حياتها ومن ثم نوعها في الوجود، فهذه الصناديق المصنوعة من خيوط العنكبوت مرهوبة للغاية ولا يمكن لأي مخلوق بحري الاقتراب منها إلا بحذر مبالغ فيه.
هناك جداولٌ ضخمة ومتوسعة في المقارنة بين المحيطين الأطلسي والهندي، الأعماق، طبيعة الحياة البحرية فيهما، درجات الملوحة، الثروات، الشواطئ والثقافات المرتبطة بهما، وكُلُّ شيء يدخل في إطار التمايز بين المحيطين كمياه، وكامتدادات لهما خارج المياه.
كما هناك إطارات لعرض المخلوقات البحرية الجميلة، هنا الجمال ينصب بشكل أساسي على الألوان ثم لاحقاً تقاطيع الكائن، وتقف سمكة الكلاون Clown Tiggerfish على رأس حسناوات الأعماق، بألوانها التي لا يمكن تصديق درجة نقاءها وتداخلها وتنوعها، مازحني أحد الفنّانين الأمريكان لدى هذه السمكة قائلاً: هل تعرفني يا رجل، من أي بلد أنت؟ قلتُ لا أعرفك، أنا من السودان. فأجابني أنا أفضل تشكيلي في الدنيا، وأنت لا تعرفني فقط لأنني لم أكن أستخدم ألوان هذه السمكة. قلتُ له ضاحكاً، وهل هي تحمل ألواناً لا تُوجد بالخارج أو يصعب تحضيرها؟ أجابني: بل هي تحمل ألواناً مجهولة بالنسبة لي، أنا لم أرَ بهاءً كهذا في حياتي. بعدها انتقلت لأغرب موضوعة في المتحف، وهي الأسماك التي تحمل وجوه حيواناتٍ معروفة لنا، بكل دقة وتطابق، وليست من نوع الموضوعات التي يصنعها التهويل الصحفي، من جنس أنّ اسم الجلالة أو الرسول وُجد مكتوباً على ظهر سمكة، أو رأس طفل وأحياناً السحب تكتب في يوم عرفة اسم الجلالة في السماء، وحين تنظر إلى الصور لا تجد إلا خيالات صاحب الموضوع، هنا الحكاية مختلفة كثيراً، فالسمكة القطة Striped eel- catfish هي هي، بدون مبالغة أو خيالات، وهي تعيش في المياه الدافئة من المحيط الهندي، والباسفيكي الغربي، وكذلك البحر الأحمر نزولاً إلى جنوب إفريقيا وحتى ميناء اليزابيث، وتتميّز برقتها لدرجة أنها لا تحتمل اللمس. وأيضاً هناك أسماك حصان البحر التي تطابق بالفعل وجه الحصانKnysna Seahorse وهي لا تُوجد بالعالم كله، إلا في منطقة كينيسا التي تحمل اسمها ومنطقة سوارتفيلي Swartvlei وشواطئ الكاب الجنوبية.

جزيرة روبن


قلتُ عليّ الآن الذهاب لبوابة مانديلا ومنها إلى جزيرة روبن، وسأعود للاستمتاع بهذا المتحف مرة ثانية. تحركنا ناحية الجزيرة في الساعة الواحدة من يوم الجمعة. الجانب الأسفل من القارب مُهَيكل بطريقة تشبه مقهى متحركاً، قاعة كبيرة الحجم، وهناك تلفزيون يعرض حال المساجين أيام روبن أيلاند في فتوتها ودورها.
اخترتُ أن أكون في الطابق الأعلى كي أرى جيداً، وكي أتمَكَّن من التصوير، وأخذ راحتي في تدوين ملاحظاتي. مكبرات الصوت كانت تزودنا بالمعلومات والسرد التاريخي، منذ أن كانت الجزيرة قرية عادية وإلى أن استحالت لسجن يضم المجرمين والسياسيين في بقعة واحدة. تذكرتُ سؤال ذلك الإنجليزي لي على قمة جبال المائدة، حين قال لي بأنَّ موقع الجزيرة واضح ومكشوف، فقلت له هذا الآن فقط، لأنه من المسموح لك النظر إلى الجزيرة من كل الزوايا، بل ومن قمة رأس الأُسود. وبالفعل في السابق كان هناك نوع من التعتيم الممارس على موقع الجزيرة. أما الآن فيكفيها أنها أصبحت مادة للدعاية والسياحة. هذه الجزيرة كانت في تاريخها القديم جداً مُجَرَّد منطقة وادعة بمساجدها وكنائسها وتجارها وسُكَّانها من كل شاكلة ولون وصقع، وإن كانت المياه العذبة تُجلب لها من الخارج. الكنيسة التي بداخلها بناها الكابتن ريتشارد وولفCaptain Richard Wolfe في العام 1841م، كما هناك كلينيك طبي ومدرسة ابتدائية ومسجد وسوبر ماركت كبير، أي أنها في السابق كانت تعيش حياةً قَارَّة وطبيعية إبّان العام 1657م قبل أن تُحَوّل إلى سجن لم تنقضِ عجائبه إلا في العام 1996م. أثناء تجوالنا كانت هناك الكثير من الغزلان البرية تتجول في انسراح وحرية تامة، المقبرة أجمل ما أثارني، لأنها تحتفظ بمدافن قديمة جداً، لبحارين وقناصين وقراصنة ورهبان ومساجين وقتلة ومناضلين، قساوسة وأئمة مساجد من جميع الجنسيات. أخذونا للمكان الذي كان يعمل فيه مانديلا مكسراً للصخور، ما تزال هناك كومةٌ من الحجارة التي كان يعمل عليها مانديلا كأثَارةٍ منه وممن كانوا معه.
وكانت إجراءات الأبارتيد تعمل مع مانديلا دائماً بسياسة العزل، كما تُحَرِّم عليهم الحديث مع بعضهم بعضاً، كي لا يكون هنالك تنوير، أو تنظيم وتخطيط لأي فعل جماعي. كنا محظوظين لأنَّ السجين السياسي السابق فينسنت ديبا Vincent Diba كان دليلنا، هم يتعاقدون مع من بقي حياً من السجناء السابقين كي يشرحوا للزوار والمبعوثين الصحفيين والسياسيين ما كان يجري في روبن أيلاند، وفنسنت لا تبدو عليه الشيخوخة أبداً، يلوح كرجل في بداية العقد الخامس وإن كان مسجوناً منذ العام 1923م وقضى 18 عاماً بداخل روبن أيلاند.
شرح لنا كيف كان يقوم السجناء بتدريس بعضهم بعضاً، ثم قادنا لقوائم الطعام التي كانت تقدم للسجناء، ما تزال بطاقة فنسنت كسجين موجودة، وهي مكبّرة بحجم واضح ليتم قراءة البيانات من عليها، والجزيرة كانت مخصصة للسجناء السود والهنود ومن الأجناس الأخرى غير الأوربية فحسب، الأوربيون لم يكن يتم سجنهم هنا على الإطلاق. الأكل موضوعٌ كبير بالنسبة للسجناء طبعاً، وكانت تمرر أجندة السيطرة من خلاله فهم لا يعطونهم ما يكفيهم ليكون التفكير فيه دوماً، والصراع حوله، ومع الحرمان من الدخان يتم تشتيت قدرات السجين الذهنية تماماً بجعله بهيمة ينحصر تفكيرها في متطلبات غرائزها اليومية فحسب، ومع الحرمان من الصحف والتلفاز والراديو لأجل العزل المعرفي، يكتمل لهم إزالة السجين من الوجود. ومحو الشعور لديه بالزمن وبالحراك والتبدل، فيسقط بذلك العالم الخارجي من اهتماماته.
هنا تُوجد الكثير من العنابر الصغيرة جداً، فالحال يختلف قليلاً عن بعض أقسام تلَّة الدستور بجوهانسبيرغ، الحمّامات تُقارب ذلك الوضع المزري الذي تحدثنا عنه في خلية مانديلا وغاندي، وإن تختلف عنه قليلاً لعامل كِبَر المساحة على الجزيرة بالطبع، وضيق المكان في تلّة الدستور. واضح أنَّ العنبر هنا مصمم ليكون بارداً في الشتاء وحاراً في الصيف، كأكواخ الزنك الحديدية، التي لا تُؤَثِّر على الطبيعة بتاتاً، تقف في تمام مواعيد العطالة واللاوظيفة، الحر يشعلها ومع البرد تثلُج.
تسأل إمرأة إسبانية فنسنت، الغسيل يا سيد فنسنت، كيف كنتم تغسلون ملابسكم؟
يقول فنسنت، مع نظرة إلى السحب التي تمر، كنا نستخدم ماء المطر في غسل ملابسنا، يشير إلى قيعان وأخاديد في الأرض السبخة والحمراء، يمكنك يا سيدتي أن تستعملي تلك الحُفرة كطشت غير مكلّف أبداً.
التجوال بين عنبر وآخر غير مُصَرَّح به، وقطعاً ستتلَقَّى عقوبة صارمة لو تنَقَّلت بين العنابر، وتُصرف لك عشرة أيام من العمل الإضافي في تكسير الصخور. والزيارة ممنوعة إلا نادراً وفي حالات استثنائية تستوجب منتهى الضرورة، ويتم الترتيب لها بشكل صارم ودقيق لدرجة القسوة المهينة والمزرية للزائر والمُزار.
ذهب بنا فنسنت بعد ذلك في جولة حول السجن، كنتُ متشوقاً لأرى زنزانة مانديلا، يسمونها الخلية رقم 5 وفيها تُوجد متعلقاته، ذكروا بأنَّ الملعقة التي كان يستخدمها قد سُرقت بواسطة أحد السياح، ولذلك أُغلقت "الخلية" وأصبحت متحفاً للحفاظ على ما تبقى من متعلقات مانديلا. هناك البطانية التي كانت له، وهي تشبه البطاطين العسكرية جداً، كوز للشراب ومسند مُغَبَّر، الزنزانة تبدو مترين في مترين. تدافع الناس هنا لأخذ الصور، فالوقت المسموح به يشارف على الانتهاء، أخذتُ الكثير من الصور بتلكئي المعهود، الدليل ينبهني لكوني لا أُراعي القوانين، قلت له، جئت من بلاد بعيدة لكي تترسخ الأشياء في رأسي، ولكي أؤرّخ لها في سجل مذكراتي بكاميرتي، إنني كاتب وما أنا بسائح. أخذنا فنسنت بعدها إلى الفصل الدراسي الذي كان في السابق ملجأ للسجناء، يتدارسون فيه ما سمح السجّان بذلك؟
هواء صافٍ كان يلفح وجوهنا بينما نحن نخرج إلى فسحة العنابر الكبرى، كانت هنالك منارة عالية للجزيرة، لا تضاهيها في الارتفاع إلا تلك الأبراج المخصصة للدرك والحُرَّاس، الساحة العامة ينتصب فيها بفخار كولينالي أصيل مدفعٌ كبير كان يستخدم في الحراسة، فلم يكونوا يستبعدون أن يتم الهجوم على الجزيرة، فمعظم قادة النضال في جنوب إفريقيا كانوا بداخلها، وربما يصدرون تعليماتهم لخلاياهم السريّة بمهاجمتها، لذا فالحراسة على الجزيرة لم يكن يقوم بها مجرّد طاقم حُرّاس، أبداً، بل مليشيا عسكرية كاملة وبكامل عتادها.
أذكر أنني في رحلة العودة لمحت فنسنت يجلس معنا في الزورق ورائي لم يكن هناك كرسي مجاور له، دعوته ليجلس بقربي وأخذت أتحدث معه حول السجن والسجناء، أنا شخصياً شغلتني فكرة الهرب من هذه الجزيرة، سألته، هل هناك من فكّر في الهرب أو من استطاع ذلك؟
أجاب نعم، وقاطعني بسؤال من أي بلد قدمت، قلت له أنا سوداني وجئت من الإمارات. قال الإمارات بلد ثري. قلت له نعم.
قال إنَّ هناك سجينان سياسيان حاولا الهرب، ديفيد ستورمانDavid Stuurman الذي نجح في الهروب ولم يُقبض عليه ثانية. والنجاح في عملية كهذه لا بُدّ له أن يتم على مراحل، الإفلات أولاً من حُرّاس الساحة الداخلية للعنابر، ثم من حُرّاس البوابات الخارجية للسجن، وبعدها مرواغة المليشيا العسكرية المتخندقة خارج كل ذلك، لتفصل بين مجمل الجزيرة ومياه المحيط، قال إنّ المناضل ديفيد أفلت من كل هذه الحراسات بالليل، ثم نجح بعدها في المرحلة الأخطر من كل ذلك، وهي تمضية الليل كله سباحة حتى شواطئ مدينة الكاب والإفلات من الحارس الكبير "الغرق"، أما السجين الثاني الذي حاول الهرب فهو ماكانا Makana والذي نجح في خداع الحرس، واجتياز كل تلك السياجات والمتاريس، ولكن لم يفلح في خداع المحيط الأطلسي، فلقي حتفه غرقاً.
أضاف بأنَّه في الثمانينات استطاع أحد المجرمين السجناء أن يهرب هو الآخر من هنا، المسألة ليست مستحيلة فحسب، بل الهرب من الكاتارز يبدو مزحة مسلية مقارنة بالهرب من جزيرة روبن الشهيرة.
هاهنا أمضى مانديلا من العمر ما يكفي لولادة إنسان وعيشه حتى مرحلة تخرّجه من الجامعة. معظم من دخل هذا المكان إما أنَّه مات من سوء التغذية والمعاملة، وإما أنّه أُصيب بالوحشة وانتحر بنفسه، أو أُصيب بكامل الجنون ليُلْقِي به الحُرّاس بعدها في مياه المحيط، كما قال لي فنست. الذي تنفرط أعصابه ولا يستطيع التماسك، يُلقى في المحيط، هذا قانون معروف هنا، فهم لم يكونوا يعتقدون بأنّ الأسود يمتلك عقلاً بالأساس، لكي يبعث بعدها إلى مصحة تستعيده له، والذي ينجو من كل ذلك يموت موتاً طبيعياً بالداخل، لأنّ المعتقلين كلهم محكومون بالتأبيدة.
لاحت بوّابة مانديلا من بعيد، كعروقٍ للمدينة في المحيط، بين غَبَش المياه والضباب، فما أصدق أنها بوّابة، من هنا ولج تاريخُ هذه البلاد منطقة لا يلجها الزمن نفسه إن لم يكن في صحبة مانديلا.

رأس الرجاء الصالح



الصباحات دائماً تشبه أن تكون نساءً، في صباح سالي دومينك الأشقر قليلاً، الصباح البعيد والمعروش بالرذاذ، نَسَّقت لي مديرة نُزل تويليب مع سائحة سويدية من جذور فرنسية للذهاب إلى منطقة رأس الرجاء الصالح البعيدة جداً من الكاب، في نَفْس الصباح الذي كنت قد هيأتُه لمهمة أخرى، فقد رأيت الجميع لا يذهبون من مدينة الكاب دون رؤيتها وتوديعها من لدى أعلى قمة في جبل المائدة، تُعرف برأس الأسود، ولكن ما كان بوسعي أن أُفوِّت تلك الفرصة لرؤية رأس الرجاء الصالح، حافّة القارّة الغامضة، قارّة السحر والغابة، الخلق والطقس الديني، الأقنعة وكنوز سليمان، ورؤية كورنتها المبذولة بكل مجانية التاريخ والبحار، لأمزجة المغامرين الكبار، القراصنة والغزاة، المستطلعين، وتُجّار العاج والذهب والرقيق. قلت إذن لنذهب إلى ما هو أبعد، إلى رأس الرجاء الصالح، بالرغم من أنّها دونها المدن والجبال، وتكلفتها تكون مرتفعة جداً لو حاول الشخص أن يذهب إليها بمفرده، لذا تشاركتُ نفقات الذهاب مع سالي دومينك، صاحبة ذلك الصباح، ليكن رأس الرجاء الصالح، وجبال المائدة بالأصل هي منتظرة منذ القديم، فلتُضف لانتظارها قليل انتظار.
خرجنا في طرق الطبيعة الوعرة وهي تصطرع مع التكنلوجيا الوعرة، ورأس المال الوعر، الجسور القافزة، الطائرة، الدرابزينية، حتى تخال نفسك تسير في عالم ملائكي وبأجمل الأجنحة.. غاية الجمال، كلُّ شيء فيه يبدو كالرسم بخطوط معلّقة في السماء، عندما ارتفعت بنا السيارة من إحدى جوانب جبل المائدة أصبح بوسعي النظر إلى المدينة من زاوية شاملة وجميلة، توقفنا لنلتقط بعض الصور من ذلك العلو، فبدت منه المدينة مبهولةً في البحر، أو كأنها شفطت البحر إلى حضنها.
أمتعنا ذلك الصباح المجنّح والمعروش بالرذاذ، قبل أن نصل إلى مدينة سايمونSimon’s Town التي هي أكبر مدينة في تلك الأنحاء، نزلنا كي ندخل إلى مرسى السفن الضخم الذي يقوم على وجهها البحري، ولكن الحُراس منعونا من الدخول إلى هناك، غافلتهم قليلاً والتقطتُ بعض الصور ليأتي أحدهم ويقول لي امسحها الآن وفوراً، ومَدّ بوزه ناحية الكاميرا مدعياً أنه "بصير" بالتكنولوجيا، فجعلتها تُصَوِّت تصويتات مضحكة لأؤكد له أنها لم تمسح الصور فحسب، بل أعلنت توبتها عن التصوير، وتطالب بكاهن للاعتراف.
هذه المدينة تجذب التشكيليين بجميع ألوانهم وحركاتهم لهدوئها وجمال طبيعتها، البيوت المتسلّقة كما يمكن تسميتها، تبدو كنباتات زاحفة قامت بتسَلُّق الصخور والمرتفعات، التشكيليون يأتونها من أرجاء متفرقة من الدنيا ومن داخل جنوب إفريقيا، هناك مشاغل ومعارض فنون كثيرة جداً، قمنا بزيارة واحد من أهمها تمتلكه سيدة لطيفة ومحنّكة في آن، معرضها تشارك فيه كمية كبيرة من الفنانين، اشترت منها سالي دومينك تمثالاً جميلاً وغالياً، بعدها اتجهنا ناحية رأس الرجاء الصالح مباشرة، نَفْس طرق المرتفعات المتعرجة والخضراء، تلتف من حول الهضاب وتتخللها، بعد مسيرة معقولة أخرى، أصبح الطريق يكتظ بالسيارات فنَبَّهنا السائق إلى أننا قد اقتربنا، وبالفعل أخذنا نرى قوافل وقواطر السياح والرحَّالين والمغامرين يملؤون فسحة الوادي الرحيب، ويُلَوِّنون بملابسهم الرياضية عُلوَّ المرتفعات نحو النقطة المأكولة في جنبة الجبل، تلك القرمة الشهيرة للمنطقة التي يتحَدَّد بها رأس الرجاء الصالح فوق قمة الجبل، ما كنا نراها في الصور والخُرَط.
هاهو يا ربي.. المنعرج أو الكورنر التي التف من حولها العمالقة وجوابو البحار العظماء، أمثال "ماركو بولو"، "ماجلان"، "فاسكو داغاما" ورفيقه "ابن ماجد"، والأدميرال جينج خه الصيني المسلم، الذي جاب مياه كوننا في أضخم آرمادا تبجّح بها التاريخ الملاحي.
أوّل ما تلمحه موقعاً لاستئجار الدرّاجات تعين الناس في التسلّق، وإن رأينا أنّ الدراجات ستكون مرهقة أكثر من السير على الأقدام، كما أنّك تستخدمها لمسافة صغيرة بعدها يستحيل الاعتماد عليها، اتفقنا على ذلك ثلاثتنا، السائق وسالي وأنا. ركنّا السيارة وانطلقنا في المرتفعات التي تمتلئ ببشر من كافَّة أنحاء الدنيا. كلهم يقصدون رأس الجبل لبلوغ تلك "القِرْمَة" الشهيرة من جبل نقطة رأس الرجاء الصالح، التي تراها من الأرض معيّنة بمحطة ضخمة أسفلها قليلاً، أما النقطة نفسها فهي تشبه أبراج المراقبة المعروفة، وإن كانت مستديرة، ومسيّجة لحجب الناس عن الهاوية التي تحيطها من الجوانب كلها، من ذلك العلو ترى السفن العملاقة مثل سفن أطفال ورقية.
لا تستطيع أن تتقدّم لأكثر من عشرة أمتار دون أخذ راحة، أخذ السائق يمضغ عُشبة التقطها من الأرض تشبه عُشبة "التمليكة" السودانية كثيراً، وإن هي أخشنُ منها، سألته عنها، فقال إنّ اسمها سورفيكز Sourfigs، سألته سالي باستغراب هل تأكلونها هكذا، قال لا، ولكن تلك طريقته هو في أكلها، أما بالنسبة للآخرين فهم يطبخونها مع الصوص واللحم. منظر الناس في ذلك الضباب وبين الخضرة بملابسهم الملوّنة، بدا فاتناً ومنغمساً في المرح لأبعد الحدود، لم يهزّني مشهدٌ مثله إلا حينما مررت ببحيرة بروما في قلب مدينة جوهانسبيرغ ورأيتُ حشوداً من الناس يُصَلّون بين الأشجار وعلى الحشائش، في ثياب بيضاء كلهم، القساوسة يخطبون، فِرَق الإنشاد الديني تُرتّل، مثل هذه المشاهد تجعل الإنسان فخوراً بنفسه وبالطبيعة في آن. هكذا هم جعلوا من الطبيعة الخضراء كلها كنيستهم.
واصلنا في زحفنا ذلك لأكثر من ساعة ونصف، حتى بلغنا المحطة بقرب النقطة النهائية، هنا أقاموا بناءات مسيّجة ومكاتب تعطي الكثير من المعلومات عن رأس الرجاء الصالح، بالإضافة لمحطة صغيرة لآلة الفنكيلور Funicular إذ يسمونها، أي ترولي الجبال الذي يسير بالحبال الكهربائية المُعَلَّقة، فالناس الذين لا يستطيعون التسلّق يركبونه، وهناك من يركبه لأجل المرح والاستمتاع بركوبه. كما يُوجد مطعم صغير وبار محشوران بين الصخور وجذوع الشجر. كل من يمر بك قريباً من القمة تجده يلهثُ وتحت مطر من العرق، ولكن نسبة لهواء المرتفع المنعش، بمجرّد جلوسك عدّة دقائق على صخرة أو بنش، تستجمع طاقتك فوراً وتفارق بلل العرق، المكان ملئ بالبنشات كي يستجم عليها الناس من عناء التسلّق. بعد عشر دقائق أخرى "بلغنا وَقْع الصوت، ووقوع الخالص، خارجاً، هنا يجري تأمل الشرنقة وهي تختفي" كما يقول الشاعر نوري الجَرّاح. الازدحام لدى القمة ونقطة النهاية كان مزعجاً، لا يمكن للناس كلهم الدخول في لحظة واحدة، والطريق الذي تدخل منه لا يمكنك أن ترجع عبره لأنّ الناس يسيرون من خلفك، النقطة محدّد بعلامة كالصليب، والهواية تُحيطها من الجهات الأربع، لذلك سوّروها بجدار صخري مرتفع، كي لا يفكّر أحد في التجوّل خارج حدود نقطة النهاية، أما أنا فلم يردعني صياح الناس فيّ بأن لا أقفز من فوق الجدار الصخري، لقد جئت من أقصى الدنيا وعليّ أن أنظر إلى المحيط من هنا، وليس من صور الهيلكوبتر، فعلتها ودسستُ نفسي بإحكام بين صخرتين ثابتتين، لأنّ الهواء خارج الجدار كان قوياً جداً، ثم أخرجت كاميرتي لأسجّل تلك اللحظة التي ربما لا تتكرر ثانية، فالشاعر محمد أحمد السويدي لن يُبَدِّد أمواله كلها على رحلاتي.
لو بقيت بداخل الجدار لن يسمح لك تزاحم الناس بأكثر من خمسة دقائق، أما في مكاني الخاص ذلك الذي اشتريتُه بمجازفتي فقد بقيت لأكثر من ربع ساعة، لأنّ الهواء أخذ يشتد.
هبطنا مرة ثانية وتجوّلنا بين شعاب الجبل والحشائش، التسكّع في الطبيعة طاقة مجانية للروح دون شك، أخذ نهارُنا يجفل بعيداً، ومعه الحماسة والنشاط الصباحيين، أفواجٌ تصل وأفواجٌ تغادر، زحفنا مرة ثانية ناحية الأرض، لنرتاح قليلاً في المطاعم والاستراحات المقامة بأسفل قمة رأس الرجاء الصالح. ثم انطلقنا إياباً من جديد، لنمر بمدينة سايمون ثانية. قررنا سالي وأنا زيارة المدينة الأشهر في هذه الأنحاء، ثم أجرينا اتفاقاً جديداً مع السائق ليُغَيِّر طريقه ويأخذنا إلى مدينة ستيلن بوش Stellen Boasch، مدينة النبيذ، والتي تبعد قليلاً عن طريقنا الأول. ولكم يشبه مدخلها مدخل فيلم الموسيقار راي شارلز، الذي يبدأ بالزجاج المُعَلَّق في الأشجار تمرجحه الريح، نَفْس المشهد هنا، الأشجار تمتلئ بالقناني المُعَلَّقة، ما جعل ذلك الفيلم يقفز إلى رأسي فور دخولنا المدينة، التي هي مزرعة عملاقة تتكوَّن من مئات المزارع الصغيرة لصناعة النبيذ الجنوب إفريقي الشهير، وتعتبر من أبرز معالم السياحة في جنوب إفريقيا. الناحية التي جئناها منها هي ناحية تعتبرُ بمثابة المعرض أو السوق الذي يعرض فيه أصحاب المزارع والشركات منتجاتهم. اختاروا له مكاناً دافئاً يجاور بحيرة كبيرة وإن هي أصغر حجماً من بحيرة بروما في جوهانسبيرغ. البحيرات هنا وأنواع النبات هي التمايز الوحيد الذي يقف بين طبيعة القارّة الإفريقية لدى آخرها بجنوب إفريقيا، وبين أوّلها في بلدان المغرب تونس والجزائر والمغرب الأقصى، أما ناحية الهضاب القصيرة بداخل المدن وطبيعة ولون الأرض فمتطابقة كما تقدّم.
أُقيمت مراوح لا حصر لها فوق جداول صغيرة من البلاستيك يجري فيها النبيذ، تذكّرت الآية: "وأنهارٍ من خَمْرٍ لَذَّةٍ للشاربين"، وإن كان الهدف منها هنا طقسٌ غريب، فهذه المراوح تدفع بهوائها من خلال مواسير صغيرة يتسرّب منها النبيذ في رفق، ليكون له رذاذ وغُبار مُسْكِر، يأتي الناس ليتنفّحوه بأيديهم ويُعَرِّضون وجوههم له، كما نفعل بأعواد البخور وروائحها.
هي مدينة باخوس بتفوّق، تجوّلت لجوار البحيرة التي رأيتُ فيها من الطيور المائة أنواعاً غريبة جداً، تتسم بملامح تشبه طيوراً تأتينا في مواسم الصيف عادة. لم أستطع الاقتراب منها وتصويرها لطبيعة الشط الزَّلِق للبحيرة، تناولنا غداءنا هناك والشمس تلمع باحمرار مغيبها، ثم غادرنا مدينة أبي نواس ناحية الكاب تاون من جديد.






...

Post: #44
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: نهال كرار
Date: 02-24-2006, 10:25 AM
Parent: #43

الأديب محسن خالد
تحياتي

الحلقة الثالثة لهذا الأسبوع


مدينة الصراع بين رجال الأدغال وثعابين الماء
الشبكة الذهبية ... بريتوريا.. أسطورة في قلب إفريقيا


في إطار البعثات التي يسيّرها “المركز العربي للأدب الجغرافي- ارتياد الآفاق” تجول الكاتب الروائي السوداني محسن خالد في جنوب افريقيا، وشملت رحلته ثلاث مدن أساسية هي جوهانسبرج، بريتوريا، وكيب تاون، حيث زار معالم أساسية في هذه المدن، وكتب يومياته وانطباعاته عما رآه هناك في أماكن طالما قرأ عنها وظواهر سمع بها، لاسيما في الحقبة السابقة على انهيار “الأبارتيد”، أو نظام الفصل العنصري.

ونص الرحلة سيصدر عن “دار السويدي” في أبوظبي في عداد سلسلة “سندباد الجديد”. هنا قطوف من رحلة محسن خالد إلى جنوب افريقيا التي تعتبر الأولى لكاتب عربي منذ أن زارها الأمير محمد علي باشا في 1924 ووضع كتاباً عنها تحت عنوان “رحلة إلى جنوب افريقيا”. قَدمنا في الأسبوعين الماضيين تجواله في جوهانسبرج ومدينة الكاب، واليوم يواصل رحلته في مدينة بريتوريا، يقول محسن:


بريتوريا مدينة باسلة، وولايتها لم تسقط في أيدي الكولنياليين إلا تلو معارك شرسة ودامية، وبعد حصار يعد من أهم الحصارات في تاريخ المقاطعات التي أُسقطت بالتجويع والمحاصرة، وإثر عشرات المعارك طويلة الأمد بين الزعيم والمناضل الافريقي “كجوسي كي لبوهو” قائد الهنانوا Hananwa، وبين الكولنيالي “جن بي جوبيرت” قائد مرتزقة قوات الزار Zar. مدينة أسطورتي البلوبيرج والمامو جاسوي، “البلوبيرج” الرجال فاتحو الألوان الذين يخرجون من الدغل ومعهم الكنوز، “المامو جاسوي” ثعابين الماء الضخمة التي تتجول بين الأحياء وتخطف ما تشاء من أرواح.

في يوم الأحد 8 يناير، خرجت من فندق برويتا بجوهانسبرج لأكون في انتظار صديقي بيتر، والذي سيقلني إلى مدينة بريتوريا. سمعتُ موسيقا الجوسبيل Gospel الدينية، وافرة الحنان، وتملأ فراغات المدى بألوان صوتية كرسّام، ممزوجة بأصوات “درمز” افريقية، ثم كتلة الأصوات الجماعية، “ممبو.. ممبو نانجي، ممبو.. ممبو نانجي”، ما دكوا به جبروت الكولنيال وما عُرف عن مظاهراتهم، التي كان يصفها الكولنيالون بأنها مجرّد كتلة صوت لرعاع. ولم يكن بوسعي مقاومة ذلك السحر مع أول فنجان قهوة للصباح.


المطعم الطائر: مررنا أولاً بحي سويتو حيث متحف هكتور بيترسون الذي تحدثنا عنه في جولتنا بجوهانسبرج، ثم غادرنا المدينة ناحية ضاحية الألكساندر Alexander Township التي تبدو كجزء من المدينة يقع خارجها قليلاً، ولا تشعر بالانفلات تماماً إلا بالوصول إلى ضاحية ميدراندMidrand والتي ذكّرتني كثيراً بالمنطقة التي تقع خارج مدينة دبي، حيث تُعسكر الشركات العملاقة.

لمحتُ جسراً طائراً فوق الشارع الذي نستغلّه من بعيد، يشير إليه بيتر ويقول: هذا هو المطعم المعلّق الشهير، قلت له دعنا نتوقّف قليلاً، بالحق هو تحفة، لكونها تقع خارج الأحياء أولاً، ونسبة لطريقة معماره العجيبة، فهم قد اختاروا أن يبنوه في شكل جسر طائر من فوق الشوارع التي تجري من تحته كالأنهار، يقصده الناس حين ينوون تمضية جُلّ اليوم في منطقة هادئة.

بعدها تحركنا نحو منطقة سينشريون Centurion التي تمتد بداخل واد خفيض تملؤه الأشجار والخضرة، العشبيات والورد البري، المباني فيها جميلة ومنسّقة، منتهى اختزال الطبيعة في مسكن.

بدخولنا منطقة بريتوريا أوّل ما لفت انتباهي هو اللافتات الضخمة التي تُطالب بتوقّف الحرب في العراق وخروج الكولنيال الأمريكي من أرض الرافدين، وهي منظمة بواسطة حكومة جنوب افريقيا وليس بواسطة السفارات العربية الموجودة هناك. الأرض هنا مفتوحة لكل فكر ثوري وضد الكولنيال، هذا ما تعلّمه الناس بعد تاريخ دامٍ ومرير، وما يحاولون الآن تعليمه لأجيالهم القادمة، بدعم رفاقهم العراقيين وإن كان في أرضٍ تبعد عنهم موقعاً وثقافة وديانة.

وبالمرور على قاعدة عسكرية ضخمة جداً، كانت في السابق تستخدم من قبل النظام الكولينيالي كوحدة احتياط أو معونة في حالات الطوارئ، هذا أيام تأزم الوضع وبلوغه مراحل خطيرة من المواجهات اليومية الشرسة، في أواخر الثمانينات وبدايات التسعينات، بعدها بمسيرة ربع الساعة تبدأ معالم مدينة بريتوريا في الظهور.

جامعة يونيسا UNISA، التي تبدو كأحفورة مذهلة تبرز من ثنايا مرتفع موازٍ لمجموعة من الجسور الطائرة، هي الأشهر على الإطلاق وتعرف ب”يونيسا” مختصر تسميتها “جامعة جنوب افريقيا”، هذه الجامعة كانت من أهم الخلايا السرية لحزب المؤتمر الافريقي وما زالت تُعتبر من أهم مواقعه.

بريتوريا هي المدينة السياسية لجنوب افريقيا، فيها تُوجد جميع السفارات والقنصليات لبلدان العالم الأخرى، لذلك فالمدينة هادئة، ولا تتميّز بالحركة والصخب كجوبيك أو الكاب تاون مثلاً، حتى الأوضاع الحياتية هنا مستقرة لحد بعيد، وتخلو من سيرة العنف أو عدم الأمن الذي ينتشر في مدن أخرى مثل جوهانسبرج أو الكاب تاون وديربن. وطابعها ريفي بامتياز، منسّقة وتتميز بذات الضخامة والتمدّد الذي تتميّز به كل مدن جنوب افريقيا. الأسواق الكبيرة، والمحال التجارية ذات الطابع الخاص بالأفارقة، أو الأخرى التي هي غاية في الأوروبية والرفاه، الساحات الكبرى والمسارح ودور السينما ومعظم تكتّلات الصحافة في بريتوريا.


متحف الترانسفال: في صباح ممطر، بعد أُلفتي مع فندق بروتيا والبحيرة الصغيرة بداخله، كنتُ قد عشقتُ هذا الفندق من جوهانسبرج لذلك نزلتُ في أحد فروعه ببريتوريا. وخطر لي أن الصباح غير مناسب أبداً ليخرج فيه أحد، لذا قَررت استثناء نفسي من هذا الصباح والذهاب لمتحف الترانسفال للتاريخ الطبيعي، اليوم سيقل الزائرون مما يُقَلل الرقابة على الكاميرات، كلما كثُرت الحشود سيكون هناك موظفو مراقبة كُثْر، وسيسلخون أذنيك بكثرة نصائحهم وبمواهبهم المتقنة في إخبارك بما يجوز داخل المتحف وما لا يجوز، مضافاً لكل ذلك عقدتهم الأزلية مع الكاميرا.

وبعد ملابس ثقيلة ومن دون شمسية كنتُ أُكافح المطر في الخارج، أتسلل من تحت جدار لآخر، المتحف لم يكن بعيداً عن مكان إقامتي، واختار لي بيتر هذه المواقع بحساب دقيق عندما أنزلني هنا، وبعد أن أرشدني لكثرة الأماكن المفيدة الواقعة قريباً من الفندق. وكنتُ قد رأيتُ “أوليتا” موظفة وزارة الخارجية ورتبنا برامجنا معاً، وهي أرتني كيف يمكن لي الوصول إلى متحف الترانسفال من الفندق. وبخروجي منه مباشرة والتوجّه يساراً ثم يميناً والسير على نحو مستقيم، لمسافة 2 كيلومتر تقريباً، ثم الانعراج يساراً والسير لمسافة نصف كيلومتر آخر، كنت هناك، وكان تقديري للأمر محقاً إذ لم يكن ثمة ازدحام ولا سيّاح مزعجون، وإن واجهتني المشكلة الأولى مع ثمن التذكرة لعدم توفّر فكّة، قال لي الحارس ادخل بعد خروجك سنتفق، ضحكت وتحسست الكاميرا لأجد أنّ باب البطارية مفتوحاً، ما يعني أنّني تركتُ البطارية في الشاحن بالفندق، لكم هذا الصباح الممطر مشاكس، أحب الأمور عندما تفسد في آخر دقيقة، عدتُ مرة ثانية وأتيتُ بالبطارية الدّلوعة، بعد أن أثبتت أهميتها كاملة وتحالفها مع المطر ضد شخصي المسكين.

متحف الترانسفال من أقدم متاحف جنوب افريقيا، ومعروف رسوخ علم التاريخ الطبيعي هنا وما يجاوره من علوم أخرى كالتي تبحث في أصل الإنسان والعُصور القديمة، بل نظرية التطور نفسها تُنسب بذرتها الأولى إلى علماء جنوب افريقيا. والعالم الشهير أوستن روبرت كان أحد العاملين بهذا المتحف وقد التحق به في العام ،1910 وهو من قام برسم أولى الخُطط للمحافظة على حياة الكثير من الطيور، ومنها ما انقرض فعلاً ولا يُوجد إلا من ضمن محنطات هذا المتحف.

قسم الطيور هو أول ما تبدأ به، ويدهشك باتساعه، وترى فيه أنواعاً من الطيور لا يمكن تخيّل وجودها في الحياة، وأكثر ما استهواني هنا، هو طيور الحفريات واللقى القديمة، على وجه الخصوص المرحلة الديناصورية للطيور، هناك طائر ديناصور له سبعة أنواع بجنوب افريقيا وإن كان أول طائر يُعثر عليه من نوعه كان في ألمانيا عام 1861. أيضاً أعجبتني منقوشات حجرية حقيقية تنتمي لملايين السنين للوراء، تم العثور عليها وتوزيعها على حسب أقسام المتحف، هناك مثلاً آلات بدائية قديمة كان يستخدمها إنسان العصر الحجري في صيدها، ووُضعت بأقسام الطيور، أما الآلات التي كانت تستخدم في صيد الثدييات، فقد وضعت بجوار قسم الثدييات، ومع ذلك هناك قسم كامل مخصّص للعلاقة التي كانت تربط بين الإنسان القديم والحيوان، إنْ علاقة افتراسه لهذه الحيوانات أو استئناسها أو حتى دخول هذه الحيوانات في بعض طقوسه الدينية وشعائره.

هذه قارة الطوطم والأقنعة وشعائر الإنسان القديم، مما قبل إنسان جاوة وبكين، اللّقى حول هذا الإنسان والإثارة التي تركها لا حصر لها، أعجبتني أكثر المنقوشات والحفر على الصخور، وهو نفسه ما ساعد العلماء كثيراً على دراسة ذلك التاريخ القديم والاقتراب من أكواده وشفراته الخاصة والبائدة، من هنا تابعوا أصول الزولو والهنانو والباتو وغيرهم ممن يُعتقد بأنهم نسلٌ لسلالات ضاربة في القِدَم والعراقة الكونية.

كنتُ قد رأيتُ رسوماً جميلة ومعاصرة تحاول تقليد هذه النقوش البدائية، ولكن هيهات، المسألة هنا تبدو كرسوم الأطفال، تراها سهلة وبسيطة وربما مباشرة، ولكن تصعب محاكاتها لدرجة أعيت فنانين كباراً، هنا أصالة روح وقدرة طبيعية، ما أبعدها عن قدرات الفنانين المدركة بالصقل والنظرية.

وبدا قسم الدكتور جورج فان صون الروسي الأصل والمولود بالعام ،1898 مثيراً للاستغراب والحيرة، فالعالم جورج التحق بمتحف الترانسفال عام 1923 وهو أشهر عالم “فَرَاشات” عرفته دنيا البحث العلمي في هذا المجال، كَرس حياته كلها لبحث حياة هذه المخلوقات ونُظم وجودها وتطورها. تصوري في السابق مهما اتسع برغم انتمائي لبلد افريقي تكثُر فيه أنواع الفراشات- لن يتجاوز العشرين نوعاً، ولكن هنا تجد نفسك في صالات طويلة مخصّصة لآلاف الأنواع، فَراشات الجبال، البحر، الحقول، الليلي، النهاري، السام، غير السام، الملوّن وله رائحة، المائي، وما يصعب حصره من الصفات والتمايزات بين هذه الأنواع. حتى إن هناك أشكالاً لأنواع من الفراش إن لم تُخَبر مُسَبقاً بأنها فراش، فلن تعرف إن كانت هي لصغار فئران أو أرانب وما يشبه مخلوقات أخرى غاية في البعد الآني- عن أشكال هذه المخلوقات الجميلة، وأيضاً تكتشف منها ما هو غير جميل إطلاقاً ولا يمتّ إلى الفراش الذي نعرفه ولو بمجرد التصور، والدكتور جورج كان عالماً كبيراً ومثابراً، مَضى حياته كلها في مطاردة الفراشات، وأخرج ثلاثة مجلدات ضخمة حول هذا الجانب الضخم من الكون إذ تكتشف ذلك، والمجلّد الرابع تركه كمخطوطة أُخرجت بعد رحيله في العام 1967. هنا تجوّلت كثيراً في صحبة الدكتور جورج، خصوصاً وقد أعجبتني ميزة فيه، وهي رصده لما هو غريب في حياة هذه المخلوقات، وما هو غامض أيضاً، بتواضع شديد تستشف من تعليقاته أنّه يقول نحن في قلب هذا العالم فقط من أجل تأمّله، لسنا بصدد مزاعم تفسيرية تدّعي فهم كل شيء، وهذا بالطبع هو القانون المعروف بخصوص الكائنات الحيّة كلها، الثابت أن ما هو معروف عن حياتها لا يساوي شيئاً إذا قُورن بما هو مجهول. الأمور مع علوم أخرى كالميكانيكا ومشتقاتها، أو أقسام الطبيعيات الأخرى، تبدو معروضة في حد أكبر من الاختبار والتأكد، ولكن هنا ينضاف عنصر ألغاز الروح، التي ما تزال العقدة التي بلا حل.

متحف التاريخ الثقافي: بالفعل جنوب افريقيا بلد مختلف في كل شيء، أذكر أنني في أحاديث لاحقة لي قلتُ لأحد الشباب المثقفين هنا، حول مدارس التشكيل، إنّ حركة الفنون والآداب بداخل جنوب افريقيا لا يمكن الاتّكال في دراستها أو متابعتها على منجزات أوروبا فحسب، إذ لها طعم عجيب ومختلف، كل الأشياء تقريباً على أرض جنوب افريقيا جاءت مصاغة ب”غرائبية المَنْفِي والمبتوت” كإشارة مني لموقع الرجل الأبيض هنا، ضحك وقال لي: هذه مدرسة جميلة. قلتُ له أنا لا أمزح لقد لاحظت ذلك حين ذهبتُ إلى متحف التاريخ الثقافي، يمكنك مراجعة فن عصر “الرينساس” والباروك والفيكتوري والإدواردي والركوكو الجديد والكلاسيكية الجديدة وفنون الديكو ومقارنتها بجذورها الأوروبية خاصة البريطانية، هي ليست هي، وإن بقيت بعض الدلائل التي تُشير إلى ذلك، في هذه الأرجاء تتنفّس الغابة، والحس هنا موسيقي وبدائي أكثر، بمعنى له خصوصية انتمائه العميق للطبيعة، هذا بالرغم من أنّ جنوب افريقيا كانت بشكل من الأشكال مرايا بعيدة في أقاصي الدنيا تنعكس عليها حراكات أمور أوروبية كثيرة. لعامل الارتباط بين إنسانها الأبيض الكولنيالي، الذي كان يتعشّم ويرتهن بشكل كبير لأبوّة وأمومة أوروبية، لذا ظَلّ على تشبث دائم بجذوره، من نظرته إلى إنسان افريقيا، وحتى سفره الذي لا ينقطع إلى أوروبا، ليبقى في المقابل مرتبكاً ومشوشاً على هذه الأرض. الأشياء كانت تخرج اليوم أو الآن في أوروبا وتجدها قد بلغت جنوب افريقيا في نفس اللحظة، كل شيء هنا متطور وقديم، ما يعني العزلة بين الإنسان الأبيض وبين الأرض التي يعيش عليها وبين ما يساكنه من مجتمعاتها، وفي الوقت نفسه ما يعني مواكبته لأحداث تلك الدنيا البعيدة وفي آخر الجليد. لذا العلوم والآداب والفنون هنا قديمة وراسخة بما لا شك فيه، وتاريخها كله ملكٌ للرجل الأبيض. لتقوم المفارقة الثانية وهي التاريخ الحديث لجنوب افريقيا تاريخ الصراع - والوعي المضاد، وهذا كله جاء من نصيب الرجل الأسود الذي قاتل أولاً من أجل تعليم نفسه وإخراجها من دائرة الجهل الذي كان مضروباً عليه بأسيجة البارود والرصاص، ومن أجل استعادة أرضه وتاريخه ثانياً، لذا تجد أنّ متاحف علمية كهذا المتحف أبطاله جميعاً من البيض، بينما كل متاحف التاريخ الحديث لجنوب افريقيا لا تكاد تعثر فيها على شخص أبيض إلا لماماً. أمّا بخصوص مدرسة “غرائبية المَنْفِي والمبتوت” فهي تجلّت في أعمال الرجل الأبيض الذي هو في الحقيقة وبعد مرور مئات السنين أضحى أبيضَ بجلده فحسب، بينما هو ممتلك لوعي افريقي خالص ومغاير جداً لوعي الرجل الأوروبي على أرضه، حتى نظرته إلى الجمال نفسها تغيّرت، وإلا لما كان هناك مُلَونون وحالات تزاوج مع السود لا حصر لها، أي صار له مزاج جديد. وهذا لا ينفي أيضاً مدرسة “غرائبية المنفي والمبتوت” عن السود، أبداً، بل يثبتها من الجهة الأخرى من ناحية ما جرى وظلّ يحدث على أرضهم، فهم أصبحوا متعايشين في وسط يختلف مثلاً عن الوسط المجاور لهم في زامبيا أو زيمبابوي، لأنّ هناك ثقافة أخرى ومختلفة تماماً جُلبت إلى أرضهم بكل ثقلها وغرائبيتها بالنسبة لمجتمعاتهم البسيطة، وبكل أحكام قيمتها ونظرتها إلى الحياة وإمكاناتها، وهذا أزاحهم على صعيد المعنوي من أرضهم، وازدادت هذه الإزاحة إحكاماً وفجوراً باستصدار قوانين “الأبارتيد” التي أزاحتهم على صعيد المادي من أرضهم، أي ما إنّ خلاصته أصبح الجميع يعيش على الأرض نفسها ومبتوتاً عن الانتماء لها، أو لخلاصة جوهر مجتمع واحد يشبهه، أفليس بوسع ذلك إنتاج غرائبية المنفي والمبتوت يا صديقي مايكل، ضحك اللعين، يبدو أنّ هذه المدرسة -كما أسماها- راقته، ليسألني مبتسماً: قلت لي إنك درست الفلسفة يا مستر خالد؟ ضحكت وقلتُ له: بل الاقتصاد، فكل ذلك حدث حين رنّ الذهب بجوهانسبرج. وفعلاً بالعودة إلى حقب الفنون المذكورة تكتشف أنّ هناك روحاً مختلفة لا تخطئها العين أبداً، وحتى بالعودة إلى الأثاث المنزلي المعروض أيضاً وفق هذه الحقب الفكتورية والإدواردية وغيرها، مع صور لتصاميم أثاث أوروبية معروضة لجوارها، تجد أنّ ما لأوروبا لأوروبا، وما صاغته يدٌ ترعرعت في الغابة لبهار افريقي مشبوب النكهة، أو لروح غريبة وبَريّة تخطرُ بينهما.

كما يوجد قسم مخصص لأكبر نحّات أنجبته بريتوريا، وهو لورنس ستين بيرج وأقسام أخرى لفنانين قدماء من أمثال “بيتر وينينج” و”أنطون فان وو” و”دبليو كويتزر”. وهؤلاء ملوّنون كبار عندهم ولهم شأنهم في متاحف أوروبا. وتلمس نفس الروح المختلفة في أعمالهم توقها المبتوت وغرائبيتها المرتبكة. بخروجي من هذا القسم دخلت وحدةً مخصّصة للتباكو، فهو له تقاليده هنا بل وطقوسه الخاصة، يُمثل واحداً من أهم منتجاتهم الوطنية، ويتعاملون معه بشكل خاص كما يتعامل البرازيليون والإثيوبيون مع البن والقهوة، أو كما يتعامل اليمنيون مع القات، أو سكّان جنوب السودان مع القامشا والكُدْكُد. بمعنى أنّ الموضوع معه يخرج من إطار مجرّد المنتج الوطني والمحصول، ويضاف لرصيد الثقافة الشعبية التي تُخصّص في التعامل معه، ومع أجوائه.

بعد استكمالي لمشاهدة المعرض قمتُ بزيارة المسرح القريب، ووجدتُ نصاً يعرض بلغة الأفريكان الملونين، فلم أفهم شيئاً لأُغادر بعدها عوداً لبروتيا هوتيل ولبحيرته الجميلة بالداخل.


متحف علم الأرض

في ناحية من هذا المتحف خصصوا قسماً منفصلاً لمتحف علم الأرض Geoscience Museum ، وهو يشمل القسم الخاص بالصخور والرواسب والمعدنيات، أعجبني الكوارتز في هيئته الطبيعية التي يخرجونه بها من داخل الأرض، له بياض مشعٌ وغريب، تلك القليعة من الكوارتز كانت منقّطة ببعض الأخضر في أنحاء منها، وهو الكلورايت، تلمس على الفور الفرق بين ألوان الطبيعة والتشكيل كما قال لي ذلك الفنّان الأمريكي بداخل متحف الأكوريم بالكاب تاون، وكنا نقف أمام إطارات لعرض المخلوقات البحرية الجميلة، جمال تلك المخلوقات بالطبع ينطلق بشكل أساسي من الألوان ثم لاحقاً تقاطيع الكائن، وكانت سمكة اسمها الكلاون Clown Tiggerfish تقف على رأس حسناوات الأعماق، بألوانها التي لا يمكن تصديق درجة نقائها وتداخلها وتنوعها، فمازحني ذلك الفنّان التشكيلي الأمريكي بصدد ألوان الطبيعة المذهلة لدرجة الإرباك هذه قائلاً: هل تعرفني يا رجل، من أي بلد أنت؟ قلتُ لا أعرفك، أنا من السودان. فأجابني أنا أفضل تشكيلي في الدنيا، وأنت لا تعرفني فقط لأنني لم أكن أستخدم ألوان هذه السمكة. قلتُ له ضاحكاً، ولكنني سمعتُ بالملونين الثلاثة العظام مارك شاجال وماتييس وبيكاسو، الذي هو أشهر منهما لأسباب لا علاقة لها بالتلوين، ضحك وفاجأته مباغتتي له في آن، فأكملتُ قائلاً: وهل تحمل هذه الكلاون ألواناً لا تُوجد بالخارج أو يصعب تحضيرها؟ أجابني: بل هي تحمل ألواناً مجهولة بالنسبة لي، أنا لم أرَ بهاءً كهذا في حياتي. وبالفعل أجنحة الطيور بمتحف الترانسفال والفراش وهذه المعادن، وكل ما هو طبيعي يحملُ ألواناً لا تشابه ألوان الكمبيوتر مهما عدّدوا من قدرته على توفير ألوان مختلفة وصافية.

ثم مررت بقسم المعادن، الذي يُريك مدى ثراء جنوب افريقيا من خامات ونِعَم الأرض، بالإضافة لهذه المعادن الطبيعية والمعروضة في أوان استخراجها من الأرض وقبل التدخل في طبيعتها بمعالجة من أي نوع، تجد نماذج للمصنوعات التي تُشغل منها، حلة “البريستو” بجانب الاستيل، مراكم الرصاص بجانب معدنها، الربط الفوري لخام الحياة وهو في جيب إنسانها وبداخل رصيد حيازته. يييي يييي

Post: #45
Title: Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء
Author: محسن خالد
Date: 02-27-2006, 09:46 AM
Parent: #44

..


Quote: My

بريتوريا




بريتوريا مدينة باسلة، وولايتها لم تسقط في أيدي الكولنياليين إلا تلو معارك شرسة ودامية، وبعد حصار يعتبر من أهم الحصارات في تاريخ المقاطعات التي أُسقطت بالتجويع والمحاصرة، وإثر عشرات المعارك طويلة الأمد بين الزعيم والمناضل الإفريقي "كجوسي كي لبوهو" قائد الهنانوا Hananwa، وبين الكولنيالي "جن بي جوبيرت" قائد مرتزقة قوات الزار Zar. مدينة أسطورتي البلوبيرغ والمامو غاسوي، "البلوبيرغ" الرجال فاتحو الألوان الذين يخرجون من الدغل ومعهم الكنوز، "المامو غاسوي" ثعابين الماء الضخمة التي تتجول بين الأحياء وتخطف ما تشاء من أرواح.
في يوم الأحد 8 يناير، خرجت من فندق برويتا بجوهانسبيرغ لأكون في انتظار صديقي بيتر، من سيقلني إلى مدينة بريتوريا. سمعتُ موسيقى الغوسبيل Gospel الدينية، وافرة الحنان، وتلطش فراغات المدى بألوان صوتية كرسّام، ممزوجة بأصوات درمز إفريقية، ثم كتلة الأصوات الجماعية، "ممبو.. ممبو نانجي، ممبو.. ممبو نانجي"، ما دكوا به جبروت الكولنيال وما عُرف عن مظاهراتهم، التي كان يصفها الكولنيالون بأنَّها مجرّد كتلة صوت لرعاع. لم يكن بوسعي مقاومة ذلك السحر مع أول كأس قهوة للصباح. الموسيقى كانت تتدفق من الكنيسة المجاورة فاليوم أحد، ذهبتُ لتلك الكنيسة وصليتُ معهم ورقصتُ، فالمسألة بدت لي أشبه بالأذكار الصوفية، التي أضاف لها أهلنا من الأفارقة الموسيقى لتضرب في أعماق الروح، ولتقوم بنقلها من حالة وجد سكوني إلى حُمَّى وجد استاتيكي ألفه وجدان إفريقيا. اندمجت معهم وقمت بالتقاط بعض الصور، ما اضطر بيتر العزيز ليطلق ثلاث زمارات مستعجلاً لي، هو رجل رقيق الحاشية ومهذّب، من قبيلة الزولو ببلدة "شاكا"، "من حيث تأتي الشمس" كما ترجم لي المفردة، فالاتفاق أن نمضي في هذا الصباح إلى مدينة بريتوريا، وهناك سأقابل موظفة وزارة الخارجية "أوليتا" التي ستنسق لي لقاءات مع الزعيم مانديلا، والأب ديسموند توتو، ونادين غورديمر، وجون كويتزي، والشاعر الكبير سوروتي الذي كان سجيناً مع مانديلا في جزيرة روبن. يا أخانا يا أخانا، نادى فيّ أولئك الإخوة المتدينين، أعجبوني أولئك الفتيان والفتيات بمودتهم داخل الكنيسة، هنا التديّن منتشر جداً بين الشباب، في نفس الوقت الذي ترتفع فيه حالات العنف في أعمارهم أيضاً، اعتذرتُ لهم بكوني مسافراً ورأوني من مدخل الكنيسة وأنا أركب السيارة، ربما عذروني في بالهم لكوني لم أكمل الصلاة معهم، تركتهم والأورغ يصدح في المدى الذي أخذ الرذاذ يلوّنه، كانت صباحية مباركة يدعمها جو غائم وفاتن، اتجهنا ناحية بريتوريا والقلب من صلصال الموسيقى وتملأه نهنهة بيوت الرب.
مررنا أولاً بحي سويتو حيث متحف هكتور بيترسون الذي تحدثنا عنه حين تناولنا جوهانسبيرغ، ثم غادرنا المدينة ناحية ضاحية الاكساندر Alexander Township التي تبدو كجزء من المدينة يقع خارجها قليلاً، لا تشعر بالانفلات من ربقة جوبيك تماماً إلا بالوصول إلى ضاحية ميدراندMidrand والتي ذكّرتني كثيراً بالمنطقة التي تقع خارج مدينة دبي، حيث تُعسكر الشركات العملاقة، كسوني وبورش ونسيان وشب Chubb وفولفو..إلخ.
لمحتُ جسراً طائراً فوق الشارع الذي نستغلّه من بعيد، يشير إليه بيتر ويقول: هذا هو المطعم المعلّق الشهير، قلت له دعنا نتوقّف قليلاً، بالحق هو تحفة، لكونها تقع خارج الأحياء أولاً، ونسبة لطريقة معماره العجيبة، فهم قد اختاروا أن يبنوه في شكل جسر طائر من فوق الشوارع التي تجري من تحته كالأنهار، يقصده الناس حين ينوون تمضية جُلّ اليوم في منطقة هادئة.
بعدها تحركنا نحو منطقة سينشريون Centurion التي تمتد بداخل وادي خفيض تملأه الأشجار والخضرة، العشبيات والورد البري، المباني فيها جميلة ومنسّقة، منتهى اختزال الطبيعة في مسكن.
بدخولنا منطقة بريتوريا أوّل ما لفت انتباهي هو اللافتات الضخمة التي تُطالب بتوقّف الحرب في العراق وخروج الكولنيال الأمريكي من أرض العراقيين، وهي معمولة بواسطة حكومة جنوب إفريقيا وليس بواسطة السفارات العربية الموجودة هناك. الأرض هنا مفتوحة لكل فكر ثوري وضد الكولنيال، هذا ما تعلّمه الناس بعد تاريخ دامٍ ومرير، وما يحاولون الآن تعليمه لأجيالهم القادمة، وما يحاولون فيه دعم رفاقهم العراقيين وإن في أرضٍ تبعد عنهم موقعاً وثقافةً وديانة.
بالمرور على قاعدة عسكرية ضخمة جداً، كانت في السابق تستخدم من قبل النظام الكولينيالي كوحدة احتياط أو معونة في حالات الطوارئ، هذا أيام تأزم الوضع وبلوغه مراحل خطيرة من المواجهات اليومية الشرسة، في أواخر الثمانينات وبدايات التسعينات، بعدها بمسيرة ربع الساعة تبدأ معالم مدينة بريتوريا في الظهور.
جامعة يونيسا UNISA، التي تبدو كأحفورة مذهلة تبرز من ثنايا مرتفع موازٍ لمجموعة من الجسور الطائرة، هي الأشهر على الإطلاق وتعرف بـ"يونيسا" مختصر تسميتها "جامعة جنوب إفريقيا"، هذه الجامعة كانت من أهم الخلايا السرية لحزب المؤتمر الإفريقي وما زالت تُعتبر من أهم مواقعه.
بريتوريا هي المدينة السياسية لجنوب إفريقيا، فيها تُوجد جميع السفارات والقنصليات لبلدان العالم الأخرى، لذلك المدينة هادئة، ولا تتميّز بالحركة والصخب كجوبيك أو الكاب تاون مثلاً، حتى الأوضاع الحياتية هنا مستقرة لحد بعيد، وتخلو من سيرة العنف أو عدم الأمن الذي ينتشر في مدن أخرى مثل جوهانسبيرغ أو الكاب تاون وديربن. طابعها ريفي بامتياز، منسّقة وتتميز بذات الضخامة والتمدّد الذي تتميّز به كل مدن جنوب إفريقيا. الأسواق الكبيرة، والمحال التجارية ذات الطابع الخاص بالأفارقة، أو الأخرى التي هي غاية الأوربية والرفاه، الساحات الكبرى والمسارح ودور السينما ومعظم تكتّلات الصحافة في بريتوريا.
في صباح ممطر، بعد أُلفتي مع فندق بروتيا ومع البحيرة الصغيرة بداخله، كنتُ قد عشقتُ هذا الفندق من جوهانسبيرغ لذلك نزلتُ في أحد فروعه ببريتوريا. خطر لي أنَّ الصباح غير مناسب أبداً ليخرج فيه أحد، لذا قَرَّرت استثناء نفسي من خاصية هذا الصباح والذهاب لمتحف الترانسفال للتاريخ الطبيعي، اليوم سيقلُّ الزائرون مما يُقَلِّل الرقابة على الكاميرات، كلما كثُرت الحشود سيكون هناك موظفون مراقبة كُثْر، وسيسلخون أذنيك بكثرة نصائحهم وبمواهبهم المتقنة في إخبارك بما يجوز داخل المتحف وما لا يجوز، مضافاً لكل ذلك عقدتهم الأزلية مع الكاميرا.
بعد ألبسة ثقيلة وبدون شمسية كنتُ أُكافح المطر بالخارج، أتسلل من تحت جدار لآخر، المتحف لم يكن بعيداً عن مكان إقامتي، اختار لي بيتر هذه المواقع بحساب دقيق عندما أنزلني هنا، وبعد أن أرشدني لكثرة الأماكن المفيدة الواقعة قريباً من الفندق. كنتُ قد رأيتُ "أوليتا" موظفة وزارة الخارجية ورتَّبنا برامجنا معاً، وهي قد أرتني كيف يمكن لي الوصول إلى متحف الترانسفال من الفندق.
بخروجي من الفندق مباشرة والتوجّه يساراً ثم يميناً والسير على نحو مستقيم، لمسافة 2 كيلومتر تقريباً، ثم الانعراج يساراً والسير لمسافة نصف كيلومتر آخر، كنت هناك، وكان تقديري للأمر مُصيباً إذ لم يكن ثمَّة ازدحام ولا سيّاح مزعجين، وإن واجهتني المشكلة الأولى مع ثمن التذكرة لعدم توفّر فكّة، قال لي الحارس ادخل بعد خروجك سنتفق، ضحكت وتحسست الكاميرا لأجد أنّ باب البطارية مفتوحاً، ما يعني أنّني تركتُ البطارية في الشاحن بالفندق، لكم هذا الصباح الممطر مشاكس، أحب الأمور عندما تبوظ في آخر دقيقة. عدتُ مرة ثانية وأتيتُ بالبطارية الدّلوعة، بعد أن أثبتت أهميتها كاملة وتحالفها مع المطر ضد شخصي المسكين.
متحف الترانسفال من أقدم متاحف جنوب إفريقيا، ومعروف رسوخ علم التاريخ الطبيعي هنا وما يجاوره من علوم أخرى كالتي تبحث في أصل الإنسان والعُصر القديمة وعلوم الأرض، بل نظرية التطور نفسها تُنسب بذرتها الأولى إلى علماء جنوب إفريقيا. والعالم الشهير أوستن روبرت كان أحد العاملين بهذا المتحف وقد التحق به في العام 1910م، وهو من قام برسم أولى الخُطط للمحافظة على حياة الكثير من الطيور، ومنها ما انقرض فعلاً ولا يُوجد إلا من ضمن محنطات هذا المتحف.
قسم الطيور هو أول ما تبدأ به، ويدهشك باتساعه وكثرة الطيور بداخله، ترى أنواعاً من الطيور لا يمكن حتى تخيّل وجودها في الحياة. أكثر ما استهواني هنا، هو طيور الحفريات واللُّقى القديمة، على وجه الخصوص المرحلة الديناصورية للطيور، هناك طائر ديناصور له سبعة أنواع بجنوب إفريقيا وإن كان أول طائر يُعثر عليه من نوعه كان في ألمانيا عام 1861م. أيضاً أعجبتني منقوشات حجرية حقيقية تنتمي لملايين السنين للوراء، تم العثور عليها وتوزيعها على حسب أقسام المتحف، هناك مثلاً آلات بدائية قديمة كان يستخدمها إنسان العصر الحجري في صيد الطيور، هذه وُضعت بأقسام الطيور، أما الآلات التي كانت تستخدم في صيد الثديات فهذه وضعت لجوار قسم الثديات، ومع ذلك هناك قسم كامل مخصّص للعلاقة التي كانت تربط بين الإنسان القديم والحيوان، إنْ علاقة افتراسه لهذه الحيوانات أو استئناسها أو حتى دخول هذه الحيوانات في بعض طقوسه الدينية وشعائره.
هذه قارة الطوطم والأقنعة وشعائر الإنسان القديم، مما قبل إنسان جاوة وبكين، اللّقى حول هذا الإنسان والأثارة التي تركها لا حصر لها، أعجبتني أكثر المنقوشات والحفر على الصخور، وهو نفسه ما ساعد العلماء كثيراً على دراسة ذلك التاريخ القديم والاقتراب من أكواده وشفراته الخاصة والبائدة، من هنا تابعوا أصول الزولو والهنانوا والباتو وغيرهم ممن يُعتقد بأنهم نسلٌ لسلالات ضاربة في القِدَم والعراقة الكونية.
كنتُ قد رأيتُ رسوماً جميلة ومعاصرة تحاول تقليد هذه النقوش البدائية، ولكن هيهات، المسألة هنا تبدو كرسوم الأطفال، تراها سهلة وبسيطة وربما مباشرة، ولكن تصعب محاكاتها لدرجة أعيت فنانين كبار، هنا أصالة روح وقدرة طبيعية، ما أبعدها عن قدرات الفنانين المدركة بالصقل والنظرية.
قسم الدكتور جورج فان صون الروسي الأصل والمولود بالعام 1898م، قسم يثير الاستغراب والحَيْرة، العالم جورج التحق بمتحف الترانسفال عام 1923م وهو أشهر عالم "فَرَاش" عرفته دنيا البحث العلمي في هذا المجال، كَرَّس حياته كلها لبحث حياة هذه المخلوقات ونُظم وجودها وتطورها. تصوري في السابق مهما اتسع –برغم انتمائي لبلد إفريقي تكثُر فيه أنواع الفراش- لن يتجاوز العشرين نوعاً، ولكن هنا تجد نفسك في صالات طويلة مخصّصة لآلاف الأنواع، فَراش الجبال، البحر، الحقول، الليلي، النهاري، السام، غير السام، الملوّن وله رائحة، المائي، وما يصعب حصره من الصفات والتمايزات بين هذه الأنواع. حتى هناك أشكال لأنواع من الفراش إن لم تُخَبَّر مُسَبَّقاً بأنها فراش، فلن تعرف إن كانت هي لصغار فئران أو أرانب وما يشبه مخلوقات أخرى غاية في البعد –الآني- عن أشكال هذه المخلوقات الجميلة، وأيضاً تكتشف منها ما هو غير جميل إطلاقاً ولا يمتّ إلى الفراش الذي نعرفه ولو بمجرَّد التصور. دكتور جورج كان عالماً كبيراً ومثابراً، مَضَّى حياته كلها في مطاردة الفراش، وأخرج ثلاثة مجلدات ضخمة حول هذا الجانب الضخم من الكون إذ تكتشف ذلك، والمجلّد الرابع تركه كمخطوطة أُخرجت بعد رحيله في العام 1967م. هنا تجوّلت كثيراً في صحبة الدكتور جورج، خصوصاً وقد أعجبتني ميزة فيه، وهي رصده لما هو غريب في حياة هذه المخلوقات، وما هو غامض أيضاً، بتواضع شديد تستشف من تعليقاته أنّه يقول نحن بقلب هذا العالم فقط من أجل تأمّله، لسنا بصدد مزاعم تفسيرية تدّعي فهم كل شيء، وهذا بالطبع هو القانون المعروف بخصوص الكائنات الحيّة كلها، الثابت أنَّ ما هو معروف عن حياتها لا يساوي شيئاً إذا قُورن بما هو مجهول. الأمور مع علوم أخرى كالميكانيكا ومشتقاتها، أو أقسام الطبيعيات الأخرى، تبدو معروضة في حد أكبر من الاختبار والتأكد، ولكن هنا ينضاف عنصر إلغاز الروح، التي ما تزال العقدة التي بلا حل.
متحف علم الأرض:
في ناحية من هذا المتحف خصصوا قسماً منفصلاً لمتحف علم الأرض Geoscience Museum ، وهو يشمل القسم الخاص بالصخور والرواسب والمعدنيات، أعجبني الكوارتز في هيئته الطبيعية التي يخرجونه بها من داخل الأرض، له بياض مشعٌ وغريب، تلك القليعة من الكوارتز كانت منقّطة ببعض الأخضر في أنحاء منها، وهو الكلورايت، تلمس على الفور الفرق بين ألوان الطبيعة والتشكيل كما قال لي ذلك الفنّان الأمريكي بداخل متحف الأكوريم بالكاب تاون، وكنَّا نقف أمام إطارات لعرض المخلوقات البحرية الجميلة، جمال تلك المخلوقات بالطبع ينطلق بشكل أساسي من الألوان ثم لاحقاً تقاطيع الكائن، وكانت سمكة اسمها الكلاون Clown Tiggerfish تقف على رأس حسناوات الأعماق، بألوانها التي لا يمكن تصديق درجة نقائها وتداخلها وتنوعها، فمازحني ذلك الفنّان التشكيلي الأمريكي بصدد ألوان الطبيعة المذهلة لحد الإرباك هذه قائلاً: هل تعرفني يا رجل، من أي بلد أنت؟ قلتُ لا أعرفك، أنا من السودان. فأجابني أنا أفضل تشكيلي في الدنيا، وأنت لا تعرفني فقط لأنني لم أكن أستخدم ألوان هذه السمكة. قلتُ له ضاحكاً، ولكنني سمعتُ بالملوِّنين الثلاثة العظام مارك شاقال وماتييس وفي مؤخرتهما بيكاسو، الذي هو أشهر منهما لأسباب لا علاقة لها بالتلوين، ضحك وفاجأته مباغتتي له في آن، فأكملتُ قائلاً: وهل تحمل هذه الكلاون ألواناً لا تُوجد بالخارج أو يصعب تحضيرها؟ أجابني: بل هي تحمل ألواناً مجهولة بالنسبة لي، أنا لم أرَ بهاءً كهذا في حياتي. وبالفعل أجنحة الطيور بمتحف الترانسفال والفراش وهذه المعادن، وكل ما هو طبيعي يحملُ ألواناً لا تشابه ألوان الكمبيوتر مهما عدّدوا من قدرته على توفير ألوان مختلفة وصافية.


ثم مررت بقسم المعادن، الذي يُريك مدى ثراء جنوب إفريقيا من خامات وتِعَم الأرض، بالإضافة لهذه المعادن الطبيعية والمعروضة في أوان استخراجها من الأرض وقبل التدخل في طبيعتها بمعالجة من أي نوع، تجد نماذج للمصنوعات التي تُشغل منها، حلَّة البريستو بجانب الاستيل، مراكم الرصاص بجانب معدنها، الربط الفوري لخام الحياة وهو في جيب إنسانها وبداخل رصيد حيازته.
متحف التاريخ الثقافي
بالفعل جنوب إفريقيا بلد مختلف في كل شيء، أذكر أنني في أحاديث لاحقة لي قلتُ لأحد الشباب المثقفين هنا، حول مدارس التشكيل، إنّ حركة الفنون والآداب بداخل جنوب إفريقيا لا يمكن الاتّكال في دراستها أو متابعتها على منجزات أوروبا فحسب، إذ لها طعم عجيب ومختلف، كل الأشياء تقريباً على أرض جنوب إفريقيا جاءت مصاغة بـ"غرائبية المَنْفِي والمبتوت" كإشارة مني لموقع الرجل الأبيض هنا، ضحك وقال لي: هذه مدرسة جميلة. قلتُ له أنا لا أمزح لقد لاحظت ذلك حين ذهبتُ إلى متحف التاريخ الثقافي، يمكنك مراجعة فن عصر الريونساس والباروك والفيكتوري والإدواردي والركوكو الجديد والكلاسيكية الجديدة وفنون الديكو ومقارنتها بجذورها الأوروبية خاصة البريطانية، هي ليست هي، وإن بقيت بعض العلائم التي تُشير إلى ذلك، في هذه الأرجاء تتنفّس الغابة، والحس هنا موسيقي وبدائي أكثر، بمعنى له خصوصية انتماؤه العميق للطبيعة، هذا بالرغم من أنّ جنوب إفريقيا كانت بشكل من الأشكال مرايا بعيدة في أقاصي الدنيا تنعكس عليها حراكات أمور أوربية كثيرة. لعامل الارتباط بين إنسانها الأبيض الكولنيالي، الذي كانت يتعشّم ويرتهن بشكل كبير لأبوّة وأمومة أوروبية، لذا ظَلّ على تشبث دائم بجذوره، من نظرته إلى إنسان إفريقيا، وحتى سفره الذي لا ينقطع إلى أوروبا، ليبقى في المقابل مرتبكاً ومشوشاً على هذه الأرض. الأشياء كانت تخرج اليوم أو الآن في أوروبا وتجدها قد بلغت جنوب إفريقيا في نفس اللحظة، كل شيء هنا متطور وقديم، ما يعني العزلة بين الإنسان الأبيض وبين الأرض التي يعيش عليها وبين ما يساكنه من مجتمعاتها، وفي نفس الوقت ما يعني مواكبته لأحداث تلك الدنيا البعيدة وفي آخر الجليد. لذا العلوم والآداب والفنون هنا قديمة وراسخة بما لا شك فيه، وتاريخها كله ملكٌ للرجل الأبيض. لتقوم المفارقة الثانية وهي التاريخ الحديث لجنوب إفريقيا –تاريخ الصراع- والوعي المضاد، وهذا كله جاء من نصيب الرجل الأسود. الذي قاتل أولاً من أجل تعليم نفسه وإخراجها من دائرة الجهل الذي كان مضروباً عليه بأسيجة البارود والرصاص، ومن أجل استعادة أرضه وتاريخه ثانياً، لذا تجد أنّ متاحفاً علمية كهذا المتحف أبطاله جميعاً من البيض، بينما كل متاحف التاريخ الحديث لجنوب إفريقيا لا تكاد تعثر فيها على شخص أبيض إلا لماماً. أمّا بخصوص مدرسة "غرائبية المَنْفِي والمبتوت" فهي تجلّت في أعمال الرجل الأبيض الذي هو في الحقيقة وبعد مرور مئات السنين أضحى أبيضَ بجلده فحسب، بينما هو ممتلك لوعي إفريقي خالص ومغاير جداً لوعي الرجل الأوربي على أرضه، حتى نظرته إلى الجمال نفسها تغيّرت، وإلا لما كان هناك مُلَوَّنون وحالات تزاوج مع السود لا حصر لها، أي صار له مزاج جديد. وهذا لا ينفي أيضاً مدرسة "غرائيبية المنفي والمبتوت" عن السود، أبداً، بل يثبتها من الجهة الأخرى من ناحية ما جرى وظلّ يحدث على أرضهم، فهم أصبحوا متعايشين في وسط يختلف مثلاً عن الوسط المجاور لهم في زامبيا أو زيمباوي، لأنّ هناك ثقافة أخرى ومختلفة تماماً جُلبت إلى أرضهم بكل ثقلها وغرائبيتها بالنسبة لمجتمعاتهم البسيطة، وبكل أحكام قيمتها ونظرتها إلى الحياة وإمكانياتها، وهذا أزاحهم على صعيد المعنوي من أرضهم، وازدادت هذه الإزاحة إحكاماً وفجوراً باستصدار قوانين الأبارتيد التي أزاحتهم على صعيد المادي من أرضهم، أي ما إنّ خلاصته أصبح الجميع يعيش على الأرض نفسها ومبتوتاً عن الانتماء لها، أو لخلاصة جوهر مجتمع واحد يشبهه، أفليس بوسع ذلك إنتاج غرائبية المنفي والمبتوت يا صديقي مايكل، ضحك اللعين، يبدو أنّ هذه المدرسة -كما أسماها- راقته، ليسألني مبتسماً: قلت لي إنك درست الفلسفة يا مستر خالد؟ ضحكت وقلتُ له: بل الاقتصاد، فكل ذلك حدث حين رنّ الذهب بجهانسبيرغ.
وفعلاً بالعودة إلى حقب الفنون المذكورة هذه تكتشف أنّ هناك روح مختلفة لا تخطئها العين أبداً، وحتى بالعودة إلى الأثاث المنزلي المعروض أيضاً وفق هذه الحقب الفكتورية والإدواردية وغيرها، مع صور لتصاميم أثاث أوروبية معروضة لجوارها، تجد أنّ ما لأوربا لأوربا، وما صاغته يدٌ ترعرعت في الغابة لبهار إفريقي مشبوب النكهة، أو لروح غريبة وبَريّة تخطرُ بينهما.
كما هناك قسم مخصص لأكبر نحات أنجبته بريتوريا، وهو لورنس ستين بيرغ وأقسام أخرى لفنانين قدماء من أمثال "بيتر وينينغ" و"أنطون فان وو" و"دبليو كويتزر". وهؤلاء ملوّنون كبار عندهم ولهم شأنهم في متاحف أوربا. وتلمس نفس الروح المختلفة في أعمالهم توقها المبتوت وغرائبيتها المرتبكة. بخروجي من هذا القسم دخلت وحدةً مخصّصة للتباكو، فهو له تقاليده هنا بل وطقوسه الخاصة، يُمثِّل واحداً من أهم منتجاتهم الوطنية، ويتعاملون معه بشكل خاص كما يتعامل البرازيليون والإثيوبيون مع البن والقهوة، أو كما يتعامل اليمنيون مع القات، أو سكّان جنوب السودان مع القامشا والكُدْكُد. بمعنى أنّ الموضوع معه يخرج من إطار مجرّد المنتج الوطني والمحصول، وينضاف لرصيد الثقافة الشعبية التي تُخصّص في التعامل معه، ومع أجوائه.
بعد استكمالي لمشاهدة المعرض قمتُ بزيارة المسرح القريب، ووجدتُ نصاً يعرض بلغة الأفريكان –الملونين، فلم أفهم شيئاً لأُغادر بعدها عوداً لبروتيا هوتيل ولبحيرته الجميلة بالداخل.
غادرتُ بريتوريا يوم الأربعاء 11 يناير، والحزن له ندى كذاك الصباح، الطيور كانت تجفل بعيداً في المدى الضبابي، ومنها ما يجفل في قلبي، ليملكّني إحساساً مرفرفاً بالحياة وبمحبّة هذه المدينة القائدة والحسناء.





...