النواطير النائمة

النواطير النائمة


09-28-2005, 05:17 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=80&msg=1127881040&rn=0


Post: #1
Title: النواطير النائمة
Author: يحيي مصطفي
Date: 09-28-2005, 05:17 AM


النواطير النائمة
د.حيدر ابراهيم على
تكمن عظمة المتنبى فى قدرته على انقاذ المرء فى المواقف الوجودية والحياتية بشعر حكيم، وتجد فى شعره سنداً روحياً لكل المواقف الصعبة. وبينما أعيش حزناً خاصاً وآخر عاماً لا يقل عن الأول، لأننى أرى بعيني وألمس إستباحة شاملة للوطن، جاءنى بيت المتنبى الشهير:
نامت نواطير مصر عن ثعالبها فقد بشمن وما تفنى العناقيد
ليكشف صورة المشهد السياسى السودانى الراهن خاصة فى إشارته العميقة للنواطير النائمة لأن المشكلة ليست فى الثعالب ولكن فى نوم النواطير. فالثعلب يقوم بعمله الطبيعى، سرقة العناقيد ولا يتوقف أبداً طالما كانت الفرصة سانحة. وهى تتمظهر فى تقصير النواطير لأنها نامت عن الحراسة واليقظة، والنخوة غائبة. هذه هى صورة الوضع الراهن الذى تتحمل فيه النواطير الكثيرة والخائبة المسئولية، ولذلك تستحق اللعنة والسخط.
النواطير النائمة هى قيادات الاحزاب السياسية وكوادرها وعضويتها، وضمنها أيضاً منظمات المجتمع المدنى والصحافة والحركة الثقافية. ونلاحظ أن النواطير النائمة أغلبية، وفيهم يقول المتنبى: لا تحسب الشحم فيمن شحمه ورم، فرغم الكثرة تقل القوة والفعالية. وتتميز النواطير النائمة السودانية بقدرة هائلة على النسيان بالإضافة إلى التبرير وهو غير التسبيب، أي البحث عن الاسباب الحقيقية للظواهر والاحداث، بل هو محاولة لتبرئة الذات عن التقصير. ومن سمات نواطيرنا النظرة قصيرة المدى للأمور فهى لا تمتلك بعداً استراتيجياً ولا ترى أبعد من تحت أقدامها. وتتميز النواطير بسوء تقدير لا تحسد عليه وهذا شكل متطور للغباء السياسي، لأن القرارات الناتجة عن تقدير سيء ستكون خاطئة بالضرورة. كما أن النواطير فقدت بسبب البهلوانية والفطرة الحس السليم الذى يعوض الجهل وقلة المعرفة أحياناً. وأخيراً، يعتبر النوم فى الاحوال غير العادية والتى تتطلب اليقظة والتنبه شكلاً من الموت أو الموات أو ميت الأحياء. فهل هو نوم أم غيبوبة؟ فى الحالتين أشرعوا الابواب واسعة للثعالب كى تفعل ما تريد وهنيئاً للثعالب بحراسة هؤلاء النواطير النائمة.
لقد أوكلنا أمر تدبير وحراسة شؤوننا للقيادات الحزبية بحكم لعبة الديمقراطية التى تتطلب التنظيم والتراتب والتفويض. إذ يتحول المفهوم العام الذى يسمى الشعب أو الجماهير إلى أعضاء وعناصر فى تنظيمات ليعملوا معاً تحت قيادة ترعى مصالح شعبها أو على الأقل أنصارها ومؤيديها. ويتحول الشعب المنظم ذو القيادة الفعالة إلى قوة مادية لاحداث التغيير والنهضة، عوضاً عن أن يظل مجرد كتل بشرية « mobs» يمكن بسهولة أن تغلبها فئة قليلة. لذلك، مهمة القيادة أن تلهم الجماهير من خلال برامج وسياسات تعبر عن طموحاتها والأهم من ذلك تقديم القدوة فى شخصية الزعيم. ومنذ الاستقلال التفت الجماهير حول طائفتين: الختمية والانصار ويمكن القول أن تاريخ السودان السياسى الديمقراطى أو على الأقل الفترات التى لم يحكم السودان خلالها بدكتاتوريات عسكرية، هو تاريخ السيدين (مع تغير الاسماء) الشخصى فى إدارة شؤون السودان. والحديث عن الحزبين الكبيرين هو قول مجازى بامتياز لإنعدام المؤسسية والديمقراطية الداخلية، فالحزب هو السيد والعكس صحيح. وهذا يعنى ببساطة أن الشعب السودانى حين يمنح أصواته فى الانتخابات للسيدين (الحزبين) ويفوضهم بحكمهم، يتوقع الجانب الآخر للعقد الاجتماعى الذى أبرمه معهما: الحقوق والواجبات. فإلى أي مدى قام السيدان بواجب الدفاع عن هذه الجماهير التى ظلت وفية لقياداتها حتى آخر انتخابات 1986 حيث منحتهما أكثر من مائة وستين نائباً فى البرلمان؟
كان التقصير أو النوم الأعظم للسيدين حين إنزلقت السلطة من بين أصابعهم صبيحة الثلاثين من يونيو 1989، نعم هو إنزلاق سلطة وليس انقلاباً، من بين ايادٍ مرتعشة لم تمسك بالأمانة جيداً حين اختارتهم الجماهير. وكان الحزبان الحاكمان يمتلكان وزارة الدفاع والداخلية والمخابرات بانواعها. وكان الانقلابيون لا يملكون غير العزيمة ومعرفتهم لقدر خصمهم النائم. فهذه لحظة تاريخية وتحتاج للمساءلة والمحاسبة، وفى الكيان الصهيونى عقب حرب أكتوبر 1973 ظهر مفهوم التقصير فى كتابات عديدة ليعنى تحمل المسؤولية وضمان عدم تكرار الخطأ. و لكن فى السودان لم تتحمل القيادة السياسية التى كانت حاكمة وقت الانقلاب، المسئولية. فهم يتحدثون عن تآمر وخيانة الجبهة وانها اشترت فلاناً واخترقت القيادة العسكرية أو اجهزة الأمن. ولكن كل هذا لا يحدث إن توفرت اليقظة والنظرة الاستراتيجية، ومع القابلية للاختراق يسهل الأمر. لقد فرطت وقصرت القيادة السياسية، وبكت وظلت تبكى حتى يوم التشكيل الوزارى، بدموع الضعف والاستكانة على ملك لم تحاول أن تحميه أو تتصدى لمن يهدده بالقوة والقدرة والفعالية.
وكما كانت القيادة السياسية حاكماً سيئاً وكانت معارضة أسوأ. فقد نقلت كل طمعها ومرضها وضعفها إلى ساحة العمل المعارض. ولأنها كانت تظن أن نظام الانقاذ سوف يسقط بفعل صاعقة سوف تسقط من السماء فى يوم ممطر، لذلك لم تحاول أن تقدم التضحيات المستمرة. نعم لقد قدمت بعض التضحيات ولكنها ليست فى عظم التحديات والجرائم التى ارتكبت فى حق الشعب السودانى. كما أنها لم تكن متواصلة ومنهجية ومنظمة، لذلك فشلت و ضُربت بسهولة محاولات اسقاط النظام عسكرياً أو شعبياً. وتحول التجمع الوطنى الديمقراطى المعارض -رغم كل المستجدات و التحديات و التاريخ المر- إلى ساحة صراع تعكس الغيرة المتأصلة بين السيدين، حتى أصبحت السياسة السودانية بعيدة عن مفهوم السياسة وهو تحسين حياة المواطنين واسعادهم. وهذا من اسباب فشل التنمية، فالاسياد غير مشغولين بتوصيل المياه إلى كردفان ودارفور أو بناء الطرق والمستشفيات فى مناطق البجا. فكل الجهود مكرسة لإبطال مفعول السيد الآخر وإفساد خططه وسياساته. وكل واحد مشغول بان يعكس ويعارض ما يفعله الآخر. وفى سياق إفشال الآخر، إنتهت معارضة السيدين إلى التهافت نحو السلطة. فالوضع التعيس والمزرى الذى نعيشه الآن لم يبدأ مع نيفاشا أو مع التشكيل الوزارى الأخير، ولكنه بدأ مع اتفاق المهدى فى جيبوتى ولقائه الترابى فى جنيف كذلك مع اتفاق جدة الإطارى الذى باركه الميرغنى. وهذا هو التحليل الصحيح لنسبة 14% من المنحة الانقاذية للقيادة السياسية.
يبدو أن السيدين غير مشغولين بما يسمى الشعب السودانى إلا حين تستهل الانتخابات وإلا كيف تفسر الغياب الحالى والشعب فى معاناة سياسية واقتصادية، والبلاد فى حالة استباحة شاملة؟ السيد الميرغنى غائب فى لندن عوضاً عن أن يكون وسط اركان حربه فى التجمع، ليس لقيادة معركة بل لاتخاذ قرار مهما كان نوعه بدلاً من التيه والتشويش. ولا أدرى ما هى الحكمة فى هذا الصمت؟ وما هو المهم والحاسم الذى يمسك السيد الميرغنى فى لندن؟ هل يجرى مفاوضات مع البريطانيين لحل هذه المعضلة أم أن وجود المعارضة هناك قوى ومؤثر ويتطلب وجوده معها؟ أما السيد الصادق فقد كان -والشعب فى خضم الازمة- فى روما ليقدم ورقة عن المياه العذبة، بينما يشرب شعبه كدراً وطيناً حرفياً ورمزياً. لسنا ضد جهود المهدى الفكرية ومساهماته فى الندوات والحوارات ولكن التوقيت والاولويات، والسيد الصادق يردد دائماً ضرورة عدم وضع السيف فى موضع الندى ولا العكس، ولكنه كثيراً ما يفعل ذلك. أقصد تأكيد لزوم وجود السيدين قرب جماهيرهم فيزيقياً وروحياً ونفسياً، فالسيد الصادق موجود فى الوطن و لكن ليس بين جماهيره. إذ اكتفى بتوقيع مواثيق الشرف والاتفاقات والنداءات، ولكنه لم يسأل -قبل أن يوقع الميثاق- ما الذى حدث للميثاق السابق؟ أما السيد الميرغنى فهو يتميز بعدم احترامه للمثقفين (لأن كلامهم كثير ومشاغبون) كما أنه لا يميل إلى العمل الجماعى والاجتماعات الطويلة المملة. لذلك يفضل التمرير والتفويض فى العمل السياسى. وهكذا فى كل الأحوال نفتقد القيادة السياسية والتى عجزت طوال 16 عاماً إخراج مظاهرة أو موكب إلى الشارع ليعبر عن قوة ملايين الأصوات التى نالتها فى الانتخابات الماضية.
اما النواطير النائمة الأخرى والتى تستحق الكثير من النقد والتقريع فهى القوى الحديثة خاصة تلك الممثلة فى احزاب. فقد عجزت عن أن تكون احزاباً جماهيرية ثم كابرت ولم تحاول أن تقدم نقداً ذاتياً جاداً، ثم تحاول الخروج من أزمتها. فهذه القوى هى حديثة فى شكلها أى قد يكون أفرادها قد تلقوا تعليماً حديثاً ولكن التعليم لم يتحول إلى ثقافة وطريقة تفكير وسلوك، لذلك تنقصها العقلانية والعلم فى العمل السياسى وتقلد القوى التقليدية عوضاً عن تحديثها. فأول شروط العقلانية السببية، وهنا كان يفترض أن تبحث القوى الحديثة عن اسباب عدم قدرتها فى تجنيد مواطنين للانضمام إلى صفوفها؟ ومن عيوب القوى الحديثة عدم قدرتها على العمل الجبهوى مضحين بامتيازات وجود أحزاب صغيرة تخلق ضجيجاً، ولكن لا تؤثر فى الشارع ولا فى مطلقية السلطة. هذا وقد باءت كل محاولات توحيد القوى الحديثة بالفشل لانها تعترف بالآخر إلا إذا كان ملحقاً، يضاف إلى ذلك نرجسية المثقفين الذين يظنون أن الأرض تدور حولهم.
إن مسؤولية القوى الحديثة أكبر من الأحزاب الكبيرة الطائفية لأن الأخيرة تريد تكريس الأمر الواقع أو العودة إلى ماضٍ كان مجيداً بالنسبة لها. ولكن المدهش ان يدعى افراد القوى الحديثة انهم مستقبليون ويصنعون الغد وتظل عقولهم محبوسة فى التاريخ والانجازات السابقة التى لا نرى لها أثراً فى الواقع المزرى الذى نعيشه.
حاولت هذه الكتابة التوصيف ولم تقترح حلولاً أو مخرجاً. فهذا الوضع المعقد يحتاج الآن إلى فهم عميق وأن نسهم فى إيقاظ هذه القوى الكبيرة التى لا نخجل حين نسميها الأغلبية الصامتة ولا نسأل انفسنا لماذا هى صامتة؟ هل هى راضية أم عاجزة؟ اعتقد أن الفرصة ما زالت سانحة أمام النواطير النائمة كى تستيقظ.
المصدر:
صحيفة الصحافة